موقف الإسلام من الشتم
السياسي والاجتماعي(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108] وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وقد سمع قوماً من أهل العراق يسبُّون أهل الشام في أجواء القتال مع معاوية في صفّين، قال: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر فقلتم مكان سبّكم إيَّاهم اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به"(1). وفي الحديث "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله"(2).
الكلام بين اللّهو والمسؤولية
إنَّ هناك أحاديث كثيرة في هذا الجوّ توجِّه المؤمنين لئلاّ يكون لسانهم شتاماً وسباباً ولعاناً، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يتكلَّم بمسؤولية، فالكلام هو الرسول بينك وبين الآخرين، فهو الذي يعرِّف الآخرين ما عندك، ويعرّفك ما عند الآخرين، وهو الذي يعطي الصورة عن عقلك، ويعطي الصورة عن استقامتك وإيمانك، وهو الذي يعطي الصورة عن أعصابك: هل هي أعصاب متوتّرة، أم هي أعصاب عاقلة هادئة؟ وهو الذي يعرف الناس ما هي نواياك، وما هي أهدافك. لهذا فالله يريد من المؤمن أن يكون كلامه كلاماً مسؤولاً، ومعنى أن يكون الكلام مسؤولاً أنّك إذا أردت أن تتكلَّم، فعليك أن تعتبر كلامك جزءاً من عملك، وجزءاً من خطّتك، فالكلام لا بدّ من أن تكون له غاية، لماذا تتكلَّم بهذه الكلمة، ولا تتكلَّم بالكلمة الأخرى، لماذا تتكلَّم في هذا الوقت، ولا تتكلَّم في وقتٍ آخر، لماذا تتكلَّم بهذه الطريقة، ولا تتكلَّم بطريقةٍ أخرى، لماذا تكون كلمتك عنيفة، ولماذا تكون هادئة؟ لا بدّ من أن تدرس كلمتك من أين تنطلق، هل تنطلق من عقلك، أم تنطلق من انفعالاتك؟ لا بدّ من أن تدرسها جيّداً لأنَّ كلامك جزء من حركتك في الحياة وجزء من عملك، فقد ورد في حديث أمير المؤمنين (سلام الله عليه): "مَن لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه"(1).
لا تعتبر الكلام مجرّد شيء تلهو به، بل اعتبر الكلام شيئاً تتحرّك به، لا بدّ أن تدرس ذلك، وعلى هذا الأساس ففي الكلام عدّة ألوان: هناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يحلّ مشكلة، وهناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يعقّد المشكلة؛ أنت كمؤمن، ماذا تختار؟ هل تختار الكلام الذي يحلّ المشاكل للنّاس، ويؤدّي بهم إلى مواقف تدعم قضاياهم، وتدعم سلامهم، وتدعم غاياتهم الكبيرة في الحياة، أم أنّك تنطلق من انفعالاتك، الناس لا يعنون لكَ شيئاً، القضايا الكبيرة في الحياة لا تمثّل لكَ شيئاً، الإسلام لا يمثّل لكَ شيئاً. إذا كنتَ مسلماً فلا يجوز أن يكون كلّ همّك أن تشفيَ غيظك. تحدَّثَ عنك شخص بكلمة، وتريد أن تردَّ الكلمة بأقسى منها، سبَّك شخص وتريد أن تسبّه بأكثر ممّا سبَّك، إذ ليست المشكلة عندك أن تكون كلمتك من قبيل عود الثقاب الذي يشعل الحطب أو أنّ كلمتك تتحرّك من أجل أن تدفع الناس إلى أن يدخلوا في لعبة الدم. تشتهي أنْ تتكلَّم، ولذلك تطلق كلامك على أساس أن يعقِّد الواقع، أو تطلق كلامك على أساس أن تشفيَ غيظك، ولا تفكّر هل سيعقّد كلامك الواقع، ولاسيّما إذا كنت إنساناً مسؤولاً، ينتظر الناس كلمته من أجل أن يتحرَّكوا معها، وأن تثور أعصابهم إذا كانت الكلمة تثير الأعصاب، أو يحرِّكوا سيوفهم في اتجاه الفتنة إذا كانت الكلمة تثير الفتنة، أو ما إلى ذلك، فإنَّ المسؤولية تكون أكبر، وإنَّ النتائج السلبية تكون أخطر، فهناك فرق بين أن يتكلّم الإنسان العادي بانفعال، وبين أنْ يتكلَّم المسؤول بانفعال، فرق بين أن يكون الفرد العادي يريد أن يشفي غيظه فقد يشفي غيظه بمشكلة بينه وبين فرد آخر، يستطيع الناس حلّها كأيّة مشكلة صغيرة في المجتمع، ولكنَّ المسؤول عندما يشفي غيظه فإنَّ المشكلة تتوسَّع ويعجز الناس عن حلّها، وقد تؤدّي نتائجها السلبية إلى شيءٍ كبير يقف الناس كلّهم ليواجهوه.
موقف الإسلام من الكلام
لقد كان الإسلام واضحاً في هذه المسألة، الإسلام يمنعك من أن تشفيَ غيظك بالكلام، إلاّ إذا عرفت أنّ ذلك لا يؤدّي إلى أيّة مشكلة، ولو صغيرة، وقولا للنّاس حسناً، قولوا للنّاس الكلمة الطيّبة، كما تريدون أن يقولوا لكم حسناً {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. قل للنّاس الكلمة التي تفتح قلوبهم عليك، وتفتح عقولكم عليك، وتفتح حياتهم عليك، وتفتح مواقفهم على مواقفك، قد لا تطيق ذلك ولكن الله يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت : 35] اضبط أعصابك، اصبر على كلّ التوتّر العصبي الذي يحاول الآخرون أن يثيروك من خلاله، اصبر على ذلك كلّه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] إنَّ العداوة مرض، وكما تصبر أنت على مرضك مدّة طويلة في انتظار الشفاء، فعليك أن تصبر على العداوة مدّة طويلة حتّى تشفيَ الآخرين من مرض العداوة. القصّة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى حظّ عظيم، هذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد الله للمسلم أن يتربّى عليه، ويريد للداعية أن يتربَّى عليه، ويريد للعالم أن يتربَّى عليه، عندما يجادل الناس {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [النحل : 125] ويريد للمسؤول أيضاً أن يفكّر في كلمته قبل أن يقولها، لأنَّ الله يحمِّل المسؤول كلّ نتائج الكلمة، فلو أعطت الكلمة وضعاً يؤدّي إلى الدماء، وكان يمكن أن تحجبها كلمة أخرى، ولو أدَّت الكلمة إلى فتنة وكان يمكن أن تجمِّدها كلمة أخرى، فإنَّ الله سيحاسب هذا المسؤول أو ذاك على ما أساء به إلى المجتمع من خلال كلمته، والله أعطاك كلّ القوّة في أن تقيِّد كلماتك، أعطاك العقل، وأعطاك الوسائل التي تستطيع أن تمنع فيها كلمتك من أن تتحرّك في غير الاتجاه الذي يتناسب مع إيمانك "الكلام في وثاقك فإذا تكلَّمت به صرتَ في وثاقه" قبل أن تتكلَّم أنتَ الذي يملك القيد الذي يقيّد الكلمة حتّى لا تأخذ حريّتها، ولكن عندما تقول الكلمة وتفعل فعلها، فإنّك لا تستطيع أن تهرب منها، لأنّها قيَّدتك، أصبحت كلمتك قيداً لك، أصبح توقيعك قيداً لك، ولهذا لا بدّ أن تتحمَّل المسؤولية.
الإمام عليّ (سلام الله عليه) يفرِّق بين الأحمق وبين العاقل بالكلمة فيقول: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا كيف ذلك يا أمير المؤمنين، والقلب معروف بمكان واللّسان بمكان، المقصود هو القلب المعنوي، الحالة المعنوية، الأحمق هو الذي إذا خطرت له الكلمة تكلّمها، فإذا فعلت فعلها في الواقع بدأ يفكّر بها، كيف تكلّمت، الكلمة أنتجت ناتجاً سيّئاً أربكت مصالح الناس من حوله، فلسانه هو القيادة وعقله جندي من جنود هذه القيادة، يعي لسانه هو الذي يحرِّك عقله.
كثير من الناس يتكلَّمون بدون أنْ يفكِّروا، أمّا العاقل فلا، فلسان العاقل وراء قلبه، العاقل يعتبر أنّ العقل هو سيّد كلّ الأعضاء، هو سيّد حركة الإنسان، سيّد كلّ الأوضاع التي يتّخذها الإنسان، اليد تأخذ الأوامر من العقل إذا أرادت أن تتحرَّك وكذلك الرجل واللّسان أيضاً، فالعاقل يفكّر في نتائج الكلمة قبل أن ينطقها، فإذا رأى نتائجها خيّرة ألقاها، وإذا رأى أنّ الكلمة يمكن أن تربك حياة الناس، وتخلق الفتنة بين الناس، وتؤدّي إلى دمار القضايا الكبرى، عند ذلك يقول للسانه أمسك نفسك. هذا هو الفرق؛ فاللّسان جندي من جنود العقل والعقل هو القائد، أمّا عند الأحمق فاللّسان هو القيادة والعقل وغيره من الأعضاء هي الجنود.
هناك بعض الكلمات التي تقال بطريقة المثل، وتقديم الصورة عن الموضوع ففي هذه الصورة يطلّ اللّسان صباح كلّ يوم وقبل أن يتكلَّم يسأل الأعضاء الأخرى العين، الأذن اليدين، الرجلين... يسألهم جميعاً عن أحوالهم فيقولون "نحن بخير ما تركتنا" العين تبقى صالحة، والأذن صالحة، واليد أيضاً لا تنكسر، والرجل لا تنكسر ولا يتعطَّل أو يتخرَّب أيّ شيء، إذا بقيت أيُّها اللّسان عاقلاً، إذا لم تشاغب، نحن بخير لأنَّ مشكلتنا في كثير من الحالات من عندك، تحكي الكلمة ونحن نتحمل النتائج.
"وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1) هذا الجوّ هو الذي يريدنا الإسلام أن نعيشه؛ أن تكون الكلمة عندنا مسؤولة نفكّر في خلفياتها، على أيّ أساس نتكلَّم، لأنَّ الله مطّلع على خفايا نفوسنا، هل نريد بهذه الكلمة خيراً، أم نريد بها شرّاً، فبعض كلمات الخير قد يراد بها الشرّ، وبعض كلمات الحقّ قد يراد بها الباطل، ثمّ ندرس نتائجها في الواقع الاجتماعي، وفي الواقع السياسي الذي نعيشه.
يجب أن تدرس الأرض، الكلمة عندما تسقط من لسانك على الأرض. والمقصود بالأرض الذهنية، الناس، العقليات، المشاعر، إذا كان الجوّ كلّه قابلاً للاشتعال فمعنى ذلك أنّك تحرق الجوّ بكلمتك، وأنّك تثير المشكلة بكلمتك.
السباب لغة المتخلِّفين
لا بدّ من ملاحظة هذا الموضوع من أساسه وبشكلٍ عميق جداً ومن ناحية ثانية، الإسلام يعالج القضية بطريقة أخرى يعني أنتَ الآن تسبّ، لغة السباب هي اللّغة التي تعيش في كثير من المجتمعات المتخلِّفة، السبّ عادة يكون لتفجير الغيظ، ولكن ما هي نتائج هذا السبّ؟ أنتَ تسبّ، والآخرون قادرون على أن يسبّوا، أليس كذلك قال الشاعر:
لسانُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ فكلُّك عوراتٌ وللنّاسِ ألسنُ
لستَ وحدك الذي عندك لسان، ولا الناس الذين تسبّهم وحدهم عندهم عيوب ونقاط ضعف. أنتَ عندما تسبّ إنساناً فستكون النتيجة أن يسبّك، وعندما تسبّ والدَيْ إنسان، فسيسبّ ذلك الإنسان والديك، وقد ورد في الحديث سؤال: أيّكم يسبّ والديه، قالوا لا أحد منّا يسبّ والديه، نحن نحترم آباءنا. قال إنّكم تسبّون آباء الناس فيسبّون آباءكم وبذلك تكونون السبب في ذلك. والله سبحانه وتعالى عرَّفنا إيّاها في الدائرة الأوسع، دائرة الذين نختلف معهم في العقيدة، هؤلاء الذين يعبدون غير الله أو يلتزمون نهجاً غير نهج الحقّ، كيف تحاورهم، كيف تواجههم، هل تواجههم بالسبّ، ما الفائدة، هل تهديهم إلى سواء السبيل فتجعلهم مؤمنين إذا كانوا كافرين. هل عندما تسبّهم وتسبّ مقدّساتهم تجعلهم مهتدين إذا كانوا ضالّين. عندما تسبّ لهم رموز الضلال عندهم فإنّك تزيدهم تعصُّباً لأنَّ كلّ إنسان عندما تهاجم ما يحبّ بطريقة فجّة، فإنّه يبادر إلى أن يعتبر المسألة إساءة له، فيحاول أن يسبّ مَن تلتزم به، ومَن تقدِّسه وتحترمه، ويريد أن يؤذيك كما آذيته، ويريد أن يسيء إليك كما أسأت إليه.
كيف نتعامل مع الشتم
إنَّ الله جعل من غرائزنا الطبيعية أنّ الإنسان يتعصَّب لعمله، ويتعصَّب للرموز التي تمثّلها {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الله يقول: هذه المعادلة من أين تأتي، إنّك إذا سببت هؤلاء فإنّهم سيسبُّون الله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام : 108] كلّ إنسان يعتبر أنّ الحقّ معه، فعندما تأتي وتصدمه رأساً، تقول له يا زنديق، يا كافر، وتسبّ له مقدّساته كلّها، إذا أطلقت عليه رصاصة، فسوف يطلق عليك رصاصة، الكلمة التي تريد أن توجّهها لإنسان في ما يحترمه ويقدّسه دون سابق إنذار، هذه الكلمة رصاصة، ولكن رصاصة معنوية، الرصاص يصيب الجسد، والكلمة تصيب الكرامة، إذا استثرت كرامته فإنّه سيثور، وإذا ثار فإنَّ طريقته هي الثورة هي أن يبادلك بمثل ما بادرته به، فيسبّ الله إذا كان كافراً وكنتَ مؤمناً، {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} إنّه سبّ لا يفيد، بل يعقّد، لكن يمكنك أن تقول يا فلان تعال نتفاهم، بَرِّد عقلك وأعصابك، وسأُبَرِّد أنا عقلي وأعصابي. الإمام عليّ (عليه السلام) يمثّل لنا الخطّ، يقول: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبّابين ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر"(1).
إذاً، قل الكلمة التي تكون حجّة لك، وقل الكلمة التي تكون صواباً ثمّ لا تكن روحيّتك تجاه الناس الذين تختلف معهم روحاً تدميرية ولاسيّما إذا كانت الخلافات في دائرة واحدة، دائرة يؤمن أفرادها بالله ويختلفون بالطرق التي تؤدّي إلى الله، أو يختلفون في طريق الاستقامة والانحراف، لا تكن روحك روح الإنسان الذي يشتهي الفتنة أو يشتهي الحرب أو يشتهي التدمير، لتكن روحك روح الإنسان الذي ينظر إلى مَن يختلف معه نظرة عطف وإشفاق ورثاء وأمل كبير، بأنْ تنفتح عليه وينفتح عليك في المستقبل.
"وقولوا مكان سبّكم إيّاهم"، وكان أهل الشام يقاتلون أهل العراق، وأهل العراق يقاتلون أهل الشام، ولم يكن عليّ (عليه السلام) يدفع الحرب، عندما دفع أهل العراق إلى أن يحاربوا أهل الشام، طلباً للسلطة لمجرّد أن يتسلَّط على الناس، ولم يدفع عليّ (عليه السلام) الحرب لأنّه من الشجعان الذين يحبُّون أن يديروا الحرب، ويحرِّكوا القتال. كان عليّ (عليه السلام) صاحب رسالة، وكان يعتبر الحكم مسؤولية، وكان يرى أنّ معاوية عندما يتمرَّد على الحكم الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنَّ معاوية يريد أن يربك الحياة الإسلامية، ويريد أن يتحرّك في الاتجاه الذي يعمل من خلاله على تهديم القواعد الأساسية للإسلام وللمسلمين، ولذلك دفع عليّ (عليه السلام) الحرب من أجل الوصول إلى هذه النتائج التي هي حقّ. وكان عليّ (عليه السلام) يردِّد "فوالله ما دفعت الحرب يوماً، إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها وإنْ كانت تبوء بآثامها"(1). عليٌّ يقول إنّي أُقاتل عندما يكون ضغط القرار القتال، إنَّ هدفي أن أجتذب الناس إلى الحقّ قبل أن أُقاتلهم، إنَّ القتال ليس هدفاً من خلال الانفعالات، وأن لا نعيش روح التدمير للآخرين، ويضيف "وقولوا مكان سبّكم إيّاهم، ربّنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به" هذه الروحية، حتّى وأنتَ تواجه ساحة الصراع، لا تكن روحك تدميرية، لتكن روحك إصلاحية وسلمية، وعليك أن تنتهز أيَّ فرصة تمكِّن الناس من الانفتاح على السلام ضمن معيار الحقّ والعدل.
ولهذا أرادنا الله دائماً أن نتكلَّم الكلمة الطيّبة من أجل أن نشارك في إيجاد العلاقات على هذا الأساس، وحتّى عندما أرادنا أن نجادل قال، إنّك تجادل الناس لا لتسجِّل نقطة عليهم، ولكنّك تجادل الناس لتهديهم إلى سواء السبيل، ولهذا حاول أن تقول الكلمة الأحسن حتّى تفتح الطريق إلى عقل الناس، وهذا في كلّ المجالات، سواء في البيت، أو في الشارع، أو في ساحة العمل السياسي والاجتماعي، أن يكون مجتمعنا مجتمع الكلمة الطيّبة، لا مجتمع الكلمة الخبيثة، إنّك إذا ربحت إنساناً بصبرك عليه حتّى استطعت أن تجتذبه إلى الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنّك استطعت أن تركِّز في حياة هذا الإنسان وفي مجتمعه قاعدة للحقّ، إذا أقنعته بالحقّ فيكون ابنه مع الحقّ، وأخوه مع الحقّ، وأبوه مع الحقّ، سيكون عنصراً يتجذَّر في حياة الحقّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 24 ـــ 26] لهذا لا بدّ من أنْ نربّيَ أنفسنا على أنْ لا يكون السبّ هو أسلوبنا في حلّ الخلافات والأوضاع السلبية التي تعيش في مجتمعنا، ثمّ يجب أن نعرف أنّ السبّ في الدائرة الإيمانية والإسلامية حرام. كلّ سبّ يصدر منك فهو معصية. إنَّ بعض الناس، يعتقد أنّه يستطيع أن يسبّ زوجته لأنّه اشتراها بالمال، دفع مهرها وخصوصاً إذا كان المهر ثميناً، أو أنّ الأب حرٌّ في أن يسبّ ابنه وصاحب العمل يسبّ العمّال لأنّه يعتبرهم عبيداً، كلا، كلّ سبّ، كلّ كلمة سبّ لزوجتك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لولدك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لعمّالك فهي معصية، لا يجوز ذلك، ويجب أن تستغفر الله بعد ذلك.
الحديث الشريف يقول: "إيَّاكم ومحقرات الذنوب"(1) البعض يقول: أنا لم أفعل شيئاً، أن مؤمن، أُصلّي من الصباح إلى اللّيل في المسجد، وأقرأ الأدعية، وقمت بالحجّ والعمرة، ولكنّه سيّئ الخُلق مع أهله، يصل يوم القيامة وليس عنده من الأعمال الحسنة شيء. صحيح أنّه قام بالعبادات، لكن في دفتر أعماله يوجد عشرة ملايين كلمة سبّ، ماذا يخلّصه، والسبّ هذا من حقوق الناس، إذا لم يسامحك الذين شتمتهم فإنَّ الله سيأخذ لهم بالحقّ منك، لا تستصغروا ذلك.
الشتم وحقوق الناس
مشكلتنا أنّنا نفكِّر في الأمور بتوتُّر، إنَّنا نريد أن نركِّز هذه النقطة، حتى نصل إلى مرحلة الأُمّة المهذّبة في اجتماعها، التي تملك نظافة اللّسان، وتمارس عملية احترام الناس بعضهم لبعض، السبّ لا يمثّل حالة احترام. ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا كمؤمنين، أن لا نزيد العداوة بين الناس، عندما يصبح الناس أعداءك لأنّك مؤمن، هنا المسألة ليست مسؤوليّتك، ليس ذنبك إن عاداك الآخرون لأنّك إنسان شريف، بل تتحمَّل المسؤولية إذا صاروا أعداءك لأنّك تسبّهم، وتشتمهم، وتتكلَّم عليهم بدون حقّ.
جاء رجل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يروى عنه قال: يا رسول الله أوصني قال له: "لا تسبّ الناس فتكتسب العداوة منهم"(2) هذه وصيّة: إنّك عندما تعيش مع الناس؛ مع زوجتك، مع أهلك، مع أولادك، مع عمَّالك، مع كلّ الناس، عندما تعيش معهم لا تسبّهم لأنّك إذا سببتهم فسيقسو قلبهم عليك وسيتحوّلون إلى أعداء لك، لأنَّ الإنسان يعادي مَن يسيء إلى كرامته، ومن يضغط على حريّاته. هناك فرق بين شخص يتكلّم مع زوجته بالكلام اللّطيف، وآخر يتكلّم مع زوجته بالكلام القاسي، شعور هذه الزوجة اتّجاه زوجها عندما يتكلَّم كلاماً لطيفاً يختلف عن الأخرى. هناك فرق بين أن تعيش مع إنسان تضطهده، يخدمك غصباً عنه، هو لا يطيقك، ولكنَّ الحياة تفرض عليه أن يعيش معك، وبين أن تعيش مع إنسان يخدمك من كلّ قلبه، يعمل لك من كلّ قلبه، لأنّه يراك تحترمه، ويراك تفتح له قلبك. لماذا نحاول أن نعمل بكلّ ما عندنا، ليكرهنا الناس، لماذا يكون بعض الآباء مشكلة لأبنائهم، وبعض الأزواج مشكلة لزوجاتهم، وبعض أصحاب العمل مشكلة لعمَّالهم؟ لأنّهم سيِّئو الأخلاق.
ذكر أنّ بعض الزعماء السابقين حين كان يصرخ لإنسان يا فلان، فلم يجبه، يا فلان لم يجبه، قال له أَلَمْ تسمع، قال لا إنّك تقول يا فلان، وأنا دائماً ينادونني "ولا"، فأنتَ لو قلت لي "ولا" لأجبتك لأنَّ هذا اسمي الذي أعرفه، اسمي الذي سمّاني إيّاه أبي وأُمّي لقد نسيته. بعض أصحاب العمل هكذا، وبعض الآباء هكذا ينادي ابنه بالمسبّة، ينادي زوجته بالمسبّة، ينادي عامله بالمسبّة، لماذا؟ ماذا يخسر الإنسان بالكلمة الطيّبة، لماذا نُبغّض أنفسنا للنّاس بهذه الطريقة، بعض الأولاد لا يستطيعون أن يردّوا إذا كان أبوهم قاسياً، الزوج إذا كان قاسياً فالزوجة لا تقدر أن تردّ عليه، العمّال أيضاً، لئلا يخسروا لقمة عيشهم، مضطرّون لأنْ يتحمَّلوا هذا الواقع.
هناك نقطة يجب أن نفهمها، أيُّها الإخوة، الأب، الزوج، صاحب العمل، المسؤول الذي يدير جماعة من الناس، إنَّ الله لم يسلِّط إنساناً على إنسان، أن يسيء إلى كرامته، هذا صاحب عمل وهذا عامل، أنتَ إنسان وهو إنسان، لا فرق بين أن تسيء إليه أو أن يسيء إليك، لماذا لا تتحمّل أن يسيء إليك، كذلك أنتَ زوج وهذه زوجة، الله جعل للزوج على الزوجة حقّاً معنوياً، ولكن بعض الأزواج يقولون: ما دام لي حقّ يجب أن أُلغي كلّ إنسانية المرأة، لا.. أنتَ كزوج، في الإنسانية، لا فرق بينك وبين زوجتك {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] في الطلاق، وفي مسألة الحقّ الزوجي الخاص، أمّا في الأشياء الأخرى فلا يوجد فرق بين أن تسبّ زوجتك وتسبّ زوجة جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ ابنك أو تسبّ ابن جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ عاملك أو عاملاً في مصنع آخر، ليس هناك فرق بين أن تسبّ موظّفاً عندك أو موظّفاً عند شخصٍ آخر. حقوق الأبوّة والبُنوّة، الحقوق الزوجية، حقوق العمل، حقوق المسؤولية، الوظيفة، لا تجعل لكَ سلطة إلاّ من خلال ما لكَ من حقّ تفرضه هذه العلاقة، لهذا إنَّ الله سيعاقب كثيراً من الآباء الذين يضطهدون أولادهم ويسيؤون إليهم بغير حقّ، وسيعاقب كثيراً من الأزواج وسيعاقب كثيراً من أصحاب العمل، وأصحاب المسؤوليات، لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...} [غافر : 17].
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهُمَزَة : 1] مَن هو الهُمَزَة، هو الشخص الذي يطعن الناس، ومن وسائل الطعن السّب والشتم، وفي بعض الحالات قد يصبح السّب مضاعفاً، إذا اختلفت مع شخص فما ذنب أبيه أو أُمّه أو عشيرته؟ شرعاً، هو أساءَ لك فلماذا تسيء لأبيه؟ القضايا الشرعية في هذه الأمور دقيقة جداً، لهذا لا بدّ للإنسان من أن يواجه المسألة بطريقة شرعية، يحاول فيها أن يضغط على أعصابه، وأن يضغط على لسانه في ذلك كلّه.
لتكن وسائل الصراع مهذّبة
وهكذا ينبغي لنا أن نتحرّك في هذا الموضوع، سواء على الصعيد الفردي، أو على الصعيد الاجتماعي، في الحالات التي تختلف الجماعات بعضها مع بعض، ولاسيّما إذا كان الاختلاف في الصراع السياسي، فلا بدّ من أن تكون وسائل الصراع وسائل مهذّبة ومعقولة حتّى يمكن أن نصل في كلّ صراعاتنا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، النتائج الكبيرة في الحياة، ويكون البرنامج عندنا هو برنامج عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) "لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم" من حقّك أن تصارع ومن حقّك أن تختلف مع الآخرين، ومن حقّك أن تدافع عن وجهة نظرك، ومن حقّك أن تبدي الأُسس التي تؤكّد وجهة نظرك، من حقّك ذلك لأنَّ الله جعل لكلّ صاحب حقّ أن يكون له الحقّ في المقال، ولهذا لم يجوّز الله للإنسان أن يتكلّم بالسوء إلاّ إذا كان مظلوماً، عندما يكون الكلام بالسوء دفاعاً عن ظلامته، ولكن أن يتكلَّم بحيث لا يتحوَّل إلى ظالم {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء : 148] لكنَّ عندنا حديثاً يقول "الدُّعاء على الظالم حتى يصير ظالماً"(1). لا بدّ من أن يكون المسؤولون قدوة لغيرهم، لأنَّ المشكلة في كثير من الناس أنّهم إذا أطلقوا السباب كعنوان لطريقتهم في الصراع، فإنَّ كلّ الناس الذين يتبعونهم يتحوّلون إلى سبَّابين، يستهلكون كلماتهم وربّما يزيدون عليها لأنّهم يعتبرون ذلك ضوءً أخضر، مثلما يقول الشاعر:
إذا كان ربُّ البيتِ بالطبلِ ضارباً فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهمُ الرَّقصُ
الإنسان المسؤول يتحمّل كلّ النتائج التي تصدر عن عمله في ما ينعكس من عمله على الناس الذين يتبعونه في الحياة، هكذا يجب أن نفكِّر حتّى لا نقع في المشاكل الكثيرة.
في بعض الحالات أنتَ تسبّ نفسك عندما تسبّ الآخرين، عندنا حديث يقول: "إنَّ اللّعنة إذا خرجت من صاحبها تردَّدت بينه وبين الذي يلعنه"(2) فاحذروا أن تلعنوا مؤمناً فيحلّ بكم بغي. فاللّعنة لا تنطلق مباشرة إلى الشخص وتلتصق به بل تقف في الطريق تنظر إليه، هل هذا الشخص يستحق اللّعنة أم لا، إذا كان يستحقّها تنطلق بسرعة، وتلتصق به، وإذا كان لا يستحقّها عند ذلك اللّعنة تخاف الله، ترجع إلى صاحبها، لأنَّ مَن يلعن الناس بدون حقّ يجب أن يكون هو الملعون. وهناك حديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي لم أبعث عذاباً وإنّما بعثت رحمة للعالمين"(3). وقال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران : 159] هذا هو الأسلوب الذي يجب أن ننطلق فيه في العلاقات الاجتماعية والعلاقات العامّة.
متى يكون الشتم مشروعاً؟
ربّما يكون السبُّ أو اللّعن في بعض الحالات وسيلة من وسائل قهر الظالمين، وإبعاد الناس عنهم، فيصبح مجرّد أداة من أدوات منع الظلم والطغيان، مثلاً قال الله عن جماعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب : 57] باعتبار أنّهم يساهمون في الوقوف ضدّ الله وضدّ رسوله، مثلاً الذين يتّهمون النساء المحصنات فلانة انحرفت، فلانة ليست "آدميّة" فلانة كذا وهي ليست هكذا أو لا يعلم منها ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور : 23] هذه أيضاً يجب أن تنتبهوا لها، فلعنة الله تجعل القضية صعبة في المجالات العامّة، إنَّ علينا أن نقدِّر الأمور بقدرها، وأن ندرسها من خلال موازينها الحقيقية، وموازينها الشرعية على أساس أن ننطلق لنؤكّد إسلاميّتنا في أخلاقنا، سواء في كلامنا أو في أفعالنا، لأنَّ الإنسان الذي يقف أمام ضغوط تريد أن تطبق عليه وتريد أن تلغيه وتريد أن تصادر كلّ واقعه، وليس عنده وسيلة للتخفيف من ضغط ذلك عليه إلاّ ببعض الكلمات، عند ذلك تكون القضية من باب الدفاع عن القضايا العامّة والقضايا الكبيرة كما في كثير من أوضاع الواقع التي نعيشها في حياتنا العامّة. عندما نواجه الذين يعملون على أساس أن يسقطوا قوّة المسلمين وقوّة المؤمنين وقوّة المستضعفين على أساس الواقع الذي تفرضه القوى الاستكبارية في العالم، ففي هذه الحال لا بدّ للمجتمع المسلم المؤمن من أن يستخدم كلّ ما عنده من وسائل في سبيل الوصول إلى النتائج الكبيرة في مواجهة الظلم والظالمين.
هناك كثير من الوسائل لا تكون مشروعة في ذاتها ولكنّها تكون مشروعة في بعض الظروف الاضطرارية التي لا يملك الإنسان فيها أيّة فرصة للدفاع عن الإسلام والمسلمين، عند ذلك الله يقول: {... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة : 173] ما من شيء إلاَّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه. فلهذا نحن كنّا دائماً نؤكّد ضرورة أن نواجه الظلم كلّه وأن نواجه الاستكبار كلّه، وأن نواجه كلّ الذين يريدون أن يسقطوا الحقوق العامّة للناس ليسيطروا على الناس من أجل خدمة مخطَّطاتهم ومصالحهم وأوضاعهم. قد يتحدّث بعض الناس عن الإسلاميين بأنّهم يعيشون عقدة أميركا دائماً، يتكلَّمون على أميركا، مثلاً الإمام الخميني (حفظه الله) عبَّر عن أميركا بالشيطان الأكبر، وكذلك الإسلاميون في كلّ مجال يتحدّثون عن أميركا على أنّها الشرّ الذي يوزّع كلّ مشاكله على العالَم. بعض الناس يقول ربّما أنتم "تزيدونها" لأنَّ أميركا دولة كبيرة لها مصالح، فمن الطبيعي أن تحافظ على مصالحها ومن الطبيعي أن تحافظ على أمنها، وما إلى ذلك من كلام. لكنَّ بعض القضايا دائماً قد تحتاج إلى دراسة، نحن نعرف أنّ كلّ العالم سواء كان في دائرة القوى الكبيرة أو دائرة القوى الصغيرة، كلّ العالم عنده مصالح، ولكن الدول الكبرى تعمل على أن تصادر حريّات الدول الصغرى، واقتصاد الدول الصغرى، وتصادر سياسات الدول الأخرى حتّى تكون الدول الصغرى مجرّد سوق استهلاكية لمنتجات هذه الدول الكبرى، وحتّى تكون سياستها على هامش سياسة الدول الكبرى، وحتّى يكون وجودها تابعاً لوجود تلك الدول. المشكلة بين الدول الكبرى والدول الصغرى هي المشكلة بين المستكبرين والمستضعفين؛ المستكبرون يريدون أن يفرضوا كلّ وجودهم وكلّ واقعهم على المستضعفين، هنا في هذا المجال صحيح أنّ للدول الكبرى مصالح، ولكنّ هناك فرقاً بين أن نحافظ على مصالحهم ليحافظوا على مصالحنا، وهذا الأمر ليس مشكلة، لكن أن يصادروا مصالحنا ويمنعونا من أن نسيء أو نخدش مصالحهم، هذه معادلة غير طبيعيّة.
أميركا والقضية الفلسطينية
الآن ندرس المسألة التي يضجّ بها العالم، المسألة الفلسطينية؛ قبل العام 1947 كانت فلسطين تضمّ أقليّة يهودية وتضمّ أكثرية إسلامية إلى جانب أقليّة مسيحية، ثمّ ماذا حدث، حدث أنّ بريطانيا التي كانت تمثّل الدولة التي تستعمر هذه المنطقة مع فرنسا(1)، عملت بالاتّفاق مع اليهود ومع بعض الدول الكبرى على أن تُسَلِّم فلسطين لليهود(2)، وأن تعمل على غضّ النظر عن كلّ المذابح الوحشية التي قام بها اليهود في فلسطين، حتى يُهَجِّروا الفلسطينيين ثمّ بعد ذلك ودفعة واحدة، اعترف العالم بواسطة ضغط الدول الكبرى "بإسرائيل" وكانت أوّل الدول التي اعترفت بـــ "إسرائيل" هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى جانب فرنسا وبريطانيا. وبعد ذلك أصبحت "إسرائيل" الدولة الشرعية في فلسطين، وأصبح الوجود الفلسطيني لا يملك شرعية، وبعد ذلك انتقلت الضفّة الغربية وغزّة إلى السيطرة الأردنية.
في عام 1967 سيطر الصهاينة على الضفّة الغربية وغزّة. العالم لم يعترف بضم الضفّة الغربية وغزّة إلى فلسطين، ولكنَّ العالم وفي مقدّمته أميركا عمل على أن يتأصَّل هذا الاحتلال اليهودي الإسرائيلي بهذه المنطقة بحيث إِنّها لم تحرِّك ساكناً بل عملت بكلّ قوّتها على دعم هذا الاحتلال إرضاءً لليهود في انتظار أن تأتي متغيّرات مستقبليّة تفتح المجال لضمّ الضفة الغربية وغزّة إلى دولة "إسرائيل" وهكذا عندما احتلت "إسرائيل" الجولان لم تحرِّك أميركا ساكناً، وعندما دخلت "إسرائيل" إلى لبنان واحتلته احتلالاً كاملاً في بعض مناطقه، واحتلالاً مقطّعاً في بعض مناطقه أيضاً لم تحرِّك أميركا ساكناً، ماذا نسمّي ذلك؟ عندما يُطرد شعب بأكمله من أرضه ثمّ بعد ذلك تمنعه من أن يسترجع بلده في المنطقة التي لا يعترف العالَم بأنّها منطقة إسرائيلية؟
إنَّ أغلب الدول في العالم ربّما كانت لها مواقف مغايرة للموقف الأميركي، ولكنّ أميركا تضغط عليها حتّى تظلّ سائرة في سياستها. لقد أعلنت أميركا أنّها تلتزم أمن "إسرائيل" بالكامل، وأنّها مستعدّة لأن تدخل حرباً عالمية ثالثة إذا تعرَّض أمن "إسرائيل" للخطر. أمّا أمن الدول العربية، وأمن الشعوب العربية، وأمن الشعوب المسلمة، هذا الأمن لا بدّ من أن يكون على هامش الأمن الإسرائيلي. أميركا تتدخَّل لدى كثير من الدول لتمنع تصدير السلاح إلى أيّ دولة عربية حتّى لو كانت من حلفائها، إلاّ إذا جاء السلاح ضمن قيود محكمة أن لا تحارب به "إسرائيل". كلّ السلاح العربي سواء كان مستورداً من أميركا، أو من حلفائها، هناك شرط أساسي أن لا يستخدم ضدّ "إسرائيل"، وحتى نوعية السلاح لا بدّ أن تكون بطريقة لا تهدِّد السلاح النوعي الموجود مع "إسرائيل". هذا واقع أميركا التي تقف لتواجه بقرار "الفيتو" كلّ قرار يدين "إسرائيل" ولو اسمياً في مجلس الأمن لأنَّ للمسألة جانبها المعنوي، حتّى هذا الجانب أميركا لا تسمح به بالنسبة إلى الانتفاضة.
لو كنّا لا نريد التحدّث عن فلسطين الــ 47 أو الــ 48، ولا عن فلسطين ما قبل 67، بل عن فلسطين ما بعد الــ 67، ومع ذلك أميركا غير مستعدّة للاعتراف بأنَّ من حقّ هذا الشعب أن يثور. أميركا الآن تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل القضية الأفغانية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وتعتبر أنّ ما يقوم به المجاهدون الأفغان ضدّ الاتحاد السوفياتي من عمليات تفجيرية أو اغتيالات أو أيّ شيء، تعتبر أنّ هذا عمل تحرُّري وعمل جهادي. نحن غير آسفين من هذا الموضوع فهذا الشعب له الحقّ في أن يسترجع أرضه، وأن يطرد المحتل، لكن عندما قامت الانتفاضة، أميركا اعتبرت أنّ هذا العمل من أعمال العنف ويجب أن يتوقَّف الفلسطينيون عن العنف، فيما "إسرائيل" من حقّها أن تطارد الفلسطينيين أينما كانوا، ومن حقّها أن تضربهم أينما كانوا. وقد أتى وزير الخارجية الأميركي شولتز إلى المنطقة عدّة مرّات حتى يحاصر الانتفاضة سياسياً وأمنياً من جميع الجهات، لكنَّ الانتفاضة كانت أقوى من الحصار، والظروف السياسية لم تكن تسمح بمثل هذا الحصار، فإذاً أميركا عندما تقف بكلّ هذا الوجه البشع حتّى تعطي "إسرائيل" كلّ شيء، وتمنع عن الضحايا أيّ شيء، بل إنّها تعمل سياسياً من أجل أن تربك كلّ الوضع الفلسطيني الذي يريد أن يتحرَّر، ويريد أن يتابع المسيرة من أجل أن لا يبقى هذا الكيان الإسرائيلي، ومن أجل أن تواجه كلّ المجاهدين الذين يريدون أن يقفوا ضدّ هذا الكيان الغاصب الذي يشكّل خطراً على المنطقة كلّها.
أميركا هي القوّة الكبرى التي تدعم الوجود الإسرائيلي في العالم وتسخّر كلّ سياستها في المنطقة لهذا الاتجاه، كلّنا نعرف قبل الأسبوع الماضي، في مثل هذا اليوم، قامت الطائرات الإسرائيلية بعملية إنزال في منطقة الناعمة والدامور، دمّرت وقصفت، قتل عسكريون وقتل مدنيّون، السؤال كم تبعد الناعمة عن الحدود الفلسطينية، لكن عندما قدَّم لبنان دعوة إلى مجلس الأمن لإدانة "إسرائيل" على التدمير والقصف والقتل وطلب إدانة هذا العمل وإيقاف "إسرائيل" عند حدّها، ماذا كانت النتيجة، إنَّ القرار الذي قُدِّم قابلته السفيرة الأميركية في مجلس الأمن بــ "الفيتو" لكن لماذا الفيتو؟ تقول السفيرة الأميركية إنّ مطالبة "إسرائيل" بوقف جميع هجماتها على الأراضي اللبنانية بغضّ النظر عن الاستفزازات، تعني أنّ القرار يحرم "إسرائيل" من حقّها الأساس في الدفاع عن نفسها، وهذا ما لا نستطيع قبوله، يعني وصفت السفيرة الأميركية الذين يقاومون بالعناصر المتطرّفة، ورأت أنّ استمرار هذه العناصر سواء كانت فلسطينية أو إسلامية أو وطنية باستخدام المنطقة لشنّ هجمات عدوانية ضدّ "إسرائيل" لن يؤدّي إلى عودة الاستقرار إلى جنوب لبنان، يعني إنّها تقول "لإسرائيل" اعملي ما شئتِ في ضرب كلّ مَن يحمل سلاحاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وفي وجه الغطرسة الإسرائيلية. والمطلوب هو إجراءات عملية لوقف النشاطات الإرهابية. هذا معناه أنَّ اللبنانيين عندما يحملون السلاح لدفع الاحتلال الإسرائيلي عن بلدهم، وعندما يحمل الفلسطينيون السلاح لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يصبح هؤلاء إرهابيين، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر أنّ حمل المجاهدين في الضفّة الغربية وغزّة السلاح في وجه "إسرائيل" بحسب المنطق الأميركي هو عمل إرهابي.
وداعة عرفات وغطرسة الأميركيين
ومن خلال ذلك نفهم إصرار الرئيس الأميركي ريغان على أن تدين منظّمة التحرير التي يمثّلها عرفات الإرهاب لكي يصبح بالإمكان التعامل معه، وقد كان تلميذاً وديعاً للغطرسة الأميركية حين أدان إرهاب الأفراد وإرهاب الجماعات وإرهاب القوات، وعلى هذا الأساس فإنَّ المطلوب من عرفات في المفاوضات التي تصدَّقت أميركا بها عليه، الالتزام بكلّ ما هو مطلوب أميركياً وإسرائيلياً. إنَّ واشنطن تعتبر أنّ الحوار مع عرفات لا يشكِّل مشكلة ما دام سيلتزم بأمن "إسرائيل"، وهي تقول للإسرائيليين لا تخافوا من الفلسطينيين، لا تخافوا من منظّمة التحرير لأنَّ أميركا تحمي "إسرائيل" بالكامل، ولا تقبل أن يُمسّ أمنها، وريغان قال لعرفات إنّك إذا تراجعت في أيِّ وقت عن إدانتك للإرهاب وقمت بعمل إرهابي واحد فسوف نقطع الحديث معك(1).
في الواقع أنَّ منظّمة التحرير تقوم ببعض العمليات الشكلية ضدّ الصهاينة، لكنّها لا تقوم بأيّ أعمال فعلية، ومنذ زمن تواقّفوا عن خطف الطائرات وقتل الأشخاص، فيما العكس هو السائد، فالمخابرات الإسرائيلية هي التي تنفّذ مثل هذه الأعمال. الواضح أنّ المقصود من تصريح السفيرة الأميركية الذي يعتبر أنّ كلّ خطوات المجاهدين الذين يقفون ضدّ "إسرائيل" في جنوب لبنان هي أعمال إرهابية، أن تعتبر الانتفاضة في فلسطين إرهابية، وسيطلب الأميركيون من عرفات أن يلغي الانتفاضة، وسينطلق الحكّام العرب الذين دفعوا به إلى هذا الموقع وعاش ذهنيّتهم السياسية إلى تقديم التنازلات، ليعترفوا بدولة "إسرائيل"، وبحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنَّ قضية الفلسطينيين هي قضية لاجئين حسب القرار 242.
معنى الاعتراف الفلسطيني بـــ 242
إنَّ هذا الاعتراف بالقرار 242 فيه نقطتان:
النقطة الأولى: هي إنَّ عرفات يصرِّح الآن بأنّ الفلسطينيين ما قبل 67، سواء كانوا في حيفا أو يافا أو صفد أو غيرها، ليس لهم أيّ حقّ في أرضهم، وإنَّ وجودهم في داخل أرضهم على أساس التطلُّعات المستقبلية لعودة أرضهم لهم، هذا وجود غير شرعي بفعل قرار منظّمة التحرير الفلسطينية، ومعنى هذا أنّ "إسرائيل" تقول إنَّ أوّل فلسطيني في فلسطين ما قبل الــ 67 لا يجوز له، من وجهة نظر فلسطينية، أن يخدش الأمن الإسرائيلي ولا أن يتطلَّع ولا أن يحلم بأيّ طريقة في هذا المجال، هذا معناه اعترافه بــ "إسرائيل".
النقطة الثانية: أنّ صاحبنا يريد الضفة الغربية وغزّة على أساس قبوله بقرار مجلس الأمن 242، ما هو هذا القرار؟ القرار يقول: ندعو "إسرائيل" إلى أن تنسحب من أراضٍ محتلّة، هذه (ال) التعريف بين الأراضي وأراضٍ أحدثت مشكلة في ذلك الحين، يعني لو قالت تنسحب من الأراضي المحتلة لكان معناه من كلّ الأراضي المحتلة، النحويون يقولون إنّ (ال) تفيد العموم في هذا المجال، لكن من أراضٍ احتلت يعني تنسحب من بعض الأراضي، يعني ممكن أن تنسحب من عُشر الضفة الغربية وغزّة، هذا يقصد من أراضٍ احتلت، لا ضمانات حتّى قرار مجلس الأمن ليس فيه ضمانات في عودة الضفّة الغربية وغزّة، لأنّ القرار الذي قبل به عرفات باعتبار كونه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية يفيد أنّه يقبل أن تنسحب "إسرائيل" الدولة الشرعية من بعض الأراضي الفلسطينية، وكلمة البعض قد تكون 99% وقد تكون 1%، فمعنى ذلك أنّه قدَّم اعترافاً كاملاً بـــ "إسرائيل" وبحقّها في الوجود وبوقف العمليات العسكرية باعتبارها عملاً إرهابياً، من دون أن يضمن إلاّ أنّ أميركا تتكلَّم معه، وأميركا منذ عشرات السنين وهي تتكلّم مع العرب عن حقوقهم، وعن حقوق الشعب الفلسطيني، وأصبح الكلام في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية، ووزارة الدفاع الأميركي وفي أرشيف كلّ العرب وكلّ الصحف، ولكن ماذا هناك؟ أميركا لم تتنازل. قال كيسنجر وقتها، لا بدّ من أن تعترف منظّمة التحرير بالقرارين 242 و338، وأن تدين الإرهاب وأن تعترف بحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنّها دولة شرعية، عند ذلك نتكلَّم معها، وقد قدَّمت منظّمة التحرير لأميركا كلّ شيء، وأميركا تريد أن تتكلّم معها لتتنازل معها أكثر لأنّ أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية بل تريد أن تحلّ المشكلة الإسرائيلية، وعندما تعمل "إسرائيل" على أساس أن يكون لها كلّ شيء، فمعنى ذلك أنّ أميركا سوف تعمل على أساس لا كلّ شيء، ولكن بما يشبه "الكلّ شيء"، وبطبيعة الحال فإنَّ "إسرائيل" التي تريد أن تجمع كلّ يهود المنطقة لا تكفيها فلسطين التي هي ما قبل الــ 67.
كيسنجر أبو الفتنة اللبنانية
وفي التعاطي مع المسألة الأميركية ـــ اللبنانية، أميركا منذ 14 سنة تقول نحن مع وحدة لبنان، ومع استقراره وأمنه، ولكن لتأخذ إسرائيل حريّتها سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، "إسرائيل" تدخل البلد وتعرقل الكثير من أوضاع البلد. والكثير من الدول العربية التي تدور في فلك أميركا تعمل على تهيئة المفردات السياسية والأمنية التي تتناسب مع المصالح الأميركية.
أيُّها الإخوة، نحن نعرف، أوّلاً، أنّ الفتنة اللبنانية كان أبوها كيسنجر الذي فتح بنفسه باب الفتنة من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
ثانياً، إنّ كلّ ما يدور في الدوائر الأميركية العربية في هذا المجال، هو كيف يمكن لأميركا أن ترتِّب البيت اللبناني بطريقة تستطيع أن تحتوي الواقع اللبناني السياسي كلّه، وأن تجعله خاضعاً لمخطَّطاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجيّة، وأن يبقى لبنان قاعدة لكلّ حركة المخطّطات الأميركية والمخابرات الأميركية في المنطقة، ولهذا فإنَّ الجميع أصبحوا يسبِّحون بحمد الاهتمامات الأميركية، ويجعلون في حساباتهم السياسية تواريخ قضاياهم الأساسية تابعة للتاريخ الأميركي في بعض محطّاته كالانتخابات الأميركية وتسلُّم رئيس الجمهورية الأميركية لمهمّاته، حتّى يتحرّك الحلّ، وهكذا أصبحت حتّى الذهنية السياسية التي تتحرّك في هذا الواقع، والتي من المفترض أن تكون خارج الدائرة الأميركية، أصبحت تعيش الخضوع للجوّ السياسي الأميركي حتّى يتحوّل لبنان إلى ساحة أميركية، حتّى الحروب التي ستقع في داخل الصفّ الواحد، سواء كانت حروباً سياسية أو عسكرية أو أمنية، هي حروب لمصلحة الخطّة الأميركية في أن لا يبقى هناك معارض للسياسة الأميركية، ولاسيّما الذين ينطلقون من الخطّ الإسلامي الذي يضع في مقدّمة اهتماماته وعناوينه السياسية مواجهة الاستعمار الأميركي، ولهذا فقد تجدون الكثير في الساحة من أوجه الصراع باعتبار أنّه من إفرازات الساحة، ولكنَّ المسألة ليست كذلك، فتِّش عن أميركا لأنّها في مخابراتها تعيش في غرفة رئاسة الجمهورية، وفي كثير من غرف الوزراء وفي كثير من غرف النوّاب وفي كثير من الغرف التي تتحرّك لتمثّل هذا المحور أو ذاك المحور، فتِّش عن أميركا وستعرف أنّ كلّ مشاكلنا جاءت من أميركا لا قدَّسها الله ولا جعلها الله تستقرّ في أيّ مجال.
والحمد لله رب العالمين
موقف الإسلام من الشتم
السياسي والاجتماعي(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108] وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وقد سمع قوماً من أهل العراق يسبُّون أهل الشام في أجواء القتال مع معاوية في صفّين، قال: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر فقلتم مكان سبّكم إيَّاهم اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به"(1). وفي الحديث "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله"(2).
الكلام بين اللّهو والمسؤولية
إنَّ هناك أحاديث كثيرة في هذا الجوّ توجِّه المؤمنين لئلاّ يكون لسانهم شتاماً وسباباً ولعاناً، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يتكلَّم بمسؤولية، فالكلام هو الرسول بينك وبين الآخرين، فهو الذي يعرِّف الآخرين ما عندك، ويعرّفك ما عند الآخرين، وهو الذي يعطي الصورة عن عقلك، ويعطي الصورة عن استقامتك وإيمانك، وهو الذي يعطي الصورة عن أعصابك: هل هي أعصاب متوتّرة، أم هي أعصاب عاقلة هادئة؟ وهو الذي يعرف الناس ما هي نواياك، وما هي أهدافك. لهذا فالله يريد من المؤمن أن يكون كلامه كلاماً مسؤولاً، ومعنى أن يكون الكلام مسؤولاً أنّك إذا أردت أن تتكلَّم، فعليك أن تعتبر كلامك جزءاً من عملك، وجزءاً من خطّتك، فالكلام لا بدّ من أن تكون له غاية، لماذا تتكلَّم بهذه الكلمة، ولا تتكلَّم بالكلمة الأخرى، لماذا تتكلَّم في هذا الوقت، ولا تتكلَّم في وقتٍ آخر، لماذا تتكلَّم بهذه الطريقة، ولا تتكلَّم بطريقةٍ أخرى، لماذا تكون كلمتك عنيفة، ولماذا تكون هادئة؟ لا بدّ من أن تدرس كلمتك من أين تنطلق، هل تنطلق من عقلك، أم تنطلق من انفعالاتك؟ لا بدّ من أن تدرسها جيّداً لأنَّ كلامك جزء من حركتك في الحياة وجزء من عملك، فقد ورد في حديث أمير المؤمنين (سلام الله عليه): "مَن لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه"(1).
لا تعتبر الكلام مجرّد شيء تلهو به، بل اعتبر الكلام شيئاً تتحرّك به، لا بدّ أن تدرس ذلك، وعلى هذا الأساس ففي الكلام عدّة ألوان: هناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يحلّ مشكلة، وهناك الكلام الذي يتحرّك من أجل أن يعقّد المشكلة؛ أنت كمؤمن، ماذا تختار؟ هل تختار الكلام الذي يحلّ المشاكل للنّاس، ويؤدّي بهم إلى مواقف تدعم قضاياهم، وتدعم سلامهم، وتدعم غاياتهم الكبيرة في الحياة، أم أنّك تنطلق من انفعالاتك، الناس لا يعنون لكَ شيئاً، القضايا الكبيرة في الحياة لا تمثّل لكَ شيئاً، الإسلام لا يمثّل لكَ شيئاً. إذا كنتَ مسلماً فلا يجوز أن يكون كلّ همّك أن تشفيَ غيظك. تحدَّثَ عنك شخص بكلمة، وتريد أن تردَّ الكلمة بأقسى منها، سبَّك شخص وتريد أن تسبّه بأكثر ممّا سبَّك، إذ ليست المشكلة عندك أن تكون كلمتك من قبيل عود الثقاب الذي يشعل الحطب أو أنّ كلمتك تتحرّك من أجل أن تدفع الناس إلى أن يدخلوا في لعبة الدم. تشتهي أنْ تتكلَّم، ولذلك تطلق كلامك على أساس أن يعقِّد الواقع، أو تطلق كلامك على أساس أن تشفيَ غيظك، ولا تفكّر هل سيعقّد كلامك الواقع، ولاسيّما إذا كنت إنساناً مسؤولاً، ينتظر الناس كلمته من أجل أن يتحرَّكوا معها، وأن تثور أعصابهم إذا كانت الكلمة تثير الأعصاب، أو يحرِّكوا سيوفهم في اتجاه الفتنة إذا كانت الكلمة تثير الفتنة، أو ما إلى ذلك، فإنَّ المسؤولية تكون أكبر، وإنَّ النتائج السلبية تكون أخطر، فهناك فرق بين أن يتكلّم الإنسان العادي بانفعال، وبين أنْ يتكلَّم المسؤول بانفعال، فرق بين أن يكون الفرد العادي يريد أن يشفي غيظه فقد يشفي غيظه بمشكلة بينه وبين فرد آخر، يستطيع الناس حلّها كأيّة مشكلة صغيرة في المجتمع، ولكنَّ المسؤول عندما يشفي غيظه فإنَّ المشكلة تتوسَّع ويعجز الناس عن حلّها، وقد تؤدّي نتائجها السلبية إلى شيءٍ كبير يقف الناس كلّهم ليواجهوه.
موقف الإسلام من الكلام
لقد كان الإسلام واضحاً في هذه المسألة، الإسلام يمنعك من أن تشفيَ غيظك بالكلام، إلاّ إذا عرفت أنّ ذلك لا يؤدّي إلى أيّة مشكلة، ولو صغيرة، وقولا للنّاس حسناً، قولوا للنّاس الكلمة الطيّبة، كما تريدون أن يقولوا لكم حسناً {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت : 34]. قل للنّاس الكلمة التي تفتح قلوبهم عليك، وتفتح عقولكم عليك، وتفتح حياتهم عليك، وتفتح مواقفهم على مواقفك، قد لا تطيق ذلك ولكن الله يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت : 35] اضبط أعصابك، اصبر على كلّ التوتّر العصبي الذي يحاول الآخرون أن يثيروك من خلاله، اصبر على ذلك كلّه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت : 35] إنَّ العداوة مرض، وكما تصبر أنت على مرضك مدّة طويلة في انتظار الشفاء، فعليك أن تصبر على العداوة مدّة طويلة حتّى تشفيَ الآخرين من مرض العداوة. القصّة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى حظّ عظيم، هذا هو المنهج الإسلامي الذي يريد الله للمسلم أن يتربّى عليه، ويريد للداعية أن يتربَّى عليه، ويريد للعالم أن يتربَّى عليه، عندما يجادل الناس {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...} [النحل : 125] ويريد للمسؤول أيضاً أن يفكّر في كلمته قبل أن يقولها، لأنَّ الله يحمِّل المسؤول كلّ نتائج الكلمة، فلو أعطت الكلمة وضعاً يؤدّي إلى الدماء، وكان يمكن أن تحجبها كلمة أخرى، ولو أدَّت الكلمة إلى فتنة وكان يمكن أن تجمِّدها كلمة أخرى، فإنَّ الله سيحاسب هذا المسؤول أو ذاك على ما أساء به إلى المجتمع من خلال كلمته، والله أعطاك كلّ القوّة في أن تقيِّد كلماتك، أعطاك العقل، وأعطاك الوسائل التي تستطيع أن تمنع فيها كلمتك من أن تتحرّك في غير الاتجاه الذي يتناسب مع إيمانك "الكلام في وثاقك فإذا تكلَّمت به صرتَ في وثاقه" قبل أن تتكلَّم أنتَ الذي يملك القيد الذي يقيّد الكلمة حتّى لا تأخذ حريّتها، ولكن عندما تقول الكلمة وتفعل فعلها، فإنّك لا تستطيع أن تهرب منها، لأنّها قيَّدتك، أصبحت كلمتك قيداً لك، أصبح توقيعك قيداً لك، ولهذا لا بدّ أن تتحمَّل المسؤولية.
الإمام عليّ (سلام الله عليه) يفرِّق بين الأحمق وبين العاقل بالكلمة فيقول: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا كيف ذلك يا أمير المؤمنين، والقلب معروف بمكان واللّسان بمكان، المقصود هو القلب المعنوي، الحالة المعنوية، الأحمق هو الذي إذا خطرت له الكلمة تكلّمها، فإذا فعلت فعلها في الواقع بدأ يفكّر بها، كيف تكلّمت، الكلمة أنتجت ناتجاً سيّئاً أربكت مصالح الناس من حوله، فلسانه هو القيادة وعقله جندي من جنود هذه القيادة، يعي لسانه هو الذي يحرِّك عقله.
كثير من الناس يتكلَّمون بدون أنْ يفكِّروا، أمّا العاقل فلا، فلسان العاقل وراء قلبه، العاقل يعتبر أنّ العقل هو سيّد كلّ الأعضاء، هو سيّد حركة الإنسان، سيّد كلّ الأوضاع التي يتّخذها الإنسان، اليد تأخذ الأوامر من العقل إذا أرادت أن تتحرَّك وكذلك الرجل واللّسان أيضاً، فالعاقل يفكّر في نتائج الكلمة قبل أن ينطقها، فإذا رأى نتائجها خيّرة ألقاها، وإذا رأى أنّ الكلمة يمكن أن تربك حياة الناس، وتخلق الفتنة بين الناس، وتؤدّي إلى دمار القضايا الكبرى، عند ذلك يقول للسانه أمسك نفسك. هذا هو الفرق؛ فاللّسان جندي من جنود العقل والعقل هو القائد، أمّا عند الأحمق فاللّسان هو القيادة والعقل وغيره من الأعضاء هي الجنود.
هناك بعض الكلمات التي تقال بطريقة المثل، وتقديم الصورة عن الموضوع ففي هذه الصورة يطلّ اللّسان صباح كلّ يوم وقبل أن يتكلَّم يسأل الأعضاء الأخرى العين، الأذن اليدين، الرجلين... يسألهم جميعاً عن أحوالهم فيقولون "نحن بخير ما تركتنا" العين تبقى صالحة، والأذن صالحة، واليد أيضاً لا تنكسر، والرجل لا تنكسر ولا يتعطَّل أو يتخرَّب أيّ شيء، إذا بقيت أيُّها اللّسان عاقلاً، إذا لم تشاغب، نحن بخير لأنَّ مشكلتنا في كثير من الحالات من عندك، تحكي الكلمة ونحن نتحمل النتائج.
"وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم"(1) هذا الجوّ هو الذي يريدنا الإسلام أن نعيشه؛ أن تكون الكلمة عندنا مسؤولة نفكّر في خلفياتها، على أيّ أساس نتكلَّم، لأنَّ الله مطّلع على خفايا نفوسنا، هل نريد بهذه الكلمة خيراً، أم نريد بها شرّاً، فبعض كلمات الخير قد يراد بها الشرّ، وبعض كلمات الحقّ قد يراد بها الباطل، ثمّ ندرس نتائجها في الواقع الاجتماعي، وفي الواقع السياسي الذي نعيشه.
يجب أن تدرس الأرض، الكلمة عندما تسقط من لسانك على الأرض. والمقصود بالأرض الذهنية، الناس، العقليات، المشاعر، إذا كان الجوّ كلّه قابلاً للاشتعال فمعنى ذلك أنّك تحرق الجوّ بكلمتك، وأنّك تثير المشكلة بكلمتك.
السباب لغة المتخلِّفين
لا بدّ من ملاحظة هذا الموضوع من أساسه وبشكلٍ عميق جداً ومن ناحية ثانية، الإسلام يعالج القضية بطريقة أخرى يعني أنتَ الآن تسبّ، لغة السباب هي اللّغة التي تعيش في كثير من المجتمعات المتخلِّفة، السبّ عادة يكون لتفجير الغيظ، ولكن ما هي نتائج هذا السبّ؟ أنتَ تسبّ، والآخرون قادرون على أن يسبّوا، أليس كذلك قال الشاعر:
لسانُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ فكلُّك عوراتٌ وللنّاسِ ألسنُ
لستَ وحدك الذي عندك لسان، ولا الناس الذين تسبّهم وحدهم عندهم عيوب ونقاط ضعف. أنتَ عندما تسبّ إنساناً فستكون النتيجة أن يسبّك، وعندما تسبّ والدَيْ إنسان، فسيسبّ ذلك الإنسان والديك، وقد ورد في الحديث سؤال: أيّكم يسبّ والديه، قالوا لا أحد منّا يسبّ والديه، نحن نحترم آباءنا. قال إنّكم تسبّون آباء الناس فيسبّون آباءكم وبذلك تكونون السبب في ذلك. والله سبحانه وتعالى عرَّفنا إيّاها في الدائرة الأوسع، دائرة الذين نختلف معهم في العقيدة، هؤلاء الذين يعبدون غير الله أو يلتزمون نهجاً غير نهج الحقّ، كيف تحاورهم، كيف تواجههم، هل تواجههم بالسبّ، ما الفائدة، هل تهديهم إلى سواء السبيل فتجعلهم مؤمنين إذا كانوا كافرين. هل عندما تسبّهم وتسبّ مقدّساتهم تجعلهم مهتدين إذا كانوا ضالّين. عندما تسبّ لهم رموز الضلال عندهم فإنّك تزيدهم تعصُّباً لأنَّ كلّ إنسان عندما تهاجم ما يحبّ بطريقة فجّة، فإنّه يبادر إلى أن يعتبر المسألة إساءة له، فيحاول أن يسبّ مَن تلتزم به، ومَن تقدِّسه وتحترمه، ويريد أن يؤذيك كما آذيته، ويريد أن يسيء إليك كما أسأت إليه.
كيف نتعامل مع الشتم
إنَّ الله جعل من غرائزنا الطبيعية أنّ الإنسان يتعصَّب لعمله، ويتعصَّب للرموز التي تمثّلها {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} الله يقول: هذه المعادلة من أين تأتي، إنّك إذا سببت هؤلاء فإنّهم سيسبُّون الله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام : 108] كلّ إنسان يعتبر أنّ الحقّ معه، فعندما تأتي وتصدمه رأساً، تقول له يا زنديق، يا كافر، وتسبّ له مقدّساته كلّها، إذا أطلقت عليه رصاصة، فسوف يطلق عليك رصاصة، الكلمة التي تريد أن توجّهها لإنسان في ما يحترمه ويقدّسه دون سابق إنذار، هذه الكلمة رصاصة، ولكن رصاصة معنوية، الرصاص يصيب الجسد، والكلمة تصيب الكرامة، إذا استثرت كرامته فإنّه سيثور، وإذا ثار فإنَّ طريقته هي الثورة هي أن يبادلك بمثل ما بادرته به، فيسبّ الله إذا كان كافراً وكنتَ مؤمناً، {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} إنّه سبّ لا يفيد، بل يعقّد، لكن يمكنك أن تقول يا فلان تعال نتفاهم، بَرِّد عقلك وأعصابك، وسأُبَرِّد أنا عقلي وأعصابي. الإمام عليّ (عليه السلام) يمثّل لنا الخطّ، يقول: "إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبّابين ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر"(1).
إذاً، قل الكلمة التي تكون حجّة لك، وقل الكلمة التي تكون صواباً ثمّ لا تكن روحيّتك تجاه الناس الذين تختلف معهم روحاً تدميرية ولاسيّما إذا كانت الخلافات في دائرة واحدة، دائرة يؤمن أفرادها بالله ويختلفون بالطرق التي تؤدّي إلى الله، أو يختلفون في طريق الاستقامة والانحراف، لا تكن روحك روح الإنسان الذي يشتهي الفتنة أو يشتهي الحرب أو يشتهي التدمير، لتكن روحك روح الإنسان الذي ينظر إلى مَن يختلف معه نظرة عطف وإشفاق ورثاء وأمل كبير، بأنْ تنفتح عليه وينفتح عليك في المستقبل.
"وقولوا مكان سبّكم إيّاهم"، وكان أهل الشام يقاتلون أهل العراق، وأهل العراق يقاتلون أهل الشام، ولم يكن عليّ (عليه السلام) يدفع الحرب، عندما دفع أهل العراق إلى أن يحاربوا أهل الشام، طلباً للسلطة لمجرّد أن يتسلَّط على الناس، ولم يدفع عليّ (عليه السلام) الحرب لأنّه من الشجعان الذين يحبُّون أن يديروا الحرب، ويحرِّكوا القتال. كان عليّ (عليه السلام) صاحب رسالة، وكان يعتبر الحكم مسؤولية، وكان يرى أنّ معاوية عندما يتمرَّد على الحكم الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنَّ معاوية يريد أن يربك الحياة الإسلامية، ويريد أن يتحرّك في الاتجاه الذي يعمل من خلاله على تهديم القواعد الأساسية للإسلام وللمسلمين، ولذلك دفع عليّ (عليه السلام) الحرب من أجل الوصول إلى هذه النتائج التي هي حقّ. وكان عليّ (عليه السلام) يردِّد "فوالله ما دفعت الحرب يوماً، إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها وإنْ كانت تبوء بآثامها"(1). عليٌّ يقول إنّي أُقاتل عندما يكون ضغط القرار القتال، إنَّ هدفي أن أجتذب الناس إلى الحقّ قبل أن أُقاتلهم، إنَّ القتال ليس هدفاً من خلال الانفعالات، وأن لا نعيش روح التدمير للآخرين، ويضيف "وقولوا مكان سبّكم إيّاهم، ربّنا احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ مَن جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لَهِجَ به" هذه الروحية، حتّى وأنتَ تواجه ساحة الصراع، لا تكن روحك تدميرية، لتكن روحك إصلاحية وسلمية، وعليك أن تنتهز أيَّ فرصة تمكِّن الناس من الانفتاح على السلام ضمن معيار الحقّ والعدل.
ولهذا أرادنا الله دائماً أن نتكلَّم الكلمة الطيّبة من أجل أن نشارك في إيجاد العلاقات على هذا الأساس، وحتّى عندما أرادنا أن نجادل قال، إنّك تجادل الناس لا لتسجِّل نقطة عليهم، ولكنّك تجادل الناس لتهديهم إلى سواء السبيل، ولهذا حاول أن تقول الكلمة الأحسن حتّى تفتح الطريق إلى عقل الناس، وهذا في كلّ المجالات، سواء في البيت، أو في الشارع، أو في ساحة العمل السياسي والاجتماعي، أن يكون مجتمعنا مجتمع الكلمة الطيّبة، لا مجتمع الكلمة الخبيثة، إنّك إذا ربحت إنساناً بصبرك عليه حتّى استطعت أن تجتذبه إلى الحقّ، فإنَّ معنى ذلك أنّك استطعت أن تركِّز في حياة هذا الإنسان وفي مجتمعه قاعدة للحقّ، إذا أقنعته بالحقّ فيكون ابنه مع الحقّ، وأخوه مع الحقّ، وأبوه مع الحقّ، سيكون عنصراً يتجذَّر في حياة الحقّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 24 ـــ 26] لهذا لا بدّ من أنْ نربّيَ أنفسنا على أنْ لا يكون السبّ هو أسلوبنا في حلّ الخلافات والأوضاع السلبية التي تعيش في مجتمعنا، ثمّ يجب أن نعرف أنّ السبّ في الدائرة الإيمانية والإسلامية حرام. كلّ سبّ يصدر منك فهو معصية. إنَّ بعض الناس، يعتقد أنّه يستطيع أن يسبّ زوجته لأنّه اشتراها بالمال، دفع مهرها وخصوصاً إذا كان المهر ثميناً، أو أنّ الأب حرٌّ في أن يسبّ ابنه وصاحب العمل يسبّ العمّال لأنّه يعتبرهم عبيداً، كلا، كلّ سبّ، كلّ كلمة سبّ لزوجتك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لولدك فهي معصية، وكلّ كلمة سبّ لعمّالك فهي معصية، لا يجوز ذلك، ويجب أن تستغفر الله بعد ذلك.
الحديث الشريف يقول: "إيَّاكم ومحقرات الذنوب"(1) البعض يقول: أنا لم أفعل شيئاً، أن مؤمن، أُصلّي من الصباح إلى اللّيل في المسجد، وأقرأ الأدعية، وقمت بالحجّ والعمرة، ولكنّه سيّئ الخُلق مع أهله، يصل يوم القيامة وليس عنده من الأعمال الحسنة شيء. صحيح أنّه قام بالعبادات، لكن في دفتر أعماله يوجد عشرة ملايين كلمة سبّ، ماذا يخلّصه، والسبّ هذا من حقوق الناس، إذا لم يسامحك الذين شتمتهم فإنَّ الله سيأخذ لهم بالحقّ منك، لا تستصغروا ذلك.
الشتم وحقوق الناس
مشكلتنا أنّنا نفكِّر في الأمور بتوتُّر، إنَّنا نريد أن نركِّز هذه النقطة، حتى نصل إلى مرحلة الأُمّة المهذّبة في اجتماعها، التي تملك نظافة اللّسان، وتمارس عملية احترام الناس بعضهم لبعض، السبّ لا يمثّل حالة احترام. ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا كمؤمنين، أن لا نزيد العداوة بين الناس، عندما يصبح الناس أعداءك لأنّك مؤمن، هنا المسألة ليست مسؤوليّتك، ليس ذنبك إن عاداك الآخرون لأنّك إنسان شريف، بل تتحمَّل المسؤولية إذا صاروا أعداءك لأنّك تسبّهم، وتشتمهم، وتتكلَّم عليهم بدون حقّ.
جاء رجل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يروى عنه قال: يا رسول الله أوصني قال له: "لا تسبّ الناس فتكتسب العداوة منهم"(2) هذه وصيّة: إنّك عندما تعيش مع الناس؛ مع زوجتك، مع أهلك، مع أولادك، مع عمَّالك، مع كلّ الناس، عندما تعيش معهم لا تسبّهم لأنّك إذا سببتهم فسيقسو قلبهم عليك وسيتحوّلون إلى أعداء لك، لأنَّ الإنسان يعادي مَن يسيء إلى كرامته، ومن يضغط على حريّاته. هناك فرق بين شخص يتكلّم مع زوجته بالكلام اللّطيف، وآخر يتكلّم مع زوجته بالكلام القاسي، شعور هذه الزوجة اتّجاه زوجها عندما يتكلَّم كلاماً لطيفاً يختلف عن الأخرى. هناك فرق بين أن تعيش مع إنسان تضطهده، يخدمك غصباً عنه، هو لا يطيقك، ولكنَّ الحياة تفرض عليه أن يعيش معك، وبين أن تعيش مع إنسان يخدمك من كلّ قلبه، يعمل لك من كلّ قلبه، لأنّه يراك تحترمه، ويراك تفتح له قلبك. لماذا نحاول أن نعمل بكلّ ما عندنا، ليكرهنا الناس، لماذا يكون بعض الآباء مشكلة لأبنائهم، وبعض الأزواج مشكلة لزوجاتهم، وبعض أصحاب العمل مشكلة لعمَّالهم؟ لأنّهم سيِّئو الأخلاق.
ذكر أنّ بعض الزعماء السابقين حين كان يصرخ لإنسان يا فلان، فلم يجبه، يا فلان لم يجبه، قال له أَلَمْ تسمع، قال لا إنّك تقول يا فلان، وأنا دائماً ينادونني "ولا"، فأنتَ لو قلت لي "ولا" لأجبتك لأنَّ هذا اسمي الذي أعرفه، اسمي الذي سمّاني إيّاه أبي وأُمّي لقد نسيته. بعض أصحاب العمل هكذا، وبعض الآباء هكذا ينادي ابنه بالمسبّة، ينادي زوجته بالمسبّة، ينادي عامله بالمسبّة، لماذا؟ ماذا يخسر الإنسان بالكلمة الطيّبة، لماذا نُبغّض أنفسنا للنّاس بهذه الطريقة، بعض الأولاد لا يستطيعون أن يردّوا إذا كان أبوهم قاسياً، الزوج إذا كان قاسياً فالزوجة لا تقدر أن تردّ عليه، العمّال أيضاً، لئلا يخسروا لقمة عيشهم، مضطرّون لأنْ يتحمَّلوا هذا الواقع.
هناك نقطة يجب أن نفهمها، أيُّها الإخوة، الأب، الزوج، صاحب العمل، المسؤول الذي يدير جماعة من الناس، إنَّ الله لم يسلِّط إنساناً على إنسان، أن يسيء إلى كرامته، هذا صاحب عمل وهذا عامل، أنتَ إنسان وهو إنسان، لا فرق بين أن تسيء إليه أو أن يسيء إليك، لماذا لا تتحمّل أن يسيء إليك، كذلك أنتَ زوج وهذه زوجة، الله جعل للزوج على الزوجة حقّاً معنوياً، ولكن بعض الأزواج يقولون: ما دام لي حقّ يجب أن أُلغي كلّ إنسانية المرأة، لا.. أنتَ كزوج، في الإنسانية، لا فرق بينك وبين زوجتك {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] في الطلاق، وفي مسألة الحقّ الزوجي الخاص، أمّا في الأشياء الأخرى فلا يوجد فرق بين أن تسبّ زوجتك وتسبّ زوجة جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ ابنك أو تسبّ ابن جارك، ليس هناك فرق بين أن تسبّ عاملك أو عاملاً في مصنع آخر، ليس هناك فرق بين أن تسبّ موظّفاً عندك أو موظّفاً عند شخصٍ آخر. حقوق الأبوّة والبُنوّة، الحقوق الزوجية، حقوق العمل، حقوق المسؤولية، الوظيفة، لا تجعل لكَ سلطة إلاّ من خلال ما لكَ من حقّ تفرضه هذه العلاقة، لهذا إنَّ الله سيعاقب كثيراً من الآباء الذين يضطهدون أولادهم ويسيؤون إليهم بغير حقّ، وسيعاقب كثيراً من الأزواج وسيعاقب كثيراً من أصحاب العمل، وأصحاب المسؤوليات، لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...} [غافر : 17].
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهُمَزَة : 1] مَن هو الهُمَزَة، هو الشخص الذي يطعن الناس، ومن وسائل الطعن السّب والشتم، وفي بعض الحالات قد يصبح السّب مضاعفاً، إذا اختلفت مع شخص فما ذنب أبيه أو أُمّه أو عشيرته؟ شرعاً، هو أساءَ لك فلماذا تسيء لأبيه؟ القضايا الشرعية في هذه الأمور دقيقة جداً، لهذا لا بدّ للإنسان من أن يواجه المسألة بطريقة شرعية، يحاول فيها أن يضغط على أعصابه، وأن يضغط على لسانه في ذلك كلّه.
لتكن وسائل الصراع مهذّبة
وهكذا ينبغي لنا أن نتحرّك في هذا الموضوع، سواء على الصعيد الفردي، أو على الصعيد الاجتماعي، في الحالات التي تختلف الجماعات بعضها مع بعض، ولاسيّما إذا كان الاختلاف في الصراع السياسي، فلا بدّ من أن تكون وسائل الصراع وسائل مهذّبة ومعقولة حتّى يمكن أن نصل في كلّ صراعاتنا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، النتائج الكبيرة في الحياة، ويكون البرنامج عندنا هو برنامج عليّ بن أبي طالب (سلام الله عليه) "لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم" من حقّك أن تصارع ومن حقّك أن تختلف مع الآخرين، ومن حقّك أن تدافع عن وجهة نظرك، ومن حقّك أن تبدي الأُسس التي تؤكّد وجهة نظرك، من حقّك ذلك لأنَّ الله جعل لكلّ صاحب حقّ أن يكون له الحقّ في المقال، ولهذا لم يجوّز الله للإنسان أن يتكلّم بالسوء إلاّ إذا كان مظلوماً، عندما يكون الكلام بالسوء دفاعاً عن ظلامته، ولكن أن يتكلَّم بحيث لا يتحوَّل إلى ظالم {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء : 148] لكنَّ عندنا حديثاً يقول "الدُّعاء على الظالم حتى يصير ظالماً"(1). لا بدّ من أن يكون المسؤولون قدوة لغيرهم، لأنَّ المشكلة في كثير من الناس أنّهم إذا أطلقوا السباب كعنوان لطريقتهم في الصراع، فإنَّ كلّ الناس الذين يتبعونهم يتحوّلون إلى سبَّابين، يستهلكون كلماتهم وربّما يزيدون عليها لأنّهم يعتبرون ذلك ضوءً أخضر، مثلما يقول الشاعر:
إذا كان ربُّ البيتِ بالطبلِ ضارباً فشيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهمُ الرَّقصُ
الإنسان المسؤول يتحمّل كلّ النتائج التي تصدر عن عمله في ما ينعكس من عمله على الناس الذين يتبعونه في الحياة، هكذا يجب أن نفكِّر حتّى لا نقع في المشاكل الكثيرة.
في بعض الحالات أنتَ تسبّ نفسك عندما تسبّ الآخرين، عندنا حديث يقول: "إنَّ اللّعنة إذا خرجت من صاحبها تردَّدت بينه وبين الذي يلعنه"(2) فاحذروا أن تلعنوا مؤمناً فيحلّ بكم بغي. فاللّعنة لا تنطلق مباشرة إلى الشخص وتلتصق به بل تقف في الطريق تنظر إليه، هل هذا الشخص يستحق اللّعنة أم لا، إذا كان يستحقّها تنطلق بسرعة، وتلتصق به، وإذا كان لا يستحقّها عند ذلك اللّعنة تخاف الله، ترجع إلى صاحبها، لأنَّ مَن يلعن الناس بدون حقّ يجب أن يكون هو الملعون. وهناك حديث عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "إنّي لم أبعث عذاباً وإنّما بعثت رحمة للعالمين"(3). وقال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران : 159] هذا هو الأسلوب الذي يجب أن ننطلق فيه في العلاقات الاجتماعية والعلاقات العامّة.
متى يكون الشتم مشروعاً؟
ربّما يكون السبُّ أو اللّعن في بعض الحالات وسيلة من وسائل قهر الظالمين، وإبعاد الناس عنهم، فيصبح مجرّد أداة من أدوات منع الظلم والطغيان، مثلاً قال الله عن جماعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب : 57] باعتبار أنّهم يساهمون في الوقوف ضدّ الله وضدّ رسوله، مثلاً الذين يتّهمون النساء المحصنات فلانة انحرفت، فلانة ليست "آدميّة" فلانة كذا وهي ليست هكذا أو لا يعلم منها ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور : 23] هذه أيضاً يجب أن تنتبهوا لها، فلعنة الله تجعل القضية صعبة في المجالات العامّة، إنَّ علينا أن نقدِّر الأمور بقدرها، وأن ندرسها من خلال موازينها الحقيقية، وموازينها الشرعية على أساس أن ننطلق لنؤكّد إسلاميّتنا في أخلاقنا، سواء في كلامنا أو في أفعالنا، لأنَّ الإنسان الذي يقف أمام ضغوط تريد أن تطبق عليه وتريد أن تلغيه وتريد أن تصادر كلّ واقعه، وليس عنده وسيلة للتخفيف من ضغط ذلك عليه إلاّ ببعض الكلمات، عند ذلك تكون القضية من باب الدفاع عن القضايا العامّة والقضايا الكبيرة كما في كثير من أوضاع الواقع التي نعيشها في حياتنا العامّة. عندما نواجه الذين يعملون على أساس أن يسقطوا قوّة المسلمين وقوّة المؤمنين وقوّة المستضعفين على أساس الواقع الذي تفرضه القوى الاستكبارية في العالم، ففي هذه الحال لا بدّ للمجتمع المسلم المؤمن من أن يستخدم كلّ ما عنده من وسائل في سبيل الوصول إلى النتائج الكبيرة في مواجهة الظلم والظالمين.
هناك كثير من الوسائل لا تكون مشروعة في ذاتها ولكنّها تكون مشروعة في بعض الظروف الاضطرارية التي لا يملك الإنسان فيها أيّة فرصة للدفاع عن الإسلام والمسلمين، عند ذلك الله يقول: {... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة : 173] ما من شيء إلاَّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه. فلهذا نحن كنّا دائماً نؤكّد ضرورة أن نواجه الظلم كلّه وأن نواجه الاستكبار كلّه، وأن نواجه كلّ الذين يريدون أن يسقطوا الحقوق العامّة للناس ليسيطروا على الناس من أجل خدمة مخطَّطاتهم ومصالحهم وأوضاعهم. قد يتحدّث بعض الناس عن الإسلاميين بأنّهم يعيشون عقدة أميركا دائماً، يتكلَّمون على أميركا، مثلاً الإمام الخميني (حفظه الله) عبَّر عن أميركا بالشيطان الأكبر، وكذلك الإسلاميون في كلّ مجال يتحدّثون عن أميركا على أنّها الشرّ الذي يوزّع كلّ مشاكله على العالَم. بعض الناس يقول ربّما أنتم "تزيدونها" لأنَّ أميركا دولة كبيرة لها مصالح، فمن الطبيعي أن تحافظ على مصالحها ومن الطبيعي أن تحافظ على أمنها، وما إلى ذلك من كلام. لكنَّ بعض القضايا دائماً قد تحتاج إلى دراسة، نحن نعرف أنّ كلّ العالم سواء كان في دائرة القوى الكبيرة أو دائرة القوى الصغيرة، كلّ العالم عنده مصالح، ولكن الدول الكبرى تعمل على أن تصادر حريّات الدول الصغرى، واقتصاد الدول الصغرى، وتصادر سياسات الدول الأخرى حتّى تكون الدول الصغرى مجرّد سوق استهلاكية لمنتجات هذه الدول الكبرى، وحتّى تكون سياستها على هامش سياسة الدول الكبرى، وحتّى يكون وجودها تابعاً لوجود تلك الدول. المشكلة بين الدول الكبرى والدول الصغرى هي المشكلة بين المستكبرين والمستضعفين؛ المستكبرون يريدون أن يفرضوا كلّ وجودهم وكلّ واقعهم على المستضعفين، هنا في هذا المجال صحيح أنّ للدول الكبرى مصالح، ولكنّ هناك فرقاً بين أن نحافظ على مصالحهم ليحافظوا على مصالحنا، وهذا الأمر ليس مشكلة، لكن أن يصادروا مصالحنا ويمنعونا من أن نسيء أو نخدش مصالحهم، هذه معادلة غير طبيعيّة.
أميركا والقضية الفلسطينية
الآن ندرس المسألة التي يضجّ بها العالم، المسألة الفلسطينية؛ قبل العام 1947 كانت فلسطين تضمّ أقليّة يهودية وتضمّ أكثرية إسلامية إلى جانب أقليّة مسيحية، ثمّ ماذا حدث، حدث أنّ بريطانيا التي كانت تمثّل الدولة التي تستعمر هذه المنطقة مع فرنسا(1)، عملت بالاتّفاق مع اليهود ومع بعض الدول الكبرى على أن تُسَلِّم فلسطين لليهود(2)، وأن تعمل على غضّ النظر عن كلّ المذابح الوحشية التي قام بها اليهود في فلسطين، حتى يُهَجِّروا الفلسطينيين ثمّ بعد ذلك ودفعة واحدة، اعترف العالم بواسطة ضغط الدول الكبرى "بإسرائيل" وكانت أوّل الدول التي اعترفت بـــ "إسرائيل" هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى جانب فرنسا وبريطانيا. وبعد ذلك أصبحت "إسرائيل" الدولة الشرعية في فلسطين، وأصبح الوجود الفلسطيني لا يملك شرعية، وبعد ذلك انتقلت الضفّة الغربية وغزّة إلى السيطرة الأردنية.
في عام 1967 سيطر الصهاينة على الضفّة الغربية وغزّة. العالم لم يعترف بضم الضفّة الغربية وغزّة إلى فلسطين، ولكنَّ العالم وفي مقدّمته أميركا عمل على أن يتأصَّل هذا الاحتلال اليهودي الإسرائيلي بهذه المنطقة بحيث إِنّها لم تحرِّك ساكناً بل عملت بكلّ قوّتها على دعم هذا الاحتلال إرضاءً لليهود في انتظار أن تأتي متغيّرات مستقبليّة تفتح المجال لضمّ الضفة الغربية وغزّة إلى دولة "إسرائيل" وهكذا عندما احتلت "إسرائيل" الجولان لم تحرِّك أميركا ساكناً، وعندما دخلت "إسرائيل" إلى لبنان واحتلته احتلالاً كاملاً في بعض مناطقه، واحتلالاً مقطّعاً في بعض مناطقه أيضاً لم تحرِّك أميركا ساكناً، ماذا نسمّي ذلك؟ عندما يُطرد شعب بأكمله من أرضه ثمّ بعد ذلك تمنعه من أن يسترجع بلده في المنطقة التي لا يعترف العالَم بأنّها منطقة إسرائيلية؟
إنَّ أغلب الدول في العالم ربّما كانت لها مواقف مغايرة للموقف الأميركي، ولكنّ أميركا تضغط عليها حتّى تظلّ سائرة في سياستها. لقد أعلنت أميركا أنّها تلتزم أمن "إسرائيل" بالكامل، وأنّها مستعدّة لأن تدخل حرباً عالمية ثالثة إذا تعرَّض أمن "إسرائيل" للخطر. أمّا أمن الدول العربية، وأمن الشعوب العربية، وأمن الشعوب المسلمة، هذا الأمن لا بدّ من أن يكون على هامش الأمن الإسرائيلي. أميركا تتدخَّل لدى كثير من الدول لتمنع تصدير السلاح إلى أيّ دولة عربية حتّى لو كانت من حلفائها، إلاّ إذا جاء السلاح ضمن قيود محكمة أن لا تحارب به "إسرائيل". كلّ السلاح العربي سواء كان مستورداً من أميركا، أو من حلفائها، هناك شرط أساسي أن لا يستخدم ضدّ "إسرائيل"، وحتى نوعية السلاح لا بدّ أن تكون بطريقة لا تهدِّد السلاح النوعي الموجود مع "إسرائيل". هذا واقع أميركا التي تقف لتواجه بقرار "الفيتو" كلّ قرار يدين "إسرائيل" ولو اسمياً في مجلس الأمن لأنَّ للمسألة جانبها المعنوي، حتّى هذا الجانب أميركا لا تسمح به بالنسبة إلى الانتفاضة.
لو كنّا لا نريد التحدّث عن فلسطين الــ 47 أو الــ 48، ولا عن فلسطين ما قبل 67، بل عن فلسطين ما بعد الــ 67، ومع ذلك أميركا غير مستعدّة للاعتراف بأنَّ من حقّ هذا الشعب أن يثور. أميركا الآن تعمل بكلّ ما عندها من طاقة في سبيل القضية الأفغانية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وتعتبر أنّ ما يقوم به المجاهدون الأفغان ضدّ الاتحاد السوفياتي من عمليات تفجيرية أو اغتيالات أو أيّ شيء، تعتبر أنّ هذا عمل تحرُّري وعمل جهادي. نحن غير آسفين من هذا الموضوع فهذا الشعب له الحقّ في أن يسترجع أرضه، وأن يطرد المحتل، لكن عندما قامت الانتفاضة، أميركا اعتبرت أنّ هذا العمل من أعمال العنف ويجب أن يتوقَّف الفلسطينيون عن العنف، فيما "إسرائيل" من حقّها أن تطارد الفلسطينيين أينما كانوا، ومن حقّها أن تضربهم أينما كانوا. وقد أتى وزير الخارجية الأميركي شولتز إلى المنطقة عدّة مرّات حتى يحاصر الانتفاضة سياسياً وأمنياً من جميع الجهات، لكنَّ الانتفاضة كانت أقوى من الحصار، والظروف السياسية لم تكن تسمح بمثل هذا الحصار، فإذاً أميركا عندما تقف بكلّ هذا الوجه البشع حتّى تعطي "إسرائيل" كلّ شيء، وتمنع عن الضحايا أيّ شيء، بل إنّها تعمل سياسياً من أجل أن تربك كلّ الوضع الفلسطيني الذي يريد أن يتحرَّر، ويريد أن يتابع المسيرة من أجل أن لا يبقى هذا الكيان الإسرائيلي، ومن أجل أن تواجه كلّ المجاهدين الذين يريدون أن يقفوا ضدّ هذا الكيان الغاصب الذي يشكّل خطراً على المنطقة كلّها.
أميركا هي القوّة الكبرى التي تدعم الوجود الإسرائيلي في العالم وتسخّر كلّ سياستها في المنطقة لهذا الاتجاه، كلّنا نعرف قبل الأسبوع الماضي، في مثل هذا اليوم، قامت الطائرات الإسرائيلية بعملية إنزال في منطقة الناعمة والدامور، دمّرت وقصفت، قتل عسكريون وقتل مدنيّون، السؤال كم تبعد الناعمة عن الحدود الفلسطينية، لكن عندما قدَّم لبنان دعوة إلى مجلس الأمن لإدانة "إسرائيل" على التدمير والقصف والقتل وطلب إدانة هذا العمل وإيقاف "إسرائيل" عند حدّها، ماذا كانت النتيجة، إنَّ القرار الذي قُدِّم قابلته السفيرة الأميركية في مجلس الأمن بــ "الفيتو" لكن لماذا الفيتو؟ تقول السفيرة الأميركية إنّ مطالبة "إسرائيل" بوقف جميع هجماتها على الأراضي اللبنانية بغضّ النظر عن الاستفزازات، تعني أنّ القرار يحرم "إسرائيل" من حقّها الأساس في الدفاع عن نفسها، وهذا ما لا نستطيع قبوله، يعني وصفت السفيرة الأميركية الذين يقاومون بالعناصر المتطرّفة، ورأت أنّ استمرار هذه العناصر سواء كانت فلسطينية أو إسلامية أو وطنية باستخدام المنطقة لشنّ هجمات عدوانية ضدّ "إسرائيل" لن يؤدّي إلى عودة الاستقرار إلى جنوب لبنان، يعني إنّها تقول "لإسرائيل" اعملي ما شئتِ في ضرب كلّ مَن يحمل سلاحاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وفي وجه الغطرسة الإسرائيلية. والمطلوب هو إجراءات عملية لوقف النشاطات الإرهابية. هذا معناه أنَّ اللبنانيين عندما يحملون السلاح لدفع الاحتلال الإسرائيلي عن بلدهم، وعندما يحمل الفلسطينيون السلاح لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يصبح هؤلاء إرهابيين، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر أنّ حمل المجاهدين في الضفّة الغربية وغزّة السلاح في وجه "إسرائيل" بحسب المنطق الأميركي هو عمل إرهابي.
وداعة عرفات وغطرسة الأميركيين
ومن خلال ذلك نفهم إصرار الرئيس الأميركي ريغان على أن تدين منظّمة التحرير التي يمثّلها عرفات الإرهاب لكي يصبح بالإمكان التعامل معه، وقد كان تلميذاً وديعاً للغطرسة الأميركية حين أدان إرهاب الأفراد وإرهاب الجماعات وإرهاب القوات، وعلى هذا الأساس فإنَّ المطلوب من عرفات في المفاوضات التي تصدَّقت أميركا بها عليه، الالتزام بكلّ ما هو مطلوب أميركياً وإسرائيلياً. إنَّ واشنطن تعتبر أنّ الحوار مع عرفات لا يشكِّل مشكلة ما دام سيلتزم بأمن "إسرائيل"، وهي تقول للإسرائيليين لا تخافوا من الفلسطينيين، لا تخافوا من منظّمة التحرير لأنَّ أميركا تحمي "إسرائيل" بالكامل، ولا تقبل أن يُمسّ أمنها، وريغان قال لعرفات إنّك إذا تراجعت في أيِّ وقت عن إدانتك للإرهاب وقمت بعمل إرهابي واحد فسوف نقطع الحديث معك(1).
في الواقع أنَّ منظّمة التحرير تقوم ببعض العمليات الشكلية ضدّ الصهاينة، لكنّها لا تقوم بأيّ أعمال فعلية، ومنذ زمن تواقّفوا عن خطف الطائرات وقتل الأشخاص، فيما العكس هو السائد، فالمخابرات الإسرائيلية هي التي تنفّذ مثل هذه الأعمال. الواضح أنّ المقصود من تصريح السفيرة الأميركية الذي يعتبر أنّ كلّ خطوات المجاهدين الذين يقفون ضدّ "إسرائيل" في جنوب لبنان هي أعمال إرهابية، أن تعتبر الانتفاضة في فلسطين إرهابية، وسيطلب الأميركيون من عرفات أن يلغي الانتفاضة، وسينطلق الحكّام العرب الذين دفعوا به إلى هذا الموقع وعاش ذهنيّتهم السياسية إلى تقديم التنازلات، ليعترفوا بدولة "إسرائيل"، وبحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنَّ قضية الفلسطينيين هي قضية لاجئين حسب القرار 242.
معنى الاعتراف الفلسطيني بـــ 242
إنَّ هذا الاعتراف بالقرار 242 فيه نقطتان:
النقطة الأولى: هي إنَّ عرفات يصرِّح الآن بأنّ الفلسطينيين ما قبل 67، سواء كانوا في حيفا أو يافا أو صفد أو غيرها، ليس لهم أيّ حقّ في أرضهم، وإنَّ وجودهم في داخل أرضهم على أساس التطلُّعات المستقبلية لعودة أرضهم لهم، هذا وجود غير شرعي بفعل قرار منظّمة التحرير الفلسطينية، ومعنى هذا أنّ "إسرائيل" تقول إنَّ أوّل فلسطيني في فلسطين ما قبل الــ 67 لا يجوز له، من وجهة نظر فلسطينية، أن يخدش الأمن الإسرائيلي ولا أن يتطلَّع ولا أن يحلم بأيّ طريقة في هذا المجال، هذا معناه اعترافه بــ "إسرائيل".
النقطة الثانية: أنّ صاحبنا يريد الضفة الغربية وغزّة على أساس قبوله بقرار مجلس الأمن 242، ما هو هذا القرار؟ القرار يقول: ندعو "إسرائيل" إلى أن تنسحب من أراضٍ محتلّة، هذه (ال) التعريف بين الأراضي وأراضٍ أحدثت مشكلة في ذلك الحين، يعني لو قالت تنسحب من الأراضي المحتلة لكان معناه من كلّ الأراضي المحتلة، النحويون يقولون إنّ (ال) تفيد العموم في هذا المجال، لكن من أراضٍ احتلت يعني تنسحب من بعض الأراضي، يعني ممكن أن تنسحب من عُشر الضفة الغربية وغزّة، هذا يقصد من أراضٍ احتلت، لا ضمانات حتّى قرار مجلس الأمن ليس فيه ضمانات في عودة الضفّة الغربية وغزّة، لأنّ القرار الذي قبل به عرفات باعتبار كونه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفلسطينية يفيد أنّه يقبل أن تنسحب "إسرائيل" الدولة الشرعية من بعض الأراضي الفلسطينية، وكلمة البعض قد تكون 99% وقد تكون 1%، فمعنى ذلك أنّه قدَّم اعترافاً كاملاً بـــ "إسرائيل" وبحقّها في الوجود وبوقف العمليات العسكرية باعتبارها عملاً إرهابياً، من دون أن يضمن إلاّ أنّ أميركا تتكلَّم معه، وأميركا منذ عشرات السنين وهي تتكلّم مع العرب عن حقوقهم، وعن حقوق الشعب الفلسطيني، وأصبح الكلام في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية، ووزارة الدفاع الأميركي وفي أرشيف كلّ العرب وكلّ الصحف، ولكن ماذا هناك؟ أميركا لم تتنازل. قال كيسنجر وقتها، لا بدّ من أن تعترف منظّمة التحرير بالقرارين 242 و338، وأن تدين الإرهاب وأن تعترف بحقّ "إسرائيل" في الوجود، وبأنّها دولة شرعية، عند ذلك نتكلَّم معها، وقد قدَّمت منظّمة التحرير لأميركا كلّ شيء، وأميركا تريد أن تتكلّم معها لتتنازل معها أكثر لأنّ أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية بل تريد أن تحلّ المشكلة الإسرائيلية، وعندما تعمل "إسرائيل" على أساس أن يكون لها كلّ شيء، فمعنى ذلك أنّ أميركا سوف تعمل على أساس لا كلّ شيء، ولكن بما يشبه "الكلّ شيء"، وبطبيعة الحال فإنَّ "إسرائيل" التي تريد أن تجمع كلّ يهود المنطقة لا تكفيها فلسطين التي هي ما قبل الــ 67.
كيسنجر أبو الفتنة اللبنانية
وفي التعاطي مع المسألة الأميركية ـــ اللبنانية، أميركا منذ 14 سنة تقول نحن مع وحدة لبنان، ومع استقراره وأمنه، ولكن لتأخذ إسرائيل حريّتها سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، "إسرائيل" تدخل البلد وتعرقل الكثير من أوضاع البلد. والكثير من الدول العربية التي تدور في فلك أميركا تعمل على تهيئة المفردات السياسية والأمنية التي تتناسب مع المصالح الأميركية.
أيُّها الإخوة، نحن نعرف، أوّلاً، أنّ الفتنة اللبنانية كان أبوها كيسنجر الذي فتح بنفسه باب الفتنة من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
ثانياً، إنّ كلّ ما يدور في الدوائر الأميركية العربية في هذا المجال، هو كيف يمكن لأميركا أن ترتِّب البيت اللبناني بطريقة تستطيع أن تحتوي الواقع اللبناني السياسي كلّه، وأن تجعله خاضعاً لمخطَّطاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجيّة، وأن يبقى لبنان قاعدة لكلّ حركة المخطّطات الأميركية والمخابرات الأميركية في المنطقة، ولهذا فإنَّ الجميع أصبحوا يسبِّحون بحمد الاهتمامات الأميركية، ويجعلون في حساباتهم السياسية تواريخ قضاياهم الأساسية تابعة للتاريخ الأميركي في بعض محطّاته كالانتخابات الأميركية وتسلُّم رئيس الجمهورية الأميركية لمهمّاته، حتّى يتحرّك الحلّ، وهكذا أصبحت حتّى الذهنية السياسية التي تتحرّك في هذا الواقع، والتي من المفترض أن تكون خارج الدائرة الأميركية، أصبحت تعيش الخضوع للجوّ السياسي الأميركي حتّى يتحوّل لبنان إلى ساحة أميركية، حتّى الحروب التي ستقع في داخل الصفّ الواحد، سواء كانت حروباً سياسية أو عسكرية أو أمنية، هي حروب لمصلحة الخطّة الأميركية في أن لا يبقى هناك معارض للسياسة الأميركية، ولاسيّما الذين ينطلقون من الخطّ الإسلامي الذي يضع في مقدّمة اهتماماته وعناوينه السياسية مواجهة الاستعمار الأميركي، ولهذا فقد تجدون الكثير في الساحة من أوجه الصراع باعتبار أنّه من إفرازات الساحة، ولكنَّ المسألة ليست كذلك، فتِّش عن أميركا لأنّها في مخابراتها تعيش في غرفة رئاسة الجمهورية، وفي كثير من غرف الوزراء وفي كثير من غرف النوّاب وفي كثير من الغرف التي تتحرّك لتمثّل هذا المحور أو ذاك المحور، فتِّش عن أميركا وستعرف أنّ كلّ مشاكلنا جاءت من أميركا لا قدَّسها الله ولا جعلها الله تستقرّ في أيّ مجال.
والحمد لله رب العالمين