المسارعة إلى المغفرة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 ـــ 136].
هذا النداء الإلهي هو للمؤمنين وللنّاس كافّة، نداء للذين يتسابقون في الحياة من أجل أن يكون لهم مال وجاه ومواقع، إنَّ الله يريد أن يقول لكم: أيُّها الناس إنّ المال مضمون فلن تستطيع أن تحصل على غير ما قدَّره الله لك، مضمون بعملك، لا تعتبر أنّ مضاعفة الجهد أو استنزافه سيعطيك أكثر ممّا قدَّره الله لك، اعمل فإنَّ العمل عبادة والله قد كلَّفك أن تعمل من أجل أن تقوم بمسؤوليّتك، ولكنَّ المال الذي تريد الحصول عليه ليس هو الهدف الذي يمكن أن تجعل كلّ حركة الحياة من أجله، لأنَّ المال يزول كما تزول الحياة، والجاه الذي تتسابق أنتَ والآخرون من أجل أن تحصل عليه لترتفع درجة في السلم الاجتماعي أو يفيدك في السلم السياسي أو الاقتصادي، إنَّ هذا الجاه سوف يذهب قبل أن تذهب أنت من الحياة، وعندما تذهب من الحياة، لن يفيدك بعد موتك أن يهتف الناس باسمك، أو أن يخلِّد الناس ذكرك، إلاّ إذا أبقيت لما بعدك شيئاً ممّا قدَّمته من أعمال صالحة في الحياة. ولهذا لا تسارع ولا تعتبر ذلك كلّ همّك.
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} سارع إلى العمل كفرد أو كجماعة، سارعوا إلى أن تحصلوا على مغفرة الله في ما تعملون من أعمال صالحة وفي ما تدخلون فيه من مشاريع خيِّرة وفي ما تنشئونه من علاقات خالصة مخلصة في رضى الله، إذا كان هناك مشروع خير فلا تتريَّث بل سارع إليه حتّى لا يأخذه غيرك، وإذا كان هناك مشروع جهاد فسارع إليه قبل أن يفوتك، وإذا كان هناك مشروع موقف صدق فسارع إليه قبل أن يسبقك الآخرون إليه، لأنّك عندما تحصل على مغفرةٍ من ربّك فقد حصلت على الخير كلّه والسعادة كلّها، لأنَّ مغفرة الله ومحبّته هي التي تضمن لك الدنيا والآخرة، ولأنّ الإنسان الذي يعيش في الدنيا في محبّة الله وفي رضاه وفي مغفرته ويعيش في الآخرة في تلك الأجواء هو الإنسان الذي يمسك بالسعادة من كلّ أطرافها. ومن هنا فإذا كنت من الناس الذين أخطأوا، سارِع إلى التوبة لأنَّ التوبة هي التي تهيّئ لك المغفرة. هذه هي الروحية التي يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيشها عندما نريد أن نحرِّك طموحاتنا في الحياة ليكون طموحنا في الحياة كلّها أن نحصل على رضى الله ومحبّته، وأن نحصل على مغفرة الله وعدله. هذا هو الطموح الكبير الذي يجعل منك إنساناً تعيش في رحاب الله وفي آفاقه بدلاً من أن تكون إنساناً يعيش في زوايا زيد ليرضى عنك، أو في زوايا عمرو ليرضى عنك هو الآخر. اليوم يرضى عنك فلان وغداً يغضب منك وتعيش القلق والذلّة والسقوط والانهيار، ولكنّك إذا حصلت على رضى الله وعرفت الطريق الذي يؤدّي إلى الله واستطعت أن تُثَبِّت أقدامك في المواقع التي يرضاها فذلك هو النجاح كلّ النجاح، وذلك هو الفوز العظيم {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران : 133] هذه الجنّة التي يملّكك الله إيّاها، جعل لك فيها أن تذهب حيث تشاء وتأكل ممّا تشاء وتشرب ممّا تشاء وتتنعَّم بما تشاء، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل فيها للمؤمنين ما تشتهي أنفسهم وما يدعون.
سارع، أنتَ في الدنيا تقطع آلاف الأميال لتحصل على قطعة أرض تسكن فيها، ولا مانع من أن تفعل ذلك، أو تستنبت أرضاً تعيش عليها، لكن إذا كنت تفكّر أن تكون لك دار في الدنيا وتعتبر أنّ كلّ جهدك ينبغي أن تبذله في هذا السبيل فلماذا لا تسارع إلى أن تحصل على الدار الخالدة في الجنّة التي عرضها السماء والأرض، لماذا يعيش كثيرٌ منّا الزهد بالجنّة، لو قلتَ لإنسان افعل ذلك والجنّة مضمونة لك عند الله، فهل تجد في نفسك الاندفاع الكبير في هذا الاتجاه، بحيث تترك أشغالك وأعمالك وأفعالك وتتحمَّل المتاعب والمشاكل في سبيل الحصول على الجنّة؟ نحن المسارعون إلى مغفرة الناس ولكنّنا المتثاقلون في السير إلى مغفرة الله، الله يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]، لا بدّ للجنّة من تقوى، أن تكون تقيّاً، والإمام عليّ (عليه السلام)، في ما كان يتحدّث به مع أصحابه الذين كانوا لا يختلفون عنّا في مشاغباتهم ومشاكلهم ولغوهم وضوضائهم وخلافاتهم ومواقفهم وما إلى ذلك، يبدو أنّ الإمام كان مبتلياً بجماعته الذين كانوا معه، الإمام عليّ (عليه السلام) كان يقول لهم: والله لقد ملأتم قلبي قيحاً لقد أفسدتم عليّ رأيي، لو صارفني فيكم معاوية مصارفة الدينار بالدرهم، يعني أنا مستعد لأنْ أُبادل الدرهم بالدينار، كان يقول لهم في بعض الحالات "أَبِمِثْلِ هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يخدع الله عن جنَّته"(1)، قد يخدع بعضكم بعضاً، وقد يغشّ بعضكم بعضاً، وقد يتستَّر بعضكم على بعض، لكن أمام الله ليس هناك مجال للتستُّر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، مَن هم المتّقون؟ الله يوزّع صفات المتّقين؛ في هذه الآية يأتي بصفتين أو ثلاث وفي آيةٍ أخرى بصفاتٍ أخرى، وهكذا في هذه الآيات وردت ثلاث صفات للمتّقين ونستطيع أن نعتبرها خمساً؛ العطاء، كظم الغيظ، العفو عن الناس، الإحسان إليهم، والاستغفار من الذنب... فمن توفّرت فيه هذه الصفات الخمس يصدق عليه أنّه من المتّقين، ومَن لم تكن موجودة فيه فعليه أن يرتّب أموره على هذا الأساس إذا كان راغباً في الجنّة التي أُعِدَّت للمتّقين الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء، يعني الذي يعطي من ماله في حال سعة، السرّاء، والضرّاء في حال الضيق بحيث تعيش روحية العطاء، لا أنانية البخيل لتكون من الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وروحية العطاء تنطلق من روحية إنسانية سامية، إنّ الإنسان الذي يفكّر في أن يعطي الآخرين، هو الإنسان الذي يفكّر أن يتفاعل مع الآخرين، هو الإنسان الذي يعيش إنسانيّته في الإحساس بآلام الآخرين، عندما تجد إنساناً فقيراً محروماً أو مريضاً أو مشرَّداً، عندما تجد إنساناً يحتاج إلى أن تعاونه فإذا كنتَ تقيّاً لله فإنّك تنجذب بشكلٍ لا شعوري إلى أن تعطيه بعد أن تفكّر في إمكاناتك وكيف تستطيع أن تعطيه بحيث إذا كنت في سعةٍ من أمرك تعمل على أن تعطيه من موقع تلك السعة، وإذا كنت في ضيق من أمرك تعمل على أن تقدِّم العطاء رمزاً، وتقول له هذا ما استطعت أن أُقدِّمه لك، وإنْ كان لا يحلّ مشكلتك لكنّه قد يحلّ جزءاً من المشكلة، ونحن نعرف أنّ الله وصف نفسه بالكريم واعتبر البخل ممّا يأمر به الشيطان الذي يحاول أن يخوِّف الناس بالفقر ولذلك فإنّه يأمرهم بالبخل {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس : 47]، كما حدَّثنا الله عن بعض هؤلاء الناس، الله هو الذي أعطاك وأعطى فلاناً، فهو يبعث لي من خلال فلان وفلان، لم يبعث لي من السماء، الله يعطي على أيدي عباده وقد أكرمك بأن جعل حاجة عباده إليك، إنَّ مِن نِعَم الله عليكم حاجة الناس إليكم، فإذا قبلت كرامة الله فأعطيت عباد الله، فسوف يكرمك الله، أمّا إذا لم تقبل ذلك فإنَّ الله يعرف كيف يزيل نعمته عنك، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران : 134] هؤلاء الذين يحبسون غيظهم، وفي الحياة مشاكل كثيرة تثير الغيظ، قد تعيش في بيتك فتغتاظ من زوجتك، وقد تعيش في بيتك فتغتاظ من جارك، وقد تعيش في محلّتك فتغتاظ من الناس الذين تعيش معهم، وفي محلّك فتغتاظ من زبائنك وفي الحياة كلّها فتغتاظ من الناس الذين تعاشرهم ويعاشرونك، إذا كنتَ تعيش الغيظ فكيف تتعامل معه، هل تفجّره ضرباً وقتلاً وشتائم؟ إنّ الله يقول إذا أردت أن تدخل الجنّة فشرط الجنّة أن تكظم غيظك، أن تكون من الناس الذين لا يفجّرون غيظهم حتّى لو كان لك حقّ في ذلك. فإذا حبست غيظك وكتمته تقرُّباً إلى الله فإنَّ الله يؤجرك على ذلك بدخول الجنّة، وهذه تحتاج إلى جهاد نفس. إنّ من الصعب أحياناً أن تهدّئ روعك، لكن مثلما عندنا برَّاد يبرّد لنا الجوّ حتّى نستطيع المكوث طويلاً في مكانٍ ما ومثلما نحتاج إلى برّاد يبرّد لنا الماء حتّى نشرب ماءً بارداً ونرتوي، نحتاج إلى برّاد يبرّد أعصابنا حتّى لا يفسد غيظنا ديننا ودنيانا، لأنَّ الغضب قد يفسد دنياك ويفسد آخرتك معاً. جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام)، "أي شيء أشرّ من الغضب، إنَّ الرجل إذا غضب يقتل النفس، ويقذف المحصنة"(1). جاء شخص إلى النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال له أوصني يا رسول الله، قال: "انطلق ولا تغضب، قال له: لا تكفي هذه أوصني يا رسول الله، قال انطلق ولا تغضب وكرِّر القول مرّة ثالثة وكرَّر الرسول القول أيضاً مرّة ثالثة فقال الرجل: لو لم يكن رسول الله قد عرف أنّ هذه الوصية تكفيني في مثل ظروفي لما اقتصر عليها وقد أكّدت عليه ذلك. "صاحبنا" أخذ الوصية ووصل إلى بلدته وهي كأيّ بلدةٍ أخرى تختلف فيها العشائر نتيجة مشكلة مع ولد أو على أرض أو ما إلى ذلك، فَوَجَدَ عشيرته والعشيرة الأخرى تقف إحداهما ضدّ الأخرى والسلاح في يد هذا وفي يد ذاك، هذا رأساً ثارت أعصابه بشكلٍ طبيعي، ذهب إلى بيته والغضب يفور من وجهه، ذهب إلى بيته وأخذ سلاحه ووقف في المعركة، عندها تذكّر وصية رسول الله بالصبر على الغضب، فهدأت أعصابه وفكَّر في الأسلوب الذي يستطيع من خلاله أن يحلّ المشكلة، فجاء إلى خصومه وقال لهم لقد سقط بعض القتلى والجرحى وبعض الأموال؛ كلّ ما سقط من قتلاكم وجرحاكم وأموالكم فهو في مالي أنا أدفع ديّته وعوضه وتعالوا نتفاهم، عند ذلك هزَّت تلك الأريحيّة أولئك القوم لأنّهم عرفوا أنّه يتكلّم من موقع قوّة لا من موقع ضعف، قالوا لن تكون أكرم منّا نحن نقول لك كلّ ما سقط لكم من قتل وجراح ومال فهو في مالنا، وسكَنَ الغضب بين العشيرتين، وحلَّت المشكلة بالتي هي أحسن.
لهذا نحتاج إلى أن نعيش عقلانيّتنا في دراسة الأمور ونتعوَّد على أن نبرِّد أعصابنا لأنَّ الإنسان عندما يكون في حالة الغضب ينخفض تأثير العقل على إرادته، "مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله"(2).
وهناك نقطة ثانية، أنتم تحافظون على أسراركم أم لا، كلٌّ منّا يحبّ أن يحافظ على أسراره، لكن عندما تثور أعصابك وتغضب، كلّ أسرارك تصبح على لسانك بحيث إنّك لو ضربت أحداً وأثرت أعصابه فما عليك إلاّ أن تسجّل ماذا يقول: تعمل بطريقة المخابرات، التي تخلق المشاكل لإثارة أعصاب الناس، فيبدأ هذا بفضح أسرار ذاك وذاك بفضح أسرار هذا، والمسجّلة تسجّل والقلم يكتب. يقول الشاعر:
أغْضِبْ صديقَكَ تَسْتَطْلِعَ سريرَتَهُ للسرّ نافذتانِ السكْرُ والغَضَبُ
إنَّ نفوسنا مثل مياه البركة، فهي عندما تكون ساكنة تبدو المياه صافية على سطحها فيما الأوساخ تترسَّب في قعرها، أمّا عندما نحرّك البركة ونحرّك ماءها فإنَّ الأوساخ تختلط بالماء الصافي وتطفو على سطحها حاجبة صفاءها السابق.
إذا لم تستطع أن تملك غضبك فلن تستطيع أن تملك سرّك، بل سيستطيع الآخرون أن يطّلعوا على أسرارك بعدما يستثيرونك.
أوحى الله إلى داوود أن "اذكرْني في غضبك أذْكُرْكَ في غضبي حتّى لا أمحقَك في من أمحق"؟ إذا غضبت فلا تحاول أن تفجِّر غضبك في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، للإمام عليّ (عليه السلام) تعبير جميل في كظم الغيظ، يقول متى أشفي غيظي، مشكلتي أنا كمسلم وكمؤمن ليس عندي فرصة لأن أشفي غيظي، أعند الاقتدار، فيقال لي لو عفوت، أم حين أعجز فيقال لي لو صبرت، يقول الله أمرني بالصبر وأمرني بالعفو، فعندما أقدر على صاحبي لا أقدر أن أشفي غيظي لأنَّ الله يقول: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]، عندما أعجز أيضاً لا أقدر لأنَّ الله يقول: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، وربّما في بعض كلماته أنّه "مَن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان جرعة غيظ يردّها بحلم وجرعة مصيبة يردّها بصبر"(1)، إنَّه الإنسان المنتصر دائماً، يقال مرَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على جماعة وهم يتبارون في حمل حجر فسألهم ماذا تفعلون، قالوا نرى مَن هو بطل فينا، قال لهم "ليس الشديد بالصرعة"، الشخص البطل ليس الذي يضرب أو يحمل حجراً أكبر من حجر الآخر، ولكنّ الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه هو البطل، لأنَّ عضلاتك المتمرّسة تستطيع أن تحمل حجراً، ليست هذه بطولة كذلك الإنسان الذي يضرب ويقتل.. ولكنَّ الأمر الذي يشكّل عنصر إنسانيّتك هو الصبر وكظم الغيظ.
اضغط على أعصابك، عندما تثور فإنَّ ذلك يحتاج منك إلى طاقة أكثر من الطاقة التي تصرفها العضلات في حمل الأثقال وأكثر من الطاقة التي تصرفها اليد في إطلاق الرصاص ليس من البطولة في شيء أن تضرب وتسرق وتقتل الناس، البطولة هي أن تقاوم الشيطان وإيحاءاته الخبيثة. وقد ورد أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ وأنّه أساس كلّ شرّ وأنَّ الإنسان الذي يكظم غيظه احتساباً لله، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليه من رحمته، وفي الآية نفسها أنّ الله يعطيه المغفرة والجنّة. إذاً علينا أن نتعوّد على تبريد أعصابنا وتسكين غضبنا وأن نوسّع صدورنا، وذلك في خطّين.
الخطّ الأول: النظر إلى الله سبحانه وتعالى ومراقبة الله في ذلك، لأنَّ الغضب قد يقودنا إلى ما يغضب الله وإذا خسرنا رضى الله خسرنا كلّ شيء.
الخطّ الثاني: التفكير في نتائج الغضب التي قد تأكل كلّ حياتك وقد تفقد حياتك بلحظة غضب، وربّما تفقد حريّتك في لحظة غضب، وربّما تعاني من الآلام الكثيرة عندما تجرح بلحظة غضب، لهذا علينا أن نتدرّب على امتلاك غضبنا وأن لا نغضب إلاّ لله، اغضب لله، إنَّ الله يريد منك أن تغضب له ولكن غضباً عقلانياً، الغضب العقلاني يعني أن تحرّك غضبك بحيث لا تخرج عن طاعة الله سبحانه وتعالى، لا تتكلَّم كلمة لا يرضاها الله ولا تتحرّك في أيِّ عمل لا يرضاه الله.
هذا هو الأساس الذي يريدنا الإسلام أن ننطلق به وأن نعيشه على مستوى حياتنا الفردية وعلى مستوى حياتنا العامّة. ونحن نعرف أنّ كثيراً من مشاكل الحياة الزوجية أو الحياة الأبويّة مع الأولاد تحدث من خلال الغضب الذي لا يسيطر معه هذا الطرف على نفسه أو ذاك الطرف عليها فيشاركان في هدم البيت كلّه على رؤوس الجميع. وهكذا نجد أنّ كثيراً من المشاكل التي تقود إلى التحاقد وإلى التقاتل والتنازع، إنّما تنطلق من موقف غضب لا يملك فيه الإنسان وضوح الرؤية ولا يملك فيه العقل فيؤدّي ذلك إلى ما يؤدّي من الفتن الكثيرة التي تحرق الأخضر واليابس. لهذا لا بدّ لنا من أن ندرس مسألة الغضب وتربية النفس على أساس أن لا يغضب الإنسان، وإذا غضب فلا بدّ أن يربّي نفسه على أن يهدّئ غضبه وعلى أن يحرّك غضبه في طريق لا يغضب الله وعلى أن يعطي غضبه جرعة من العقل. ربّما نغضب من أوضاعنا العصبية وأوضاعنا الاجتماعية، صعب أن يملك الإنسان غضبه بسهولة، لكن بمجرّد أن تغضب حاول أن تعطي غضبك جرعة من عقل أو جرعة من إيمان.. في بعض الأحاديث أنّ الإنسان إذا غضب فعليه أن يذكر ربّه وإذا كان واقفاً عليه أن يجلس، عندما تقعد تبرد أعصابك قليلاً، وهكذا ابحث لنفسك في حال غضبك عمّا يمكن أن يبرّد غضبك أو ينهي حالتك العصبية، حتّى تستمرَّ حياتنا وحتى نستطيع أن نملك أمرنا.
المخابرات وعوامل الإثارة عند الشعوب
في دراستنا لحركة أجهزة المخابرات في العالم وفي حركة التيّارات السياسية العالمية، نجد أنّهم يدرسون عوامل الإثارة عند الشعوب؛ إذ ربّما تعيش بعض الشعوب حالة عشائرية فيدرسون عناصر الإثارة في العلاقات العشائرية، وكذلك في الحالة الطائفية أو الحزبية.. ويدرسون كيف يجدون عصبية تعمل على أن تلغي الآخر أو يجدون في بعض الأوضاع حالة احتقان نفسي من خلال الكلمات المثيرة ومن خلال الحركات المثيرة، ومن خلال الأجواء المثيرة، حتّى يتحرّك الجوّ من حالة احتقان، وحتّى يتحرّك الجوّ في حالة اشتعال بحيث يمكن لعود ثقاب واحد أن يحرق البلد كلّه.
قلوبنا تطرى بالإيمان وبالحوار بالعلاقات الإنسانية.. بعض الناس يريدون أن يجفِّفوا قلوبنا ويجفّفوا كلّ مشاعرنا وعقولنا، وعندما تيبس المشاعر والعواطف والقلوب والعقول، عند ذلك يسهل كسرها وكذلك إشعالها. لهذا فلنعش الطراوة التي تجعل كلّ واحدٍ منّا يفكّر في علاقته بأخيه بروح المحبّة والمودّة على أساس أن تكون تلك المشاعر الطريّة الليّنة والكلمات الليّنة هي التي تحاول أن تسيطر على كلّ عمليات الاحتقان والاشتعال، وحتّى نستطيع أن نتخلَّص من كلّ تخطيط مخابراتي يريد لنا الانتقال من فتنة إلى فتنة ومن حرب إلى حرب. نحتاج أن نعيش أخلاقية كظم الغيظ، أن ننظر إلى ما عند الله في ذلك كي نواجه من يأتينا ليحرّضنا بما يتناسب مع الموقف الحكيم.
يأتيك حامل إشاعة، الجماعة الفلانية خصومنا قتلوا صاحبنا قالوا كذا وعملوا كذا، فيثور الناس، عندما يأتي ويتكلَّم يقال له، من أين سمعت، مَن الذي أخبرك، كيف حدثت القضية؟ سؤال وجواب وعندما تكتشفون أنّ هذه الكلمة ليس لها واقع وليس لها حقيقة فيبرد الجوّ... كثير من الناس يأتون وهم يعتمدون على طبيعة المشاكل الموجودة بين الناس حتّى يحاولوا أن يثيروها.
علينا أن ندقِّق في أجواء الإثارة
لهذا، علينا ـــ ولاسيّما في هذه الظروف الصعبة العصيبة، لا على مستوى الواقع الإسلامي في لبنان بل على كلّ المستويات في العالَم الإسلامي ـــ علينا أن ندقّق في كلّ عمليات الإثارة(1)، ولا بدّ لنا من أن نخترق شخصية كلّ إنسان يحاول أن يحمل لنا عنصر إثارة يريد أن يثير الجو به، لأنّه ربّما كان عنصر مخابرات أو مخدوعاً من عنصر مخابرات، ونحن نعرف أنّ المخابرات مزروعة في ساحتنا بعدّة وجوه، وبعدّة أقنعة، ولذلك لا بدّ من الحذر في ذلك، ولا بدّ من الوعي لكلّ ما تسمع ولكلّ ما تشاهد من أمور ومن قضايا، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ليس أن تحبس غضبك لتتعقَّد، ولكن احبس غيظك وفكِّر أن تعفو إذا كان العفو لا يضرّ صاحبك ولا يضرّ الحياة من حولك، أن تعفو قربةً لله سبحانه وتعالى، ثم أن تحسن إلى مَن أساء إليك {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] لتحصل على محبّة الله، ينقل في هذه القضية أنّ الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) كان يغسل يديه وكان هناك غلام له أو جارية تصبّ الماء من الإبريق على يديه انشغلت في بعض الأشياء التي رأتها فسَقَطَ الإبريق ـــ وكان إبريق نحاس ـــ على رأس الإمام فشجّه فسال منه الدم، طبعاً هذا خطا يستحقّ العقاب، عادة يثور صبر الواحد مثلاً قد يحدث هذا الأمر مع أيّ شخص منّا هل يبقى عندك وعي، هذه الجارية لبقة مترتّبة في بيت الإمام طبعاً قالت له يا مولاي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لقد كظمتُ غيظي قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال لقد عفوتُ عنكِ قالت {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال اذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله، تثبيت عملي تسلسلي؛ أن تكظم غيظك، وتعفو عمَّن أساء إليك، ثمّ تحسن إليه. وهذه حكاية نحكيها الآن، وقصّة نسمعها، لكن وقت التطبيق صعبة كثيراً ولأنّها صعبة كثيراً كان ثمنها الجنّة، فالجنّة حُفَّت بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات. ليس سهلاً أن يحبس الإنسان غيظه وليس سهلاً أن يعفو الإنسان عمَّن أساءَ إليه، ليس سهلاً أن تحسن إلى مَن أساء إليك، إنَّها من أصعب الأشياء على النفس، ولكنَّ الجنّة تستحقّ ذلك كلّه. وهناك نقطة أخرى، الله سبحانه يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة : 111]. الله يقول لك أنا مستعد لأن أشتري نفسك ومالك على أساس الجنّة، أنا أشتري غضبك وأعطيك الجنّة مقابله، ليس الأمر سهلاً بالطبع، كما تجاهد في قتال العدوّ وتقف من أجل أن تواجهه، الله يقول الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، ومن المتّقين الكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، يعني هنا جنّة وهنا جنّة، فكما تتحمّل كلّ شيء وتضحّي بنفسك حتّى يرضى الله عنك وحتى تحصل على الجنّة؛ ضحِّ بانفعالك، ضحِّ بمزاجك، ضحِّ بغضبك والله يقول: لكَ الجنّة، فالمسألة فقط تحتاج إلى عقل ووعي، والتفكير في ما عند الله سبحانه وتعالى. وإنْ شاء الله تطبّقها، ولو بعد سنة، لكنّ المهم أن نبدأ الخطوة الأولى في هذا المجال، بعد قليل ستذهبون إلى معايشكم ومنكم مَن يذهب إلى المنزل ترى البيت ليس نظيفاً، ترى الولد متّسخاً قليلاً، الطبخة لم تعجبك، فتصيح في وجه امرأتك لأنّها تأخّرت عن صنع الطعام، لا، هذه أوّل تجربة لك بعد سماع هذا الكلام، لذا يجب عليك أن تصبر في هذا المجال، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} ممّا يغضب الله {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بالمعصية، {ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} إذا استغفرت الله وتبت إليه، فإنَّ الله يغفر لك ذلك {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135 ـــ 136].
هذا الجوّ من التقوى هو الذي نحتاجه، وهذا هو الذي يدلّ على إيمان الإنسان المؤمن وعلى محبّته لله، لأنَّ بعض الناس ربّما يعتبر علامة الإيمان في الصلاة التي يصلّيها وهي علامة من علامات الإيمان، ولكن قد يعتادها الإنسان فيمارسها على أساس العادة، وهناك من الناس من يعتبر أنّ الصوم هو علامة الإيمان فيعتبر نفسه مؤمناً إذا صام وصلَّى وحجَّ وفعل بعض المستحبّات ويعتبر أنّه قد أمسك بمفتاح الجنّة، إنَّ الله يقول لك: الإيمان عند الغضب، تعرف نفسك؛ هل يسقط إيمانك عند غضبك أم يثبت إيمانك في هذا الموقع، الإيمان في مواقع العطاء، الإيمان في مواقع الاستغفار، فاعرف إيمانك من خلال ذلك، وهذا ما نريد أن نؤكّده في مجتمعنا المؤمن. إنَّ قضية المؤمنين هي أن يجعلوا شخصيّتهم صورة لإيمانهم، وأن يعتبروا أنّ أخلاقية الإسلام في مثل هذه الأمور وفي غيرها؛ هي التي يمكن أن تنجّي من عذاب الله وتؤدّي بنا إلى نيل النعيم الأبدي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
المسارعة إلى المغفرة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 ـــ 136].
هذا النداء الإلهي هو للمؤمنين وللنّاس كافّة، نداء للذين يتسابقون في الحياة من أجل أن يكون لهم مال وجاه ومواقع، إنَّ الله يريد أن يقول لكم: أيُّها الناس إنّ المال مضمون فلن تستطيع أن تحصل على غير ما قدَّره الله لك، مضمون بعملك، لا تعتبر أنّ مضاعفة الجهد أو استنزافه سيعطيك أكثر ممّا قدَّره الله لك، اعمل فإنَّ العمل عبادة والله قد كلَّفك أن تعمل من أجل أن تقوم بمسؤوليّتك، ولكنَّ المال الذي تريد الحصول عليه ليس هو الهدف الذي يمكن أن تجعل كلّ حركة الحياة من أجله، لأنَّ المال يزول كما تزول الحياة، والجاه الذي تتسابق أنتَ والآخرون من أجل أن تحصل عليه لترتفع درجة في السلم الاجتماعي أو يفيدك في السلم السياسي أو الاقتصادي، إنَّ هذا الجاه سوف يذهب قبل أن تذهب أنت من الحياة، وعندما تذهب من الحياة، لن يفيدك بعد موتك أن يهتف الناس باسمك، أو أن يخلِّد الناس ذكرك، إلاّ إذا أبقيت لما بعدك شيئاً ممّا قدَّمته من أعمال صالحة في الحياة. ولهذا لا تسارع ولا تعتبر ذلك كلّ همّك.
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} سارع إلى العمل كفرد أو كجماعة، سارعوا إلى أن تحصلوا على مغفرة الله في ما تعملون من أعمال صالحة وفي ما تدخلون فيه من مشاريع خيِّرة وفي ما تنشئونه من علاقات خالصة مخلصة في رضى الله، إذا كان هناك مشروع خير فلا تتريَّث بل سارع إليه حتّى لا يأخذه غيرك، وإذا كان هناك مشروع جهاد فسارع إليه قبل أن يفوتك، وإذا كان هناك مشروع موقف صدق فسارع إليه قبل أن يسبقك الآخرون إليه، لأنّك عندما تحصل على مغفرةٍ من ربّك فقد حصلت على الخير كلّه والسعادة كلّها، لأنَّ مغفرة الله ومحبّته هي التي تضمن لك الدنيا والآخرة، ولأنّ الإنسان الذي يعيش في الدنيا في محبّة الله وفي رضاه وفي مغفرته ويعيش في الآخرة في تلك الأجواء هو الإنسان الذي يمسك بالسعادة من كلّ أطرافها. ومن هنا فإذا كنت من الناس الذين أخطأوا، سارِع إلى التوبة لأنَّ التوبة هي التي تهيّئ لك المغفرة. هذه هي الروحية التي يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعيشها عندما نريد أن نحرِّك طموحاتنا في الحياة ليكون طموحنا في الحياة كلّها أن نحصل على رضى الله ومحبّته، وأن نحصل على مغفرة الله وعدله. هذا هو الطموح الكبير الذي يجعل منك إنساناً تعيش في رحاب الله وفي آفاقه بدلاً من أن تكون إنساناً يعيش في زوايا زيد ليرضى عنك، أو في زوايا عمرو ليرضى عنك هو الآخر. اليوم يرضى عنك فلان وغداً يغضب منك وتعيش القلق والذلّة والسقوط والانهيار، ولكنّك إذا حصلت على رضى الله وعرفت الطريق الذي يؤدّي إلى الله واستطعت أن تُثَبِّت أقدامك في المواقع التي يرضاها فذلك هو النجاح كلّ النجاح، وذلك هو الفوز العظيم {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران : 133] هذه الجنّة التي يملّكك الله إيّاها، جعل لك فيها أن تذهب حيث تشاء وتأكل ممّا تشاء وتشرب ممّا تشاء وتتنعَّم بما تشاء، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل فيها للمؤمنين ما تشتهي أنفسهم وما يدعون.
سارع، أنتَ في الدنيا تقطع آلاف الأميال لتحصل على قطعة أرض تسكن فيها، ولا مانع من أن تفعل ذلك، أو تستنبت أرضاً تعيش عليها، لكن إذا كنت تفكّر أن تكون لك دار في الدنيا وتعتبر أنّ كلّ جهدك ينبغي أن تبذله في هذا السبيل فلماذا لا تسارع إلى أن تحصل على الدار الخالدة في الجنّة التي عرضها السماء والأرض، لماذا يعيش كثيرٌ منّا الزهد بالجنّة، لو قلتَ لإنسان افعل ذلك والجنّة مضمونة لك عند الله، فهل تجد في نفسك الاندفاع الكبير في هذا الاتجاه، بحيث تترك أشغالك وأعمالك وأفعالك وتتحمَّل المتاعب والمشاكل في سبيل الحصول على الجنّة؟ نحن المسارعون إلى مغفرة الناس ولكنّنا المتثاقلون في السير إلى مغفرة الله، الله يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]، لا بدّ للجنّة من تقوى، أن تكون تقيّاً، والإمام عليّ (عليه السلام)، في ما كان يتحدّث به مع أصحابه الذين كانوا لا يختلفون عنّا في مشاغباتهم ومشاكلهم ولغوهم وضوضائهم وخلافاتهم ومواقفهم وما إلى ذلك، يبدو أنّ الإمام كان مبتلياً بجماعته الذين كانوا معه، الإمام عليّ (عليه السلام) كان يقول لهم: والله لقد ملأتم قلبي قيحاً لقد أفسدتم عليّ رأيي، لو صارفني فيكم معاوية مصارفة الدينار بالدرهم، يعني أنا مستعد لأنْ أُبادل الدرهم بالدينار، كان يقول لهم في بعض الحالات "أَبِمِثْلِ هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يخدع الله عن جنَّته"(1)، قد يخدع بعضكم بعضاً، وقد يغشّ بعضكم بعضاً، وقد يتستَّر بعضكم على بعض، لكن أمام الله ليس هناك مجال للتستُّر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، مَن هم المتّقون؟ الله يوزّع صفات المتّقين؛ في هذه الآية يأتي بصفتين أو ثلاث وفي آيةٍ أخرى بصفاتٍ أخرى، وهكذا في هذه الآيات وردت ثلاث صفات للمتّقين ونستطيع أن نعتبرها خمساً؛ العطاء، كظم الغيظ، العفو عن الناس، الإحسان إليهم، والاستغفار من الذنب... فمن توفّرت فيه هذه الصفات الخمس يصدق عليه أنّه من المتّقين، ومَن لم تكن موجودة فيه فعليه أن يرتّب أموره على هذا الأساس إذا كان راغباً في الجنّة التي أُعِدَّت للمتّقين الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء، يعني الذي يعطي من ماله في حال سعة، السرّاء، والضرّاء في حال الضيق بحيث تعيش روحية العطاء، لا أنانية البخيل لتكون من الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وروحية العطاء تنطلق من روحية إنسانية سامية، إنّ الإنسان الذي يفكّر في أن يعطي الآخرين، هو الإنسان الذي يفكّر أن يتفاعل مع الآخرين، هو الإنسان الذي يعيش إنسانيّته في الإحساس بآلام الآخرين، عندما تجد إنساناً فقيراً محروماً أو مريضاً أو مشرَّداً، عندما تجد إنساناً يحتاج إلى أن تعاونه فإذا كنتَ تقيّاً لله فإنّك تنجذب بشكلٍ لا شعوري إلى أن تعطيه بعد أن تفكّر في إمكاناتك وكيف تستطيع أن تعطيه بحيث إذا كنت في سعةٍ من أمرك تعمل على أن تعطيه من موقع تلك السعة، وإذا كنت في ضيق من أمرك تعمل على أن تقدِّم العطاء رمزاً، وتقول له هذا ما استطعت أن أُقدِّمه لك، وإنْ كان لا يحلّ مشكلتك لكنّه قد يحلّ جزءاً من المشكلة، ونحن نعرف أنّ الله وصف نفسه بالكريم واعتبر البخل ممّا يأمر به الشيطان الذي يحاول أن يخوِّف الناس بالفقر ولذلك فإنّه يأمرهم بالبخل {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس : 47]، كما حدَّثنا الله عن بعض هؤلاء الناس، الله هو الذي أعطاك وأعطى فلاناً، فهو يبعث لي من خلال فلان وفلان، لم يبعث لي من السماء، الله يعطي على أيدي عباده وقد أكرمك بأن جعل حاجة عباده إليك، إنَّ مِن نِعَم الله عليكم حاجة الناس إليكم، فإذا قبلت كرامة الله فأعطيت عباد الله، فسوف يكرمك الله، أمّا إذا لم تقبل ذلك فإنَّ الله يعرف كيف يزيل نعمته عنك، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران : 134] هؤلاء الذين يحبسون غيظهم، وفي الحياة مشاكل كثيرة تثير الغيظ، قد تعيش في بيتك فتغتاظ من زوجتك، وقد تعيش في بيتك فتغتاظ من جارك، وقد تعيش في محلّتك فتغتاظ من الناس الذين تعيش معهم، وفي محلّك فتغتاظ من زبائنك وفي الحياة كلّها فتغتاظ من الناس الذين تعاشرهم ويعاشرونك، إذا كنتَ تعيش الغيظ فكيف تتعامل معه، هل تفجّره ضرباً وقتلاً وشتائم؟ إنّ الله يقول إذا أردت أن تدخل الجنّة فشرط الجنّة أن تكظم غيظك، أن تكون من الناس الذين لا يفجّرون غيظهم حتّى لو كان لك حقّ في ذلك. فإذا حبست غيظك وكتمته تقرُّباً إلى الله فإنَّ الله يؤجرك على ذلك بدخول الجنّة، وهذه تحتاج إلى جهاد نفس. إنّ من الصعب أحياناً أن تهدّئ روعك، لكن مثلما عندنا برَّاد يبرّد لنا الجوّ حتّى نستطيع المكوث طويلاً في مكانٍ ما ومثلما نحتاج إلى برّاد يبرّد لنا الماء حتّى نشرب ماءً بارداً ونرتوي، نحتاج إلى برّاد يبرّد أعصابنا حتّى لا يفسد غيظنا ديننا ودنيانا، لأنَّ الغضب قد يفسد دنياك ويفسد آخرتك معاً. جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام)، "أي شيء أشرّ من الغضب، إنَّ الرجل إذا غضب يقتل النفس، ويقذف المحصنة"(1). جاء شخص إلى النبيّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال له أوصني يا رسول الله، قال: "انطلق ولا تغضب، قال له: لا تكفي هذه أوصني يا رسول الله، قال انطلق ولا تغضب وكرِّر القول مرّة ثالثة وكرَّر الرسول القول أيضاً مرّة ثالثة فقال الرجل: لو لم يكن رسول الله قد عرف أنّ هذه الوصية تكفيني في مثل ظروفي لما اقتصر عليها وقد أكّدت عليه ذلك. "صاحبنا" أخذ الوصية ووصل إلى بلدته وهي كأيّ بلدةٍ أخرى تختلف فيها العشائر نتيجة مشكلة مع ولد أو على أرض أو ما إلى ذلك، فَوَجَدَ عشيرته والعشيرة الأخرى تقف إحداهما ضدّ الأخرى والسلاح في يد هذا وفي يد ذاك، هذا رأساً ثارت أعصابه بشكلٍ طبيعي، ذهب إلى بيته والغضب يفور من وجهه، ذهب إلى بيته وأخذ سلاحه ووقف في المعركة، عندها تذكّر وصية رسول الله بالصبر على الغضب، فهدأت أعصابه وفكَّر في الأسلوب الذي يستطيع من خلاله أن يحلّ المشكلة، فجاء إلى خصومه وقال لهم لقد سقط بعض القتلى والجرحى وبعض الأموال؛ كلّ ما سقط من قتلاكم وجرحاكم وأموالكم فهو في مالي أنا أدفع ديّته وعوضه وتعالوا نتفاهم، عند ذلك هزَّت تلك الأريحيّة أولئك القوم لأنّهم عرفوا أنّه يتكلّم من موقع قوّة لا من موقع ضعف، قالوا لن تكون أكرم منّا نحن نقول لك كلّ ما سقط لكم من قتل وجراح ومال فهو في مالنا، وسكَنَ الغضب بين العشيرتين، وحلَّت المشكلة بالتي هي أحسن.
لهذا نحتاج إلى أن نعيش عقلانيّتنا في دراسة الأمور ونتعوَّد على أن نبرِّد أعصابنا لأنَّ الإنسان عندما يكون في حالة الغضب ينخفض تأثير العقل على إرادته، "مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله"(2).
وهناك نقطة ثانية، أنتم تحافظون على أسراركم أم لا، كلٌّ منّا يحبّ أن يحافظ على أسراره، لكن عندما تثور أعصابك وتغضب، كلّ أسرارك تصبح على لسانك بحيث إنّك لو ضربت أحداً وأثرت أعصابه فما عليك إلاّ أن تسجّل ماذا يقول: تعمل بطريقة المخابرات، التي تخلق المشاكل لإثارة أعصاب الناس، فيبدأ هذا بفضح أسرار ذاك وذاك بفضح أسرار هذا، والمسجّلة تسجّل والقلم يكتب. يقول الشاعر:
أغْضِبْ صديقَكَ تَسْتَطْلِعَ سريرَتَهُ للسرّ نافذتانِ السكْرُ والغَضَبُ
إنَّ نفوسنا مثل مياه البركة، فهي عندما تكون ساكنة تبدو المياه صافية على سطحها فيما الأوساخ تترسَّب في قعرها، أمّا عندما نحرّك البركة ونحرّك ماءها فإنَّ الأوساخ تختلط بالماء الصافي وتطفو على سطحها حاجبة صفاءها السابق.
إذا لم تستطع أن تملك غضبك فلن تستطيع أن تملك سرّك، بل سيستطيع الآخرون أن يطّلعوا على أسرارك بعدما يستثيرونك.
أوحى الله إلى داوود أن "اذكرْني في غضبك أذْكُرْكَ في غضبي حتّى لا أمحقَك في من أمحق"؟ إذا غضبت فلا تحاول أن تفجِّر غضبك في ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، للإمام عليّ (عليه السلام) تعبير جميل في كظم الغيظ، يقول متى أشفي غيظي، مشكلتي أنا كمسلم وكمؤمن ليس عندي فرصة لأن أشفي غيظي، أعند الاقتدار، فيقال لي لو عفوت، أم حين أعجز فيقال لي لو صبرت، يقول الله أمرني بالصبر وأمرني بالعفو، فعندما أقدر على صاحبي لا أقدر أن أشفي غيظي لأنَّ الله يقول: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237]، عندما أعجز أيضاً لا أقدر لأنَّ الله يقول: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل : 126]، وربّما في بعض كلماته أنّه "مَن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان جرعة غيظ يردّها بحلم وجرعة مصيبة يردّها بصبر"(1)، إنَّه الإنسان المنتصر دائماً، يقال مرَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على جماعة وهم يتبارون في حمل حجر فسألهم ماذا تفعلون، قالوا نرى مَن هو بطل فينا، قال لهم "ليس الشديد بالصرعة"، الشخص البطل ليس الذي يضرب أو يحمل حجراً أكبر من حجر الآخر، ولكنّ الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه هو البطل، لأنَّ عضلاتك المتمرّسة تستطيع أن تحمل حجراً، ليست هذه بطولة كذلك الإنسان الذي يضرب ويقتل.. ولكنَّ الأمر الذي يشكّل عنصر إنسانيّتك هو الصبر وكظم الغيظ.
اضغط على أعصابك، عندما تثور فإنَّ ذلك يحتاج منك إلى طاقة أكثر من الطاقة التي تصرفها العضلات في حمل الأثقال وأكثر من الطاقة التي تصرفها اليد في إطلاق الرصاص ليس من البطولة في شيء أن تضرب وتسرق وتقتل الناس، البطولة هي أن تقاوم الشيطان وإيحاءاته الخبيثة. وقد ورد أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ وأنّه أساس كلّ شرّ وأنَّ الإنسان الذي يكظم غيظه احتساباً لله، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يفيض عليه من رحمته، وفي الآية نفسها أنّ الله يعطيه المغفرة والجنّة. إذاً علينا أن نتعوّد على تبريد أعصابنا وتسكين غضبنا وأن نوسّع صدورنا، وذلك في خطّين.
الخطّ الأول: النظر إلى الله سبحانه وتعالى ومراقبة الله في ذلك، لأنَّ الغضب قد يقودنا إلى ما يغضب الله وإذا خسرنا رضى الله خسرنا كلّ شيء.
الخطّ الثاني: التفكير في نتائج الغضب التي قد تأكل كلّ حياتك وقد تفقد حياتك بلحظة غضب، وربّما تفقد حريّتك في لحظة غضب، وربّما تعاني من الآلام الكثيرة عندما تجرح بلحظة غضب، لهذا علينا أن نتدرّب على امتلاك غضبنا وأن لا نغضب إلاّ لله، اغضب لله، إنَّ الله يريد منك أن تغضب له ولكن غضباً عقلانياً، الغضب العقلاني يعني أن تحرّك غضبك بحيث لا تخرج عن طاعة الله سبحانه وتعالى، لا تتكلَّم كلمة لا يرضاها الله ولا تتحرّك في أيِّ عمل لا يرضاه الله.
هذا هو الأساس الذي يريدنا الإسلام أن ننطلق به وأن نعيشه على مستوى حياتنا الفردية وعلى مستوى حياتنا العامّة. ونحن نعرف أنّ كثيراً من مشاكل الحياة الزوجية أو الحياة الأبويّة مع الأولاد تحدث من خلال الغضب الذي لا يسيطر معه هذا الطرف على نفسه أو ذاك الطرف عليها فيشاركان في هدم البيت كلّه على رؤوس الجميع. وهكذا نجد أنّ كثيراً من المشاكل التي تقود إلى التحاقد وإلى التقاتل والتنازع، إنّما تنطلق من موقف غضب لا يملك فيه الإنسان وضوح الرؤية ولا يملك فيه العقل فيؤدّي ذلك إلى ما يؤدّي من الفتن الكثيرة التي تحرق الأخضر واليابس. لهذا لا بدّ لنا من أن ندرس مسألة الغضب وتربية النفس على أساس أن لا يغضب الإنسان، وإذا غضب فلا بدّ أن يربّي نفسه على أن يهدّئ غضبه وعلى أن يحرّك غضبه في طريق لا يغضب الله وعلى أن يعطي غضبه جرعة من العقل. ربّما نغضب من أوضاعنا العصبية وأوضاعنا الاجتماعية، صعب أن يملك الإنسان غضبه بسهولة، لكن بمجرّد أن تغضب حاول أن تعطي غضبك جرعة من عقل أو جرعة من إيمان.. في بعض الأحاديث أنّ الإنسان إذا غضب فعليه أن يذكر ربّه وإذا كان واقفاً عليه أن يجلس، عندما تقعد تبرد أعصابك قليلاً، وهكذا ابحث لنفسك في حال غضبك عمّا يمكن أن يبرّد غضبك أو ينهي حالتك العصبية، حتّى تستمرَّ حياتنا وحتى نستطيع أن نملك أمرنا.
المخابرات وعوامل الإثارة عند الشعوب
في دراستنا لحركة أجهزة المخابرات في العالم وفي حركة التيّارات السياسية العالمية، نجد أنّهم يدرسون عوامل الإثارة عند الشعوب؛ إذ ربّما تعيش بعض الشعوب حالة عشائرية فيدرسون عناصر الإثارة في العلاقات العشائرية، وكذلك في الحالة الطائفية أو الحزبية.. ويدرسون كيف يجدون عصبية تعمل على أن تلغي الآخر أو يجدون في بعض الأوضاع حالة احتقان نفسي من خلال الكلمات المثيرة ومن خلال الحركات المثيرة، ومن خلال الأجواء المثيرة، حتّى يتحرّك الجوّ من حالة احتقان، وحتّى يتحرّك الجوّ في حالة اشتعال بحيث يمكن لعود ثقاب واحد أن يحرق البلد كلّه.
قلوبنا تطرى بالإيمان وبالحوار بالعلاقات الإنسانية.. بعض الناس يريدون أن يجفِّفوا قلوبنا ويجفّفوا كلّ مشاعرنا وعقولنا، وعندما تيبس المشاعر والعواطف والقلوب والعقول، عند ذلك يسهل كسرها وكذلك إشعالها. لهذا فلنعش الطراوة التي تجعل كلّ واحدٍ منّا يفكّر في علاقته بأخيه بروح المحبّة والمودّة على أساس أن تكون تلك المشاعر الطريّة الليّنة والكلمات الليّنة هي التي تحاول أن تسيطر على كلّ عمليات الاحتقان والاشتعال، وحتّى نستطيع أن نتخلَّص من كلّ تخطيط مخابراتي يريد لنا الانتقال من فتنة إلى فتنة ومن حرب إلى حرب. نحتاج أن نعيش أخلاقية كظم الغيظ، أن ننظر إلى ما عند الله في ذلك كي نواجه من يأتينا ليحرّضنا بما يتناسب مع الموقف الحكيم.
يأتيك حامل إشاعة، الجماعة الفلانية خصومنا قتلوا صاحبنا قالوا كذا وعملوا كذا، فيثور الناس، عندما يأتي ويتكلَّم يقال له، من أين سمعت، مَن الذي أخبرك، كيف حدثت القضية؟ سؤال وجواب وعندما تكتشفون أنّ هذه الكلمة ليس لها واقع وليس لها حقيقة فيبرد الجوّ... كثير من الناس يأتون وهم يعتمدون على طبيعة المشاكل الموجودة بين الناس حتّى يحاولوا أن يثيروها.
علينا أن ندقِّق في أجواء الإثارة
لهذا، علينا ـــ ولاسيّما في هذه الظروف الصعبة العصيبة، لا على مستوى الواقع الإسلامي في لبنان بل على كلّ المستويات في العالَم الإسلامي ـــ علينا أن ندقّق في كلّ عمليات الإثارة(1)، ولا بدّ لنا من أن نخترق شخصية كلّ إنسان يحاول أن يحمل لنا عنصر إثارة يريد أن يثير الجو به، لأنّه ربّما كان عنصر مخابرات أو مخدوعاً من عنصر مخابرات، ونحن نعرف أنّ المخابرات مزروعة في ساحتنا بعدّة وجوه، وبعدّة أقنعة، ولذلك لا بدّ من الحذر في ذلك، ولا بدّ من الوعي لكلّ ما تسمع ولكلّ ما تشاهد من أمور ومن قضايا، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ليس أن تحبس غضبك لتتعقَّد، ولكن احبس غيظك وفكِّر أن تعفو إذا كان العفو لا يضرّ صاحبك ولا يضرّ الحياة من حولك، أن تعفو قربةً لله سبحانه وتعالى، ثم أن تحسن إلى مَن أساء إليك {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران : 134] لتحصل على محبّة الله، ينقل في هذه القضية أنّ الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) كان يغسل يديه وكان هناك غلام له أو جارية تصبّ الماء من الإبريق على يديه انشغلت في بعض الأشياء التي رأتها فسَقَطَ الإبريق ـــ وكان إبريق نحاس ـــ على رأس الإمام فشجّه فسال منه الدم، طبعاً هذا خطا يستحقّ العقاب، عادة يثور صبر الواحد مثلاً قد يحدث هذا الأمر مع أيّ شخص منّا هل يبقى عندك وعي، هذه الجارية لبقة مترتّبة في بيت الإمام طبعاً قالت له يا مولاي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لقد كظمتُ غيظي قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال لقد عفوتُ عنكِ قالت {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال اذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله، تثبيت عملي تسلسلي؛ أن تكظم غيظك، وتعفو عمَّن أساء إليك، ثمّ تحسن إليه. وهذه حكاية نحكيها الآن، وقصّة نسمعها، لكن وقت التطبيق صعبة كثيراً ولأنّها صعبة كثيراً كان ثمنها الجنّة، فالجنّة حُفَّت بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات. ليس سهلاً أن يحبس الإنسان غيظه وليس سهلاً أن يعفو الإنسان عمَّن أساءَ إليه، ليس سهلاً أن تحسن إلى مَن أساء إليك، إنَّها من أصعب الأشياء على النفس، ولكنَّ الجنّة تستحقّ ذلك كلّه. وهناك نقطة أخرى، الله سبحانه يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة : 111]. الله يقول لك أنا مستعد لأن أشتري نفسك ومالك على أساس الجنّة، أنا أشتري غضبك وأعطيك الجنّة مقابله، ليس الأمر سهلاً بالطبع، كما تجاهد في قتال العدوّ وتقف من أجل أن تواجهه، الله يقول الجنّة أُعِدَّت للمتّقين، ومن المتّقين الكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، يعني هنا جنّة وهنا جنّة، فكما تتحمّل كلّ شيء وتضحّي بنفسك حتّى يرضى الله عنك وحتى تحصل على الجنّة؛ ضحِّ بانفعالك، ضحِّ بمزاجك، ضحِّ بغضبك والله يقول: لكَ الجنّة، فالمسألة فقط تحتاج إلى عقل ووعي، والتفكير في ما عند الله سبحانه وتعالى. وإنْ شاء الله تطبّقها، ولو بعد سنة، لكنّ المهم أن نبدأ الخطوة الأولى في هذا المجال، بعد قليل ستذهبون إلى معايشكم ومنكم مَن يذهب إلى المنزل ترى البيت ليس نظيفاً، ترى الولد متّسخاً قليلاً، الطبخة لم تعجبك، فتصيح في وجه امرأتك لأنّها تأخّرت عن صنع الطعام، لا، هذه أوّل تجربة لك بعد سماع هذا الكلام، لذا يجب عليك أن تصبر في هذا المجال، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} ممّا يغضب الله {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بالمعصية، {ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} إذا استغفرت الله وتبت إليه، فإنَّ الله يغفر لك ذلك {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135 ـــ 136].
هذا الجوّ من التقوى هو الذي نحتاجه، وهذا هو الذي يدلّ على إيمان الإنسان المؤمن وعلى محبّته لله، لأنَّ بعض الناس ربّما يعتبر علامة الإيمان في الصلاة التي يصلّيها وهي علامة من علامات الإيمان، ولكن قد يعتادها الإنسان فيمارسها على أساس العادة، وهناك من الناس من يعتبر أنّ الصوم هو علامة الإيمان فيعتبر نفسه مؤمناً إذا صام وصلَّى وحجَّ وفعل بعض المستحبّات ويعتبر أنّه قد أمسك بمفتاح الجنّة، إنَّ الله يقول لك: الإيمان عند الغضب، تعرف نفسك؛ هل يسقط إيمانك عند غضبك أم يثبت إيمانك في هذا الموقع، الإيمان في مواقع العطاء، الإيمان في مواقع الاستغفار، فاعرف إيمانك من خلال ذلك، وهذا ما نريد أن نؤكّده في مجتمعنا المؤمن. إنَّ قضية المؤمنين هي أن يجعلوا شخصيّتهم صورة لإيمانهم، وأن يعتبروا أنّ أخلاقية الإسلام في مثل هذه الأمور وفي غيرها؛ هي التي يمكن أن تنجّي من عذاب الله وتؤدّي بنا إلى نيل النعيم الأبدي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين