قد يصل الأمر ببعض النّاس، أن يظنّوا أنّ ما يحصلون عليه في دنياهم من أموال وجاه وسلطان، سيجعل لهم يوم الحساب حظوةً ومكانةً عند الله، بحيث يعتبرون أنَّ المعيار هو المكانة الماديّة والمعنويّة، ومع ذلك، يسمحون لأنفسهم بالاستغراق في الانحراف، وصولاً إلى الجحود والكفر بالله ونكران نِعَمِه، حتى ولو أنفق هؤلاء الكفرة في سبيل الخير والبرّ في الحياة، فلن ينفعهم ذلك لتمرّدهم على ربهم، ولأنهم لا يخلصون في أعمالهم، ولأنهم قلعوا جذور الإيمان من نفوسم ومشاعرهم وعقولهم، وبالتّالي، لا يرتكزون على قاعدة إيمانيّة فيما يتحركون به ويعتقدونه، وهذا هو الخسران المبين، إذ يخسرون حضورهم ووجودهم الفاعل في الدّنيا، ويخسرون كيانهم وقيمتهم في الآخرة، لا، بل يعيشون الغبن بكلّ أبعاده ونتائجه المدمِّرة.
وقد حدَّثنا الله تعالى في كتابه العزيز عن هذه الفئة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[آل عمران: 116-117].
إنَّ الله تعالى هو الّذي يهب النَّاس ويرزقهم النِّعَم، من أولادٍ ومالٍ وجاهٍ ومراكز، كلّ ذلك بفضله وجوده وكرمه، ولن تنقذ هذه النّعَمُ الإنسانَ، مهما بلغت، من عذابِ الله وسخطه إن هو كفر واستسلم للشّياطين، وانحرف عن الحقّ والهداية وفطرة التّوحيد.
والله تعالى عادلٌ في حسابه للنّاس، يدعوهم إلى الإيمان والعمل الصَّالح والتّقوى في القول والعمل من أجل الفوز بالآخرة والرّضوان، إذ لا قيمة لما هم فيه من أموال وخيرات إذا لم يكن في خطّ الإيمان والصّلاح، ولن يمنعهم مالهم من حساب الله وعقابه.
وفي تفسيره لما تقدَّم من آيات، يقول سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض): "{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا}، لأنَّ الله هو الّذي أعطاهم ذلك كلّه، فليس لهم في ذاتهم أيّ دخل فيه، ليحقّق لهم امتيازاً ذاتيّاً أو قرباً عمليّاً من الله، فكيف يحصلون على القيمة الإلهية من خلاله؟! فلا يدفع عنهم ما يملكونه من ذلك أيّ نوع من العذاب الّذي يستحقّونه جزاء أعمالهم {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لأنّ ذلك هو عقوبة الكفر الّذي يبعد الإنسان عن التعلّق بالله بأيّ سبب، في الوقت الّذي لا يملك فيه عذراً لذلك".
ويصوِّر لنا القرآن الكريم مثل إنفاق الكافرين في الدّنيا بما لا يعود عليهم بالنَّفع، إذ نرى روعة التّشبيه والتَّمثيل من أجل تقريب الفكرة، وجعل الإنسان يقف أمام الموقف، يستشعره ويحسّ به ويتذكّره على الدّوام، فكما أنّ الريح التي فيها بردٌ شديد تهلك النَّاس وتذهب بالنِّعَم والأرزاق، كذلك إنفاق الكافرين يذهب هباءً منثوراً، إذ لا قيمة له من دون إيمانٍ وتقوى".
وحول هذه النّقطة، يتابع السيّد فضل الله(رض) تفسيره للآيات: "أمّا إذا أنفقوا في سبيل الخير، فإنَّ إنفاقهم لا يعود عليهم بشيء، {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، لأنه لا يرتكز على قاعدة التقوى بالله، فهم كمثل قومٍ كان لهم حرثٌ يوحي بالنّتائج المثمرة، وكانت آمالهم تعيش معه، فجاءت ريحٌ فيها صرّ، أي بردٌ شديد {فَأَهْلَكَتْهُ}، وذلك كعقابٍ من الله لهم، على أساس ظلمهم لأنفسهم بالتمرّد والعصيان، وذلك هو جزاؤهم الطّبيعيّ الّذي جعله الله لكلّ إنسان كافر متمرّد، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ}، لأنّه جعل لهم الإرادة الحرّة التي يستطيعون من خلالها أن يختاروا جانب الخير ويتركوا جانب الشرّ، {وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بما اختاروه اتّباعاً لشهواتهم وأطماعهم".[تفسير من وحي القرآن، ج:6، ص:230-231].
وفي معرض تفسيره للآيات المباركة، يقول فخر الدّين الرازي: "قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}. اِعلم أنَّه تعالى لمّا بيّن أنّ أموال الكفّار لا تغني عنهم شيئاً، ثم إنهم ربّما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك، فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة، وبيَّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله..
واعلم أنّا إنما فسّرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفّار في الآخرة، ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدّنيا، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر، وتحمَّلوا المشاقّ، ثم انقلب الأمر عليهم، وأظهر الله الإسلام وقوَّاه، فلم يبقَ مع الكفّار من ذلك الإنفاق إلا الحسرة والخيبة".[التّفسير الكبير للفخر الرازي]..
إنّ الإنفاق وفعل الخيرات ابتغاء وجه الله، لا بدَّ وأن يقترن بالإخلاص له، وتوحيده حقّ التّوحيد، من خلال نبذ كلّ أشكال الفساد والانحراف والانجرار إلى الباطل والفتنة والأعمال الّتي تسبّب لنا السّقوط والخسارة، إذ إنّ أشدّ أنواع الخسارة هو أن يخسر الإنسان آخرته ورضوان ربِّه ورحمته...
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.