في رحاب ليلة القدر

في رحاب ليلة القدر

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.

ما هو القدر؟

ما هو المراد بالقدر، فهل هو بمعنى الشرف والرفعة في ما يمثله ذلك من علوّ الدرجة والمنزلة، لما لها من المنزلة الرفيعة عند الله، أم أن المراد التقدير، فهي الليلة التي يقدّر الله فيها كل أحداث السنة؛ من حياةٍ وموتٍ، وبؤسٍ وشقاءٍ، وحربٍ وسلمٍ وغير ذلك، ولعلّ هذا هو الأقرب، بلحاظ قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان: 4ـ5]، وقوله في آخر السورة: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).

سرّ من أسرار الله

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأن ذلك سرّ الله في الزمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كله، بكل أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصية التي تجعل منه «شيئاً مذكوراً»، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار التي تجعله شيئاً عظيماً، لأن الذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه الليلة قيمتها الروحية: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وقد لا يكون هذا الرقم تحديداً في الكمّ، فربما كان تقريباً للنّوع في الدرجة التي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة التي لا تحمل إلا الذرّات الزمنية المجرّدة.

وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها، أم أن شرفها سابقٌ عليه؟ الظاهر الثاني، لأن الله يقول: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}[الدخان: 3]، فهي مباركةٌ في ذاتها. وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنه من الأمر الإلهي الذي يتنزل به الملائكة.

وأيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الذي هو النّور والهدى للبشرية، من خلال اللطف الإلهي الذي يصل الأرض بالسماء، ويدفع بالحياة إلى السير على الخطة الإلهية الحكيمة في الفكر والمنهج والشريعة والمفهوم الكامل الشامل للحياة، الذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الروح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السماوات الروحية العليّا في رحاب الله؟!

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان، من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل(ع)، الذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميز بقدرةٍ خاصةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة.

ولكن، ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدقيقة؟ إنّ ذلك مما لم يبيّنه الله لنا، ولكننا نعرف أنّ هناك بياناً لكلّ أمرٍ حكيم أمراً من عند الله، وقد فسّره المفسرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتصلة بحياة الإنسان.

ومهما كان، مما يمكن للإنسان فهم معناه، وبلوغ مداه، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك، فإن الآية توحي بأن هناك سراً ربّانياً يثيره الله في هذه الليلة في الكون الإنساني، من خلال رحمته التي يرحم بها عباده، ولطفه الذي يلطف به في حياتهم العامة أو الخاصة.

الاستعداد لليلة القدر

ولذلك، جاءت التعاليم النبوية المستمدّة من الوحي الإلهي الذي أوحى به إلى نبيّه، أو ألهمه إياه، في ضرورة استعداده فيها للصلاة والابتهال والدعاء والانقطاع إلى الله، والتقرب إليه بالكلمة الخاشعة، والدمعة الخائفة، والخفقة الحائرة، والشهقة المبتهلة، ليحصل على رضاه، فيكون ذلك أساساً للتقدير الإلهي الذي يمثل عناية الله به ورعايته له، وانفتاحه عليه بربوبيته الحانية الرحيمة. وذلك هو السرّ الذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر، في مواقع إنسانيّته، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهي في رحاب ربوبيّته، لينطلق الإنسان إلى ربه قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، في إخلاصه، وفي ابتهاله، وفي خشوعه، لتكون هذه الليلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكن لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر، فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، فالرحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السلام مع نفسه ومع الناس، لأنها تحولت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.

سلام حتّى مطلع الفجر

{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، فليس فيها أيّ معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السّلام للإنسان. إنه سلام الروح الذي يمتدّ في روحانية هذه الليلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحول فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبة والسلام، في آفاق الله الرحمن الرحيم الذي هو السلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبر.

وتلك هي ليلة القدر التي قد يكون لها موعدٌ معيّنٌ معلومٌ، لأن الله ربما أخفاها في الليالي، لينطلق العباد في أيامه، ليصلوا إليها، ليتعبدوا إلى الله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنها ليلة القدر، حتى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده، أن يقربوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.

النظرة الشعبية لليلة القدر

وقد تكون من مشكلة الوعي الشعبي لهذه الليلة، أن الناس يتطلعون إليها في نظراتهم إلى السماء، ليراقبوا ظاهرةً كونيةً لامعةً فيها، أو شبحاً غامضاً يطوف في أرجائها، أو ملكاً سابحاً في الفضاء أو نوراً، أو شيئاً ـ أيّ شيء ـ مما يكون إيحاؤه الساذج، أن هذا الإنسان قد طلعت عليه ليلة القدر، ليكون ذلك بمثابة الكرامة الإلهيّة التي توحي له بالاعتزاز، وتبعثه على الرضى بنتائج ليلته.

ولكنّ ذلك الوهم الروحي الباحث عن الظاهرة في خارج الذات، هو المشكلة الناشئة من التخلف الفكري والروحي، في فهم العبادة وفي وعي الدين، وفي الإحساس بأسرار الذات في عمق المضمون، حيث يتطلع الإنسان إلى خارج ذاته لا إلى داخلها، وإلى شكل العبادة لا إلى مضمونها، وإلى سطح الدين لا إلى عمقه، ومن خلال ذلك، تجمّد الدين، وتحوّل إلى طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد، وابتعد الإنسان عن وعي حقيقته الإنسانية التي هي قبضةٌ من طين الأرض، ونفخةٌ من روح الله، ليبقى متعبّداً لذاته، في ما هو الجسد الخالي من معنى الروح، الغارق في ضباب الشهوة، الذي هو مادّة تتحرّك لتتحوّل إلى ترابٍ ورمادٍ، وليس روحاً تتجسد لتحلّق في رحاب الله، حيث هو معنى الإنسان في ليلة القدر.

*تفسير من وحي القرآن، ج 24، ص 350 - 353.

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.

ما هو القدر؟

ما هو المراد بالقدر، فهل هو بمعنى الشرف والرفعة في ما يمثله ذلك من علوّ الدرجة والمنزلة، لما لها من المنزلة الرفيعة عند الله، أم أن المراد التقدير، فهي الليلة التي يقدّر الله فيها كل أحداث السنة؛ من حياةٍ وموتٍ، وبؤسٍ وشقاءٍ، وحربٍ وسلمٍ وغير ذلك، ولعلّ هذا هو الأقرب، بلحاظ قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان: 4ـ5]، وقوله في آخر السورة: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).

سرّ من أسرار الله

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأن ذلك سرّ الله في الزمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كله، بكل أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصية التي تجعل منه «شيئاً مذكوراً»، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار التي تجعله شيئاً عظيماً، لأن الذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه الليلة قيمتها الروحية: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وقد لا يكون هذا الرقم تحديداً في الكمّ، فربما كان تقريباً للنّوع في الدرجة التي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة التي لا تحمل إلا الذرّات الزمنية المجرّدة.

وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها، أم أن شرفها سابقٌ عليه؟ الظاهر الثاني، لأن الله يقول: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}[الدخان: 3]، فهي مباركةٌ في ذاتها. وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنه من الأمر الإلهي الذي يتنزل به الملائكة.

وأيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الذي هو النّور والهدى للبشرية، من خلال اللطف الإلهي الذي يصل الأرض بالسماء، ويدفع بالحياة إلى السير على الخطة الإلهية الحكيمة في الفكر والمنهج والشريعة والمفهوم الكامل الشامل للحياة، الذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الروح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السماوات الروحية العليّا في رحاب الله؟!

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان، من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل(ع)، الذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميز بقدرةٍ خاصةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة.

