تحدّثت الآيات المباركة عن أهميّة الإنفاق في الأمّة، مشيرةً في أكثر من موضع
إلى أنه من صميم المفاهيم والتشريعات الإسلامية التي أرادت صنع مجتمع إنسانيّ خيِّر،
يعيش همّ المسوؤليّة تجاه من حوله، ويحاول جاهداً مدّهم بما يعينهم على الصمود
والاستمرار أمام كل العواصف والتحدّيات، ومن جملة الآيات التي رسمت صورة تمثيليّة
رائعة للإنسان المرائي الذي لا ينفق إلا في سبيل سمعته ومجده الذاتيّ، ولا يلتفت
بعمله إلى الحصول على رضا الله، فهو الإنسان الخاسر المتحسّر الذي لا يحصد
بالمحصّلة إلا الندم وضياع الفرصة وخسران المصير في دنياه وآخرته.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا
إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة: 266].
يشير العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) إلى هذه الصورة التمثيلية
الرائعة للآية المباركة، بحيث تجعلنا نعيش الفكرة بكلّ وضوح وتأثّر، وتدفعنا نحو
عمق الفكرة المتجسدة بضرروة العمل والإنفاق لوجه الله، وفي سبيل رضاه، وأن نعيش
الإخلاص في أعمالنا حتى تقبل وتثمر بركة ولطفاً من الله يعمّنا في الدنيا والآخرة.
قال سماحته(رض):
"إنّ الله يقدّم لنا صورةً أخرى تربطنا بالجانب الإيجابي الخيّر من الإنفاق،
وتبعدنا عن الجانب السلبي الشرّير، وذلك من خلال الإيحاء بالحاجة الملحّة الشديدة
للارتباط بالجانب الإيجابي على أساس ارتباطه بقضية المصير، الذي يفرض علينا الوقوف
مع العمل النابع من وعي الإنسان لموقفه من الله، ومن شريعته المثلى في خطّه العملي
في الحياة، وتلك هي الصورة الحيّة تتمثّل أمامنا بوضوح، إنها صورة شيخ كبير بلغ من
العمر عتيّاً، وضعفت قواه، حتى لم يستطع أن يعمل أو يكسب لقمة عيشه بيده، وله ذرية
ضعفاء لا يقدرون على العمل، إما لصغر السن، أو للمرض، أو لشيء آخر.
وإلى جانب هذه الصورة، تقف صورة أخرى تدخل في أمنيات هذا الشيخ الكبير، وهي أن تكون
له {جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ
فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَراتِ}، بحيث تستطيع أن تكفل له عيشه، وتؤمن له حياته وحياة
ذريته الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يقوموا بمسؤوليّة أنفسهم ولا بمسؤوليته، كما لا
يستطيع ـ هو ـ أن يقوم بمسؤوليّتهم ومسؤولية نفسه. كيف نتصوّر قيمة هذه الأمنية في
حياته إذا تحقّقت، وكيف يكون موقفه منها وشعوره تجاهها؟
إنها تمثل في حياته الأمل حيث لا أمل، وتبدع له الشّروق حيث لا مجال إلا للظّلام،
فيستريح لها ويسترخي ويغلق عينيه من خلالها على أطياف الرخاء تتفجّر من ينابيعها
وتتساقط من ثمارها، ويأخذ من ضعفه قوّة للمستقبل وللحياة. فقد أصبح لا يحمل هماً
للحياة في كلّ مسؤولياتها ومشاكلها، لأنّ هذه الجنّة تخفف عنه كلّ المسؤوليات، وتحلّ
له كلّ المشاكل المادية في ما يحفل به العيش من مشاكل.
وتتبدّل الصورة فجأة؛ فإذا بالنيران التي يحملها الإعصار تلتهم كلّ هذه الثمرات،
وتحرق كلّ النخيل والأعناب، ويقف هذا الشيخ الكبير ومعه ذرّيته الضعفاء أمام هذا
المشهد بمشاعر لا يستطيع أن يصوّرها قلم، أو تحدّدها كلمة. إنه اليأس القاتل الذي
لا يترك للحياة أيّ معنى في أعماق الإنسان، لما يحمله في داخله من معاني الضّياع
الهائل في بيداء الرمال المتحركة أمام الرياح العاصفة في اللّيل البهيم.
وتقفز لنا من خلال هذه الصورة صورة المرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس، وصورة
الإنسان الذي يتبع ما أنفق منّاً وأذىً، إنه يحلم بالنتائج الكبيرة التي تكسبه
النجاح والقرب من الله، لكثرة ما أنفق، وقيمة ما أعطى، مما يؤمن له مصيره. إنه
سيواجه في نهاية المطاف الصورة المرعبة التي تتمثل له ـ من خلالها ـ أعماله كرماد
اشتدّت به الريح في يوم عاصف، في الوقت الذي لا يملك فيه القيام بأيّ عمل جديد
يقوّي فيه موقفه وينقذ به مصيره المحتوم.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. إنها ليست
للرّوعة الفنية يقف الإنسان أمامها خاشعاً لروعة الإبداع، وليست للحفظ ليحصل منها
الإنسان على مزيد من البركة، بل هي للعبرة وللعظة وللتفكير، من أجل أن يحدد الإنسان
على هداها حياته ليسير بها على الخط المستقيم الذي يحبه الله ويرضاه، فيختار أقرب
الوسائل التي توصله إلى النجاح في الدنيا والآخرة، وذلك هو سبيل المؤمنين في ما
يفعلون وفي ما يتركون". [تفسير من وحي القرآن، ج 5، ص 95-97].
ومن المفسرين الذين تعرضوا لروعة هذه الآية الكريمة، ما جاء في "التفسير الكبير"
لفخر الدين الرازي، حيث قال في تفسير هذه الآية:
"اعلم أنّ هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حقّ من يتبع إنفاقه بالمنّ والأذى.
والمعنى أن يكون للإنسان جنة في غاية الحسن والنهاية، كثيرة النفع، وكان الإنسان في
غاية العجز عن الكسب، وفي غاية شدّة الحاجة، وكما أن الإنسان كذلك، فله ذرية أيضاً
في غاية الحاجة، وفي غاية العجز، ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة
والمحنة، وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة، فإذا أصبح
الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية، فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة
والمحنة والبلية، تارةً بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس، وثانياً بسبب
أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً،
وثالثاً بسبب تعلق غيره به، ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة، فكذلك من أنفق لأجل الله،
كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة، كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل
اعتماده في وجوه الانتفاع على تلك الجنة، وأما إذا أعقب إنفاقه بالمنّ أو بالأذى،
كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة، ويعقب الحسرة والحيرة والندامة، فكذا هذا
المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة، وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله،
لم يجد هناك شيئاً، فيبقى لا محالة في أعظم غمّ، وفي أكمل حسرة وحيرة، وهذا المثل
في غاية الحسن ونهاية الكمال".[التفسير الكبير للرازي].
أيفكر أحدنا في أيّ سبيل ينفق ولأية غاية؟ مجتمعنا في كل وجوه الحياة فيه، يحتاج
إلى إخلاص منا في كلّ ما يقربنا إلى الله تعالى، ومن ذلك، أعمال البرّ الخالية من
كلّ سمعة ورياء وشبهة وغاية، تفقد أعمالنا قيمتها، وتحرمنا من ثواب الله الذي لا
يعادله أيّ شيء.