{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ* خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التوبة: 19ـ22].
ذكر المفسّرون أنّ هذه الآيات نزلت في عليّ بن أبي طالب (ع) والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه، ولو أشاء بتُّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال عليّ (ع): ما أدري ما تقولان، لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد...
وقد تعدّدت الروايات في ذلك بأساليب مختلفة... وقد أشرنا أكثر من مرّة إلى أنّ أسباب النزول تمثّل النماذج الحيّة للفكرة العامّة التي تريد الآيات أن تثيرها في النّاس من خلال حركة الواقع الذي عاشت الآية في أجوائه، ما يجعل للآية الامتداد في نطاق الفكرة العامّة.
وينطلق القرآن ليركّز في داخل الشخصيّة الإنسانيّة الإسلاميّة القيم الروحيّة الواقعيّة الجديدة، التي تؤكّد جانب المضمون بعيداً من الشكل، وتوحي للناس بأنّ القيمة الحقيقيّة المميّزة هي للّذين يتحركون في الحياة في خطّ الإيمان بالله واليوم الآخر، باعتبار أنّ ذلك هو الأساس في بناء الحياة على قاعدة المسؤوليّة التي تتحرّك في خطّين: خطّ الإحساس بالألوهيّة الخالقة القادرة المهيمنة على الوجود كلّه، في ما يوحيه ذلك من الالتزام بالمنهج الشّامل الذي وضعه للحياة، وخطّ الشّعور بالنتائج الإيجابيّة أو السلبيّة للعمل المستقيم أو المنحرف في مواقف الحساب في اليوم الآخر بين يدي الله.
ثم هي للمجاهدين في سبيل الله الذين يقدّمون كلّ ما يملكون من مالٍ وجاهٍ وحياةٍ، من أجل استقامة الحياة على درب الله في كلّ القضايا التي تتحرّك في آفاقها، وذلك هو الذي يحقّق للحياة أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها، ويدفعها إلى الأمام، والّذي يرفع مستواها إلى آفاقه.
وهذه هي القيمة الكبيرة للإنسان في ما تؤكّده من إنسانيّة الإنسان ورساليّته، ولا مجال للمقارنة بينها وبين أيّ عملٍ من الأعمال الآخرى التي قد تكون وجهاً من وجوه الخير، ولكنّها لا تمثّل الامتداد والعمق في حياة الإنسان وفي مصيره.
ولعلّ هذا الخطّ في تأكيد القيمة الروحيّة الإنسانيّة، وعدم اعتبار الأعمال الاستعراضيّة أساساً للقيمة، يُبعد الكثيرين ممن يريدون تأكيد إيمانهم وروحيّتهم من خلال القيام بأعمالٍ عمرانيّة للمساجد أو للمؤسّسات الخيرية أو توزيع الصدقات، ويحاولون من خلال ذلك أن يتخذوا لأنفسهم موقعاً متقدّماً في السّاحة الاجتماعيّة، وربما يعملون، أو يعمل أتباعهم، على تفضيلهم على العاملين في خطّ التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي، من الجذور الضّاربة في عمق الواقع الإنساني، على أساس هدى الله المنطلق من رسالاته.
وقد نستوحي من هذا الخطّ القرآني، النهج العملي الذي يمنع الكثيرين من هؤلاء الاستعراضيّين أن يخدعوا المجتمع عن واقعهم المزيّف بالمشاريع الخيريّة البارزة، وذلك عندما يفهم المجتمع القرآني أنّ مثل هذه الأمور لا تمثّل قيمةً في نفسها، إلا بمقدار ما تكشف عنه من روحٍ طيّبةً ونيَّةٍ صالحة.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} بما كان يفعله البعض من سقي الحجاج الماء في الموسم {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بما كان يقوم به البعض الآخر من عمارته {كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ}، فكانت حياته من أجل الحياة كلّها والحقّ كلّه، في حركة الإيمان وانطلاقة الجهاد.
{لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ}، لأنّ الله ينظر إلى النّاس من خلال دوافعهم ومنطلقاتهم وآفاقهم الرّوحيّة، في ما تمثله من الإخلاص له والإذعان لعبوديّته.
فلا يمكن أن يساوي بين الإنسان الذي يعيش الأفق الضيّق في الأعمال الجزئيّة المحدودة، وبين الإنسان الذي يعيش الأفق الواسع في أجواء الحياة كلّها.
فكيف تساوون بين هذين النّموذجين من الناس، أو تحاولون تفضيل الفريق الأوّل على الفريق الثاني؟! إنه الظلم للحقيقة وللمجاهدين في سبيله.
وهذا هو الضّلال بعينه، الذي يبتعد فيه الإنسان عن أجواء الهدى، فإذا انطلقتم في هذا الجوّ، فسيترككم الله لأنفسكم، لأنكم اخترتم ذلك من دون حجّة {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ابتعدوا عن الهدى باختيارهم، وانحرفوا عن طريق الله من غير أساس، وأهملوا طاعته، وتركوا هداه إلى غيره، بعد أن عرّفهم النهج السويّ والصّراط المستقيم.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".