ولكن، ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدقيقة؟ إنّ ذلك مما لم يبيّنه الله لنا، ولكننا نعرف أنّ هناك بياناً لكلّ أمرٍ حكيم أمراً من عند الله، وقد فسّره المفسرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتصلة بحياة الإنسان.

ومهما كان، مما يمكن للإنسان فهم معناه، وبلوغ مداه، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك، فإن الآية توحي بأن هناك سراً ربّانياً يثيره الله في هذه الليلة في الكون الإنساني، من خلال رحمته التي يرحم بها عباده، ولطفه الذي يلطف به في حياتهم العامة أو الخاصة.

الاستعداد لليلة القدر

ولذلك، جاءت التعاليم النبوية المستمدّة من الوحي الإلهي الذي أوحى به إلى نبيّه، أو ألهمه إياه، في ضرورة استعداده فيها للصلاة والابتهال والدعاء والانقطاع إلى الله، والتقرب إليه بالكلمة الخاشعة، والدمعة الخائفة، والخفقة الحائرة، والشهقة المبتهلة، ليحصل على رضاه، فيكون ذلك أساساً للتقدير الإلهي الذي يمثل عناية الله به ورعايته له، وانفتاحه عليه بربوبيته الحانية الرحيمة. وذلك هو السرّ الذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر، في مواقع إنسانيّته، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهي في رحاب ربوبيّته، لينطلق الإنسان إلى ربه قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، في إخلاصه، وفي ابتهاله، وفي خشوعه، لتكون هذه الليلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكن لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر، فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، فالرحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السلام مع نفسه ومع الناس، لأنها تحولت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.

سلام حتّى مطلع الفجر

{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، فليس فيها أيّ معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السّلام للإنسان. إنه سلام الروح الذي يمتدّ في روحانية هذه الليلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحول فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبة والسلام، في آفاق الله الرحمن الرحيم الذي هو السلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبر.

وتلك هي ليلة القدر التي قد يكون لها موعدٌ معيّنٌ معلومٌ، لأن الله ربما أخفاها في الليالي، لينطلق العباد في أيامه، ليصلوا إليها، ليتعبدوا إلى الله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنها ليلة القدر، حتى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده، أن يقربوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.

النظرة الشعبية لليلة القدر

وقد تكون من مشكلة الوعي الشعبي لهذه الليلة، أن الناس يتطلعون إليها في نظراتهم إلى السماء، ليراقبوا ظاهرةً كونيةً لامعةً فيها، أو شبحاً غامضاً يطوف في أرجائها، أو ملكاً سابحاً في الفضاء أو نوراً، أو شيئاً ـ أيّ شيء ـ مما يكون إيحاؤه الساذج، أن هذا الإنسان قد طلعت عليه ليلة القدر، ليكون ذلك بمثابة الكرامة الإلهيّة التي توحي له بالاعتزاز، وتبعثه على الرضى بنتائج ليلته.

ولكنّ ذلك الوهم الروحي الباحث عن الظاهرة في خارج الذات، هو المشكلة الناشئة من التخلف الفكري والروحي، في فهم العبادة وفي وعي الدين، وفي الإحساس بأسرار الذات في عمق المضمون، حيث يتطلع الإنسان إلى خارج ذاته لا إلى داخلها، وإلى شكل العبادة لا إلى مضمونها، وإلى سطح الدين لا إلى عمقه، ومن خلال ذلك، تجمّد الدين، وتحوّل إلى طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد، وابتعد الإنسان عن وعي حقيقته الإنسانية التي هي قبضةٌ من طين الأرض، ونفخةٌ من روح الله، ليبقى متعبّداً لذاته، في ما هو الجسد الخالي من معنى الروح، الغارق في ضباب الشهوة، الذي هو مادّة تتحرّك لتتحوّل إلى ترابٍ ورمادٍ، وليس روحاً تتجسد لتحلّق في رحاب الله، حيث هو معنى الإنسان في ليلة القدر.

*تفسير من وحي القرآن، ج 24، ص 350 - 353.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية