| ما كان منه فاضلًا عن قوته |
فليعلمنَّ بأنَّه ميراث |
وإذا كنت تخاف على مَن بعدك، فتذكَّر أنَّ هناك ربّاً يرعى عباده ويتولّى أمرهم، وهو الّذي يرعى أولادك ويتولّاهم. نعم، على الإنسان أن لا يترك أولاده ضعافًا يسألون النَّاس، ولكن عليه أن يفكّر في نفسه كما يفكّر في أولاده، وأن يقدّم لنفسه ما يحقّق له الفوز عند الله، كما يفكّر أن يترك لأولاده ما يحقّق لهم الرَّاحة في الحياة.
كظم الغيظ
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، الَّذين يملكون سعة الصَّدر، وهدوء الأعصاب، والسَّيطرة على انفعالاتهم، فإذا أثار غيظَهم شخص قريب أو بعيد، أو بلاء هنا أو مشكلة هناك، لم يفجّروا غيظهم بطريقة تسيء إلى أنفسهم وإلى النَّاس، ولم ينفّسوا عن انفعالاتهم بالطَّريقة الَّتي يشعرون فيها بأنَّ قيمة الحياة أن يفجّر الإنسان غيظه بشتيمة أو كلمة هنا أو ضربة أو أيّ عمل سلبيّ... أن يكظم غيظه، أن يحبسه في داخل نفسه، ثمَّ يفكّر بعد ذلك ماذا يفعل.
إنَّ الَّذين يعيشون كظم الغيظ، ويسيطرون على عوامل الغيظ في نفوسهم، وعلى حركة الغضب في كيانهم، هؤلاء هم الَّذين يستطيعون أن يثبتوا عندما يريد الآخرون لهم أن يهتزّوا، وهم الَّذين يستطيعون أن يصمدوا عندما يريد الآخرون لهم أن يسقطوا. إنَّ الإنسان الَّذي يثور عند أيَّة حالة غضب، ويتصرَّف من موقع غضبه، هو إنسان يستطيع الآخرون أن يجرّوه إلى أكثر من حفرة، وإلى أكثر من خطأ وخطر.
فلو أنَّ شخصاً جاء إليك، وأطلق في وجهك كلاماً مسيئاً، ليثير أعصابك وغضبك، حتّى تقتل، وتجرح، وتشتم، وحتَّى تدخل في معركة أرادها لك... فمعنى ذلك أنّه يستطيع أن يتلاعب بك، لأنَّك عندما لا تسيطر على مشاعرك ولا على مزاجك، فإنَّك بذلك تسمح للآخرين بأن يجرّوك إلى ما لا تريد من خلال إثارة غضبك وانفعالاتك. لكنَّك إذا كنت الإنسان الَّذي يسيطر على انفعالاته جيّدًا، فلا يتركها تتحرَّك إلَّا بعدما يعطيها هو الإشارة من عقله بأن تتحرَّك أو لا تتحرَّك، فإنّك بذلك تكون الإنسان المستقيم.
هناك كلمة للنَّبيّ محمَّد (ص) يقول فيها، بعد أن رأى بعض النَّاس ينظرون إلى الإنسان القويّ البطل بأنّه الّذي لا يصبر على ضيم، والَّذي يثور عند كلّ كلمة، ويضرب عند كل تحدٍّ، ولكنّ النّبيّ (ص) صحَّح لهم الفكرة، وقال لهم:
"ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ".
فالشَّخص الَّذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه، ويضبط انفعالاته، هو الَّذي يكون صاحب المواقف الصَّلبة، وهو الَّذي يستطيع أن يحدّد المعركة، لا أن يحدّدها له الآخرون، لأنَّه ربما يحدّد لك الآخرون وقت المعركة وأنت غير مستعدّ، ربما يحاول الآخرون أن يثيروك وليس في مصلحتك أن تثور، وربما يحاولون أن يوقعوك في أخطاء تتَّصل بحياتك، فتطلّق زوجتك، وتفسخ الشَّركة مع شريكك، وتقاطع من لك المصلحة في مواصلته، أو ما إلى ذلك مما يحدث عند الغضب، فيكونون هم الَّذين حدَّدوا لك كيف تسير، ولكن إذا ملكت نفسك عند الغضب، وكظمت غيظك، تكون أنت الَّذي تحدّد لنفسك هل تدخل المعركة أو تسكت، هل تثور أو تصبر، هل تطلّق زوجتك على أساس ما أثاره النَّاس حولها أو لا تطلّقها، هل تنتقل من بيتك إذا صارت هناك مشكلة بينك وبين جارك أم تحلّ المشكلة معه؟ وهكذا.
وفي المثل الشَّائع: "الَّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيرًا". أمَّا أن تظنَّ أنّك نفّست عن غضبك، وضربت ضربتك، وضحكت أوَّلًا، فقد تكتشف بعد أن تصحو من هذه السّكرة، أنّك خلّصت نفسك من مشكلة لتدخل في ألف مشكلة، وأنَّ ما قمت به قد يؤثّر في حياتك كلّها.. أليس هناك من النَّاس من يسيطر عليه الغضب، فلا يتحمَّل كلمة، فيقتل بسبب غضبه، وتتغيّر كلّ حياته في لحظة، فبينما يعيش مرتاحًا، ويعمل بشكل طبيعيّ، يصبح مطاردًا، مشرّدًا، أو مرميًّا في قعر السّجون؟!
فلو أنّه صبر على هذه الكلمة، وفكّر في الطَّريقة الَّتي يستطيع من خلالها أن يلتفّ عليها، عند ذلك تبقى حياته في سلام، ولن يضيع حقّه، لأنَّ الإنسان عندما لا يملك غضبه، لا يملك عقله، فعندما يسيطر الانفعال على الإنسان، يعني أنَّه يسمح له بأن يسيطر على مصيره، ولا سيَّما عندما يكون الغضب في درجة الغليان، أمَّا العقل، فيبقى متوازنًا، ويحسب حساب الأرباح والخسائر.
ولذلك، اعتبر الله أنَّ الَّذين يكظمون غيظهم هم الَّذين يستحقّون الجنَّة، لأنَّ كظم الغيظ يدلّ على قوة الشَّخصيَّة، وعلى قوّة العقل والإيمان. ومن كان هذا حاله، فلا بدَّ من أن يكون الإنسان المنفتح على الله في ذلك.
العفوُ عن النَّاس
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، الّذي يعفو عن النّاس عندما يخطئون معه، فلا يتعقَّد، بل يدرس الأمور بصدر واسع يمتصّ أخطاء الآخرين وإساءاتهم، ولا يرى في الصّفح والعفو ضعفًا، بل قوّة، ولا سيّما إذا كان العفو عند المقدرة، لأنَّ الإنسان عندما يعفو وهو قادر على الاقتصاص ممّن أخطأ بحقّه وأساء إليه، فمعنى ذلك أنّه يتفضّل عليه بعفوه عنه، ولذلك، نجد بعض النَّاس الَّذين يخطئون مع الآخرين، يقول: أنا لا أتحمّل أن يعفو فلان عنّي، لأنَّ عفوه عنّي معناه أنّه في موقع أرفع من موقعي وأسمى، وأنا لا أقبل بذلك..
إنَّ العفو عند المقدرة ليس مظهر ضعف، والله يقول في بعض الحالات:
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشّورى: 43]. فالصَّبر ليس ضعفًا، بل هو موقف تماسك في شخصيَّة الإنسان ريثما يدرس المسألة، والمغفرة هي موقف تضحية من أجل أن يحصل الإنسان بها على النَّتائج الكبرى.
عن الإمام عليّ (ع)، يقول:
"آلَةُ الرّئاسةِ سَعَةُ الصَّدرِ". فأنت لكي تصبح شخصًا متقدّمًا في المجتمع، فأوَّل شرط لحصولك على هذا المركز الَّذي يجعل النَّاس يحبّونك ويلتفّون حولك ويهتفون باسمك ويسيرون وراءك، هو أن يكون صدرك واسعًا، وتكون قادرًا على استيعاب أخطاء النّاس معك؛ أن تعفو عن مسيئهم، وأن تتجاوز عن خطئهم، وأن تسعهم بقلبك وعقلك وصدرك، عند ذلك، ستكون الإنسان الَّذي يحصل على محبَّة النَّاس له قبل أن يحصل على التفافهم حوله.
لذلك، العفو ليس حالة سلبيَّة، ولو كان حالة سلبيَّة لما ارتضاها الله لنفسه. بعض النَّاس ربما يأتي إليه شخص ويقول له: اعفُ عن فلان؛ فلان أخطأ معك، ابنك أخطأ، جارك أخطأ، شريكك أخطأ... وما إلى ذلك، فيرفض رفضًا تامًّا ويصرّ على أن يأخذ حقَّه. نعم، أنت من حقّك أن تردّ على من أخطأ معك أو أساء إليك، لكنَّك تكون أكبر إذا عفوت وتجاوزت، ومهما كان خطأ النّاس معنا، فإنّه لا يصل إلى مستوى أخطائنا مع الله تعالى، فإذا كان العفو ضعفًا، فهل يرتضي الله الضّعف لنفسه، وهو العفوّ الغفور؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
إذًا، لو لم يكن في العفو قيمة كأعلى القيم، ولو لم يكن في العفو الفضل كأعلى الفضل، لما ارتضاه الله لنفسه.
ونحن نقرأ في شهر رمضان في دعاء أبي حمزة الثَّمالي:
"اللَّهمَّ إنَّك أنزلت في كتابك العفو - وقلت:
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}[النّور: 22] -
وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا - واستحقّينا عقابك -
فاعفُ عنَّا، فإنَّك أولى بذلك منَّا". فإذا كنّا نعفو عمّن ظلمنا على أساس ما أمرتنا به، أفلا تعفو عنّا إذا أخطأنا وأنت الكريم؟ فإذا عفونا عن النَّاس، فإنَّ ذلك يكون حجَّة لنا أمام الله يوم القيامة عندما نقف بين يديه تعالى ليعفو عنّا، إضافةً إلى أنَّ ذلك يجعل الحياة أطرى وألطف وأغنى وأوسع. قد يعاني الإنسان شيئًا في نفسه بسبب العفو عمَّن أساء إليه، ولكن إذا كان ثمن ذلك الجنَّة، فما أحلى المرارة في سبيل الجنَّة!
المحسنون في عفوهم
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، أن تعفو عن النَّاس وتحسن إليهم.
تروي القصّة، أنَّ الإمام زين العابدين (ع)، كانت له جارية تصبّ على يديه الماء من إبريق، ويبدو أنَّ هذا الإبريق كان من نحاس، فبينما تصبّ الماء، وكانت تتشاغل وتنظر هنا وهناك، وقع الإبريق من يدها على رأس الإمام، فشجّه وسال منه الدَّم، ولأنَّ هذه الجارية كانت قد تثقّفت في بيت الإمام (ع)، قالت له، وقد أدركت حجم خطئها:
"إنَّ الله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال: عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي، فأنت حرَّة لوجه الله".
فهناك مراتب، في المرحلة الأولى تحبس غيظك، ثمّ تفرّغ قلبك من هذا الغيظ، وتعفو عمَّن أساء إليك، وفي المرحلة الثَّالثة، تقدّم إليه هدية
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فقد أعطى الله المحسنين محبَّته، ومحبَّة الله رضوانه، ورضوان الله نعيمه في جنَّته وكرامته في الآخرة.
وقد يراها الإنسان أمرًا صعبًا عليه أن يحسن إلى من أساء إليه، فإذا كان العفو صعبًا، فكيف بالإحسان؟ لكن علينا دائمًا، أيُّها الإخوة، أن نفكّر في الله عندما نفكّر في الثَّمن، أن يعرف الإنسان أنّ ذلك يجعله يحصل على رضا الله سبحانه وثوابه ومحبّته، والأهمّ أنّه يحصل بذلك على الجنّة، وهذا الكلام الّذي يقوله الله سبحانه
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن هم المتّقون؟
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أفلا يستحقّ ذلك أن يصبر الإنسان على مزاجه ليحصل على هذه النّتيجة عند الله؟ صحيح أنّه قد يتعكّر مزاجه، وقد يسمع النّاس يقولون له كيف تذلّ نفسك هكذا، ولكن عليه أن يعرف أنّه لا يذلّ نفسه لأحد من النَّاس، بل يذلّ نفسه لله تعالى، لأنّه سبحانه هو الَّذي يقول له: اعف عن النّاس، وأحسن إلى من أساء إليك، وهو الَّذي يقول لي:
{وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، فالمؤمن لا يتصرَّف مع من أساء إليه على أساس هل يستحقّ العفو أو لا يستحقّ، بل إنّه يتصرّف وفقًا لحساب الله.. صحيح أنَّ الإنسان قد يحسن إلى شخص ولا يحفظ له إحسانه، ولكنّ المهمّ أن يكون ذلك مسجّلًا عند الله تعالى، والله يقول:
{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195]. فإذا كانت النّتيجة مضمونة عند الله تعالى، فليس علينا أن نحسب حساب أحد غيره في كلّ ما نعمله.
ونحن قد لا نلتفت إلى ذلك، ولكنَّنا يمكن أن نأخذ العبرة عندما نفقد عزيزًا وندفنه، ونقف عند قبره لنرى أنَّ هذا الإنسان الّذي كان لا يطيق أن يكون هناك ذرّة غبار على وجهه، يهال عليه التّراب، ولا يأخذ معه إلّا ما حصَّله من عمل، وما عدا ذلك من جاه وثروة، لا يستفيد منه إلّا ورثته، أمَّا هو، فلا يستفيد إلَّا بمقدار ما قدّم من عمل بين يدي الله.
المسارعة إلى التَّوبة
والصَّفة الأخيرة
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً - يعني معصية كبيرة -
أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ - بالمعاصي -
ذَكَرُوا اللَّهَ – فلا يبقى الإنسان مصرًّا على معصيته
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201] -
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ – فلمجرَّد أن يلتفت إلى خطئه، يستغفر الله ويطلب منه العفو -
وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا - لأنَّ الإصرار على الصّغيرة كبيرة -
وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
جزاء المتَّقين عند الله
وعلام يحصل هؤلاء النَّاس عند الله؛ هل يحصّلون مالًا أو ثروة؟
{أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - لا موت هناك -
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}، وأيّ أجر أعظم من هذا الأجر؟
الثّبات على الإيمان
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفتح قلوبنا لله، وننطلق في مسؤوليَّاتنا في الحياة من خلال ذلك. افتح قلبك لربّك وأنت في بيتك مع زوجتك، لتطيع الله في علاقتك معها، اذكر ربَّك وأنت في بيتك مع أولادك أو مع أبويك، لتطيع الله فيهم، اذكر الله وأنت في بيتك مع جيرانك لتطيع الله فيهم، واذكر الله في حياتك مع النَّاس عندما تبيع وتشتري، وعندما تصادق وتعادي، وعندما تسالم وتحارب، اذكر ربَّك، حتَّى يشرق الله في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، فتسير على نور، فلا تصادق إلَّا من قلب مفتوح، ولا تعادي إلَّا من خلال قاعدة ثابتة، ولا تعارض إلَّا على أساس الحقّ هنا والباطل هناك.
وإذا واجهت الحياة في القضايا الكبرى، وكانت هناك صعوبات فيما تواجهه، ومشاكل فيما تتحرك فيه، فإنَّ عليك أن تستنفر إيمانك، وتذكر ربَّك، ليعينك على الثَّبات في مواقع الزلزال، وليعينك على الصّمود في مواقع الاهتزاز، وليعينك على السَّير على نور عندما تأتي الظّلمات من كلّ جانب
{أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة: 5].
وإذا فكَّرنا في الجنَّة، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ الجنَّة ليست مجَّانًا
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التَّوبة: 111]. ادفع من نفسك، ادفع من مالك ثمن الجنَّة، تكن لك الجنَّة. الإمام عليّ (ع) كان يخاطب أصحابه ويقول لهم، وهو ينعى عليهم الكثير من الأوضاع السلبيَّة الَّتي كانوا يعيشونها، كان يقول:
"أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللَّه في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع اللَّه عن جنَّته، ولا تنال مرضاته إلَّا بطاعته".
إنَّ القضيَّة هي أن َّالله دقيق في حسابه
{لَّا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف: 49]. هذه الأمور يجب نفكّر فيها. نعم، نحن عندنا مشاغل في الحياة، عندنا علاقات، عندنا مشاكل، ولكنَّ المسألة هي أنَّها نفوسنا الَّتي إمَّا أن نشتريها بالعمل الصَّالح المرتكز على الإيمان، وإمَّا أن نفقدها جملةً وتفصيلًا.
الاهتمام بقضايا الأمَّة
والله عندما كلَّفنا في الحياة، لم يكلّفنا بأنفسنا فحسب، فهو سبحانه لا يريد لنا أن نكون فرديّين، بحيث يفكّر كلّ واحد منّا في نفسه ولا يفكّر في غيره، ولكنَّه يريدنا أن نفكّر فيمن حولنا، أن نفكّر أنَّنا جزء من أمَّة، وأنَّ علينا أن يكون سلام الأمَّة سلامنا، وأن يكون حرب الأمَّة حربنا، وأن تكون قضايا الأمَّة قضايانا، أن نتحسَّس في مشاعرنا كلَّ حدث يحدث في أيّ موقع من مواقع أمَّة الإسلام، وأن نتعاطف مع كلّ مشكلة تحدث في أيّ بلد من بلاد الإسلام، وأن ننفتح على كلّ قضيَّة من قضايا المستضعفين الَّذين تنفتح قضاياهم على قضايا الإسلام. لقد قالها رسول الله (ص) في كلمتين:
"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسَّهر". وقال (ص) في كلمة أخرى:
"من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وقال: "من سمع رجلًا ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم".
وهكذا أرادنا الله أن نعادي أعداءه وأعداء الأمَّة، وأن نصادق أولياءه وأولياء الإسلام وأولياء الأمَّة.
لهذا، أيُّها الأحبَّة، عندما نثير قضايانا العامَّة في العالم الإسلاميّ، ونحن نتحدَّث عن الآخرة وعن الله والجنَّة وعن التَّقوى، فإنَّنا لا نبتعد عن هذا الجوّ، بل نحن نؤكّد هذا الجوّ، لأنَّ من التقوى أن تتَّقي الله سبحانه وتعالى في أمَّتك، أن تكون لها القوَّة والعزَّة والحريَّة. لماذا حارب رسول الله (ص)، وكان بإمكانه أن يسالم إذا استجاب لما عرضت عليه قريش أن يترك دعوته، وأن يملّكوه عليهم، وأن يزوّجوه أجمل نسائهم، وأن يمنحوه زعامتهم؟ ولكنَّه قال لعمّه:
"لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني، والقمرَ في شمالِي، علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه، ما تركتُهُ"، وهذا الأمر هو أمر النَّاس في إيمانهم بالله، وهو أمر الأمَّة في حياتها في طريق الله.
لذلك، نحن محكومون، أيُّها الأحبَّة، أن نفكّر في كلّ قضايانا، أن نواجه كلّ مسؤوليَّاتنا، حتَّى لو أنّنا تقسَّمنا دولًا، وما أكثر الدّول في البلاد الإسلاميَّة أو البلاد العربيَّة، فإنَّنا لا نزال نشعر بأنَّ هناك أمَّة واحدة، لأنَّ الله قال للرسل، لا للرَّسول فحسب:
{وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}[المؤمنون: 52].
إنَّ الحدود لا تمثّل فواصل بين مسلمين ومسلمين، والأوضاع القانونيَّة لا توجب اختلافًا في مشاعرنا؛ إنَّنا نتعاطف مع كلّ قضيَّة إسلاميَّة، بغضّ النَّظر عن طبيعة الحدود الَّتي تفصل بيننا وبين النَّاس الَّذين يعانون في هذه القضيَّة.
مشكلة العراق في حاكمه
ولذلك، فإنَّنا مع هذا الجوّ، نريد أن نشير إلى عدَّة قضايا في الفترة الَّتي مضت من هذا الأسبوع. والقضيَّة البارزة الَّتي فرضت نفسها على الواقع الإسلامي والعربي بشكل ضاغط، هي قضيَّة قصف دول التَّحالف، كما يسمّونها، والواقع أنَّه القصف الأمريكي، لبعض مناطق العراق، بحجَّة أنَّ حاكم العراق لم يلتزم بقرارات الأمم المتَّحدة، وكأنَّهم يقولون إنَّ قرارات الأمم المتَّحدة مقدَّسة، ولا بدَّ للأمم المتَّحدة أن تفرض قراراتها من باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، باعتبار "مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده"، وأمريكا تريد أن تغيّر المنكر في العراق بيدها وبلسانها!! المهمّ، الحجَّة هي هذه.
إنَّنا عندما نريد أن نواجه المسألة، علينا أن نضع نقاطًا.
النقطة الأولى: هي أنَّنا كنَّا ولا نزال نعتبر أنَّ مشكلة العراق ومشكلة المنطقة، ابتداءً من الجمهوريَّة الإسلاميَّة الَّتي فُرضَتْ عليها الحرب ثماني سنين، أو الكويت الَّتي احتُلَّتْ أراضيها، هي مشكلة حاكم العراق، المشكلة في تركيبة شخصيَّته، وفي طريقته في إدارة الحكم في بلده، وفي نظرته إلى الواقع السياسيّ من حوله، وفي علاقاته بالدول الكبرى أو الصّغرى على حسب مصالحه وما إلى ذلك. هذا الحاكم كان مشكلة لبلده ولشعبه، كما كان ولا يزال مشكلة لأكثر من موقع في المنطقة. ونلاحظ أنَّ هذا الحاكم أُعطِي القوَّة الكبرى من خلال الدّول الكبرى الَّتي اتَّحدت، وكان هناك شرق وغرب، ولكنَّهما اتَّحدا عندما أعطياه كلَّ القوَّة في مواجهة إيران، من أجل إضعاف الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ومن أجل منع الثَّورة الإسلاميَّة من أن تنطلق لتكون كلمة الله هي العليا في كلّ مكان، في المنطقة على الأقلّ.
وهكذا نجد أنَّهم يعملون على إبقائه، ويصرّحون دائمًا بأنَّ المشكلة ليست معه، ولكنَّها مع قوَّة السّلاح الَّذي يملكه.
لذلك، نحن عندما نريد أن نتحدَّث عن هذه المسألة، فإنَّنا لا نتحدَّث بأيّ تعاطف مع هذا الحاكم، لأنَّنا نعتقد أنّه هو السبب في كلّ هذه الحرب الَّتي سميت "عاصفة الصَّحراء"، هو الَّذي عمل من خلال طريقته في إدارة الأمور، على أن يهيّئ لأمريكا الفرصة لتحصل على نصر حاولت أن تنطلق به على أساس أنَّها القوَّة الوحيدة في العالم. ونحن نعرف أنَّ النَّصر كان رخيصًا، لأنَّ القوَّة الَّتي أعطيت لهذا الحاكم ليست حقيقيَّة، ولكنَّهم ضخَّموا قوَّته ليضخّموا انتصارهم عليه، حتَّى يوحوا إلى النَّاس بأنهم انتصروا انتصارًا كبيرًا، ولكنّه انتصار عاديّ.
هذا الرجل أعطاهم الفرصة سابقًا لإذلال شعب العراق، وأعطاهم الفرصة مرّة ثانية لإذلال الشّعب من جديد، باعتبار أنَّه تراجع عن المبادرات الَّتي بادرها بعد أن وقعت الواقعة. ربما يفسّر بعض النَّاس ما حدث منه، وما حدث من رئيس الولايات المتحدة الَّذي لم يبق له إلَّا أيَّام، أنَّ هناك شيئًا شخصيًّا، كأنَّه يريد أن يتحدَّى هذا الرئيس في آخر أيَّامه، وكان ردّ الفعل أنَّ هذا الرئيس أراد أن يردَّ التحدّي ليحفظ موقعه ومصداقيَّته، فكأنَّ المسألة تتحرَّك على أساس شخصيّ، وإن أعطيت بعدًا سياسيًّا كبيرًا يتَّصل بقرارات الأمم المتَّحدة أو بأشياء أخرى.
المهمّ أنَّ المسألة هي أنَّ هذا الحاكم كان ولا يزال مشكلةً لشعبه، ويراد له أن يكون مشكلة للمنطقة، بأن يبقى فزَّاعة لمن يراد أن يفزَّع. ولهذا فإنَّهم لم يقصفوه، وكانوا القادرين على قصفه. المشكلة أنَّهم يريدون له أن يبقى جاثمًا على صدر الشّعب العراقيّ، لذلك عندما انطلقت الانتفاضة العراقيَّة في وجهه بعد حرب الخليج، تدخَّلت أمريكا بنفسها لإسقاطها، وأعطته قوَّة ضدّ شعبه، وكان لا يملك تحريك هذه القوَّة بفعل القيود المفروضة عليه، لأنَّها لا تريد للشَّعب العراقيّ أن يعيش ثورته ويقرّر مصيره بنفسه.
لذلك، عندما نريد أن نعلّق على المسألة، فنحن لا يمكن أن نتعاطف مع هذا الرَّجل الَّذي هو مسؤولٌ عن سقوط مئات الألوف من القتلى في المنطقة، ولا سيَّما في الحرب المفروضة على الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ومسؤولٌ عن إضعاف الإسلام في حركته في واقع المنطقة وفي العالم.
معاناة الشّعب العراقيّ
النقطة الثَّانية الَّتي نريد أن نؤكّدها، هي أنَّ المشكلة فيما يسمَّى "دول التَّحالف" أو في الأمم المتَّحدة، أنَّها لم تعاقب هذا الرَّجل، وإنما عاقبت الشَّعب، فقد فرضت الحصار الاقتصاديّ على الشَّعب العراقيّ، وفرضت الكثير من الأوضاع الأمنيّة عليه. إنَّ الحكَّام يستطيعون أن يعيشوا بأعلى درجات الرفاهية في أشدّ حالات الحصار، ولذلك، عندما يراد للحصار الاقتصاديّ أن يوجَّه إلى بلد، فإنَّه يكون عقوبةً لشعب هذا البلد؛ لأطفاله وشيوخه ونسائه، وليس لحكَّامه، لأنَّ الحكَّام يجدون ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون ويتلذَّذون.
ولا يزال الشَّعب العراقيّ يعيش المعاناة كأقصى ما تكون المعاناة، معاناة من خلال الحصار الاقتصاديّ المفروض عليه من العالم، ومعاناة من خلال الحصار الَّذي يفرضه عليه حاكمه في الدَّاخل، ولا يسمح للشَّعب العراقيّ بأن يتحرَّك بقوَّة، لأنَّه إذا تحرك بقوَّة من خلال الإسلام، فإنهم يقولون إنَّه محسوب على إيران أو محسوب على هذه الدَّولة أو تلك، وأمريكا لا تريد لأيّ شعب عربيّ أن يتعاطف مع أيَّة دولة عربيَّة أو إسلاميَّة، لأنَّ الهدف هو أن تمسك أمريكا بنفط العراق، وأن تُسقِط قوّته، لأنّها تعمل على أساس أن لا تكون في المنطقة قوَّة أقوى من إسرائيل، باعتبار أنَّ هدفها هو أن تحافظ على التفوّق النوعيّ في الأسلحة لإسرائيل في أيّ موقع من المواقع.
لذلك، نلاحظ أنَّ أمريكا تلاحق سوريا وإيران، وهي تلاحق الآن العراق، أو أيّ بلد آخر، حتَّى إنَّها اقتربت من باكستان الَّتي كانت حليفة لها، لاتهامها بأنها تريد أن تصنع أسلحة كيمياويَّة أو أسلحة نوويّة أو ما إلى ذلك، في الوقت الَّذي لا تحرك ساكنًا ضدَّ إسرائيل الَّتي نشرت إحدى الصحف الأمريكيَّة أنّها تعتبر خامس دولة نوويَّة في العالم، وهي تشكّل خطرًا على المنطقة كلّها، حتَّى بما يتجاوز المنطقة العربيَّة. ونحن نعرف أنَّ إسرائيل تملك أكثر الأسلحة تطوّرًا في الصَّواريخ وفي غيرها، لأنَّ هناك حلفًا استراتيجيًّا بينها وبين أمريكا، ولأنَّ أمريكا تخزّن في داخل إسرائيل أسلحتها المتطوّرة، وتعطي إسرائيل الفرصة في أن تستعملها وقت الحاجة، بينما هي لا تعطي الدّول العربيَّة التي تضع أسلحتها في بلادها الإذن بأن تحركها في أيّ اعتبار، إلَّا من خلال ما تحركه الولايات المتَّحدة في هذا المجال.
إنَّ أمريكا تعمل على إضعاف المنطقة، ولذلك فإنَّ الخطة هي أن تضعف العراق حتَّى لا يبقى له قوَّة. إنَّ الحكام يزولون، ولكنّ الشّعوب تبقى، الحكَّام يمكن أن يتبدَّلوا، ولكنّ الشّعوب تحتاج إلى قوَّة سلاحها، وقوَّة اقتصادها، وقوَّة أمنها وسياستها.
العراقُ يرفض التّقسيم!
لذلك، نحن نعتبر أنَّ الأمم المتَّحدة، اعتدت على الشّعب العراقيّ، لأنّها لم تحرّك ساكنًا ضدّ حاكم العراق، لأنَّ كلّ الضغوط التي انطلقت، انطلقت ضدّ الشَّعب العراقيّ.
كما أنها تعمل في هذه الجزر الأمنيَّة الموجودة في الجنوب والشّمال والوسط، لتقسيم العراق سنّةً وشيعةً وأكرادًا، ولكنّ الشعب العراقي كان واحدًا ولا يزال واحدًا. إنَّ الشَّعب العراقيّ لا يعيش هاجس التعدّدية السنية والشيعية. قد يكون هناك مشاكل في مسألة السنَّة والشّيعة على أساس الحقوق السياسيَّة، ولكن لم تصل إلى أن يفكّر السنَّة أن يكونوا دولة مستقلَّة، وأن يكون الشيعة دولة مستقلّة. إنَّ المطلوب في العراق هو أن تكون هناك عدالة على أساس توازن الحقوق والواجبات بين السنّة والشيعة، لا على أساس أن يكون هناك تقسيم. وأمريكا بهذا الطَّريق حاولت أن توحي أو تشجّع أو تعطي الفرصة لأفكار التَّقسيم في المستقبل.
إذلالُ العرب هو المقصود
النقطة الثالثة: إذا كان قصف العراق الآن من أجل تنفيذ قرار الأمم المتَّحدة، لأنَّ العراق لم يلتزم جيّدًا بقرارها، لأنَّه منع طائراتها من أن تحلّق في سمائه، ولأنَّه دفع بعض جنوده إلى حدود الكويت حتَّى يسترجع بعض أسلحته ومعدَّاته وما إلى ذلك... فإذا كانت قرارات الأمم المتّحدة ملزمة، فلماذا لم ينفَّذ قرار الأمم المتحدة بالنسبة إلى المبعدين من الكيان الصّهيونيّ؟ والمفروض أنَّ أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكلّ دول مجلس الأمن، صوَّتت بإدانة إسرائيل على الإبعاد، وطلبت من إسرائيل أن ترجع هؤلاء، ولكنَّها تمرَّدت.
ومن المضحك أنَّ وزير خارجيَّة العدوّ كان يصرّح بالأمس في باريس، بأنَّ من الضَّروريّ قصف العراق لأنَّه تمرَّد على قرارات الأمم المتَّحدة، في الوقت الّذي تتمرَّد إسرائيل على كلّ قراراتها، كما في القرارات 242، 338، 425، وأمريكا لا تحرّك ساكنًا. وقد سرَّبت إسرائيل من خلال أمريكا، أنَّ مجلس الأمن إذا أراد أن يفرض عقوبات على إسرائيل، فإنَّ أمريكا سوف تتدخَّل لتستعمل حقّها في الفيتو لإبطال هذا القرار.
إذا كانت المسألة مسألة قرارات الأمم المتَّحدة، فما الفرق بين إسرائيل وبين العرب؟ هذه هي المسألة. لكنَّ القضيَّة أنَّ علينا أن نعرف أنَّ إسرائيل تعطى كلَّ شيء حتَّى في عدوانها، ولا يعطى العرب أيّ شيء. إنَّ المقصود هو الإيحاء إلى العرب بالإذلال، فدول التَّحالف لم ترجع إلى الأمم المتَّحدة لتستصدر قرارًا في هذا، وإنما تصرَّفت بشكل طبيعيّ، ولم يحدث أيّ ردّ فعل في هذا المجال.
رفض السياسة الأمريكيَّة
إنَّنا نريد، أيُّها الأحبَّة، من خلال ذلك، أن نفكّر في مستقبلنا. إنَّ علينا أن ننطلق لنفكّر أنَّ أمريكا تعمل على أن تكون لإسرائيل كلّ القوَّة، وأن لا يكون لنا أيّ قوَّة. فلو أنَّ أيّ بلد عربي أو إسلاميّ صار قويًّا، فإنَّ أمريكا سوف تعمل بألف طريقة وطريقة في سبيل أن تمنع هذه القوّة، وأن تسقطها بحرب هنا، أو بمشكلة هناك، أو بقرار من الأمم المتَّحدة أو ما إلى ذلك.
لذلك، علينا أن نرفض السياسة الأمريكيَّة في المنطقة، لأنَّها لا تنسجم مع حريَّاتنا، ولا تنسجم مع عزَّتنا، ولا مع قراراتنا الَّتي نريدها لأنفسنا فيما يريد الله لنا من حريَّة وعزَّة وكرامة.
إنَّ علينا أن نواجه المسألة بطريقة الأمَّة الَّتي تعمل على أن تكون قوَّتها في نفسها. وإذا كان النَّاس يهوّلون علينا بالقوَّة الَّتي يملكها أعداؤنا، فإنَّ المسألة عندما نضعها في حجم الزَّمن، أنَّنا نستطيع أن نكون أقوياء في المستقبل إذا فقدنا بعض القوَّة في الحاضر، وأنَّنا نستطيع أن ننطلق بقوَّتنا لننمّي هذه القوَّة.
قضيّة واحدة لا تتجزّأ
وعلى هذا الأساس، لا بدَّ أن نلاحق كلّ قضايانا، وفي مقدَّم هذه القضايا وهذا الخطّ، قضيَّة المبعدين الَّتي لا تزال تتفاعل، ولا يزال الكثيرون يثيرونها كقضيَّة إنسانيَّة، ولكنَّها قضيَّة سياسيَّة، ومن القضايا الَّتي تمثّل واجهة لكلّ القضيَّة الفلسطينيّة، ولكلّ قضايا المنطقة، لأنَّ إسرائيل تثير في كلّ وقت مشكلة صغيرة لتشغل النَّاس بها حتَّى ينسوا المشاكل الكبيرة.
لذلك، علينا أن لا ننجذب إلى الخطَّة الإسرائيليَّة لنفصل بين قضيَّة وقضيَّة؛ إنَّ كلَّ عدوان إسرائيليّ في هذه المنطقة أو تلك المنطقة، وكلّ اعتقال لمجاهد فلسطينيّ أو لبنانيّ من قبل إسرائيل، وكلّ موقف سياسيّ أو أمنيّ من خلال إسرائيل.. إنَّ كلَّ موقف يمثّل واجهة القضيَّة كلّها، لأنَّ القضيَّة تمثّل كلًّا لا يتجزَّأ.
ومن هنا، فإنَّ علينا أن لا ننسى القضايا الكبيرة عندما تثار أمامنا القضايا الصَّغيرة، لأنَّ القضيَّة هي قضيَّة المستقبل كلّه. قلت لكم كثيرًا وأقول لكم: لا تستغرقوا في آلامكم الصَّغيرة حتَّى تنسوا كيف يمكن أن تنتج المشاكل السياسيَّة والأمنيَّة في المستقبل آلامًا كبيرة. علينا أن نتحمَّل بعض الآلام الصَّغيرة الآن، لنعرف كيف نتفادى الآلام الكبيرة.
إنَّ اليهود كما علَّمنا الله
{أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا}. وهذا كلام الله وليس كلامي ليقال إنَّه كلام التَّطرّف، كما يحلو للبعض أن يتحدَّث عمَّن يفكّر إسلاميًّا، فالله هو الَّذي يقول:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82]؟! هذه هي القضيَّة.
مواجهة السياسة الأمريكيّة
لذلك، لا بدَّ أن نفكّر في المستقبل، لأنَّ المستقبل الَّذي نطلّ عليه، لو تمَّ لإسرائيل ما تريد، ولو تمَّ لأمريكا أن تنفّذ ما تريد وما تخطّط، سيكون مستقبلاً صعبًا جدًّا، وهو أصعب مما عايشناه في الماضي. ليس هناك فرق في أمريكا بين رئيس ورئيس، وليس هناك فرق بين عهد وعهد، السياسة الأمريكيّة الملتزمة بإسرائيل سياسة ثابتة، تتحدَّى أمريكا العالم من أجلها. والسياسة في إذلال العرب وإسقاط قوَّتهم وإذلال المسلمين ومنع وحدتهم وإضعاف مواقعهم، هي سياسة أمريكيَّة ثابتة أيضًا، لأنَّ أمريكا لا تريد لأيّ شعب أن يكون قويًّا في مواجهة مصالحها الَّتي هي ضدّ مصالحه، ولأنَّ أمريكا لا تريد للإسلام أن يكون قوَّة في أيّ موقع، ولذلك فإنَّها تسخّر كلَّ الرؤساء والملوك والأمراء، وكلَّ المخابرات الَّتي تتحرَّك في فلكها، ليقفوا ضدّ أيّ انطلاقة إسلاميَّة من أجل التحرّر ومن أجل العدالة.
أيّها المؤمنون، أيّها المسلمون، أيّها المستضعفون، إنَّ علينا أن نعيش الصَّبر كأقوى ما يكون، وكأقسى ما يكون، والله يقول لنا:
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 139 - 140].
لبنان: أزمة الغلاء
وختامًا، لا بدَّ لنا أن نطلّ بشكل سريع جدًّا على واقعنا في هذا البلد، واقعنا الَّذي لا يزال يعيش فيه النَّاس الغلاء كأكثر ما يكون فحشًا ووحشيَّة. إنَّنا نلاحظ أنَّه ليست هناك أيّ سياسة، حتَّى على مستوى المرحلة، في تخفيف الغلاء عن النَّاس، مع أنَّ العملة الوطنيَّة تتحرَّك بشكل إيجابيّ، وإن كان بشكل ضيّق جدًّا، ولكنَّ الغلاء يستفحل، والأوضاع الاقتصاديَّة لا تزال في مكانها.
نحن لا نمانع من أن تكون هناك خطَّة تحتاج إلى أشهر، أو تحتاج إلى سنة أو أكثر من سنة لتأهيل الخدمات العامَّة للنَّاس، ولتركيز البنية التحتيَّة، ولكنَّنا نقول: لا بدَّ من حالة طوارئ اقتصاديَّة لمصلحة المستضعفين الَّذين قد لا يستطيعون انتظار إتمام هذه الخطط في بلدهم، إلى أن يتمكَّن المسؤولون من تنفيذ ما وعدوا به. إنَّنا نريد للمسؤولين أن يفكّروا في حلول لمشاكل المستضعفين في حياتهم اليوميَّة، قبل أن يفكّروا في الحلول لمشاكل الأغنياء في مشاريعهم الاستثماريَّة. نحن نريد لأيّ حكم أن ينجح في حلّ مشكلة النَّاس، ولكنَّنا لا نرضى بأن يخدّروا النَّاس بالكلمات الَّتي تثار بلا معنى، والَّتي تتحرَّك من دون أيّ أفق.
أيُّها النَّاس، إنَّ عليكم، كما قلت لكم سابقًا، أن تنطلقوا مع أيّ حكم، ومع أيَّة حكومة، لا على أساس الكلمات، ولكن على أساس المواقف، ولا على أساس الأحلام، ولكن على أساس الواقع. لقد عشنا تجارب كثيرة خُدِّرنا فيها بالبيانات الرئاسيَّة والبيانات الوزاريَّة والبيانات الانتخابيَّة، ولم نجد هناك شيئًا
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}[النّور: 39].
طوارئ اقتصاديّة
أيُّها المسؤولون، إنَّ النَّاس جائعون، إنَّ النَّاس عطاشى، إنَّ النَّاس يعيشون في أكثر من ظلام، وفي أكثر من ضياع. لذلك، إنَّنا ندعو إلى حالة طوارئ اقتصاديَّة، يُعمَل فيها على تركيز الواقع المعيشيّ للنَّاس، بتخفيف الغلاء إذا لم يمكن إلغاؤه، وبتخفيف المعاناة إذا لم يمكن إلغاؤها.
ونريد أن نقول للّبنانيّين جميعًا، إنَّ عليكم أن تعرفوا أنَّ المسألة الَّتي نواجهها في هذه المراحل، وفيما نستقبل من مراحل، مسألة صعبة جدًّا في بلدنا هذا، وفي منطقتنا كلّها. لذلك، نريد للّبنانيّين، إذا كانوا يعون مشكلتهم جيّدًا، وإذا كانوا يعيشون آلامهم جيّدًا، أن يبحثوا عن شيء يوحّدهم، لينطلقوا جميعًا من أجل مواجهة المشكلات الكبرى الاقتصاديَّة والأمنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، لأنَّني أخشى أنَّ اللّعبة الَّتي تحركت في لبنان، وأنتجت حربًا أحرقت الأخضر واليابس، أن تنتج حربًا من نوع آخر، ليست حربًا حارّة بالسّلاح، ولكنّها حرب تتحرّك من أجل التمزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
لذلك، لا تستغرقوا في الماضي لتبحثوا عن أحقاد الماضي، ولكن تطلّعوا إلى المستقبل، لتعرفوا كيف تصنعون أحلام المستقبل، وكيف تركّزون قواعده، لأنَّ القضيَّة أنَّ المستقبل لا يرحم من يتغافلون عنه، ومن يضيّعونه، ومن يسقطونه بخلافاتهم ولامبالاتهم وتحركهم على أساس الاستغراق في إنتاج التمزّق والمشاكل:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].
والحمد لله ربّ العالمين.