العفْوُ والتَّسامحُ.. انتصارٌ على النَّفسِ وسبيلٌ إلى سعادةِ الآخرة

العفْوُ والتَّسامحُ.. انتصارٌ على النَّفسِ وسبيلٌ إلى سعادةِ الآخرة

هناك مسألة تتَّصل بحياتنا العامَّة والخاصَّة، ولا أظنّ أنَّ أحدًا من النَّاس يخلو منها، وهي أنَّنا قد نواجه في حياتنا الاجتماعيَّة، سواء كان ذلك في واقع الأسرة أو المجتمع العام، أناسًا يسيئون إلينا، ويخطئون معنا، وربَّما يعتدون على حقوقنا أو علينا.
التّصرّف حيال الإساءة
فنحن نلاحظ أنَّ حياة الأسرة قد لا تخلو من إساءة الأب إلى أولاده في وضع معيَّن، فلربّما لا يكون مستقيمًا في حياته، بناءً على تعقيدات في حياة الأسرة، كما في حال بعض الآباء الَّذي قد يطلّق زوجته الَّتي تكون أمًّا لأولاده، أو يتزوَّج زواجًا ثانيًا فيسيء إلى أولاده من الزَّوجة الأولى، أو كأن يكون الأب مدمنًا أو مقامرًا، بحيث يؤثّر سلكوه بشكل سلبيّ في أولاده، وربما تسيء الأمّ إلى أولادها بطريقة وبأخرى، وقد يسيء الأولاد إلى آبائهم وأمَّهاتهم، ولا سيَّما عندما يكبر الآباء والأمَّهات، وقد يسيء الزَّوج إلى زوجته، فيضربها ويضطهدها ويسبّها، أو يضيّق عليها أو يطردها من بيته في بعض الحالات، وقد تسيء المرأة إلى زوجها فتمنعه حقَّه، أو تقوم ببعض الأعمال الَّتي لا حقَّ لها فيها.
وهكذا تتَّسع المسألة لتشمل الجيران بعضهم مع بعض، والأرحام بعضهم مع بعض، والنَّاس الَّذين يتبايعون ويتشاورون، والنّاس الّذين يتصادقون، لأنَّ طبيعة العلاقات بين النَّاس لا تسير دائمًا على خطّ مستقيم واحد، ولا بدَّ أن يحدث هناك خطأ ما من إنسان تجاه إنسان آخر.
فما هو التصرّف الَّذي ينبغي لنا أن نتصرّفه في مثل هذه الحالات؟
من الطبيعيّ أنَّ كلَّ إنسان عندما يُترك لمزاجه، فإنَّه يحبّ أن يردّ الكيل كيلين، والصَّاع صاعين، لينفّس عن غيظه، وليأخذ بحقّه، ويحفظ كرامته، وما إلى ذلك من أوضاع. فالإنسان، عادةً، يحبّ أن يثأر لنفسه ممن أساء إليه، ويرى أنَّ ذلك حقّ له، وهذا أمر لا ينكره الإسلام على الإنسان، فنحن نقرأ في القرآن الكريم: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، يعني أن نردَّ، ولكن أن نردّ الصَّاع صاعًا لا صاعين، والكيل كيلًا لا كيلين، أي أن لا يزيد الإنسان على حجم الإساءة الَّتي وُجّهت إليه، فمن سبّنا سبّة واحدة، نسبّه سبَّة واحدة، ومن ضربنا ضربة، نضربه ضربة، ومن تحدّانا بكلام، فلا يجوز أن نطلق الرّصاص عليه، لأنَّ قضيَّة العدل تفرض أن يكون الرّدّ بمثله..
وفي هذا المجال، نُقل أنَّ بعض الخوارج أعجبته كلمة للإمام عليّ (ع)، فقال: "قاتله الله كافرًا ما أفقهه!"، فالخوارج كانوا يعتبرون أنَّ عليًّا (ع) كفر عندما دخل في مسألة التَّحكيم، والإمام كان في ذلك الوقت خليفة، فوثب القوم ليقتلوه، فقال الإمام (ع): "رويدًا، إنَّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنب"، والله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194].
حتَّى إنَّ الإمام (ع) ركَّز على هذه النّقطة عندما ضربه ابن ملجم بالسَّيف، وشعر بدنوّ أجله، فكانت له وصيَّتان، الوصيَّة الأساسيَّة أن لا يكون الانتقام من كلّ عشيرة ابن ملجم ثأرًا له، بل قال: "يا بني عبد المطَّلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا، تقولون قُتل أمير المؤمنين"، فلا تقولوا قتل أمير المؤمنين، ولن نقبل بأن نقتل أيًّا كان ثأرًا له، بل سنقتل أكبر رأس فيهم، كما هو منطق العشائر، والله يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، وأكَّد سبحانه على أن يكون القصاص بالمثل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: 179]، {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة: 45].
وفي الوصيّة الثّانية، قال (ع) لهم: "انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرَّجل، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إيَّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور". وهنا محلّ الشَّاهد، أن تكون هناك ضربة مقابل الضَّربة، فطالما أنَّ القاتل ضربه ضربةً، فإنّ القصاص يقتضي أن يُضرب ضربة واحدة.
فالإسلام يركّز قانون العدالة، كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النّحل: 126]، يعني أنَّ الإنسان إذا اعتُدِيَ عليه، فمن حقّه أن يردَّ العدوان بمثله، وليس أن يزيد عليه.
قيمة العفو والتّسامح
لكنَّ الإسلام في كلّ خطّ من خطوط العدالة المتَّصلة بحقوق النَّاس، يؤكّد أنَّ على الإنسان أن يعطي مساحةً للعفو والتّسامح والصَّبر والصَّفح الجميل، أن يحاول أن يتجاوز حقَّه، فيعفو عمَّن أساء إليه، ويصفح عنه، ويغفر له، لأنَّ الحياة إذا كانت تنطلق على أساس "واحدة بواحدة"، فإنَّها تكون جافَّة ومتعبة، أمَّا حين يؤكّد الإسلام حقَّ الإنسان، ثمَّ يطلب منه أن يسمو فوق حقّه، فيعلو على الغضب والغيظ والانتقام، فهذا كلّه يجعله في باب الإحسان، فكما أنَّ الهديَّة أو الخدمة الّتي نقدّمها تعدّ إحسانًا، فإنَّ العفو أيضًا يعتبر إحسانًا، فكأنّنا نقدّم العفو هديّةً إلى من نعفو عنه.
وفي بعض الأحاديث، يعبّر الإمام عليّ (ع) أنَّ العفو قد يكون مظهرًا من مظاهر شكر الله، يقول: "إذا قَدَرْتَ عَلى عَدُوّكَ، فَاجْعَل العَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلقُدْرَةِ عَلَيهِ".
فهو (ع) يقول بما أنَّ الله أنعم عليك بالقدرة على عدوّك، فقل يا ربّ، ما دمت أنعمت عليّ بهذه النّعمة، فأنا سأشكرك بأن أعفو عنه، وأنا قادر على أن آخذ حقّي منه، وهذا ما يجعل الحياة أوسع وأرحب، وتعطي الإنسان الفرصة ليتراجع عن خطئه.
وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن العفو والمغفرة، فقال سبحانه بعد أن أعطى الإنسان الحقّ بأن يردَّ العدوان عليه بمثله: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، فإذا عفوتم عن هذا الإنسان الَّذي أساء إليكم، فإنَّ ذلك يكون أقرب إلى تقوى الله، لأنَّ الإنسان الّذي يعفو قربةً إلى الله يكون، قريبًا إلى الله من خلال عفوه.
وفي آية ثانية، يقول سبحانه: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}[النَّحل: 126]، أن يصبر الإنسان على مشاعره وانفعالاته ومزاجه، فإذا صبر، فإنَّ الله يعوّضه عمَّا عاشه من ضغط نفسيّ من خلال صبره، ويعطيه على ذلك الأجر العظيم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزّمر: 10]، وتقول له الملائكة ولكلّ الصَّابرين: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 24].
والله يقول لنبيّه عن النَّاس المؤمنين الَّذين كانوا يسيئون إليه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: 159]. وفي آية أخرى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}[البقرة: 109]. فعندما تخطئون مع الله وتذنبون وتسيئون إليه، ألا تحبّون أن يغفر لكم، فإذا غفر بعضكم لبعض، فإنَّ ذلك يكون وسيلة لمغفرة الله لكم، على الطَّريقة الَّتي تحدَّث عنها الإمام زين العابدين (ع): "اللَّهمَّ إنَّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمَّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنَّا، فإنَّك أولى بذلك منَّا"...
ثمَّ إنَّه في كثير من الحالات، قد يخطئ النَّاس معنا من دون عقدة، ربَّما يخطئون معنا نتيجة وضع نفسيّ معيَّن، أو بسبب نقل حديث عنَّا بشكل سيّئ، فيتصرّفون معنا بطريقة انفعاليَّة لا يفكّرون في أثرها أو في نتائجها.. هنا، قد يكون العفو عنهم والصَّبر عليهم فرصةً لعودتهم إلى رشدهم وتراجعهم عن الخطأ، وهذا ما نلمسه بوضوح في سيرة أئمَّة أهل البيت (ع).
قصّة الحسن (ع) مع الشّاميّ
فمثلًا، قصَّة الإمام الحسن (ع) مع ذلك الرّجل الشَّامي الَّذي التقى به في المدينة، وكان الإمام الحسن (ع) راكبًا فرسه، ومعه إخوانه وأولاده وأهل بيته، فسأل الشّامي: من هذا؟ قالوا له: هذا الحسن بن عليّ، وكان معاوية كان قد ربّى أهل الشّام على بغض عليّ (ع) وسبّه على المنابر وفي صلواتهم، حتَّى إنَّ عبدالله بن عبَّاس، بعدما توفّي الإمام (ع)، قال لمعاوية: إنَّك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرَّجل! فقال: "لا والله، حتَّى يربو عليه الصَّغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلًا". فإلى هذا الحدّ بلغ حقد معاوية على عليّ (ع)، فقد أراد أن يغسل أدمغة النّاس من فكرة تعظيمه، فجعل سبّه شعارًا يردّده النّاس في كلّ صلاة جمعة، في أوَّلها وآخرها..
فتصوّروا مجتمعًا يُربّى على سبّ إنسانٍ صباح مساء، وخصوصًا إذا كان مجتمعًا منغلقًا لا يملك الوعي ولا الاطّلاع، وكانت السّلطة هي الَّتي تصنع هذا المناخ وتغذّيه، عندها، يصبح النَّاس أسرى الدّعاية، يصدّقونها من دون تمحيص، وتتشكَّل في نفوسهم عقدة تجاه ذلك الشَّخص وصورة مشوَّهة عنه.
فهذا الشَّامي كان قد تربَّى في الشَّام على سبّ عليّ (ع)، فعندما رأى الإمام الحسن (ع) وقالوا له هذا ابن عليّ بن أبي طالب، بدأ يسبّه ويسبّ أباه من دون مناسبة. هنا طبعًا احمرَّت عيون بني هاشم عليه وهمّوا بالرّجل، ولكنَّ الإمام (ع) نظر إليه نظرة رأفة ورحمة، وقال له: "أيُّها الشَّيخ، أظنُّكَ غريبًا، ولعلَّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت عريانًا كسوناك، وإن كنت محتاجًا أغنيناك، وإن كنت طريدًا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك"، ثمَّ أمر الغلمان بأن يأخذوه إلى المنزل، وأن يحسنوا ضيافته ومطعمه ومأكله، وعندما دخل بيت الإمام الحسن (ع) - وبيتُهُ (ع) هو البيت الّذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيرًا {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33]، وهو البيت الّذي يذكر فيه الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[النّور: 36] - صار يحدّث نفسه ويراجعها، ثمَّ خرج وهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، فقد أدرك أنَّ هؤلاء هم أهل الرّسالة الّذين يسيرون في خطّها، والّذين اختارهم الله سبحانه.
فالإمام (ع) أفسح المجال لهذا الإنسان ليهتدي، فلو أمر بضربه لازداد حقدًا وتعقيدًا، لكنَّه بأسلوبه فتح قلبه على الحقّ، لأنَّ هذا الرَّجل كانت لديه فكرة سيّئة غير حقيقيَّة، فأراد الإمام (ع) أن يساعده على تصحيح هذه الصّورة في ذهنه، ليعاين الحقائق بنفسه، ويشهد الصورة الحقيقيَّة في الواقع.
وهذا أمر يحدث معنا كثيرًا، أليس هناك من الأعداء والمخابرات من يعملون على تشويه صورة إنسان معيّن، فينشأ لدى النَّاس تجاهه مشاعر عدائيَّة، وهم يظنّون أنّهم على حقّ في ذلك؛ فيسبّونه ويشتمونه، ويتحدَّثون عنه بناءً على الصّورة المشوَّهة الَّتي قُدِّمت إليهم؟! وفي هذه الحالة، علينا أن نمنح هؤلاء النّاس الّذين تربّوا على تصوّر سلبيّ، الفرصة لتصحيح هذه الصّورة ورؤية الحقيقة بأنفسهم.
لو كان العفو ضعفًا، لما جعله الله صفة لنفسه، فهو العفوّ الغفور
قصّة زين العابدين (ع) مع الشّيخ
وينقل أيضًا عن الإمام زين العابدين (ع)، عند مسيره إلى الشَّام مع السّبايا، أنّه التقى بشيخ كبير، فقال لهم هذا الشّيخ: "الحمد لله الَّذي قتلكم وأهلككم، وقطع قرن الفتنة، فلم يأل عن شتمهم. فلمَّا انقضى كلامه، قال له عليّ بن الحسين (ع): أما قرأت كتاب الله عزَّ وجلّ؟ قال: نعم، قال: أما قرأت هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}[الشورى: 23]، قال: بلى، قال: فنحن أولئك. ثمَّ قال: أما قرأت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ}[الإسراء: 26]، قال: بلى، قال: فنحن هم، فهل قرأت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33]، قال: بلى، قال: فنحن هم. فرفع الشَّامي يده إلى السَّماء، ثمّ قال: اللَّهمَّ إني أتوب إليك - ثلاث مرَّات - اللَّهمّ إني أبرأ إليك من عدوّ آل محمَّد، ومن قتلة أهل بيت محمَّد، لقد قرأت القرآن، فما شعرت بهذا قبل اليوم".
فالإمام (ع) أراد أن يقنع هذا الشَّيخ المضلَّل بطريقة لبقة بخطئه. فلو أنّه استعمل الغضب معه أو العنف في هذه الحالة، لما حقّق أيّ نتيجة، ولما استطاع توضيح الصّورة الصّحيحة أمام الناس.
قصّة الكاظم (ع) مع الحاقد
وينقل أيضًا قصّة حدثت مع الإمام الكاظم (ع)، الّذي نلتقي بذكرى وفاته بعد أيَّام، في الخامس والعشرين من شهر رجب، حيث كان هناك رجل في المدينة لا يترك كلمة سيّئة إلّا ويقولها في حقّ الإمام الكاظم (ع)، حتَّى ضجَّ أصحاب الإمام منه، فقال أحدهم للإمام: ائذن لنا بأن نقتله. ولكنَّ الإمام رفض ذلك، وقصده وهو في بستان له، والإمام راكب على دابَّته، ولكنّ الرجل من شدَّة حقده على الإمام (ع)، قال له: أنا لا أبيح لك الدخول إلى البستان وأن تتلف زرعي، إلى أن وصل الإمام إليه وجلس إلى جانبه، وسأله بلطف: كم ترجو أن تصيب منه؟ قال: أنا لا أعلم الغيب، قال له الإمام (ع): إنَّما قلت لك كم ترجو أن يجيئك منه، فقال: أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار، فأعطاه الإمام صرّةً فيها مائتا دينار، وقال: وزرعك على حاله. ثمَّ بدأ يحدّثه ويباسطه ويضاحكه، إلى أن قام الإمام وودّعه، حتَّى سار الرَّجل وراء الإمام مهرولا ًوهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
ثمّ عندما ذهب الإمام (ع) إلى المسجد، وكان الرَّجل هناك، فبمجرَّد أن دخل الإمام المسجد، قام الرَّجل ورحَّب به، فأنكر أصحابه عليه هذا التَّغيّر، فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ومآثره، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلًا: أيّما كان خيرًا؛ ما أردتم، أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟!
الصّبر على الأذى
ففي كثير من الحالات، عندما يوسّع الإنسان صدره تجاه من أساء إليه وأخطأ بحقّه، وعندما يجد له العذر ويتيح له الفرصة، فلربّما يتراجع المخطئ عن خطئه، والله يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]، يعني اعمل بالأسلوب الأفضل الَّذي تستطيع من خلاله أن تحوّل عدوَّك إلى صديق، لا أن تزيد عداوة العدوّ، وتخسر صداقة الصّديق. وهذه المسألة ليست سهلة، كما يقول الله سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 35]. فالإنسان الَّذي يصبر على أذى الآخرين وخطئهم معه، يملك حظًّا عظيمًا من الوعي والإيمان والانفتاح.
لذلك، علينا أن نتعلَّم العفو والتّسامح، حتَّى نستطيع أن ننقذ حياتنا. الآن في الحياة الزّوجيَّة، مثلًا، قد تحدث مشاكل، فلو أنَّ الزَّوجة أرادت أن تحاسب الزَّوج على كلّ شيء، أو أنَّ الزّوج أراد أن يحاسب زوجته على كلّ شيء، لما استقامت حياتهما، فينبغي أن نعفو في كثير من الأمور حتّى تنطلق الحياة الزّوجيّة وتستمرّ. لهذا، عندما حدَّثنا الله عن العلاقة الزّوجيَّة، قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم: 21]، فقد ركَّز الحياة الزَّوجيَّة على أساس المودَّة والرَّحمة، لا على أساس الحقوق والواجبات، وإن كان هناك في الحياة الزّوجيَّة حقوق وواجبات من كلّ طرف تجاه الآخر، ولكنَّ الله يريد للحياة الزوجيَّة أن تقوم على أساس الودّ والرّحمة، واستيعاب كلّ طرف لظروف الطّرف الآخر، وهذا لا ينطلق إلَّا على أساس التَّسامح والعفو، حتَّى يمكن للحياة الزوجيَّة أن تسير، وإلَّا صار هناك محكمة في داخل كلّ بيت ومخفر شرطة...
إنَّ علينا أن نتعلّم في حياتنا التسامح وسعة الصّدر، وهذا يخلّصنا من كثير من العقد النفسيَّة الَّتي تنشأ من الأشياء المكبوتة، والَّتي يمكن أن تجعل الإنسان معقَّدًا، والإنسان المعقَّد لا يستطيع أن يعيش مع النَّاس، لذلك يقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، أن يكظم الإنسان غيظه أوّلًا، ثمَّ يعفو، ثمَّ يحسن، حتَّى يزول كلّ أثر سلبيّ من النَّفس.
العفو ليس ضعفًا
وقد يفكّر الإنسان أنَّ هذا أمر صعب عليه، فكيف يذلّ نفسه لفلان ويتنازل له ويتسامح في حقّه، وكيف وكيف... ولكن كما قلت لكم دائمًا، إنَّ الإنسان في هذه القضايا لا يعمل لحساب المخلوقين، بل لحساب الخالق، فنحن نصل أرحامنا ونتحمَّل منهم، ونصل جيراننا ونتحمّل منهم، ونصل النَّاس الَّذين يعيشون في حياتنا، أزواجنا وزوجاتنا وأولادنا وآباءنا وأمَّهاتنا وإخواننا، ونتحمّل منهم، ليس لحسابهم، بل لحساب الله تعالى، أن يعفو الإنسان ويتحمَّل الأذى قربةً إلى الله تعالى، وعندما يكون قربةً إلى الله، فالله لا يضيع أجر العاملين: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195]. قد يكون هناك من نعفو عنه، فيفترض أنَّ العفو عنه هو نتيجة الضّعف، وقد يجعلنا ذلك نتضايق، ولكن علينا أن لا نلتفت إلى ذلك، لأنّنا نحصّل بعفونا ثواب الله، ونحن نحتاج إلى ثوابه سبحانه، ونحن إن شاء الله مؤمنون، نؤمن بالله واليوم الآخر... ولو كان العفو ضعفًا، لما جعله الله صفة لنفسه، فهو العفوّ الغفور...
إنَّ عليّ أن أدرك أنّني إذا عفوت، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعفو عنّي، وإذا غفرت، فإنَّ الله يغفر لي ويرفع درجتي من خلال ذلك، فلماذا لا أعفو وأتسامح ما دام كلّ شيء عند الله؟
فإذا كنت معقّدًا، فلن أحصّل شيئًا، ولكن إذا كنت متسامحًا في الدّنيا، وكنت قد عفوت وصبرت، فسأجد ثواب ذلك عند الله، أليس هناك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]؟! فالملكان يرفعان تقريرًا إلى الله في كلّ ما نقوم به من عفو وتسامح وصبر...
زاد الخير للآخرة
وأنا أحبّ أن أقول لنفسي ولكم، إنّنا غالبًا نفكّر في الدنيا بشكل كبير جدًّا، ولربّما نفكّر بشكل بسيط جدًّا في الآخرة، أو قد لا نفكّر فيها أبدًا، ولكنّنا بحاجة إلى زاد للآخرة، وزاد الآخرة، كما يقول الله هو التّقوى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[البقرة: 197]، {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، فالعفو هو زاد لنا يوم القيامة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمّل: 20].
أن يكون لنا زاد من كلمة الخير وعمل الخير ونيَّة الخير وروحيَّة الخير، فكلّ شيء يفنى، ويبقى للإنسان ما يقدّمه بين يدي الله من عمل {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46]، فكلّ ما في الدّنيا سيبقى في الدّنيا، ولن يكون مع الإنسان بعد الموت إلّا عمله، ولا ينفعه إلّا الباقيات الصَّالحات الّتي هي خير ثوابًا وأملًا. ونحن لا نقول للنّاس لا تتلذّذوا في الدّنيا، فيمكن أن نأكل ونلعب ونتلذَّذ إذا كان ذلك من حلال، ولكن أن لا نقتصر على ذلك، بل أن ننفتح على الله سبحانه.
إنَّ علينا أن نعوّد أنفسنا على التّسامح والعفو، لأنَّ هذا يريحنا في الدّنيا وفي الآخرة، فكلّما كان الإنسان طيّبًا، متسامحًا، لطيفًا، أحاطه النَّاس بالمحبّة، وأحبّه الله تعالى. فلا تسمحوا للشَّيطان أن يوهمكم بأنَّ العفو والتّسامح مظهر ضعف، فلو كان كذلك، لما جعله الله صفةً من صفاته: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحجّ: 60]. فنحن حين نعفو، إنّما نتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، ونرتقي بإنسانيَّتنا.
لكنّ هذا الطَّريق يحتاج إلى جهاد النَّفس، وإلى تربيةٍ مستمرّةٍ للذَّات، فكما يربّي الإنسان أبناءه، ويتعب من أجلهم، ويضحّي في سبيل صلاحهم، كذلك ينبغي أن يلتفت إلى نفسه ولو بنسبة العشرة في المائة {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53]. أن يفكّر كلٌّ منّا بعيوبه وذنوبه، ويسعَى إلى تهذيبها، ليُنمِّي في داخله التَّقوى وخشية الله، لأنَّ كلّ ما في الدنيا زائل، ولا يبقى للإنسان إلَّا ما يرفع درجته عند الله تعالى.
تجربة شخصيّة
وأنا أعطيكم مثلًا من نفسي ومن تجربتي الشَّخصيَّة، فمنذ بضع سنوات، كم تعرّضت لشتائم وعداوات واتّهامات، والله يعلم أني لم أحقد على أحد، ولم أطلب من الله أن ينتقم لي من أحد، بل كنت دائمًا أقول: "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون".
وأنا أستعيد هذه التجربة لأقول إنّه لم يمّر عليّ حالة صفاء روحي وطمأنينة كما عشتها في هذه التجربة، لأنّي رأيت أنّ الناس يعيشون تحت ضغط دعاية سيّئة، وعرفت من خلال التَّجربة أنَّ النَّاس كلّهم مشتبهون، وكنت أدعو الله لهم بالهداية والمغفرة، حتّى إنّ بعض النّاس الّذين كانوا يطلبون منّي المسامحة، كنت أقول لهم لقد سامحتكم من قبل.
فلا ينبغي لنا أن نبغض النَّاس حتّى لو أخطأوا بحقّنا، بل علينا أن نحبّهم ونسامحهم ونعفو عنهم، ولربّما يأتي وقت يكتشفون فيه خطأهم تجاهنا، وتتحوَّل عداوتهم معنا إلى صداقة، وأنا لديَّ تجربة في هذا المجال مع الكثير من النَّاس، وأشعر معهم الآن بمحبَّة متبادلة.
إنَّ علينا أن نعي أنّ كلّ شيء في الدّنيا يزول؛ أموالنا وأحقادنا، ولا يبقى لنا في النّهاية إلَّا محبَّة الله لنا، والّتي لا تكون إلّا من خلال حبّنا للنّاس، وحبّ النّاس لنا.
والحمد لله ربّ العالمين.
 
*** 
* خطبة الجماعة لسماحته للنساء، في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 15/01/1993م.
 
هناك مسألة تتَّصل بحياتنا العامَّة والخاصَّة، ولا أظنّ أنَّ أحدًا من النَّاس يخلو منها، وهي أنَّنا قد نواجه في حياتنا الاجتماعيَّة، سواء كان ذلك في واقع الأسرة أو المجتمع العام، أناسًا يسيئون إلينا، ويخطئون معنا، وربَّما يعتدون على حقوقنا أو علينا.
التّصرّف حيال الإساءة
فنحن نلاحظ أنَّ حياة الأسرة قد لا تخلو من إساءة الأب إلى أولاده في وضع معيَّن، فلربّما لا يكون مستقيمًا في حياته، بناءً على تعقيدات في حياة الأسرة، كما في حال بعض الآباء الَّذي قد يطلّق زوجته الَّتي تكون أمًّا لأولاده، أو يتزوَّج زواجًا ثانيًا فيسيء إلى أولاده من الزَّوجة الأولى، أو كأن يكون الأب مدمنًا أو مقامرًا، بحيث يؤثّر سلكوه بشكل سلبيّ في أولاده، وربما تسيء الأمّ إلى أولادها بطريقة وبأخرى، وقد يسيء الأولاد إلى آبائهم وأمَّهاتهم، ولا سيَّما عندما يكبر الآباء والأمَّهات، وقد يسيء الزَّوج إلى زوجته، فيضربها ويضطهدها ويسبّها، أو يضيّق عليها أو يطردها من بيته في بعض الحالات، وقد تسيء المرأة إلى زوجها فتمنعه حقَّه، أو تقوم ببعض الأعمال الَّتي لا حقَّ لها فيها.
وهكذا تتَّسع المسألة لتشمل الجيران بعضهم مع بعض، والأرحام بعضهم مع بعض، والنَّاس الَّذين يتبايعون ويتشاورون، والنّاس الّذين يتصادقون، لأنَّ طبيعة العلاقات بين النَّاس لا تسير دائمًا على خطّ مستقيم واحد، ولا بدَّ أن يحدث هناك خطأ ما من إنسان تجاه إنسان آخر.
فما هو التصرّف الَّذي ينبغي لنا أن نتصرّفه في مثل هذه الحالات؟
من الطبيعيّ أنَّ كلَّ إنسان عندما يُترك لمزاجه، فإنَّه يحبّ أن يردّ الكيل كيلين، والصَّاع صاعين، لينفّس عن غيظه، وليأخذ بحقّه، ويحفظ كرامته، وما إلى ذلك من أوضاع. فالإنسان، عادةً، يحبّ أن يثأر لنفسه ممن أساء إليه، ويرى أنَّ ذلك حقّ له، وهذا أمر لا ينكره الإسلام على الإنسان، فنحن نقرأ في القرآن الكريم: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، يعني أن نردَّ، ولكن أن نردّ الصَّاع صاعًا لا صاعين، والكيل كيلًا لا كيلين، أي أن لا يزيد الإنسان على حجم الإساءة الَّتي وُجّهت إليه، فمن سبّنا سبّة واحدة، نسبّه سبَّة واحدة، ومن ضربنا ضربة، نضربه ضربة، ومن تحدّانا بكلام، فلا يجوز أن نطلق الرّصاص عليه، لأنَّ قضيَّة العدل تفرض أن يكون الرّدّ بمثله..
وفي هذا المجال، نُقل أنَّ بعض الخوارج أعجبته كلمة للإمام عليّ (ع)، فقال: "قاتله الله كافرًا ما أفقهه!"، فالخوارج كانوا يعتبرون أنَّ عليًّا (ع) كفر عندما دخل في مسألة التَّحكيم، والإمام كان في ذلك الوقت خليفة، فوثب القوم ليقتلوه، فقال الإمام (ع): "رويدًا، إنَّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنب"، والله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194].
حتَّى إنَّ الإمام (ع) ركَّز على هذه النّقطة عندما ضربه ابن ملجم بالسَّيف، وشعر بدنوّ أجله، فكانت له وصيَّتان، الوصيَّة الأساسيَّة أن لا يكون الانتقام من كلّ عشيرة ابن ملجم ثأرًا له، بل قال: "يا بني عبد المطَّلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا، تقولون قُتل أمير المؤمنين"، فلا تقولوا قتل أمير المؤمنين، ولن نقبل بأن نقتل أيًّا كان ثأرًا له، بل سنقتل أكبر رأس فيهم، كما هو منطق العشائر، والله يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، وأكَّد سبحانه على أن يكون القصاص بالمثل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: 179]، {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة: 45].
وفي الوصيّة الثّانية، قال (ع) لهم: "انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرَّجل، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إيَّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور". وهنا محلّ الشَّاهد، أن تكون هناك ضربة مقابل الضَّربة، فطالما أنَّ القاتل ضربه ضربةً، فإنّ القصاص يقتضي أن يُضرب ضربة واحدة.
فالإسلام يركّز قانون العدالة، كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النّحل: 126]، يعني أنَّ الإنسان إذا اعتُدِيَ عليه، فمن حقّه أن يردَّ العدوان بمثله، وليس أن يزيد عليه.
قيمة العفو والتّسامح
لكنَّ الإسلام في كلّ خطّ من خطوط العدالة المتَّصلة بحقوق النَّاس، يؤكّد أنَّ على الإنسان أن يعطي مساحةً للعفو والتّسامح والصَّبر والصَّفح الجميل، أن يحاول أن يتجاوز حقَّه، فيعفو عمَّن أساء إليه، ويصفح عنه، ويغفر له، لأنَّ الحياة إذا كانت تنطلق على أساس "واحدة بواحدة"، فإنَّها تكون جافَّة ومتعبة، أمَّا حين يؤكّد الإسلام حقَّ الإنسان، ثمَّ يطلب منه أن يسمو فوق حقّه، فيعلو على الغضب والغيظ والانتقام، فهذا كلّه يجعله في باب الإحسان، فكما أنَّ الهديَّة أو الخدمة الّتي نقدّمها تعدّ إحسانًا، فإنَّ العفو أيضًا يعتبر إحسانًا، فكأنّنا نقدّم العفو هديّةً إلى من نعفو عنه.
وفي بعض الأحاديث، يعبّر الإمام عليّ (ع) أنَّ العفو قد يكون مظهرًا من مظاهر شكر الله، يقول: "إذا قَدَرْتَ عَلى عَدُوّكَ، فَاجْعَل العَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلقُدْرَةِ عَلَيهِ".
فهو (ع) يقول بما أنَّ الله أنعم عليك بالقدرة على عدوّك، فقل يا ربّ، ما دمت أنعمت عليّ بهذه النّعمة، فأنا سأشكرك بأن أعفو عنه، وأنا قادر على أن آخذ حقّي منه، وهذا ما يجعل الحياة أوسع وأرحب، وتعطي الإنسان الفرصة ليتراجع عن خطئه.
وقد تحدَّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن العفو والمغفرة، فقال سبحانه بعد أن أعطى الإنسان الحقّ بأن يردَّ العدوان عليه بمثله: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[البقرة: 237]، فإذا عفوتم عن هذا الإنسان الَّذي أساء إليكم، فإنَّ ذلك يكون أقرب إلى تقوى الله، لأنَّ الإنسان الّذي يعفو قربةً إلى الله يكون، قريبًا إلى الله من خلال عفوه.
وفي آية ثانية، يقول سبحانه: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}[النَّحل: 126]، أن يصبر الإنسان على مشاعره وانفعالاته ومزاجه، فإذا صبر، فإنَّ الله يعوّضه عمَّا عاشه من ضغط نفسيّ من خلال صبره، ويعطيه على ذلك الأجر العظيم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزّمر: 10]، وتقول له الملائكة ولكلّ الصَّابرين: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرّعد: 24].
والله يقول لنبيّه عن النَّاس المؤمنين الَّذين كانوا يسيئون إليه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: 159]. وفي آية أخرى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}[البقرة: 109]. فعندما تخطئون مع الله وتذنبون وتسيئون إليه، ألا تحبّون أن يغفر لكم، فإذا غفر بعضكم لبعض، فإنَّ ذلك يكون وسيلة لمغفرة الله لكم، على الطَّريقة الَّتي تحدَّث عنها الإمام زين العابدين (ع): "اللَّهمَّ إنَّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمَّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنَّا، فإنَّك أولى بذلك منَّا"...
ثمَّ إنَّه في كثير من الحالات، قد يخطئ النَّاس معنا من دون عقدة، ربَّما يخطئون معنا نتيجة وضع نفسيّ معيَّن، أو بسبب نقل حديث عنَّا بشكل سيّئ، فيتصرّفون معنا بطريقة انفعاليَّة لا يفكّرون في أثرها أو في نتائجها.. هنا، قد يكون العفو عنهم والصَّبر عليهم فرصةً لعودتهم إلى رشدهم وتراجعهم عن الخطأ، وهذا ما نلمسه بوضوح في سيرة أئمَّة أهل البيت (ع).
قصّة الحسن (ع) مع الشّاميّ
فمثلًا، قصَّة الإمام الحسن (ع) مع ذلك الرّجل الشَّامي الَّذي التقى به في المدينة، وكان الإمام الحسن (ع) راكبًا فرسه، ومعه إخوانه وأولاده وأهل بيته، فسأل الشّامي: من هذا؟ قالوا له: هذا الحسن بن عليّ، وكان معاوية كان قد ربّى أهل الشّام على بغض عليّ (ع) وسبّه على المنابر وفي صلواتهم، حتَّى إنَّ عبدالله بن عبَّاس، بعدما توفّي الإمام (ع)، قال لمعاوية: إنَّك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرَّجل! فقال: "لا والله، حتَّى يربو عليه الصَّغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلًا". فإلى هذا الحدّ بلغ حقد معاوية على عليّ (ع)، فقد أراد أن يغسل أدمغة النّاس من فكرة تعظيمه، فجعل سبّه شعارًا يردّده النّاس في كلّ صلاة جمعة، في أوَّلها وآخرها..
فتصوّروا مجتمعًا يُربّى على سبّ إنسانٍ صباح مساء، وخصوصًا إذا كان مجتمعًا منغلقًا لا يملك الوعي ولا الاطّلاع، وكانت السّلطة هي الَّتي تصنع هذا المناخ وتغذّيه، عندها، يصبح النَّاس أسرى الدّعاية، يصدّقونها من دون تمحيص، وتتشكَّل في نفوسهم عقدة تجاه ذلك الشَّخص وصورة مشوَّهة عنه.
فهذا الشَّامي كان قد تربَّى في الشَّام على سبّ عليّ (ع)، فعندما رأى الإمام الحسن (ع) وقالوا له هذا ابن عليّ بن أبي طالب، بدأ يسبّه ويسبّ أباه من دون مناسبة. هنا طبعًا احمرَّت عيون بني هاشم عليه وهمّوا بالرّجل، ولكنَّ الإمام (ع) نظر إليه نظرة رأفة ورحمة، وقال له: "أيُّها الشَّيخ، أظنُّكَ غريبًا، ولعلَّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، وإن كنت عريانًا كسوناك، وإن كنت محتاجًا أغنيناك، وإن كنت طريدًا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك"، ثمَّ أمر الغلمان بأن يأخذوه إلى المنزل، وأن يحسنوا ضيافته ومطعمه ومأكله، وعندما دخل بيت الإمام الحسن (ع) - وبيتُهُ (ع) هو البيت الّذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيرًا {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33]، وهو البيت الّذي يذكر فيه الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[النّور: 36] - صار يحدّث نفسه ويراجعها، ثمَّ خرج وهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، فقد أدرك أنَّ هؤلاء هم أهل الرّسالة الّذين يسيرون في خطّها، والّذين اختارهم الله سبحانه.
فالإمام (ع) أفسح المجال لهذا الإنسان ليهتدي، فلو أمر بضربه لازداد حقدًا وتعقيدًا، لكنَّه بأسلوبه فتح قلبه على الحقّ، لأنَّ هذا الرَّجل كانت لديه فكرة سيّئة غير حقيقيَّة، فأراد الإمام (ع) أن يساعده على تصحيح هذه الصّورة في ذهنه، ليعاين الحقائق بنفسه، ويشهد الصورة الحقيقيَّة في الواقع.
وهذا أمر يحدث معنا كثيرًا، أليس هناك من الأعداء والمخابرات من يعملون على تشويه صورة إنسان معيّن، فينشأ لدى النَّاس تجاهه مشاعر عدائيَّة، وهم يظنّون أنّهم على حقّ في ذلك؛ فيسبّونه ويشتمونه، ويتحدَّثون عنه بناءً على الصّورة المشوَّهة الَّتي قُدِّمت إليهم؟! وفي هذه الحالة، علينا أن نمنح هؤلاء النّاس الّذين تربّوا على تصوّر سلبيّ، الفرصة لتصحيح هذه الصّورة ورؤية الحقيقة بأنفسهم.
لو كان العفو ضعفًا، لما جعله الله صفة لنفسه، فهو العفوّ الغفور
قصّة زين العابدين (ع) مع الشّيخ
وينقل أيضًا عن الإمام زين العابدين (ع)، عند مسيره إلى الشَّام مع السّبايا، أنّه التقى بشيخ كبير، فقال لهم هذا الشّيخ: "الحمد لله الَّذي قتلكم وأهلككم، وقطع قرن الفتنة، فلم يأل عن شتمهم. فلمَّا انقضى كلامه، قال له عليّ بن الحسين (ع): أما قرأت كتاب الله عزَّ وجلّ؟ قال: نعم، قال: أما قرأت هذه الآية: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}[الشورى: 23]، قال: بلى، قال: فنحن أولئك. ثمَّ قال: أما قرأت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ}[الإسراء: 26]، قال: بلى، قال: فنحن هم، فهل قرأت هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33]، قال: بلى، قال: فنحن هم. فرفع الشَّامي يده إلى السَّماء، ثمّ قال: اللَّهمَّ إني أتوب إليك - ثلاث مرَّات - اللَّهمّ إني أبرأ إليك من عدوّ آل محمَّد، ومن قتلة أهل بيت محمَّد، لقد قرأت القرآن، فما شعرت بهذا قبل اليوم".
فالإمام (ع) أراد أن يقنع هذا الشَّيخ المضلَّل بطريقة لبقة بخطئه. فلو أنّه استعمل الغضب معه أو العنف في هذه الحالة، لما حقّق أيّ نتيجة، ولما استطاع توضيح الصّورة الصّحيحة أمام الناس.
قصّة الكاظم (ع) مع الحاقد
وينقل أيضًا قصّة حدثت مع الإمام الكاظم (ع)، الّذي نلتقي بذكرى وفاته بعد أيَّام، في الخامس والعشرين من شهر رجب، حيث كان هناك رجل في المدينة لا يترك كلمة سيّئة إلّا ويقولها في حقّ الإمام الكاظم (ع)، حتَّى ضجَّ أصحاب الإمام منه، فقال أحدهم للإمام: ائذن لنا بأن نقتله. ولكنَّ الإمام رفض ذلك، وقصده وهو في بستان له، والإمام راكب على دابَّته، ولكنّ الرجل من شدَّة حقده على الإمام (ع)، قال له: أنا لا أبيح لك الدخول إلى البستان وأن تتلف زرعي، إلى أن وصل الإمام إليه وجلس إلى جانبه، وسأله بلطف: كم ترجو أن تصيب منه؟ قال: أنا لا أعلم الغيب، قال له الإمام (ع): إنَّما قلت لك كم ترجو أن يجيئك منه، فقال: أرجو أن يجيئني منه مائتا دينار، فأعطاه الإمام صرّةً فيها مائتا دينار، وقال: وزرعك على حاله. ثمَّ بدأ يحدّثه ويباسطه ويضاحكه، إلى أن قام الإمام وودّعه، حتَّى سار الرَّجل وراء الإمام مهرولا ًوهو يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
ثمّ عندما ذهب الإمام (ع) إلى المسجد، وكان الرَّجل هناك، فبمجرَّد أن دخل الإمام المسجد، قام الرَّجل ورحَّب به، فأنكر أصحابه عليه هذا التَّغيّر، فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ومآثره، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلًا: أيّما كان خيرًا؛ ما أردتم، أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟!
الصّبر على الأذى
ففي كثير من الحالات، عندما يوسّع الإنسان صدره تجاه من أساء إليه وأخطأ بحقّه، وعندما يجد له العذر ويتيح له الفرصة، فلربّما يتراجع المخطئ عن خطئه، والله يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]، يعني اعمل بالأسلوب الأفضل الَّذي تستطيع من خلاله أن تحوّل عدوَّك إلى صديق، لا أن تزيد عداوة العدوّ، وتخسر صداقة الصّديق. وهذه المسألة ليست سهلة، كما يقول الله سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 35]. فالإنسان الَّذي يصبر على أذى الآخرين وخطئهم معه، يملك حظًّا عظيمًا من الوعي والإيمان والانفتاح.
لذلك، علينا أن نتعلَّم العفو والتّسامح، حتَّى نستطيع أن ننقذ حياتنا. الآن في الحياة الزّوجيَّة، مثلًا، قد تحدث مشاكل، فلو أنَّ الزَّوجة أرادت أن تحاسب الزَّوج على كلّ شيء، أو أنَّ الزّوج أراد أن يحاسب زوجته على كلّ شيء، لما استقامت حياتهما، فينبغي أن نعفو في كثير من الأمور حتّى تنطلق الحياة الزّوجيّة وتستمرّ. لهذا، عندما حدَّثنا الله عن العلاقة الزّوجيَّة، قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم: 21]، فقد ركَّز الحياة الزَّوجيَّة على أساس المودَّة والرَّحمة، لا على أساس الحقوق والواجبات، وإن كان هناك في الحياة الزّوجيَّة حقوق وواجبات من كلّ طرف تجاه الآخر، ولكنَّ الله يريد للحياة الزوجيَّة أن تقوم على أساس الودّ والرّحمة، واستيعاب كلّ طرف لظروف الطّرف الآخر، وهذا لا ينطلق إلَّا على أساس التَّسامح والعفو، حتَّى يمكن للحياة الزوجيَّة أن تسير، وإلَّا صار هناك محكمة في داخل كلّ بيت ومخفر شرطة...
إنَّ علينا أن نتعلّم في حياتنا التسامح وسعة الصّدر، وهذا يخلّصنا من كثير من العقد النفسيَّة الَّتي تنشأ من الأشياء المكبوتة، والَّتي يمكن أن تجعل الإنسان معقَّدًا، والإنسان المعقَّد لا يستطيع أن يعيش مع النَّاس، لذلك يقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، أن يكظم الإنسان غيظه أوّلًا، ثمَّ يعفو، ثمَّ يحسن، حتَّى يزول كلّ أثر سلبيّ من النَّفس.
العفو ليس ضعفًا
وقد يفكّر الإنسان أنَّ هذا أمر صعب عليه، فكيف يذلّ نفسه لفلان ويتنازل له ويتسامح في حقّه، وكيف وكيف... ولكن كما قلت لكم دائمًا، إنَّ الإنسان في هذه القضايا لا يعمل لحساب المخلوقين، بل لحساب الخالق، فنحن نصل أرحامنا ونتحمَّل منهم، ونصل جيراننا ونتحمّل منهم، ونصل النَّاس الَّذين يعيشون في حياتنا، أزواجنا وزوجاتنا وأولادنا وآباءنا وأمَّهاتنا وإخواننا، ونتحمّل منهم، ليس لحسابهم، بل لحساب الله تعالى، أن يعفو الإنسان ويتحمَّل الأذى قربةً إلى الله تعالى، وعندما يكون قربةً إلى الله، فالله لا يضيع أجر العاملين: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195]. قد يكون هناك من نعفو عنه، فيفترض أنَّ العفو عنه هو نتيجة الضّعف، وقد يجعلنا ذلك نتضايق، ولكن علينا أن لا نلتفت إلى ذلك، لأنّنا نحصّل بعفونا ثواب الله، ونحن نحتاج إلى ثوابه سبحانه، ونحن إن شاء الله مؤمنون، نؤمن بالله واليوم الآخر... ولو كان العفو ضعفًا، لما جعله الله صفة لنفسه، فهو العفوّ الغفور...
إنَّ عليّ أن أدرك أنّني إذا عفوت، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعفو عنّي، وإذا غفرت، فإنَّ الله يغفر لي ويرفع درجتي من خلال ذلك، فلماذا لا أعفو وأتسامح ما دام كلّ شيء عند الله؟
فإذا كنت معقّدًا، فلن أحصّل شيئًا، ولكن إذا كنت متسامحًا في الدّنيا، وكنت قد عفوت وصبرت، فسأجد ثواب ذلك عند الله، أليس هناك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]؟! فالملكان يرفعان تقريرًا إلى الله في كلّ ما نقوم به من عفو وتسامح وصبر...
زاد الخير للآخرة
وأنا أحبّ أن أقول لنفسي ولكم، إنّنا غالبًا نفكّر في الدنيا بشكل كبير جدًّا، ولربّما نفكّر بشكل بسيط جدًّا في الآخرة، أو قد لا نفكّر فيها أبدًا، ولكنّنا بحاجة إلى زاد للآخرة، وزاد الآخرة، كما يقول الله هو التّقوى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[البقرة: 197]، {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، فالعفو هو زاد لنا يوم القيامة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمّل: 20].
أن يكون لنا زاد من كلمة الخير وعمل الخير ونيَّة الخير وروحيَّة الخير، فكلّ شيء يفنى، ويبقى للإنسان ما يقدّمه بين يدي الله من عمل {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46]، فكلّ ما في الدّنيا سيبقى في الدّنيا، ولن يكون مع الإنسان بعد الموت إلّا عمله، ولا ينفعه إلّا الباقيات الصَّالحات الّتي هي خير ثوابًا وأملًا. ونحن لا نقول للنّاس لا تتلذّذوا في الدّنيا، فيمكن أن نأكل ونلعب ونتلذَّذ إذا كان ذلك من حلال، ولكن أن لا نقتصر على ذلك، بل أن ننفتح على الله سبحانه.
إنَّ علينا أن نعوّد أنفسنا على التّسامح والعفو، لأنَّ هذا يريحنا في الدّنيا وفي الآخرة، فكلّما كان الإنسان طيّبًا، متسامحًا، لطيفًا، أحاطه النَّاس بالمحبّة، وأحبّه الله تعالى. فلا تسمحوا للشَّيطان أن يوهمكم بأنَّ العفو والتّسامح مظهر ضعف، فلو كان كذلك، لما جعله الله صفةً من صفاته: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحجّ: 60]. فنحن حين نعفو، إنّما نتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، ونرتقي بإنسانيَّتنا.
لكنّ هذا الطَّريق يحتاج إلى جهاد النَّفس، وإلى تربيةٍ مستمرّةٍ للذَّات، فكما يربّي الإنسان أبناءه، ويتعب من أجلهم، ويضحّي في سبيل صلاحهم، كذلك ينبغي أن يلتفت إلى نفسه ولو بنسبة العشرة في المائة {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53]. أن يفكّر كلٌّ منّا بعيوبه وذنوبه، ويسعَى إلى تهذيبها، ليُنمِّي في داخله التَّقوى وخشية الله، لأنَّ كلّ ما في الدنيا زائل، ولا يبقى للإنسان إلَّا ما يرفع درجته عند الله تعالى.
تجربة شخصيّة
وأنا أعطيكم مثلًا من نفسي ومن تجربتي الشَّخصيَّة، فمنذ بضع سنوات، كم تعرّضت لشتائم وعداوات واتّهامات، والله يعلم أني لم أحقد على أحد، ولم أطلب من الله أن ينتقم لي من أحد، بل كنت دائمًا أقول: "اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون".
وأنا أستعيد هذه التجربة لأقول إنّه لم يمّر عليّ حالة صفاء روحي وطمأنينة كما عشتها في هذه التجربة، لأنّي رأيت أنّ الناس يعيشون تحت ضغط دعاية سيّئة، وعرفت من خلال التَّجربة أنَّ النَّاس كلّهم مشتبهون، وكنت أدعو الله لهم بالهداية والمغفرة، حتّى إنّ بعض النّاس الّذين كانوا يطلبون منّي المسامحة، كنت أقول لهم لقد سامحتكم من قبل.
فلا ينبغي لنا أن نبغض النَّاس حتّى لو أخطأوا بحقّنا، بل علينا أن نحبّهم ونسامحهم ونعفو عنهم، ولربّما يأتي وقت يكتشفون فيه خطأهم تجاهنا، وتتحوَّل عداوتهم معنا إلى صداقة، وأنا لديَّ تجربة في هذا المجال مع الكثير من النَّاس، وأشعر معهم الآن بمحبَّة متبادلة.
إنَّ علينا أن نعي أنّ كلّ شيء في الدّنيا يزول؛ أموالنا وأحقادنا، ولا يبقى لنا في النّهاية إلَّا محبَّة الله لنا، والّتي لا تكون إلّا من خلال حبّنا للنّاس، وحبّ النّاس لنا.
والحمد لله ربّ العالمين.
 
*** 
* خطبة الجماعة لسماحته للنساء، في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 15/01/1993م.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية