بينَ الهجريّ والميلاديّ: الحفاظُ على الهويَّةِ والانتماء

بينَ الهجريّ والميلاديّ: الحفاظُ على الهويَّةِ والانتماء

ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعون من تاريخ ولادة السيّد المسيح (ع)، والَّتي اعتبرها الكثيرون من النَّاس في العالم تأريخاً يؤرّخون به كلَّ شؤونهم الَّتي تحتاج إلى تاريخ، ومنهم المسلمون الَّذين ترك الكثيرون منهم تاريخهم الإسلاميّ الهجريّ، ليسيروا مع الجوّ العامّ في التَّاريخ الميلادي المسيحيّ، باعتبار أنَّ المسلمين في العالم خاضعون للواقع الغربيّ الَّذي يتحرَّك في هذا الاتجاه.
ونحن لا نمانع في أن نؤرّخ بالتَّاريخ الميلادي، فليس هذا أمراً منافياً للانتماء الإسلاميّ، لأنَّ المسلم هو الَّذي يؤمن بالأنبياء كلّهم، ولا يفرّق بين نبيّ ونبيّ، ولعلَّنا نقرأ دائماً في القرآن الكريم الحديث المتكرّر عن ولادة عيسى (ع)، وطبيعة هذه الولادة، وما أجراه الله سبحانه وتعالى من آيات في هذه الولادة.
لذلك، نحن ليست لدينا عقدة من أن نؤرّخ بالتَّاريخ الميلاديّ، ولكنَّنا في الوقت نفسه، نجد أنَّه لا يجوز لأيّ مسلم أن يغفل التَّاريخ الهجريّ، باعتبار أنَّ تَذَكُّرَنا للتّاريخ ينطلق من حاجتنا إلى أن نعيش في حياتنا الحاضرة الإحساس بامتدادنا مع كلّ هذا التَّاريخ.
الهجرة وجذور الامتداد
فنحن عندما نؤرّخ بالتَّاريخ الهجريّ، ألف وأربعمائة وثلاثة عشر من تاريخ الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، ما هي إيحاءات هذا التَّاريخ؟ إنَّنا نتذكَّر أنَّ هناك أناساً مسلمين سبقونا، وعاشوا في حركتهم في المسيرة الَّتي نحن الآن جزء منها، فنشعر بأنَّنا جزء من هذا التَّاريخ الَّذي إذا قرأناه وتذكَّرناه، فإنّنا نقرأ جذورنا التَّاريخيَّة كأمَّة، ونقرأ الأحداث الَّتي عاشها المسلمون قبلنا. ونقرأ في هذا التّاريخ سيرة النَّبيّ محمَّد (ص)، كيف عاش الدَّعوة في مكَّة، وكيف هاجر إلى المدينة، وماذا حدث بعد الهجرة، وما التَّطوّرات الَّتي حدثت في العالم الإسلاميّ من خلال تأثيرات هذه الهجرة، وما نظرة الإسلام إلى الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وما الأحكام الإسلاميَّة في ذلك، وما موقفنا في واقعنا الحاضر من كلّ ذلك.
إنَّ الإنسان الَّذي يؤرّخ بالتَّاريخ الإسلاميّ على دفتره أو على رسالته، أو يتحدَّث عنه، فإنَّه يستوحي ذلك كلَّه. وبذلك، يزداد الإنسان عمقاً في ارتباطه بالمسيرة الإسلاميَّة.
إنَّ علينا كمسلمين، رجالاً ونساءً، أن لا نفكّر أنَّنا جماعة لا عمق لها في التَّاريخ، كما لو كنَّا مفصولين عنه، فنكون بذلك كمثل الشَّجرة الَّتي تنبت من فوق الأرض. والله سبحانه وتعالى ضرب المثل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[إبراهيم: 24 - 26].
فالإنسان كلّما شعر بالعمق الَّذي يتَّصل بالجذور، شعر بالقوَّة، وكلَّما شعر بأنَّه لا جذور له، شعر بالضّعف. ألا يقولون في المثل الشَّعبيّ: "إنَّ فلاناً مقطوع من شجرة"؟ هذا تعبير موجود، ومعناه أنّه ليس له جذور.
الأصالة وحفظ الهويّة
لذلك، نحن كما نحتاج إلى أن نعيش الأصالة في جذورنا في أنسابنا، نحتاج إلى أن نعيش الأصالة في انتمائنا إلى الجذور العميقة في تاريخنا، لأنَّ هذا التَّاريخ إنّما صار تاريخ النَّبيّ (ص) والمسلمين معه، لأنَّهم هم الَّذين صنعوه، وفتحوا المجال للانفتاح عليه.
ولذا، يتحدَّث الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة عن النَّبيّ (ص) والمسلمين: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجمعة: 2 - 3]، ويتحدَّث أيضاً عن الَّذين اتَّبعوهم بإحسان.
إذاً، قيمة التَّاريخ الإسلاميّ أنَّه يشعرنا بالانتماء إلى الأمَّة الإسلاميَّة، والانتماء إلى العمق الإسلاميّ. وربَّما يقول بعض النَّاس، إنَّ معنى ذلك أنَّكم تريدون أن تثيروا النَّزعة الطَّائفيَّة الَّتي تجعل الإنسان المسلم إنساناً متعصّباً لإسلامه، بحيث يصرّ على أن يكتب تاريخه الخاصّ، ولا ينفتح على التَّاريخ الميلاديّ المسيحيّ. فهل تريدون أن تفرّقوا الحاضر على أساس تنوّعات الماضي؟ ربما يقول بعض النَّاس هكذا، لكنَّ الواقع ليس كذلك.
نحن نقول إنَّنا عندما اخترنا الإسلام، فمعنى ذلك أنَّ شخصيَّتنا لا بدَّ أن تكون في كلّ ملامحها، وفي كلّ أساليبها وتفكيرها وحركتها، أن تكون شخصيَّة إسلاميَّة، هذا هو معنى الانتماء {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64]. الانتماء إلى الإسلام يعني أن يكون الإسلام عقلنا وقلبنا وإحساسنا وشعورنا وحركتنا وعلاقاتنا ووسيلتنا وهدفنا. هذا هو معنى الإسلام.
لذلك، نحن ننطلق في ربط تاريخ الإسلام بالشَّخصيَّة الإسلاميَّة، من خلال أنَّ الشَّخصيَّة الإسلاميَّة لا بدَّ أن تكون شخصيَّة كاملة، لا تستعير ملامحها من شخصيَّات أخرى.
إنَّنا نؤمن بكلّ الرّسل ونحن لا ننغلق على أيّ من الرّسالات
الإيمان بالرّسالات
ولكن، ونحن مسلمون، نقول للَّذين يتحدَّثون عن أنَّ ذلك يقوّي الطَّائفيَّة في البلد: إنَّ الأمر ليس كذلك، لأنَّ الإسلام الَّذي نؤمن به هو الإسلام المنفتح على الآخرين، ولو كان الارتباط بالإسلام يعني التعصّب ضدَّ الآخر وإلغاءه، لكان تشديد الارتباط بالإسلام يمكن أن يتحوَّل إلى تشديد التعصّب ضدَّ المسيحيّين أو ضدَّ غيرهم.
ولكنَّ القضيَّة ليست كذلك، وإنّما القضيَّة أنَّ الإسلام الَّذي نؤمن به هو إسلام ينفتح على كلّ الرّسل والرّسالات، كما أشرنا في أحاديث سابقة {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285]. إنَّنا نؤمن بكلّ الرّسل، باعتبار أنَّ القرآن يتحدَّث عن الكتاب كلّه؛ يتحدَّث عن الإنجيل أنَّه جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة، ويتحدَّث عن القرآن أنَّه جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة والإنجيل، ويتحدَّث عن عيسى (ع)، أنَّه جاء مبشّراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد. فنحن لا ننغلق على أيّ من الرّسالات.
ولهذا، نلاحظ أنَّ القرآن الكريم وجَّه المسلمين إلى أن يطرحوا مع أهل الكتاب الكلمة السَّواء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]. والكلمة السَّواء تعني الكلمة الَّتي نلتقي نحن وإيَّاهم عليها، يعني تعالوا إلى الكلمة الموحّدة والأرض الواحدة.
وما يطرحه الإسلام من الكلمة السَّواء في المضمون السياسيّ والاجتماعيّ، هو أكثر دقَّةً مما يطرحه الاستهلاك السياسيّ في لبنان بكلمة "التَّعايش". كلمة التَّعايش تعني أنَّ هناك كيانين منفصلين يعيشان متجاورين بعضهما مع بعض. هذا هو معنى التَّعايش، بينما الإسلام يقول: {تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}. يعني، يا أهل الكتاب، هب أنَّنا اختلفنا معكم في بعض التَّفاصيل وفي بعض الشَّرائع، ولكنَّنا نلتقي جميعاً على توحيد الله، وإن كان التَّوحيد عندكم بمفهوم يلتقي مع التَّثليث، حيث تقولون: "باسم الآب والابن والرّوح القدس إلهاً واحداً"، وهو عندنا توحيد خالص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[سورة الإخلاص]. لكن إذا اختلفنا في تفسير التَّوحيد، فإنَّنا لن نختلف عليه {تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانيَّة: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]، أن لا يعلو إنسان على إنسان، وأن لا يستكبر إنسان على إنسان، وأن لا يعتبر إنسان نفسه ربّاً لإنسان آخر.
الالتقاء على مواجهة الإلحاد
ولهذا، نحن كنَّا نقول في أحاديثنا عن الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، حتّى إنّنا خاطبنا البابا بذلك، كنّا نقول إنَّنا ندعو إلى حوار إسلاميّ مسيحيّ في حجم العالم، وهو أن ننطلق لنؤكّد عبادة الله الواحد في الكون، وإن اختلفنا في طبيعتها، في مواجهة الإلحاد، وفي مواجهة الشّرك المباشر، وأن ننطلق معاً في مواجهة الاستكبار على الأرض، باعتبار أنَّ المستكبرين يعملون على أن يكونوا في موقع الرّبوبيَّة الواقعيَّة والاستعلاء والهيمنة على النَّاس. والمفروض أنَّ النَّبيَّ محمَّداً (ص) وعيسى (ع)، كانا مستضعفين، وكانا في بيئة مستضعفة، وعاشا في وضع مستضعف. ولذلك، فهما يتحركان مع المستضعفين لا مع المستكبرين، وهذا هو الأساس الَّذي نريد أن ننطلق فيه.
الحوارُ لا التَّعصّب
لهذا، لا يمكن للمسلم أن يكون متعصّباً ضدَّ المسيحيَّة؛ لأنَّه يؤمن بعيسى (ع)، وبالإنجيل، وبمريم (ع)، كما لا يمكن أن يكون متعصّباً ضدَّ اليهوديَّة، لأنَّ هناك فرقاً بين اليهوديَّة باعتبارها دين موسى، وبين اليهوديَّة العنصريَّة المتمثّلة باليهود الَّذين يظلمون في الأرض، ويقتلون النَّبيّين بغير حقّ، وينقضون الميثاق وما إلى ذلك.
ولذا، عندما تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الحوار مع أهل الكتاب، قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت: 46]، يعني عندما تنفتحون في حوار فكريّ أو سياسي أو اجتماعيّ على أهل الكتاب، ابحثوا عن الكلمة الأحسن، والأسلوب الأحسن، والجوّ الأحسن. ابحثوا عن ذلك، حتَّى تستطيعوا أن تفتحوا عقولهم وقلوبهم على الحقّ. ولكنَّ الَّذين ظلموا منهم لا مجال لجدالهم، لأنَّ من يظلمك، لا تكون المسألة بينك وبينه مسألة حوار وجدال، بل تكون مسألة صراع ودفع للظّلم وللعدوان. {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا - لاحظوا الأسلوب القرآنيّ الَّذي يعلّمنا كيف نتكلّم معهم - بِالَّذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46]. فالله يعلّمنا أن نقول لأهل الكتاب: نحن نؤمن بالقرآن، ونؤمن بالإنجيل، ونؤمن بالتَّوراة، ولا نفرّق بين كتاب وكتاب، ونحن نؤمن أيضاً بالله الواحد الَّذي تقولون إنَّكم تؤمنون به.
فإذاً، نفهم من هذا أنَّ المسلم لا يمكن أن يكون متعصّباً ضدَّ الأديان الأخرى، بل يبقى دائماً منفتحاً.
ثقافة الانفتاح
أنا قلت لبعض علماء الدّين من المسيحيّين، وبعض السياسيّين والمفكّرين منهم: نحن في لبنان لا يمكن أن نكون طائفيّين ضدَّ المسيحيّين. قالوا: كيف؟ قلت: لأنَّنا في ثقافتنا القرآنيَّة، عندما نقرأ القرآن، فالقرآن يحكي لنا عن مريم (ع) في أكثر من سورة، ويحكي لنا عن عيسى وعن الحواريّين، ويحكي لنا عن الإنجيل، ويحكي لنا عن موسى، ويحكي لنا عن كلّ هذه النّبوَّات، فأطفالنا ينشأون منفتحين على الأجواء المسيحيَّة في زمن عيسى (ع)، بينما المسيحيّ يتربَّى على أساس أنَّ القرآن ليس كلام الله، أو أنَّ النّبيَّ محمَّداً ليس نبيّاً، وقد يقولون إنَّه رجل عظيم، أو إنَّه بليغ، أو أديب، أو عبقريّ، وعنده عبقريَّة عسكريَّة، لكنَّهم لا يعترفون بأنَّه نبيّ، كما أنَّ بعض اليهود لا يعترفون بأنَّ عيسى نبيّ، ويؤمنون بأنَّ عيسى المخلّص لم يظهر بعد، وأنَّه سيظهر في آخر الزَّمان، وأنَّ هذا الَّذي ظهر هو مسيحٌ مزيَّف.
فنحن في ثقافتنا الأساسيَّة نتعلَّم الانفتاح على المسيحيَّة.. فنحن عندما تعرّفنا إلى قصَّة مريم (ع) وعيسى (ع)، وقرأنا عنهما وعن الإنجيل، فأين تعلّمنا ذلك، أليس من القرآن؟
فإذاً، نحن نتربَّى على أساس الانفتاح على المسيحيَّة، والإنسان المسلم يتربَّى على هذه المفاهيم الَّتي ذكرناها، يتربَّى على {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، ويتربَّى على {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}، وعلى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82]. فهل يتحدَّث النَّصارى عن المسلمين بهذه الطَّريقة؟! وهل يتحدَّث اليهود عن المسلمين بهذه الطَّريقة؟!
لذلك نقول إنَّ الإنسان المسلم هو إنسان منفتح وليس منغلقاً. ولذلك، كلَّما ارتبط الإنسان المسلم بالإسلام أكثر، انفتح على أهل الكتاب أكثر، بمعنى الانفتاح الفكريّ والرّوحيّ، لأنَّ القيم الَّتي جاء بها عيسى (ع) في الإنجيل هي قيم النَّبيّ (ص)، وإن كانت هناك خلافات واختلافات أُحدِثَتْ بعد عيسى (ع).
لذلك، نحن نصرّ على الانتماء الإسلاميّ، ونقول إنَّ الانتماء الإسلاميّ، بمعنى الانتماء الفكريّ والعاطفيّ والتَّاريخيّ والحركيّ إلى الإسلام، لا يفصلنا عن النَّاس الآخرين، بل إنَّه يربطنا بهم.
أنا في بعض أحاديثي مع المسيحيّين، من علماء دين أو غيرهم، كنت أقول لهم إنَّ دعوتنا إلى الحوار معكم وإلى الحياة المشتركة، ليست دعوة سياسيَّة تنطلق من ظروف سياسيَّة طارئة، بل هي دعوة تنطلق من القرآن الكريم، فالقرآن يقول لنا حاوروا، ويقول لنا انطلقوا من الكلمة السَّواء في هذا المجال أو ذاك المجال.
لو كان الإسلام يلغي الآخر ويضطهده، فكيف بقي اليهود والنَّصارى في بلاد المنطقة !
التَّعايش مع أهل الكتاب
ولذا، نحن عندما ننطلق، ننطلق من إيمانٍ في مسألة الحوار. إنَّ الإسلام مضى عليه إلى الآن حوالي ألف وأربعمائة وستّ وعشرين سنة من عهد البعثة، فهناك قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة أيضاً، وقد عاش المسيحيّون واليهود جنباً إلى جنب مع المسلمين. فلو كان الإسلام يلغي الآخر ويضطهده، ولا يؤمن بالتَّعايش مع أهل الكتاب، والإسلام كان حاكماً في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، فكيف بقي اليهود والنَّصارى في بلاد المنطقة، وموجودين فيما بيننا، ليس فقط هنا، بل في العراق، وسوريا، وإيران، وفي كلّ البلدان الَّتي يوجد فيها مسلمون؟ بينما عندما تغلَّب النَّصارى على المسلمين في الأندلس، الَّتي اسمها إسبانيا الآن، لم يبقَ مسلم واحد؛ شُرِّد كثيرون، وذُبحت الأكثريَّة. وهذا مما يدلّ على أنَّ الرّحمة نحن الّذين نعيشها كمسلمين. ولذا، قال أحد المؤرّخين الغربيّين، وهو غوستاف لوبون: "ما عرف التَّاريخ فاتحاً أرحم من العرب"، ويقصد بالعرب المسلمين.
الحفاظ على التّأريخ الهجريّ
لهذا، لا بدَّ أن نحافظ على مسألة التَّأريخ الهجريّ كجزء من شخصيَّتنا، كما نحافظ على بعض العادات والتَّقاليد الإسلاميَّة، وعلى الأحكام الشَّرعيَّة الإسلاميَّة، لأنَّها جزء من شخصيَّتنا. لأنَّ الشَّخصيَّة عندما تنتمي إلى أيّ اتجاه، فإنَّ معنى ذلك أن يحكم هذا الاتجاه كلَّ عناصر الشَّخصيَّة، أمَّا أن يصبح الإنسان نصف مسلم ونصف كافر، فهذا غير مقبول. يقول الله عن بعض النَّاس: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة: 85]. بعض النَّاس يكونون مسلمين بالصَّلاة وبالصَّوم وبالحجّ، ولكن في القضايا الأخرى، تراهم ينتمون إلى أحزاب ومنظَّمات وجهات قد تكون مرتكزة على قواعد ماديَّة إلحاديَّة، أو على قواعد غير إسلاميَّة. كما بعض النَّاس يقول أنا مسلم ولكنّي شيوعي، وهذا كما لو أنَّ أحداً يقول: أنا مسلم ماروني، أو مسيحي شيعي، فهل يصحّ ذلك؟ الشّيوعيَّة ترتكز على الإلحاد، وإنكار الله والنبوَّات، فلا يمكن للإنسان أن يكون مسلماً ويكون شيوعيّاً، فإذا كان انتماؤه إلى الشّيوعيَّة حقيقيّاً، فلا يمكن أن يكون مسلماً، لأنَّ الشّيوعيَّة والإسلام لا يجتمعان. كذلك لا يمكن أن يكون مسلماً ويلتزم بحزب يعتبر أنَّ محمَّداً (ص) كان قائداً عربيّاً، وإنساناً عاش آلام العروبة، وانفتح برسالته كشخصيَّة عبقريَّة، وليس كنبيّ موحى إليه من الله. أمَّا نحن في عقيدتنا، فهو نبيّ مرسل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]. فالوحي هو أساس شخصيَّة النَّبيّ (ص).
النّقطة الثَّانية في مسألة التَّأريخ بالهجري، هي أن تحاولوا أن تلتزموا بهذا التَّأريخ، سواء على دفتر المدرسة، أو على الكتاب، أو على رسائل تكتبونها... حاولوا أن تكتبوا دائماً التَّاريخ الهجريَّ مع التَّاريخ الميلاديّ. فاكتبوا، مثلاً، 8 رجب 1413هـ، الموافق: 1 كانون الثَّاني 1993م. ولن تخسروا في ذلك إلّا قليلاً من الحبر، ولكن ذلك يجعل الإنسان المسلم يعيش الأجواء.
جنونُ رأسِ السَّنة
العنوان الثَّاني: فيما يتعلَّق باحتفالات رأس السَّنة، حيث ترى النَّاس مشغولين بشكل كبير بأجواء الاحتفال بهذه المناسبة، فيضعون في بيوتهم شجرة الميلاد، ويشترون مختلف أنواع الحلوى، ويتحضَّرون ويتجهَّزون... فترى الاهتمام بهذه المناسبة كبيراً جدّاً بما لا نراه في عيد الفطر، ولا في عيد المولد النّبوي، ولا في عيد الأضحى. أمَّا في رأس السنة، فتكون هناك حالة طوارئ في البيوت، وحتَّى الَّذي لا يملك المال، تراه يستدين ليؤمّن أجواء الاحتفال. فلماذا كلُّ هذا؟
وإذا كانت بعض المناطق المحافظة مثل مناطقنا، يحتفلون إجمالاً بالطَّريقة التَّقليديَّة، وبشيء من العقلانيَّة، حتّى في بعض المناطق غير الإسلاميَّة، فإنَّ هناك في العالم من يحتفل بطريقة جنونيَّة بكلّ ما للكلمة من معنى.
في سنة من السّنوات، صادف وجودي في لندن في ليلة رأس السَّنة، وشعرت بأنَّ النَّاس هناك في هذه اللَّيلة يخرجون من عقولهم تماماً ومن كلّ شيء، ويصبحون في حالة جنون غرائزيّ، بشكل يفقد الإنسان فيه نفسه.
فإذا كان كلّ هذا احتفالاً بمرور ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين على ميلاد السيّد المسيح، فما علاقة السيّد المسيح بكلّ ما يجري؟ هل السيّد المسيح عندما وُلِدَ كان هناك حفلة راقصة، أو كان عنده حفلة خمر، أو حفلة غناء، أو ما أشبه ذلك؟ فنحن نعرف من خلال القرآن الكريم في سورة مريم، ما الأجواء الّتي ولد فيها عيسى (ع)، وكيف واجهت السيّدة مريم (ع) المسألة في نفسها، وكيف أفاض الله عليها من رحمته ولطفه، وكيف واجهت النَّاس الَّذين كانوا ينظرون إليها باتّهام في طهارتها وعفَّتها، وكيف أنَّ عيسى (ع) تكلَّم في المهد وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}[مريم: 31 - 33]. فهل ما يحدث في ليلة رأس السَّنة يتناسب مع السيّد المسيح (ع)؟!
الحضارة الغربيَّة في جذورها هي حضارة وثنيَّة، وبالتالي هي ليست مسيحيَّة
رفض التَّقليد الأعمى
إذاً، علينا أن لا نقلّد الآخرين في عاداتهم المنطلقة من ذهنيَّة غير أخلاقيَّة ومن ذهنيَّة وثنيَّة، لأنَّ الحضارة الغربيَّة في جذورها هي حضارة وثنيَّة، حضارة لا ترتبط بالله. الحضارة الغربيَّة ليست حضارة مسيحيَّة. قد تكون مشكلة المسيحيَّة الغربيَّة، أنَّ الحضارة الغربيَّة أدخلت الوثنيَّة في المسيحيَّة، وإلَّا، ما معنى أن نصنع التَّماثيل للسيّدة العذراء أو للسيّد المسيح (ع)، ثمَّ نجلس أمام هذا التّمثال ونخشع له؟ هذه حالة صنميَّة وعبادة حجر. فإذا أراد الإنسان أن يخلص للسيّد المسيح، فيخلص له من خلال وعيه له، وليس من خلال التَّماثيل.
كيف بدأت الوثنيَّة عند العرب؟ يروى أنَّ شخصاً عظيماً مات، فعزَّ عليهم أن يدفنوه، ولـمَّا مرَّ وقت وتعفّنت الجثَّة، جاء شخص واقترح عليهم أن يدفنوه ويصنعوا له تمثالاً، ففعلوا ذلك، وصاروا يعبدونه، وهكذا كانت بداية الأمر.
فالكنيسة الغربيَّة أخذت شيئاً من وثنيَّة الغرب، والحضارة الغربيَّة ليست مسيحيَّة أبداً.
الحجاب قيمة مشتركة
الآن إذا أردنا أن نفكّر في قضيَّة الحجاب، يأتي بعض المسيحيّين ويقولون عن الحجاب إنَّه اضطهاد للمرأة، وإساءة إلى شخصيَّتها، وإهدار لكرامتها... ولكن لو سألنا مَن هي رمز المرأة في المسيحيَّة؟ في التَّاريخ هي السيّدة العذراء (ع)، وفي الواقع، هي الرَّاهبة. والسيّدة مريم (ع) كانت محجّبة، وكذلك الرّاهبة.
إذاً، الوضع الموجود الآن، لا يمثّل معنى المسيحيَّة، لأنَّ المسيحيَّة ترتكز في أخلاقيَّتها على أساس العفَّة كشيء أساسيّ...
في الأسبوع الماضي، كان عندي مقابلة حول الحوار الإسلامي المسيحي في جريدة النَّهار، وقلت لهم إنَّكم تقولون إنَّ المسيحيَّة فيها حريَّة بينما الإسلام لا يوجد فيه حريَّة، وخصوصاً بالنّسبة إلى المرأة. فهل المسيحيَّة تعني الانفلات؟ لأنَّ المفروض أنَّ المسيحيَّة ترتكز على أسس أخلاقيَّة.. فالانفلات الموجود في الأزياء، أو في بعض الأوضاع من قبيل الرَّقص وغيره، ومن قبيل العلاقات غير المشروعة، هو ليس من المسيحيَّة ولا من الإسلام في شيء، هو حالة غربيَّة وليس حالة مسيحيَّة.
هناك فرق بين أن نقول إنَّنا ننطلق من خلال قيم الغرب، وبين أن ننطلق من خلال قيم المسيحيَّة، قيم المسيحيَّة وقيم الإسلام واحدة. والإسلام إنَّما فرض القيود على الرَّجل وعلى المرأة في قضيَّة اللّباس وفي قضيَّة النَّظر وفي قضيَّة الملامسة، ليحمي المرأة والرّجل معاً.
فعندما نريد أن يكون هناك أجواء للعفَّة، فالمفروض أن نؤمّن أجواء العفّة، كما عندما نقول لا بدَّ من أن يكون هناك أمانة، فلا بدَّ من أن نهيّئ الظّروف الَّتي تساعد النَّاس على أن يكونوا أمناء. أمَّا أن نجوّع شخصاً ونعرّيه ثمَّ نقول له كن أميناً، فهذا ليس أمراً طبيعيّاً.. هيّئ له عملاً وظروفاً مناسبة حتّى يستطيع أن يكون أميناً، أمَّا أن يكون جائعاً، ويكاد يموت من الجوع، وتقول له لا تسرق، فكيف يكون ذلك؟ ولهذا، نرى الإسلام أسقط الحدود في زمن المجاعة.
إنَّ كلَّ قيمة أخلاقيَّة، وكلَّ قيمة روحيَّة، وكلَّ قيمة إنسانيَّة، تحتاج إلى جوّ يحميها وينمّيها.
وهذا الأمر ليس فقط في القيم، بل حتّى في عالم النَّبات، فلماذا ننشئ الخيم عندما نريد أن نزرع نبات الشّتاء في الصَّيف، أو العكس، أو إذا أردنا أن نزرع نبات السَّهل في الجبل، أو نبات الجبل في السَّهل؟ إنّما نفعل ذلك لنهيّئ الجوّ الشّتائيّ أو الجوّ الصّيفيّ، بحيث تجد النَّبتة ظروف نموّها الطَّبيعيّ. وهكذا الإنسان أيضاً، فعندما نريد للشَّخص أن يكون أميناً أو صادقاً أو عفيفاً، فإنَّ ذلك يحتاج إلى أجواء مناسبة.
لهذا، المسألة لم تكن قيداً للمرأة، ولكنَّها حماية للقيمة الأخلاقيَّة الَّتي أرادها الله للرَّجل والمرأة على السّواء.
مواجهة العادات الغريبة
وعلى هذا الأساس، عندما نجد أنَّ المجتمع يتحرَّك في عادات وتقاليد غريبة عن ديننا وقيمنا، فعلينا أن نقف أمامها، وعلى الأقلّ، أن لا نقوم بها. الإمام عليّ (ع) يقول في بعض كلماته في "نهج البلاغة": "وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ، وَيُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ، وَأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ".
بعض النَّاس يقولون هكذا هي الأمور في هذا الزَّمن، فنحن نريد أن نقيم حفلة العرس في الكازينو، أو في المكان الفلاني اللَّاهي، وأنّ من العادات عند النَّاس في الأعراس أن يأتوا بمغنّين، وأن يكون هناك رقص، وأن يقدّموا خمراً... وهذه هي ظروفنا، فنحن ناس عندنا علاقات اجتماعيَّة واقتصاديَّة، وطبيعة الأمور تفرض علينا أن نقدّم الخمر ولحم الخنزير وغير ذلك، وأن نذهب إلى أماكن الرّقص، وأن تصافح المرأة الرّجال... لماذا؟ يقولون لأنَّ العصر هو هكذا، ولكن "مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"...
أمَّا أن يكون الدّين انتقاءً لأشياء دون أشياء، فنصلّي لأنَّ الصَّلاة لا تجعلنا نخسر، أو نصوم لأنَّ الصّوم لا يخسّر، ونحجّ حتّى نحصل على لقب حاجّ، ليثق النَّاس بنا في أموالهم وتجاراتهم، فهذا ليس مقبولاً، لأنَّ الدّين إمَّا أن يلتزم به الإنسان بكلّه، أو أن يرفضه بكلّه {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}[النّساء: 150].
من رباعيَّات عمر الخيام المترجمة إلى العربيّة، يقول:
 في يدي مصحفٌ وخمرٌ بأخرى   بينَ هذا وذاكَ طَوْراً فَطَوْرا
 أكثرُ النَّاسِ، لَوْ تأمَّلْتَ في النَّا   سِ فهمْ يحملُونَ ديناً وكُفْرا
فهناكَ مَنْ يكون متديّناً باللّسان، ولكن كافراً في العمل.
وقفة مع الذَّات
فعندما تذهب سنة وتأتي سنة، معناها أنَّه ماتت قطعة من عمرنا، وأفسحت المجال لقطعة أخرى. فكلَّما تمرّ سنة، يعني أنَّ جزءاً من عمرنا مات... فهذا معناه أنّنا متنا وبُعثنا. من أين نفهم هذه الكلمة؟ نفهمها من دعاء الإمام زين العابدين (ع) في يوم الأربعاء، يقول: "لَكَ الْحَمْدُ أَنْ بَعَثْتَني مِنْ مَرْقَدي، وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَداً"، أي أنَّ هناك من كانوا نائمين ولم يصحوا من نومهم، وظلَّت نومتهم أبديَّة {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}[الزّمر: 42].
إذاً، على هذا الأساس، نحن كنَّا ميتين في نومنا، ولكنَّه موت مع وقف التَّنفيذ، فالإنسان النَّائم ميت يتنفَّس، ولكنَّ الفرق أنَّ النَّائم هناك إمكانيَّة أن يستيقظ، أمَّا الميت فلا إمكانيَّة لأن يستيقظ.
إذاً، علينا عندما تأتي رأس السَّنة، أن نقول: "الحمْدُ للهِ الَّذي لم يَجْعَلْني مِنَ السَّوَادِ الـمُخْتَرم"، يعني من الهالكين. فمن بعض مستحبَّات المشي وراء الجنازة، أنَّه كما يستحبّ قول: "سُبْحَانَ مَنْ تَعزَّزَ بِالقُدْرَةِ والبَقَاءِ، وَقَهَرَ عِبَادَهُ بِالموْتِ والفَنَاءِ"، يستحبّ أيضاً قول: "الحمْدُ للهِ الَّذي لم يَجْعَلْني مِنَ السَّوَادِ الـمُخْتَرم"، يعني الحمد لله الّذي لم يجعلني من الميتين وأبقى لي عمراً.
فعندما تمضي سنة، يعني أنَّ هناك شيئاً من عمرنا مات، وعندما تأتي سنة جديدة، يعني أنَّ الله أنعم علينا ومدَّ بعمرنا، بينما هناك من لم يمدّ الله بعمرهم ممّن فارقناهم في السّنة الماضية. هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، وعندما تأتي السّنة الجديدة نفرح، ولكن نفرح بنعمة الله: "وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ أَطَلْتَ عُمُرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ"، نفرح ونشكر الله على هذه النّعمة، بأن نصلّي أوّل السّنة ركعتين، ونشكر الله على أنَّه أحيانا إلى هذه السَّنة، أن نسبّحه ونحمده على ذلك، وأن نجعل من رأس السنة مناسبة للتّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير وشكر الله سبحانه وتعالى، لأنَّه أمدّ في حياتنا، فلم يجعلنا ممن ماتوا في السّنة السَّابقة. الآن، هل كلّ أصحابكم ومعارفكم لا يزالون موجودين؟ أليس هناك معارف أو أقارب ماتوا في السّنة الماضية، وقد نفقد البعض هذه السّنة؟! إذاً، هذه نعمة أن أبقانا الله، ويجب علينا أن نشكرها. هذا أوّلاً.
محاسبة النَّفس
وثانياً: علينا أن نقف عند السَّنة الّتي مضت، وننظر: كم عصينا فيها الله سبحانه وتعالى؟ في دعاء الإمام زين العابدين (ع)، يقول: "وَيْلي! إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُوزُوا، وَلِلْمُثْقلِينَ حُطُّوا، أَمَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ؟ أَمْ مَعَ الْمُثْقلِينَ لِذُنُوبِهِمْ وَظُهُورِهِمْ أَحُطُّ؟ وَيْلي! كُلَّمَا كَبُرَ عُمْرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ! أَمَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي؟". فلا يصحّ أنّه كلَّما زاد عمرنا، تكثر معاصينا، ويزداد تمرّدنا على الله...
فإلى أين نحن ذاهبون؟ إنَّ علينا أن نرتّب أمورنا مع الله سبحانه وتعالى قبل أن تأتي لحظة الموت: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافّات: 24]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]. وهذا معناه أنَّ علينا أن نصل إلى الله خفافاً، وأن لا نكون مثقلين بالذّنوب...
لذلك، علينا أن نحاسب أنفسنا، أن تكون لنا جلسة مع أنفسنا حول ما فعلناه في السّنة الماضية، أن نكتب مذكّرات ذنوبنا، كما نكتب مذكّرات ما يحدث في حياتنا اليوميَّة.. فكما نكتب في مذكّراتنا، مثلاً، أنَّنا ذهبنا اليوم إلى المكان الفلاني واستأنسنا، أو قصدنا بيت فلان وزرنا فلانة وفلانة، ونكتب تفاصيل ما جرى معنا، كذلك علينا أن نكتب مذكّرات ذنوبنا لنحاسب أنفسنا عليها، مثلاً: في اليوم الفلانيّ أنا اغتبت، وفي اليوم الفلانيّ أنا افتريت، وفي ذلك اليوم كذبت، أو نظرت نظرة غير شرعيَّة، أو لامست ملامسة غير شرعيَّة، أو سرقت، خنت، عملت...
يقال عن بعض العلماء إنَّه كان معتاداً أن يحاسب نفسه، فكان، مثلاً، عندما يذهب إلى مجلس، وهو عالم محترم، يقوم له النَّاس؛ هذا يقبِّل يده، وذاك يثني عليه، وآخر يحيّيه، وذاك يجلسه في صدر المجلس، وهكذا... والإنسان عادةً، عندما تحصل معه مثل هذه الأمور، يشعر بأنَّه صار رجلاً عظيماً ومهمّاً، لأنَّ النَّفس أمّارة بالسّوء، فهذا العالم كان عندما يعود إلى البيت، يكتب مذكّرات ما حصل معه، وينقل لنا ابنه من العلماء يقول: أنا اطّلعت على المذكّرات الَّتي كان يكتبها أبي، فكان يكتب: يا فلان – يخاطب نفسه – أنت اليوم ذهبت إلى بيت فلان، وتعاطوا معك بالإجلال والاحترام، وأجلسوك في صدر المجلس، والتفتوا إليك التفاتة مميّزة، ومدحوك وعظَّموك. يا فلان، هل انخدعت من خلال ذلك بنفسك؟! ألا تعرف ماذا فعلت أمس، والنيّة السَّوداء الّتي كانت في قلبك؟ فيحاول أن يكتب في دفتره ذلك مقابل ما عاشه من مدح وتعظيم، حتّى يُسقط نفسه عند نفسه لتتواضع. وهذا يعلّمنا إيَّاه الإمام زين العابدين (ع): "اللَّهُمَّ لَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا."
لتكن مناسبة رأس السنة فرصة لمحاسبة النفس والتخطيط للسنة القادمة
شروط الدّعاء بإطالة العمر
ولأنَّنا نحبّ الحياة، هل نفكّر كيف سنعيش في المستقبل؟ نحن عندما ندعو: "اللَّهمَّ احفظني"، أو: "اللَّهمَّ طوّل عمري"، فهل نضع شرطاً لحفظ هذه الحياة أو طول العمر؟ أكيد نحن لا نفعل ذلك، ولكنَّ الأئمَّة (ع) يفعلون. مثلاً، في دعاء الصَّباح والمساء للإمام زين العابدين (ع) يقول: "وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ - فهو يطلب من الله سبحانه أن يحفظه، ولكن بشرط أن يعصمه هذا الحفظ من أن يعصيه - هَادِياً إِلى طَاعَتِكَ، مُسْتَعْملاً لِمَحَبَّتِكَ"، أن أستعمل كلّ ما تعطيني إيّاه من صحّة وعافية وحماية في سبيل محبَّتك وطاعتك.
والإمام زين العابدين (ع) أيضاً في دعاء "مكارم الأخلاق" يقول: "وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وفي دعاء أبي حمزة الثَّمالي نقول: "وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ أَطَلْتَ عُمُرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ، وَأَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَأَحْيَيْتَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي أَدْوَمِ السُّرُورِ، وَأَسْبَغِ الْكَرَامَةِ، وَأَتَمِّ الْعَيْشِ."
رحلتان.. ومصير
إذاً، فلتستحضروا دائماً أنَّ الرّحلة على نوعين، فهناك رحلة تمشي فيها برجليك، وتنتقل فيها من مكان إلى مكان، وهناك رحلة العمر الّتي يبقى الإنسان فيها في سير دائم ولو كان واقفاً. وقد جاء أنَّه: "مَنْ كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَطِيَّتَهُ، سَارَا وَإِنْ لَمْ يَسِرْ". الآن، لو بقيَ الإنسان طريح الفراش لمدّة خمس سنين، ألا يعني ذلك أنَّه قطع مسافة خمس سنين من العمر، حتّى لو كان في مكانه طوال هذه المدّة؟!
لذلك، علينا أن نفكّر بهذه الطَّريقة، أنّنا سائرون إلى الله، وغداً سنقف بين يديه سبحانه {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافّات: 24].
والله سبحانه وتعالى يخاطبنا بخطابين، الخطاب الأوَّل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَّة مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30]، والخطاب الثَّاني: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقّة: 30 - 33]. فأيّهما أحسن بالنّسبة إلينا؟ وأيّهما نختار؟
لذلك علينا أن نفكّر: هل نريد الجنَّة؟ فإذا كنَّا نريدها، فالجنَّة لها شروط، ولها ثمن، وهل نريد الابتعاد عن النَّار؟ فعلينا أن نبتعد عن كلّ ما يوصلنا إليها، وكما يقول أمير المؤمنين عليّ (ع): "مَا رَأَيْتُ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا". {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}[ق: 30 - 31]. {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجماعة لسماحته في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 01/01/1993 م.
 
ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعون من تاريخ ولادة السيّد المسيح (ع)، والَّتي اعتبرها الكثيرون من النَّاس في العالم تأريخاً يؤرّخون به كلَّ شؤونهم الَّتي تحتاج إلى تاريخ، ومنهم المسلمون الَّذين ترك الكثيرون منهم تاريخهم الإسلاميّ الهجريّ، ليسيروا مع الجوّ العامّ في التَّاريخ الميلادي المسيحيّ، باعتبار أنَّ المسلمين في العالم خاضعون للواقع الغربيّ الَّذي يتحرَّك في هذا الاتجاه.
ونحن لا نمانع في أن نؤرّخ بالتَّاريخ الميلادي، فليس هذا أمراً منافياً للانتماء الإسلاميّ، لأنَّ المسلم هو الَّذي يؤمن بالأنبياء كلّهم، ولا يفرّق بين نبيّ ونبيّ، ولعلَّنا نقرأ دائماً في القرآن الكريم الحديث المتكرّر عن ولادة عيسى (ع)، وطبيعة هذه الولادة، وما أجراه الله سبحانه وتعالى من آيات في هذه الولادة.
لذلك، نحن ليست لدينا عقدة من أن نؤرّخ بالتَّاريخ الميلاديّ، ولكنَّنا في الوقت نفسه، نجد أنَّه لا يجوز لأيّ مسلم أن يغفل التَّاريخ الهجريّ، باعتبار أنَّ تَذَكُّرَنا للتّاريخ ينطلق من حاجتنا إلى أن نعيش في حياتنا الحاضرة الإحساس بامتدادنا مع كلّ هذا التَّاريخ.
الهجرة وجذور الامتداد
فنحن عندما نؤرّخ بالتَّاريخ الهجريّ، ألف وأربعمائة وثلاثة عشر من تاريخ الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، ما هي إيحاءات هذا التَّاريخ؟ إنَّنا نتذكَّر أنَّ هناك أناساً مسلمين سبقونا، وعاشوا في حركتهم في المسيرة الَّتي نحن الآن جزء منها، فنشعر بأنَّنا جزء من هذا التَّاريخ الَّذي إذا قرأناه وتذكَّرناه، فإنّنا نقرأ جذورنا التَّاريخيَّة كأمَّة، ونقرأ الأحداث الَّتي عاشها المسلمون قبلنا. ونقرأ في هذا التّاريخ سيرة النَّبيّ محمَّد (ص)، كيف عاش الدَّعوة في مكَّة، وكيف هاجر إلى المدينة، وماذا حدث بعد الهجرة، وما التَّطوّرات الَّتي حدثت في العالم الإسلاميّ من خلال تأثيرات هذه الهجرة، وما نظرة الإسلام إلى الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وما الأحكام الإسلاميَّة في ذلك، وما موقفنا في واقعنا الحاضر من كلّ ذلك.
إنَّ الإنسان الَّذي يؤرّخ بالتَّاريخ الإسلاميّ على دفتره أو على رسالته، أو يتحدَّث عنه، فإنَّه يستوحي ذلك كلَّه. وبذلك، يزداد الإنسان عمقاً في ارتباطه بالمسيرة الإسلاميَّة.
إنَّ علينا كمسلمين، رجالاً ونساءً، أن لا نفكّر أنَّنا جماعة لا عمق لها في التَّاريخ، كما لو كنَّا مفصولين عنه، فنكون بذلك كمثل الشَّجرة الَّتي تنبت من فوق الأرض. والله سبحانه وتعالى ضرب المثل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[إبراهيم: 24 - 26].
فالإنسان كلّما شعر بالعمق الَّذي يتَّصل بالجذور، شعر بالقوَّة، وكلَّما شعر بأنَّه لا جذور له، شعر بالضّعف. ألا يقولون في المثل الشَّعبيّ: "إنَّ فلاناً مقطوع من شجرة"؟ هذا تعبير موجود، ومعناه أنّه ليس له جذور.
الأصالة وحفظ الهويّة
لذلك، نحن كما نحتاج إلى أن نعيش الأصالة في جذورنا في أنسابنا، نحتاج إلى أن نعيش الأصالة في انتمائنا إلى الجذور العميقة في تاريخنا، لأنَّ هذا التَّاريخ إنّما صار تاريخ النَّبيّ (ص) والمسلمين معه، لأنَّهم هم الَّذين صنعوه، وفتحوا المجال للانفتاح عليه.
ولذا، يتحدَّث الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة عن النَّبيّ (ص) والمسلمين: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجمعة: 2 - 3]، ويتحدَّث أيضاً عن الَّذين اتَّبعوهم بإحسان.
إذاً، قيمة التَّاريخ الإسلاميّ أنَّه يشعرنا بالانتماء إلى الأمَّة الإسلاميَّة، والانتماء إلى العمق الإسلاميّ. وربَّما يقول بعض النَّاس، إنَّ معنى ذلك أنَّكم تريدون أن تثيروا النَّزعة الطَّائفيَّة الَّتي تجعل الإنسان المسلم إنساناً متعصّباً لإسلامه، بحيث يصرّ على أن يكتب تاريخه الخاصّ، ولا ينفتح على التَّاريخ الميلاديّ المسيحيّ. فهل تريدون أن تفرّقوا الحاضر على أساس تنوّعات الماضي؟ ربما يقول بعض النَّاس هكذا، لكنَّ الواقع ليس كذلك.
نحن نقول إنَّنا عندما اخترنا الإسلام، فمعنى ذلك أنَّ شخصيَّتنا لا بدَّ أن تكون في كلّ ملامحها، وفي كلّ أساليبها وتفكيرها وحركتها، أن تكون شخصيَّة إسلاميَّة، هذا هو معنى الانتماء {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64]. الانتماء إلى الإسلام يعني أن يكون الإسلام عقلنا وقلبنا وإحساسنا وشعورنا وحركتنا وعلاقاتنا ووسيلتنا وهدفنا. هذا هو معنى الإسلام.
لذلك، نحن ننطلق في ربط تاريخ الإسلام بالشَّخصيَّة الإسلاميَّة، من خلال أنَّ الشَّخصيَّة الإسلاميَّة لا بدَّ أن تكون شخصيَّة كاملة، لا تستعير ملامحها من شخصيَّات أخرى.
إنَّنا نؤمن بكلّ الرّسل ونحن لا ننغلق على أيّ من الرّسالات
الإيمان بالرّسالات
ولكن، ونحن مسلمون، نقول للَّذين يتحدَّثون عن أنَّ ذلك يقوّي الطَّائفيَّة في البلد: إنَّ الأمر ليس كذلك، لأنَّ الإسلام الَّذي نؤمن به هو الإسلام المنفتح على الآخرين، ولو كان الارتباط بالإسلام يعني التعصّب ضدَّ الآخر وإلغاءه، لكان تشديد الارتباط بالإسلام يمكن أن يتحوَّل إلى تشديد التعصّب ضدَّ المسيحيّين أو ضدَّ غيرهم.
ولكنَّ القضيَّة ليست كذلك، وإنّما القضيَّة أنَّ الإسلام الَّذي نؤمن به هو إسلام ينفتح على كلّ الرّسل والرّسالات، كما أشرنا في أحاديث سابقة {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[البقرة: 285]. إنَّنا نؤمن بكلّ الرّسل، باعتبار أنَّ القرآن يتحدَّث عن الكتاب كلّه؛ يتحدَّث عن الإنجيل أنَّه جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة، ويتحدَّث عن القرآن أنَّه جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة والإنجيل، ويتحدَّث عن عيسى (ع)، أنَّه جاء مبشّراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد. فنحن لا ننغلق على أيّ من الرّسالات.
ولهذا، نلاحظ أنَّ القرآن الكريم وجَّه المسلمين إلى أن يطرحوا مع أهل الكتاب الكلمة السَّواء: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]. والكلمة السَّواء تعني الكلمة الَّتي نلتقي نحن وإيَّاهم عليها، يعني تعالوا إلى الكلمة الموحّدة والأرض الواحدة.
وما يطرحه الإسلام من الكلمة السَّواء في المضمون السياسيّ والاجتماعيّ، هو أكثر دقَّةً مما يطرحه الاستهلاك السياسيّ في لبنان بكلمة "التَّعايش". كلمة التَّعايش تعني أنَّ هناك كيانين منفصلين يعيشان متجاورين بعضهما مع بعض. هذا هو معنى التَّعايش، بينما الإسلام يقول: {تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}. يعني، يا أهل الكتاب، هب أنَّنا اختلفنا معكم في بعض التَّفاصيل وفي بعض الشَّرائع، ولكنَّنا نلتقي جميعاً على توحيد الله، وإن كان التَّوحيد عندكم بمفهوم يلتقي مع التَّثليث، حيث تقولون: "باسم الآب والابن والرّوح القدس إلهاً واحداً"، وهو عندنا توحيد خالص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[سورة الإخلاص]. لكن إذا اختلفنا في تفسير التَّوحيد، فإنَّنا لن نختلف عليه {تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانيَّة: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]، أن لا يعلو إنسان على إنسان، وأن لا يستكبر إنسان على إنسان، وأن لا يعتبر إنسان نفسه ربّاً لإنسان آخر.
الالتقاء على مواجهة الإلحاد
ولهذا، نحن كنَّا نقول في أحاديثنا عن الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، حتّى إنّنا خاطبنا البابا بذلك، كنّا نقول إنَّنا ندعو إلى حوار إسلاميّ مسيحيّ في حجم العالم، وهو أن ننطلق لنؤكّد عبادة الله الواحد في الكون، وإن اختلفنا في طبيعتها، في مواجهة الإلحاد، وفي مواجهة الشّرك المباشر، وأن ننطلق معاً في مواجهة الاستكبار على الأرض، باعتبار أنَّ المستكبرين يعملون على أن يكونوا في موقع الرّبوبيَّة الواقعيَّة والاستعلاء والهيمنة على النَّاس. والمفروض أنَّ النَّبيَّ محمَّداً (ص) وعيسى (ع)، كانا مستضعفين، وكانا في بيئة مستضعفة، وعاشا في وضع مستضعف. ولذلك، فهما يتحركان مع المستضعفين لا مع المستكبرين، وهذا هو الأساس الَّذي نريد أن ننطلق فيه.
الحوارُ لا التَّعصّب
لهذا، لا يمكن للمسلم أن يكون متعصّباً ضدَّ المسيحيَّة؛ لأنَّه يؤمن بعيسى (ع)، وبالإنجيل، وبمريم (ع)، كما لا يمكن أن يكون متعصّباً ضدَّ اليهوديَّة، لأنَّ هناك فرقاً بين اليهوديَّة باعتبارها دين موسى، وبين اليهوديَّة العنصريَّة المتمثّلة باليهود الَّذين يظلمون في الأرض، ويقتلون النَّبيّين بغير حقّ، وينقضون الميثاق وما إلى ذلك.
ولذا، عندما تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الحوار مع أهل الكتاب، قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت: 46]، يعني عندما تنفتحون في حوار فكريّ أو سياسي أو اجتماعيّ على أهل الكتاب، ابحثوا عن الكلمة الأحسن، والأسلوب الأحسن، والجوّ الأحسن. ابحثوا عن ذلك، حتَّى تستطيعوا أن تفتحوا عقولهم وقلوبهم على الحقّ. ولكنَّ الَّذين ظلموا منهم لا مجال لجدالهم، لأنَّ من يظلمك، لا تكون المسألة بينك وبينه مسألة حوار وجدال، بل تكون مسألة صراع ودفع للظّلم وللعدوان. {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا - لاحظوا الأسلوب القرآنيّ الَّذي يعلّمنا كيف نتكلّم معهم - بِالَّذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46]. فالله يعلّمنا أن نقول لأهل الكتاب: نحن نؤمن بالقرآن، ونؤمن بالإنجيل، ونؤمن بالتَّوراة، ولا نفرّق بين كتاب وكتاب، ونحن نؤمن أيضاً بالله الواحد الَّذي تقولون إنَّكم تؤمنون به.
فإذاً، نفهم من هذا أنَّ المسلم لا يمكن أن يكون متعصّباً ضدَّ الأديان الأخرى، بل يبقى دائماً منفتحاً.
ثقافة الانفتاح
أنا قلت لبعض علماء الدّين من المسيحيّين، وبعض السياسيّين والمفكّرين منهم: نحن في لبنان لا يمكن أن نكون طائفيّين ضدَّ المسيحيّين. قالوا: كيف؟ قلت: لأنَّنا في ثقافتنا القرآنيَّة، عندما نقرأ القرآن، فالقرآن يحكي لنا عن مريم (ع) في أكثر من سورة، ويحكي لنا عن عيسى وعن الحواريّين، ويحكي لنا عن الإنجيل، ويحكي لنا عن موسى، ويحكي لنا عن كلّ هذه النّبوَّات، فأطفالنا ينشأون منفتحين على الأجواء المسيحيَّة في زمن عيسى (ع)، بينما المسيحيّ يتربَّى على أساس أنَّ القرآن ليس كلام الله، أو أنَّ النّبيَّ محمَّداً ليس نبيّاً، وقد يقولون إنَّه رجل عظيم، أو إنَّه بليغ، أو أديب، أو عبقريّ، وعنده عبقريَّة عسكريَّة، لكنَّهم لا يعترفون بأنَّه نبيّ، كما أنَّ بعض اليهود لا يعترفون بأنَّ عيسى نبيّ، ويؤمنون بأنَّ عيسى المخلّص لم يظهر بعد، وأنَّه سيظهر في آخر الزَّمان، وأنَّ هذا الَّذي ظهر هو مسيحٌ مزيَّف.
فنحن في ثقافتنا الأساسيَّة نتعلَّم الانفتاح على المسيحيَّة.. فنحن عندما تعرّفنا إلى قصَّة مريم (ع) وعيسى (ع)، وقرأنا عنهما وعن الإنجيل، فأين تعلّمنا ذلك، أليس من القرآن؟
فإذاً، نحن نتربَّى على أساس الانفتاح على المسيحيَّة، والإنسان المسلم يتربَّى على هذه المفاهيم الَّتي ذكرناها، يتربَّى على {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، ويتربَّى على {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}، وعلى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82]. فهل يتحدَّث النَّصارى عن المسلمين بهذه الطَّريقة؟! وهل يتحدَّث اليهود عن المسلمين بهذه الطَّريقة؟!
لذلك نقول إنَّ الإنسان المسلم هو إنسان منفتح وليس منغلقاً. ولذلك، كلَّما ارتبط الإنسان المسلم بالإسلام أكثر، انفتح على أهل الكتاب أكثر، بمعنى الانفتاح الفكريّ والرّوحيّ، لأنَّ القيم الَّتي جاء بها عيسى (ع) في الإنجيل هي قيم النَّبيّ (ص)، وإن كانت هناك خلافات واختلافات أُحدِثَتْ بعد عيسى (ع).
لذلك، نحن نصرّ على الانتماء الإسلاميّ، ونقول إنَّ الانتماء الإسلاميّ، بمعنى الانتماء الفكريّ والعاطفيّ والتَّاريخيّ والحركيّ إلى الإسلام، لا يفصلنا عن النَّاس الآخرين، بل إنَّه يربطنا بهم.
أنا في بعض أحاديثي مع المسيحيّين، من علماء دين أو غيرهم، كنت أقول لهم إنَّ دعوتنا إلى الحوار معكم وإلى الحياة المشتركة، ليست دعوة سياسيَّة تنطلق من ظروف سياسيَّة طارئة، بل هي دعوة تنطلق من القرآن الكريم، فالقرآن يقول لنا حاوروا، ويقول لنا انطلقوا من الكلمة السَّواء في هذا المجال أو ذاك المجال.
لو كان الإسلام يلغي الآخر ويضطهده، فكيف بقي اليهود والنَّصارى في بلاد المنطقة !
التَّعايش مع أهل الكتاب
ولذا، نحن عندما ننطلق، ننطلق من إيمانٍ في مسألة الحوار. إنَّ الإسلام مضى عليه إلى الآن حوالي ألف وأربعمائة وستّ وعشرين سنة من عهد البعثة، فهناك قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة أيضاً، وقد عاش المسيحيّون واليهود جنباً إلى جنب مع المسلمين. فلو كان الإسلام يلغي الآخر ويضطهده، ولا يؤمن بالتَّعايش مع أهل الكتاب، والإسلام كان حاكماً في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، فكيف بقي اليهود والنَّصارى في بلاد المنطقة، وموجودين فيما بيننا، ليس فقط هنا، بل في العراق، وسوريا، وإيران، وفي كلّ البلدان الَّتي يوجد فيها مسلمون؟ بينما عندما تغلَّب النَّصارى على المسلمين في الأندلس، الَّتي اسمها إسبانيا الآن، لم يبقَ مسلم واحد؛ شُرِّد كثيرون، وذُبحت الأكثريَّة. وهذا مما يدلّ على أنَّ الرّحمة نحن الّذين نعيشها كمسلمين. ولذا، قال أحد المؤرّخين الغربيّين، وهو غوستاف لوبون: "ما عرف التَّاريخ فاتحاً أرحم من العرب"، ويقصد بالعرب المسلمين.
الحفاظ على التّأريخ الهجريّ
لهذا، لا بدَّ أن نحافظ على مسألة التَّأريخ الهجريّ كجزء من شخصيَّتنا، كما نحافظ على بعض العادات والتَّقاليد الإسلاميَّة، وعلى الأحكام الشَّرعيَّة الإسلاميَّة، لأنَّها جزء من شخصيَّتنا. لأنَّ الشَّخصيَّة عندما تنتمي إلى أيّ اتجاه، فإنَّ معنى ذلك أن يحكم هذا الاتجاه كلَّ عناصر الشَّخصيَّة، أمَّا أن يصبح الإنسان نصف مسلم ونصف كافر، فهذا غير مقبول. يقول الله عن بعض النَّاس: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة: 85]. بعض النَّاس يكونون مسلمين بالصَّلاة وبالصَّوم وبالحجّ، ولكن في القضايا الأخرى، تراهم ينتمون إلى أحزاب ومنظَّمات وجهات قد تكون مرتكزة على قواعد ماديَّة إلحاديَّة، أو على قواعد غير إسلاميَّة. كما بعض النَّاس يقول أنا مسلم ولكنّي شيوعي، وهذا كما لو أنَّ أحداً يقول: أنا مسلم ماروني، أو مسيحي شيعي، فهل يصحّ ذلك؟ الشّيوعيَّة ترتكز على الإلحاد، وإنكار الله والنبوَّات، فلا يمكن للإنسان أن يكون مسلماً ويكون شيوعيّاً، فإذا كان انتماؤه إلى الشّيوعيَّة حقيقيّاً، فلا يمكن أن يكون مسلماً، لأنَّ الشّيوعيَّة والإسلام لا يجتمعان. كذلك لا يمكن أن يكون مسلماً ويلتزم بحزب يعتبر أنَّ محمَّداً (ص) كان قائداً عربيّاً، وإنساناً عاش آلام العروبة، وانفتح برسالته كشخصيَّة عبقريَّة، وليس كنبيّ موحى إليه من الله. أمَّا نحن في عقيدتنا، فهو نبيّ مرسل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}[الكهف: 110]. فالوحي هو أساس شخصيَّة النَّبيّ (ص).
النّقطة الثَّانية في مسألة التَّأريخ بالهجري، هي أن تحاولوا أن تلتزموا بهذا التَّأريخ، سواء على دفتر المدرسة، أو على الكتاب، أو على رسائل تكتبونها... حاولوا أن تكتبوا دائماً التَّاريخ الهجريَّ مع التَّاريخ الميلاديّ. فاكتبوا، مثلاً، 8 رجب 1413هـ، الموافق: 1 كانون الثَّاني 1993م. ولن تخسروا في ذلك إلّا قليلاً من الحبر، ولكن ذلك يجعل الإنسان المسلم يعيش الأجواء.
جنونُ رأسِ السَّنة
العنوان الثَّاني: فيما يتعلَّق باحتفالات رأس السَّنة، حيث ترى النَّاس مشغولين بشكل كبير بأجواء الاحتفال بهذه المناسبة، فيضعون في بيوتهم شجرة الميلاد، ويشترون مختلف أنواع الحلوى، ويتحضَّرون ويتجهَّزون... فترى الاهتمام بهذه المناسبة كبيراً جدّاً بما لا نراه في عيد الفطر، ولا في عيد المولد النّبوي، ولا في عيد الأضحى. أمَّا في رأس السنة، فتكون هناك حالة طوارئ في البيوت، وحتَّى الَّذي لا يملك المال، تراه يستدين ليؤمّن أجواء الاحتفال. فلماذا كلُّ هذا؟
وإذا كانت بعض المناطق المحافظة مثل مناطقنا، يحتفلون إجمالاً بالطَّريقة التَّقليديَّة، وبشيء من العقلانيَّة، حتّى في بعض المناطق غير الإسلاميَّة، فإنَّ هناك في العالم من يحتفل بطريقة جنونيَّة بكلّ ما للكلمة من معنى.
في سنة من السّنوات، صادف وجودي في لندن في ليلة رأس السَّنة، وشعرت بأنَّ النَّاس هناك في هذه اللَّيلة يخرجون من عقولهم تماماً ومن كلّ شيء، ويصبحون في حالة جنون غرائزيّ، بشكل يفقد الإنسان فيه نفسه.
فإذا كان كلّ هذا احتفالاً بمرور ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين على ميلاد السيّد المسيح، فما علاقة السيّد المسيح بكلّ ما يجري؟ هل السيّد المسيح عندما وُلِدَ كان هناك حفلة راقصة، أو كان عنده حفلة خمر، أو حفلة غناء، أو ما أشبه ذلك؟ فنحن نعرف من خلال القرآن الكريم في سورة مريم، ما الأجواء الّتي ولد فيها عيسى (ع)، وكيف واجهت السيّدة مريم (ع) المسألة في نفسها، وكيف أفاض الله عليها من رحمته ولطفه، وكيف واجهت النَّاس الَّذين كانوا ينظرون إليها باتّهام في طهارتها وعفَّتها، وكيف أنَّ عيسى (ع) تكلَّم في المهد وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}[مريم: 31 - 33]. فهل ما يحدث في ليلة رأس السَّنة يتناسب مع السيّد المسيح (ع)؟!
الحضارة الغربيَّة في جذورها هي حضارة وثنيَّة، وبالتالي هي ليست مسيحيَّة
رفض التَّقليد الأعمى
إذاً، علينا أن لا نقلّد الآخرين في عاداتهم المنطلقة من ذهنيَّة غير أخلاقيَّة ومن ذهنيَّة وثنيَّة، لأنَّ الحضارة الغربيَّة في جذورها هي حضارة وثنيَّة، حضارة لا ترتبط بالله. الحضارة الغربيَّة ليست حضارة مسيحيَّة. قد تكون مشكلة المسيحيَّة الغربيَّة، أنَّ الحضارة الغربيَّة أدخلت الوثنيَّة في المسيحيَّة، وإلَّا، ما معنى أن نصنع التَّماثيل للسيّدة العذراء أو للسيّد المسيح (ع)، ثمَّ نجلس أمام هذا التّمثال ونخشع له؟ هذه حالة صنميَّة وعبادة حجر. فإذا أراد الإنسان أن يخلص للسيّد المسيح، فيخلص له من خلال وعيه له، وليس من خلال التَّماثيل.
كيف بدأت الوثنيَّة عند العرب؟ يروى أنَّ شخصاً عظيماً مات، فعزَّ عليهم أن يدفنوه، ولـمَّا مرَّ وقت وتعفّنت الجثَّة، جاء شخص واقترح عليهم أن يدفنوه ويصنعوا له تمثالاً، ففعلوا ذلك، وصاروا يعبدونه، وهكذا كانت بداية الأمر.
فالكنيسة الغربيَّة أخذت شيئاً من وثنيَّة الغرب، والحضارة الغربيَّة ليست مسيحيَّة أبداً.
الحجاب قيمة مشتركة
الآن إذا أردنا أن نفكّر في قضيَّة الحجاب، يأتي بعض المسيحيّين ويقولون عن الحجاب إنَّه اضطهاد للمرأة، وإساءة إلى شخصيَّتها، وإهدار لكرامتها... ولكن لو سألنا مَن هي رمز المرأة في المسيحيَّة؟ في التَّاريخ هي السيّدة العذراء (ع)، وفي الواقع، هي الرَّاهبة. والسيّدة مريم (ع) كانت محجّبة، وكذلك الرّاهبة.
إذاً، الوضع الموجود الآن، لا يمثّل معنى المسيحيَّة، لأنَّ المسيحيَّة ترتكز في أخلاقيَّتها على أساس العفَّة كشيء أساسيّ...
في الأسبوع الماضي، كان عندي مقابلة حول الحوار الإسلامي المسيحي في جريدة النَّهار، وقلت لهم إنَّكم تقولون إنَّ المسيحيَّة فيها حريَّة بينما الإسلام لا يوجد فيه حريَّة، وخصوصاً بالنّسبة إلى المرأة. فهل المسيحيَّة تعني الانفلات؟ لأنَّ المفروض أنَّ المسيحيَّة ترتكز على أسس أخلاقيَّة.. فالانفلات الموجود في الأزياء، أو في بعض الأوضاع من قبيل الرَّقص وغيره، ومن قبيل العلاقات غير المشروعة، هو ليس من المسيحيَّة ولا من الإسلام في شيء، هو حالة غربيَّة وليس حالة مسيحيَّة.
هناك فرق بين أن نقول إنَّنا ننطلق من خلال قيم الغرب، وبين أن ننطلق من خلال قيم المسيحيَّة، قيم المسيحيَّة وقيم الإسلام واحدة. والإسلام إنَّما فرض القيود على الرَّجل وعلى المرأة في قضيَّة اللّباس وفي قضيَّة النَّظر وفي قضيَّة الملامسة، ليحمي المرأة والرّجل معاً.
فعندما نريد أن يكون هناك أجواء للعفَّة، فالمفروض أن نؤمّن أجواء العفّة، كما عندما نقول لا بدَّ من أن يكون هناك أمانة، فلا بدَّ من أن نهيّئ الظّروف الَّتي تساعد النَّاس على أن يكونوا أمناء. أمَّا أن نجوّع شخصاً ونعرّيه ثمَّ نقول له كن أميناً، فهذا ليس أمراً طبيعيّاً.. هيّئ له عملاً وظروفاً مناسبة حتّى يستطيع أن يكون أميناً، أمَّا أن يكون جائعاً، ويكاد يموت من الجوع، وتقول له لا تسرق، فكيف يكون ذلك؟ ولهذا، نرى الإسلام أسقط الحدود في زمن المجاعة.
إنَّ كلَّ قيمة أخلاقيَّة، وكلَّ قيمة روحيَّة، وكلَّ قيمة إنسانيَّة، تحتاج إلى جوّ يحميها وينمّيها.
وهذا الأمر ليس فقط في القيم، بل حتّى في عالم النَّبات، فلماذا ننشئ الخيم عندما نريد أن نزرع نبات الشّتاء في الصَّيف، أو العكس، أو إذا أردنا أن نزرع نبات السَّهل في الجبل، أو نبات الجبل في السَّهل؟ إنّما نفعل ذلك لنهيّئ الجوّ الشّتائيّ أو الجوّ الصّيفيّ، بحيث تجد النَّبتة ظروف نموّها الطَّبيعيّ. وهكذا الإنسان أيضاً، فعندما نريد للشَّخص أن يكون أميناً أو صادقاً أو عفيفاً، فإنَّ ذلك يحتاج إلى أجواء مناسبة.
لهذا، المسألة لم تكن قيداً للمرأة، ولكنَّها حماية للقيمة الأخلاقيَّة الَّتي أرادها الله للرَّجل والمرأة على السّواء.
مواجهة العادات الغريبة
وعلى هذا الأساس، عندما نجد أنَّ المجتمع يتحرَّك في عادات وتقاليد غريبة عن ديننا وقيمنا، فعلينا أن نقف أمامها، وعلى الأقلّ، أن لا نقوم بها. الإمام عليّ (ع) يقول في بعض كلماته في "نهج البلاغة": "وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ، وَيُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ، وَأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ".
بعض النَّاس يقولون هكذا هي الأمور في هذا الزَّمن، فنحن نريد أن نقيم حفلة العرس في الكازينو، أو في المكان الفلاني اللَّاهي، وأنّ من العادات عند النَّاس في الأعراس أن يأتوا بمغنّين، وأن يكون هناك رقص، وأن يقدّموا خمراً... وهذه هي ظروفنا، فنحن ناس عندنا علاقات اجتماعيَّة واقتصاديَّة، وطبيعة الأمور تفرض علينا أن نقدّم الخمر ولحم الخنزير وغير ذلك، وأن نذهب إلى أماكن الرّقص، وأن تصافح المرأة الرّجال... لماذا؟ يقولون لأنَّ العصر هو هكذا، ولكن "مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ"...
أمَّا أن يكون الدّين انتقاءً لأشياء دون أشياء، فنصلّي لأنَّ الصَّلاة لا تجعلنا نخسر، أو نصوم لأنَّ الصّوم لا يخسّر، ونحجّ حتّى نحصل على لقب حاجّ، ليثق النَّاس بنا في أموالهم وتجاراتهم، فهذا ليس مقبولاً، لأنَّ الدّين إمَّا أن يلتزم به الإنسان بكلّه، أو أن يرفضه بكلّه {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}[النّساء: 150].
من رباعيَّات عمر الخيام المترجمة إلى العربيّة، يقول:
 في يدي مصحفٌ وخمرٌ بأخرى   بينَ هذا وذاكَ طَوْراً فَطَوْرا
 أكثرُ النَّاسِ، لَوْ تأمَّلْتَ في النَّا   سِ فهمْ يحملُونَ ديناً وكُفْرا
فهناكَ مَنْ يكون متديّناً باللّسان، ولكن كافراً في العمل.
وقفة مع الذَّات
فعندما تذهب سنة وتأتي سنة، معناها أنَّه ماتت قطعة من عمرنا، وأفسحت المجال لقطعة أخرى. فكلَّما تمرّ سنة، يعني أنَّ جزءاً من عمرنا مات... فهذا معناه أنّنا متنا وبُعثنا. من أين نفهم هذه الكلمة؟ نفهمها من دعاء الإمام زين العابدين (ع) في يوم الأربعاء، يقول: "لَكَ الْحَمْدُ أَنْ بَعَثْتَني مِنْ مَرْقَدي، وَلَوْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَداً"، أي أنَّ هناك من كانوا نائمين ولم يصحوا من نومهم، وظلَّت نومتهم أبديَّة {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}[الزّمر: 42].
إذاً، على هذا الأساس، نحن كنَّا ميتين في نومنا، ولكنَّه موت مع وقف التَّنفيذ، فالإنسان النَّائم ميت يتنفَّس، ولكنَّ الفرق أنَّ النَّائم هناك إمكانيَّة أن يستيقظ، أمَّا الميت فلا إمكانيَّة لأن يستيقظ.
إذاً، علينا عندما تأتي رأس السَّنة، أن نقول: "الحمْدُ للهِ الَّذي لم يَجْعَلْني مِنَ السَّوَادِ الـمُخْتَرم"، يعني من الهالكين. فمن بعض مستحبَّات المشي وراء الجنازة، أنَّه كما يستحبّ قول: "سُبْحَانَ مَنْ تَعزَّزَ بِالقُدْرَةِ والبَقَاءِ، وَقَهَرَ عِبَادَهُ بِالموْتِ والفَنَاءِ"، يستحبّ أيضاً قول: "الحمْدُ للهِ الَّذي لم يَجْعَلْني مِنَ السَّوَادِ الـمُخْتَرم"، يعني الحمد لله الّذي لم يجعلني من الميتين وأبقى لي عمراً.
فعندما تمضي سنة، يعني أنَّ هناك شيئاً من عمرنا مات، وعندما تأتي سنة جديدة، يعني أنَّ الله أنعم علينا ومدَّ بعمرنا، بينما هناك من لم يمدّ الله بعمرهم ممّن فارقناهم في السّنة الماضية. هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، وعندما تأتي السّنة الجديدة نفرح، ولكن نفرح بنعمة الله: "وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ أَطَلْتَ عُمُرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ"، نفرح ونشكر الله على هذه النّعمة، بأن نصلّي أوّل السّنة ركعتين، ونشكر الله على أنَّه أحيانا إلى هذه السَّنة، أن نسبّحه ونحمده على ذلك، وأن نجعل من رأس السنة مناسبة للتّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير وشكر الله سبحانه وتعالى، لأنَّه أمدّ في حياتنا، فلم يجعلنا ممن ماتوا في السّنة السَّابقة. الآن، هل كلّ أصحابكم ومعارفكم لا يزالون موجودين؟ أليس هناك معارف أو أقارب ماتوا في السّنة الماضية، وقد نفقد البعض هذه السّنة؟! إذاً، هذه نعمة أن أبقانا الله، ويجب علينا أن نشكرها. هذا أوّلاً.
محاسبة النَّفس
وثانياً: علينا أن نقف عند السَّنة الّتي مضت، وننظر: كم عصينا فيها الله سبحانه وتعالى؟ في دعاء الإمام زين العابدين (ع)، يقول: "وَيْلي! إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُوزُوا، وَلِلْمُثْقلِينَ حُطُّوا، أَمَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ؟ أَمْ مَعَ الْمُثْقلِينَ لِذُنُوبِهِمْ وَظُهُورِهِمْ أَحُطُّ؟ وَيْلي! كُلَّمَا كَبُرَ عُمْرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ! أَمَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي؟". فلا يصحّ أنّه كلَّما زاد عمرنا، تكثر معاصينا، ويزداد تمرّدنا على الله...
فإلى أين نحن ذاهبون؟ إنَّ علينا أن نرتّب أمورنا مع الله سبحانه وتعالى قبل أن تأتي لحظة الموت: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافّات: 24]، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]. وهذا معناه أنَّ علينا أن نصل إلى الله خفافاً، وأن لا نكون مثقلين بالذّنوب...
لذلك، علينا أن نحاسب أنفسنا، أن تكون لنا جلسة مع أنفسنا حول ما فعلناه في السّنة الماضية، أن نكتب مذكّرات ذنوبنا، كما نكتب مذكّرات ما يحدث في حياتنا اليوميَّة.. فكما نكتب في مذكّراتنا، مثلاً، أنَّنا ذهبنا اليوم إلى المكان الفلاني واستأنسنا، أو قصدنا بيت فلان وزرنا فلانة وفلانة، ونكتب تفاصيل ما جرى معنا، كذلك علينا أن نكتب مذكّرات ذنوبنا لنحاسب أنفسنا عليها، مثلاً: في اليوم الفلانيّ أنا اغتبت، وفي اليوم الفلانيّ أنا افتريت، وفي ذلك اليوم كذبت، أو نظرت نظرة غير شرعيَّة، أو لامست ملامسة غير شرعيَّة، أو سرقت، خنت، عملت...
يقال عن بعض العلماء إنَّه كان معتاداً أن يحاسب نفسه، فكان، مثلاً، عندما يذهب إلى مجلس، وهو عالم محترم، يقوم له النَّاس؛ هذا يقبِّل يده، وذاك يثني عليه، وآخر يحيّيه، وذاك يجلسه في صدر المجلس، وهكذا... والإنسان عادةً، عندما تحصل معه مثل هذه الأمور، يشعر بأنَّه صار رجلاً عظيماً ومهمّاً، لأنَّ النَّفس أمّارة بالسّوء، فهذا العالم كان عندما يعود إلى البيت، يكتب مذكّرات ما حصل معه، وينقل لنا ابنه من العلماء يقول: أنا اطّلعت على المذكّرات الَّتي كان يكتبها أبي، فكان يكتب: يا فلان – يخاطب نفسه – أنت اليوم ذهبت إلى بيت فلان، وتعاطوا معك بالإجلال والاحترام، وأجلسوك في صدر المجلس، والتفتوا إليك التفاتة مميّزة، ومدحوك وعظَّموك. يا فلان، هل انخدعت من خلال ذلك بنفسك؟! ألا تعرف ماذا فعلت أمس، والنيّة السَّوداء الّتي كانت في قلبك؟ فيحاول أن يكتب في دفتره ذلك مقابل ما عاشه من مدح وتعظيم، حتّى يُسقط نفسه عند نفسه لتتواضع. وهذا يعلّمنا إيَّاه الإمام زين العابدين (ع): "اللَّهُمَّ لَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا."
لتكن مناسبة رأس السنة فرصة لمحاسبة النفس والتخطيط للسنة القادمة
شروط الدّعاء بإطالة العمر
ولأنَّنا نحبّ الحياة، هل نفكّر كيف سنعيش في المستقبل؟ نحن عندما ندعو: "اللَّهمَّ احفظني"، أو: "اللَّهمَّ طوّل عمري"، فهل نضع شرطاً لحفظ هذه الحياة أو طول العمر؟ أكيد نحن لا نفعل ذلك، ولكنَّ الأئمَّة (ع) يفعلون. مثلاً، في دعاء الصَّباح والمساء للإمام زين العابدين (ع) يقول: "وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ - فهو يطلب من الله سبحانه أن يحفظه، ولكن بشرط أن يعصمه هذا الحفظ من أن يعصيه - هَادِياً إِلى طَاعَتِكَ، مُسْتَعْملاً لِمَحَبَّتِكَ"، أن أستعمل كلّ ما تعطيني إيّاه من صحّة وعافية وحماية في سبيل محبَّتك وطاعتك.
والإمام زين العابدين (ع) أيضاً في دعاء "مكارم الأخلاق" يقول: "وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وفي دعاء أبي حمزة الثَّمالي نقول: "وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ أَطَلْتَ عُمُرَهُ، وَحَسَّنْتَ عَمَلَهُ، وَأَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ، وَأَحْيَيْتَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي أَدْوَمِ السُّرُورِ، وَأَسْبَغِ الْكَرَامَةِ، وَأَتَمِّ الْعَيْشِ."
رحلتان.. ومصير
إذاً، فلتستحضروا دائماً أنَّ الرّحلة على نوعين، فهناك رحلة تمشي فيها برجليك، وتنتقل فيها من مكان إلى مكان، وهناك رحلة العمر الّتي يبقى الإنسان فيها في سير دائم ولو كان واقفاً. وقد جاء أنَّه: "مَنْ كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَطِيَّتَهُ، سَارَا وَإِنْ لَمْ يَسِرْ". الآن، لو بقيَ الإنسان طريح الفراش لمدّة خمس سنين، ألا يعني ذلك أنَّه قطع مسافة خمس سنين من العمر، حتّى لو كان في مكانه طوال هذه المدّة؟!
لذلك، علينا أن نفكّر بهذه الطَّريقة، أنّنا سائرون إلى الله، وغداً سنقف بين يديه سبحانه {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافّات: 24].
والله سبحانه وتعالى يخاطبنا بخطابين، الخطاب الأوَّل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَّة مَّرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30]، والخطاب الثَّاني: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقّة: 30 - 33]. فأيّهما أحسن بالنّسبة إلينا؟ وأيّهما نختار؟
لذلك علينا أن نفكّر: هل نريد الجنَّة؟ فإذا كنَّا نريدها، فالجنَّة لها شروط، ولها ثمن، وهل نريد الابتعاد عن النَّار؟ فعلينا أن نبتعد عن كلّ ما يوصلنا إليها، وكما يقول أمير المؤمنين عليّ (ع): "مَا رَأَيْتُ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا". {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}[ق: 30 - 31]. {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجماعة لسماحته في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 01/01/1993 م.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية