الموقف المبدئي بين الصدق والكذب

الموقف المبدئي بين الصدق والكذب

الموقف المبدئي بين الصدق والكذب(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن الذين ينالون رحمته ويقربون إلى رضوانه ويعيشون في جنّته، في مقابل أولئك الذين يبتعدون عن رحمته ويعيشون في عذابه وعقابه، يحدّثنا عن الصادقين الذين يجيؤون بالصدق عندما يريدون أن يتحرَّكوا في حياة الناس ليمارسوا مسؤولياتهم كما يحدّثنا عن الكاذبين الذين يكذبون على الله ويكذبون على أنفسهم ويتّخذون الموقف الذي يبعدهم عن الله، ليكون الصادق هو الذي يتّصل بالله من موقع الصدق لأنَّ الصدق هو الحقّ والله هو الحقّ ويكون الكاذب من ليس له علاقة بالله، كما لا علاقة بين الحقّ والباطل لأنَّ الكذب باطل، قال الله وهو يتحدّث مع عيسى بن مريم (عليهما السلام) {... أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ...} [المائدة : 116] فأجابه عيسى بما أجابه وخَتَم الله الحديث مع عيسى. والله عندما يحدّث نبيّاً من أنبيائه لا يحدّثه بشخصه ولكنّه يحدّث الناس كلّهم، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة : 119] أن يرضى الله عنك وأن ترضى عن الله هي القضية، أن تصدق الله في كلّ حياتك كما صدقك الله في كلّ أمورك.
الصدق والكذب في ميزان الدين
وهكذا يحدّثنا الله عن النموذجين {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ*وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ*لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ*لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 32 ـــ 35] وهكذا يحدّثنا الله عن الذين يفترون الكذب {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل : 105] وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى عن الذين يكذبون عليه {... وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 78] هذه الآيات تريد أن تؤكّد للإنسان المؤمن شخصيّته على أساس عمق المعنى الذي يتمثّل في أخلاقيّته؛ ما هو خلقك؟ مَن أنت في حركة الصدق والكذب في الحياة؟ فإذا كنتَ صادقاً فأنتَ المؤمن، وإذا كنتَ كاذباً فلست بالمؤمن. سئل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن حالات الانحراف التي قد يضعف المؤمن فيها أمام نقاط الضعف في داخل شخصيّته من خلال ما يحيط به من تهاويل وأوضاع، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن في لحظات الضعف حالة البخل، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن حالة الجبن أمام نوازع الخوف، قد يضعف، قالوا: هل يكون المؤمن كذّاباً؟ قال: لا... أن تكون كذّاباً وأن تكون مؤمناً لا يلتقيان، فمعنى ذلك أنّك إذا أخذت بالكذب في حياتك واتّخذت الكذب طابعاً لحياتك وتحرّكت في الحياة على أساس أن تكذب، فمعنى ذلك أنّ إيمانك يهرب منك في اللحظة التي تلتقي فيها بالكذب، وعندها لن تكون المؤمن. صلِّ ما شئت، وصُمْ ما شئت أيُّها الكذّاب، وحُجّ ما شئت واعمل ما تريد، ولكن كنْ الكاذب في حديثك والكاذب في وعدك والكاذب في عهدك والكاذب في موقفك؛ فلستَ بمؤمن، لماذا؟ لأنَّ معنى الإيمان هو أن ترتبط بالحقّ، ومعنى الكذب أن ترتبط بالباطل، ولا يجتمع في قلب شخص مؤمن وفي حياة شخص مؤمن أن يرتبط بالحقّ وأن يرتبط بالباطل في آنٍ معاً، لهذا فكِّروا في المسألة تفكيراً دقيقاً لأنَّ القضية تتّصل بعمق الإيمان ولا تتّصل بالحالات الطارئة للانحراف العملي في الحياة، لن يكون المؤمن كذّاباً، فإذا عاش الكذب في حياته هرب الإيمان من شخصيّته. وهكذا نمتد أكثر لنلتقي بالصفة التي يوصف بها الكذّاب في الإسلام، ويوصف بها الصادق في الإسلام؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، أيُّها الكاذب إنّك خائن، أيُّها الصادق إنَّك الأمين، لأنّك عندما تعيش في المجتمع وعندما تعيش مع الله ومع نفسك، فالحقيقة أمانة الله عندك والحقيقة أمانة الناس عندك والحقيقة أمانة الإيمان عندك، عليك أن تحوطها بما تحوط به نفسك وأهلك وأولادك.

الكذب خيانة للأُمّة
الحقيقة تدخل في وعي الناس للفكرة، ووعي الناس للحادثة، ووعي الناس للموقف، الحقيقة تربط الناس بطبيعة الأشياء التي يرتبطون بها ويتحرّكون من خلالها، فإذا قلبت لهم الحقيقة وتحدّثت عن الباطل، وقلت كلمة الكذب في العقيدة؛ فمعنى ذلك أنّك أبعدت الناس عن مواقع سلامتهم، وإذا قلت كلمة الكذب في الحادثة التي حدثت فمعنى ذلك أنّك شوَّهت الصورة للواقع، وإذا كذبت الكذبة في الموقف فمعنى ذلك أنّك أربكت الموقف، الكذَّاب يخون الناس لأنّه يخون الحياة التي يرتبط بها واقع الناس ويرتبط بها مصير الناس في كلّ مجال. إِنّك عندما تقف أمام الكذّاب وأنتَ واثق به لأنّك لم تعرف عمق شخصيّته سيقول لك إنَّ فلاناً إنسان مخلص، وهو إنسان غير مخلص، فيدفعك ذلك إلى أن تتبع فلاناً وتسقط أمام زيف فلان الذي حجبه هذا عنك ومنعك أن تكتشفه من خلال تجربتك الشخصية، وهكذا عندما ينقل لك الصورة على غير الحقيقة فإنّه يدفعك إلى أن تأخذ قناعة أو تصدر حكماً أو تتصرَّف تصرُّفاً يجعلك تظلم البريء أو تحكم عليه بغير حقّ ويجعلك تتصرَّف تصرُّفاً لا يرضاه الله، لهذا كان الكذب خيانة، إذا كنت تتعامل بالكذب فخذ هذا الوسام من الله سبحانه وتعالى ليخاطبك به الله يوم القيامة، ولا تلم الناس إذا قالوا عنك إنّك خائن لأنّك ارتضيت لنفسك عندما كنت الكذَّاب أن تكون الخائن، لأنَّ الكذب والخيانة يتحرّكان في موقعٍ واحد، والصدق أمانة الصادق، يعتبر الحقّ في الفكرة، والحقّ في الحادثة، والحقّ في الموقف، يعتبره من الأمور التي تمثّل أعلى أنواع الأمانة، لهذا تراه يدقّق في كلماته كي لا تزيد عن الفكرة ولا تنقص عنها، يدقّق في كلماته كي لا ينسى كلمة أو يضيف كلمة لأنّه يعتبر أنّ كلمته تمثّل الصورة التي يتمثّلها الناس للحقيقة.


الصدق يستلزم الأمانة
الصدق والأمانة يتحرّكان معاً، فلن تجد صادقاً غير أمين لأنَّ بعض الناس قد يصدقون في كلماتهم ولكنّهم لا يصدقون في الأمانات في ما يأتمنهم الناس، هم الكاذبون في مواقفهم، ولهذا هم ليسوا صادقين، ولهذا جعل الإسلام الصدق والأمانة يسيران جنباً إلى جنب، فكان رسول الله الصادق الأمين، وجاءت كلمات أهل البيت (عليهم السلام) التي تقول لنا إذا أردتم أن تكتشفوا إيمان شخص هل هو مؤمن أو ليس بمؤمن، فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده فلعلَّها عادة اعتادها ويشقّ على المرء ترك عادته، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وقال الإمام الصادق (سلام الله عليه) لبعض أصحابه وهو يريد أن يبلّغه رسالة إلى شخص آخر: انظر ما بلغ به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من المنزلة عند رسول الله فالزمه، فإنّك بذلك تنال المنزلة عندي فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة، فقد كان الصادق الأمين، وهذا ما يجب علينا أن نعيشه في حياتنا ولاسيّما إذا كان الإنسان الذي تكذب عليه يثق بك وأنتَ تستغلّ ثقته بك وتستغلّ أنّه لا يشكّ فيك لتعمل على تشويه الصورة عنده، كبُرت خيانة أن تحدث خيانة، يعني من أكبر أنواع الخيانة خيانة أن تحدّث أخاك بحديث هو لك مصدق وأنتَ به كاذب، لأنّك كنتَ تتحرّك من خلال خيانتين: خيانة الثقة التي يمنحك إيّاها الإنسان وخيانة الحقيقة التي لم تقدّمها كما يجب مع هذا الإنسان أو ذاك، إيّاكم والكذب فإنّه يهدي إلى الفجور وهو في النار، إذا كذبت فإنَّ الكذب يفتح لكَ أبواباً ويفتح لك متاهات ويفتح لك آباراً عميقة في الحياة وستلتقي بالنار في كلّ ذلك.
مَن هم الصادقون؟
بعض الناس يقول نحن شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى هذا الأساس "حبّ عليّ حَسَنة لا تضرّ معها سيّئة"، فلا مانع من أن نكذب، فالسياسة تحتاج إلى كذب، والتجارة تحتاج إلى كذب، والحياة الاجتماعية تحتاج إلى كذب، وتريدون منّا أن نحمل "السلّم بالعرض" فنصدق والنّاس كلّهم يكذبون، بعض الناس يقول ذلك، لكن إذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي هو سيّد عليّ (عليه السلام) وإمامه ونبيّه وقائده وأستاذه الصادق الأمين، وإذا كان عليّ (عليه السلام) بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكانت مشكلته أنّه الصادق الذي عاش مع الحقّ وعاش الحقّ معه، فما قيمة أن تحبُّوه أيُّها الكذّابون، ما قيمة ذلك؟ عليّ (عليه السلام) لم يحارب الناس على أساس عواطفهم، ولكنّه حارب الناس على أساس موقفهم من الله، ولهذا مَن كان وليّاً لله فهو ولي لعليّ الذي لا يتحرّك في ولايته إلاّ من خلال الله، ومن كان عدواً لله فهو له عدو. واستمعوا إلى كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان في شيعة زمانه بعض الكذّابين، كما أنّ هناك في شيعته وغير شيعته الكثير من الكذّابين الآن، يقول إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر ـــ يعني فيمن ينتحل التشيُّع ويقول إنّني من شيعة عليّ وشيعة أولاده ـــ "إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر لمن يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه"(1)، يعني كذّاب من الدرجة الأولى بحيث يحتاج الشيطان أن يتعلَّم منه حتى يرقى إلى مستوى كذبه، هذا واقع موجود، يقول بعضهم أنا شيعي، ولكنّه يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه، أيّ شيعي هو هذا الشيعي، وأيّ التشيُّع هو هذا، إنَّ التشيُّع ليس عاطفة، إنّه الإسلام الذي ينطلق في خطّ حاسم على النهج الذي انطلق به الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ حياته. أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الحقّ، أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الصدق، وأمّا إذا كنت مع الباطل وكنت مع الكذب فكيف يتعرّف عليك عليّ (عليه السلام) الصادق الذي حارَبَ من أجل الصدق. لهذا لا تفكِّروا بالشكليات ولكن فكّروا بالعمق في ذلك كلّه، لأنّكم تقفون أمام الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يطّلع على كلّ شيء مهما كان دقيقاً ومهما كان خفيّاً. وهكذا جاء رجل إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال يا رسول الله ما عمل الجنّة، أنا أحبّ أن أدخل الجنّة وأنتَ دليلنا إلى الجنّة ودليلنا إلى الأعمال التي تدخلنا الجنّة، قال: "الصدق، إنَّ العبد إذا صدَق برّ وإذا برّ آمن وإذا آمن دخل الجنّة"، الصدق يقودك إلى الخير والخير يقودك إلى الإيمان والإيمان يقودك إلى الجنّة، قال رسول الله وما عمل النار، قال: "الكذب، إنّ العبد إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار"، وهناك حديث أخطر من ذلك يقول إنّ الله جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح لتلك الأقفال الشراب والكذب، والكذب شرّ من الشراب. إذا قالوا عن أحدكم إنّه يصلّي ويصوم ويشرب الخمر، فهل يعقل أن يكون الإنسان مصليّاً وشارباً للخمر، ولكنّ الكذب شرّ من الشراب لأنَّ الشراب يسيء إليك وحدك؛ يُذهِب عقلك ويُفسِد جسدك، ولكنّ الكذب يشكِّل خطراً على حياتك وحياة الآخرين، فهو أخطر من الشراب في النتائج وهو من مفاتيح الشرّ التي أراد الله لها أن تبقى مغلقة في الحياة، استمعوا إلى هذا الحديث، أيُّها المؤمنون الذين تستحلُّون الكذب في المزاح: "لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه"(1) وفي وصية الإمام زين العابدين (عليه السلام) لأولاده قال: "اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في هزل أو جدّ، فإنَّ الرجل إذا اجترأ على الصغير اجترأ على الكبير"(2)، يعني الإنسان يأخذ كذبةً صغيرة وفي ما بعد يأخذ أكبر منها بقليل حتّى يصل إلى الكذبة الكبيرة، وهكذا تبدأ كذبة مزاح ويتعوَّد اللّسان على أن يتحرّك بالباطل.
فلهذا يحرم الكذب في الجدّ والهزل وتحرم الكذبة الصغيرة كما تحرم الكذبة الكبيرة، لأنَّ الله لا يريد للحياة أن تفقد الصورة الحقيقية التي يتمثّلها الناس في كلّ أمورهم وفي كلّ قضاياهم وفي كلّ حياتهم.
متى يكون الكذب مباحاً؟
وإذا كان الكذب يمثّل الشرّ الذي يفتح كثيراً من الشرور في الحياة، فإنَّ هناك استثناءات في الإسلام لمسألة الكذب، فقد يكون الكذب واجباً وقد يكون الصدق حراماً، قد يجب الكذب إذا أردت أن تصلح بين اثنين وكان الخلاف بينهما يؤدّي إلى إزهاق النفوس وتوقَّف الصلح على أن تكذب على هذا لتفتح قلبه على ذاك وأن تكذب على ذاك لتفتح قلبه على هذا بكلام لم يقله هذا ولم يقله ذاك، إنّك في هذه الحالة يجب عليك أن تكذب لتمنع النتائج الكبيرة التي تتحرّك من خلال هذا الخلاف في ما بينهم، وقد يستحبّ الكذب إذا لم تكن المسألة بدرجة الوصول إلى الخلافات التي تؤدّي إلى القتل أو ما إلى ذلك. وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الكذب في الإصلاح بين الناس لا يمثّل أيّة خطيئة بل يمثّل الأجر عند الله حتّى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قال: "الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس"(1)، فاعتبر الإصلاح بين الناس خارجاً عن دائرة التقابل بين الصدق والكذب كأنّه يمثّل قَسَمَاً بذاته، وهكذا يجوز لك أن تكذب إذا أردت أن تنقذ أخاك من الموت أو من خطر محدق أو تنقذ نفسك، لأنَّ الكذب إنّما حرَّمه الله لما فيه من المفسدة، فإذا كانت المصلحة فيه أعلى من المفسدة فإنَّ الله يعطيك الإجازة في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث "احلف بالله كذِباً ونجِّ أخاكَ من الموت أو من القتل"، وقد ورد في الحديث في هذا المجال أنّ "الله أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد"(2)، لو جاءك إنسان وطَلَب منك أن تدلّ على أخيك ليقتله أو ليسجنه ويعذّبه فإنَّ الله رخَّص لك أن تنقذ أخاك وإن اضطررت لأن تقول غير الحقيقة، فإذا أردت أن تصدق فإنّك مأثوم في صدقك لأنَّ الصدق يقودك إلى أن تقتل أخاك أو أن تورّطه في شيء يشكِّل خطراً على حياته، ولا بدّ للنّاس من أن يأخذوا هذه الأمور بالاحتياط وأن يأخذوا هذه الأمور بالدقّة التي تجعلهم معذورين أمام الله ليراجعوا الأُمناء على حلال الله وحرامه ليعرِّفوهم ما يجب لهم أن يفعلوه من ذلك كلّه.



محّص كلام الفاسق
وهكذا ننتقل بعد ذلك إلى مسألة الاستماع إلى الكذّابين؛ فالله حدّثنا في كتابه {... وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ...} [المائدة: 41] يعني يلقون بآذانهم إلى الكذّابين ويشجِّعونهم بالإقبال على الكذب ويصدقونهم في كذبهم من دون أن يبحثوا عن طبيعة الموضوع. إنَّ الله يمقت هؤلاء الناس الذين يرتاحون للحديث الذي يعجبهم حتّى من الكذّابين ويرتاحون للكلمات التي تمثّل مصلحتهم الذاتية حتّى من الكذّابين والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لا تأخذوا كلمات الفاسق ولا تستغرقوا في الاستماع إلى حديثه ولكن تبيَّنوا حديثه هل هو حقّ أم باطل، هل هو صدق أم كذب، تبيَّنوا الحديث جيّداً حتى لا تظلموا الناس {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]، وإذا أردتم أن تعرفوا مسؤولية الاستماع للكذّابين والاستغراق في الإقبال عليهم والتصديق لكلامهم من دون فحص فأصغوا إلى هذا الحديث، "مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده"(1)، إنَّك عندما تصغي إلى من يتكلَّم بكلّ مسامع قلبك وأُذنك وبكلّ كيانك فهذا موقف عبادة، أنتَ تخشع له، وتخضع له فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عَبَدَ الله في إقباله عليه، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عَبَدَ الشيطان، فأنتَ عندما تستغرق مع الكذّابين في حديثهم وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى قلبك بدون أيّ تفكير أو أيّ تفتيش أو أيّ بحث، وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى فكرك وإلى لسانك فإنّك تعبد الشيطان، وإنْ كنتَ تقول أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، لأنَّ المسألة هي مسألة الموقف وليست مسألة الكلمة، وهناك صدق في المعاملة وكذب في المعاملة، أنتَ عندما تعطي التزاماً على نفسك في عملك على أساس شروط معيّنة ومواصفات معيّنة ثمّ لا تفي بذلك فأنتَ الكاذب في عقدك وعهدك والكاذب في شرطك الذي التزمت به لأنّك أعطيت كلاماً، والمؤمنون عند شروطهم. عليك أن تصدق في ما أعطيت لأنَّ آية المنافق ثلاث، إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا ائتمن خان. فحاولوا إذا كنتم من أصحاب الأعمال، في أيّ عمل من الأعمال، ووقعتم على شروط، فعليكم أن تفوا بهذه الشروط وإلاّ كنتم من الخونة وكنتم من الكاذبين في معاملاتهم وفي شروطهم. وهكذا حتّى في الوعود العادية عليك أن تكون الصادق في وعدك حتّى لولدك.
الآثار السلبية للكذب في العائلة والمجتمع
بعض الناس يستحلُّون الكذب على أولادهم وكأنّهم يعتبرون أنّ المسألة مسألة على مَن تكذب، هذا طفل ويريد أن يتعلَّق بي ليخرج معي فأقول له ارجع إلى البيت وسأجلب لكَ معي هديّة، وأنا عازم على أن لا أجلب له تلك الهدية، تلك كذبة يعاقبك الله عليها من ناحيتين: أوّلاً لأنّك كذبت، وثانياً لأنّك أعطيت ولدك أوّل درس في الكذب، لأنّه عندما تأتي والهدية ليست معك فإنّه يعتقد بأنّ الكذب شيء جيّد، أبي يكذب وهو المثل الأعلى، فعليَّ أن أكذب عليه، وعليَّ أن أكذب على أخي وعليّ أن أكذب على ابن الجيران، وبذلك تكون أوّل مدرسة يتعلَّم فيها الولد الكذب، هي مدرسة أمّه وأبيه. هذه مسألة أساسية لا بدّ من معرفتها. بعض الناس يفكِّرون أنّ علينا أن نصدق مع المسلمين أمّا غير المسلمين من الكافرين فعلينا أن نكذب عليهم، نكذب عليهم في المعاملة ونكذب عليهم في الحديث ونكذب عليهم في المواقف، ولكنَّ الله يريد للحقيقة أن يعرفها كلّ الناس من المؤمنين ومن الكافرين، لأنَّ الله يريد للكافر أن يرتبط بالحقيقة في الحياة حتّى يقوده الارتباط بالحقيقة إلى أن يرتبط بالإيمان بالله الذي هو حقيقة الحقائق، لهذا مسألة أن تكذب، ليست مسألة الشخص الذي تكذب عليه ولكنّها مسألة الحقيقة التي تخفيها وتشوّهها من خلال كذبك.




الدعوة بغير اللّسان
كونوا الصادقين مع كلّ الناس صغاراً وكباراً وكونوا الصادقين مع كلّ الناس مسلمين وغير مسلمين، لأنَّ ذلك أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يوجّه نصيحته إلى أصحابه يقول: "كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم"(1)، أتريدون أن تدعوا إلى الله، أتريدون أن تدعوا إلى خطّ أهل البيت (عليهم السلام) كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم ليلقوا منكم الصدق والخير والورع فإنَّ هذا أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله.
بين القناعة النظرية والموقف العملي
ثمّ هناك مسألة الصدق في الموقف، أن يكون موقفك متطابقاً مع قناعتك ومع إيمانك، فلا يكون إيمانك في جهة وموقفك في جهةٍ أخرى، تماماً كالكثيرين الذين كانوا يعيشون قناعات معيّنة ولكنّهم وقفوا ضدّ قناعاتهم لأنّهم يريدون ما لا تكفّله مواقف القناعات بإمكانه أن يجمع بين قناعته وبين مسألة الانحراف في الموقف، لأنَّ الله سبحانه وتعالى فَتَحَ للإنسان باب التوبة إذا عصاه العبد، فيمكن للإنسان أن يبتعد عن قناعته وعن إيمانه ثمّ يتوب إلى الله بعد ذلك، هذا منطق الكثيرين، كما يُروى عن عمر بن سعد(1) أو يمثّل لسان حاله:
فواللهِ ما أدري وإنّي لحائرٌ أُفكّرُ في أمري على خطرينِ
أأتركُ مُلْكَ الريِّ والريُّ منيتي أَمَ ارجعُ مأثوماً بقتلِ حُسينِ
يقولونَ إنَّ اللهَ خالقُ جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغِلِّ يدينِ
فإنْ صدقوا في ما يقولونَ فإنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
فيجمع الدنيا والآخرة، بعض الناس يفكِّرون بهذه الطريقة، وكان أهل الكوفة والكثيرون من الناس يفكِّرون بهذه الطريقة أو يريدون جاهاً، أو يريدون أيَّ شيء، ماذا كان عمر بن سعد، ما قد يكون انطباعكم سيّئاً عنه ولكنّكم تملكون رأياً عظيماً في كثير من أمثال عمر بن سعد، لأنَّ مشكلتكم أنّكم تحدّقون بالشخص في التاريخ ولكنّكم لا تحدّقون به كنموذج للموقف وكنموذج للانحراف، لتجعلوا من الشخص صورة لكلّ شخص، فيزيد ليس شخصاً في التاريخ ولكنّه شخص في كلّ حركة الانحراف في الحياة، وهكذا بالنسبة إلى عمر بن سعد وأمثاله، كان يحبّ الحسين كأعظم ما يكون الحبّ، وكان يحترمه كأعظم ما يكون الاحترام، ولكن لوَّح له يزيد بملك الري، وكان التلويح مناسبة ليعيش القلق وليوازن بين قناعته وبين موقفه، وخُيِّل إليه أنّه ينقل عن لسان أحد الزائرين للكوفة رداً على سؤاله كيف تركت الناس في الكوفة قوله قلوبهم معك، يحبُّونك وتدمع عيونهم عندما نذكر اسمك أمامهم، ولكنَّ سيوفهم عليك، لأنَّ سيوفهم كانت في خدمة جيوبهم وأطماعهم، والكثيرون من الناس يعيشون هذا الواقع، يعيشون واقع الازدواجية في القناعة وفي الموقف، لأنَّ القناعة قد لا تطعم خبزاً كما يقول بعض الناس، إنَّ الإسلام لا يطعمنا خبزاً، والإيمان لا يطعمنا فاكهة، إذاً نحن مضطرون، نحن أصحاب عيال وأطفال، نحن مضطرون إلى جرعة من الكفر هنا وإلى صحن من الباطل هناك، وموقف ممّا بين الحقّ والباطل حتّى لا نكون متطرّفين متزمّتين، حتّى يرضى عنّا الذين يملكون الطمع في كلّ أوضاعهم. كن صادقاً في مواقفك. إيمانك عهد بينك وبين الله، فكِّر قبل أن تتقدَّم، فكِّر لأنّه سيأتي وقت لا يفيدك التفكير فيه عندما تتّخذ الموقف هنا بعيداً عن التفكير في وقوفك غداً بين يديّ الله. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، هل أنتَ مع الإيمان حقّاً، هل أنتَ مع الصدق حقاً، هل أنتَ مع الإسلام حقاً، أم أنك تقلِّد الناس الذين سبقوك.


أصحاب الحسين والصدق في الموقف
إذا كنتَ مع الإسلام حقّاً، ففكِّر في أيِّ موقع يقف الإسلام، وعليك أن لا يخدعك الناس عن الإسلام، بل أن تأخذه من الأُمناء على حلال الله وحرامه، من العلماء، الذين يقول فيهم رسول الله: "العلماء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"(1) قالوا يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا قال: "اتّباع السلطان فإذا رأيتم العالَم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم"(2)، محبّاً لدنياه بمعنى أنّه مستعد لأن يغيّر موقفه لخدمة دنياه على حساب الدين، اعرفوا الإسلام جيّداً واعرفوا مواقعكم فيه، واعرفوا مواقفكم منه وركِّزوا الموقف في الموقع الصحيح لتقفوا أمام الله لتشهدوه أنّكم صدقتموه في إيمانكم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23] هذه كانت في أجواء الإسلام الأولى وتمثّلت في كلمات الحسين (عليه السلام) وهو يستعرض الجيش الذي جاء لمحاربته والجماعة القليلة الطيّبة الذين كان الواحد منهم يأتي ليستأذنه في الحرب، كان يقول وهو ينقل عينيه بين هؤلاء وبين أولئك بين الذين صدقوا العهد مع الله فجاؤوا من أجل أن ينصروا الموقف حتّى لو كان الموقف لا يحمل كثرة من الناس ولا كثرة من المال، كان الموقف يحمل العمق الرسالي المتمثّل في الحسين (عليه السلام) الذي يقول لهم لو كان الحسين وحده جبهة وكان العالَم كلّه جبهة فإنَّ الحقّ مع الحسين والباطل مع كلّ العالم، كانوا يفكِّرون بهذه الطريقة، أنَّ مسألة الحقّ والباطل لا تتمثَّل بكثرة الرجال أو قلَّتهم، فإنَّ الحقّ كان دائماً قليل الرجال، والباطل دائماً كان كثير الرجال، هكذا كان يفكِّر أبطال كربلاء. فالمسألة ليست أن تكون عندك شعبية في أوساط أعداء الله والمنحرفين عن خطّ الله بل أن تكون لك شعبية في أوساط أولياء الله والمستقيمين على خطّ الله، ولهذا كانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) وكان يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويلتفت إلى الأجساد المطروحة بين يديه من أهله ومن أصحابه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] هذا هو العمق في إيمانك.
المسألة أنّ عليك أن لا تبدّل مواقفك كما تبدّل ملابسك، بعض الناس يعتبرون المسألة في المواقف مسألة الموضة في الثياب، فكما يبدّل الإنسان ملابسه فهو يبدّل مواقفه وذلك حسب تبدّل الأوضاع والرياح، فإذا كانت شرقية فالموقف لا بدّ أن يكون شرقياً، وإذا كانت غربية، فالموقف لا بدّ أن يكون غربياً، وإذا كانت متوسّطة بين رياح شرقية وغربية فالإنسان يأخذ خطّ الاعتدال.. معنى {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أن يكون لك موقف في الدنيا تستطيع أن تدافع عنه أمام الله في كلّ المواقف سواء كانت مواقف شخصية في بيتك مع زوجتك وأولادك، أو كانت مواقف عامّة في محلّتك مع جيرانك وفي حياتك مع الناس من حولك في الدائرة السياسية وفي الدائرة الاقتصادية والاجتماعية والجهادية وغير ذلك، فكِّر أنّ موقفك في الدنيا هو موقفك في الآخرة وأنَّ جماعتك في الدنيا هم جماعتك في الآخرة، {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67]، تلك هي المسألة فحدِّد موقفك الآن حتّى إذا سألك الله عنه قبل أن تقف الموقف الصعب، أقولها لنفسي وأقولها لكم، قبل أن ننطلق لنحدِّد الموقف لا بدّ من أن نفكّر مع أنفسنا بهذه الطريقة سأؤيّد فلاناً، سأرفض فلاناً، سأسبّ فلاناً، سأعمل على أساس أن أحكم بهذا أو أتّهم ذاك أو ما إلى ذلك، في هذا المجال لو سألني الله عن ذلك وهو يعلم كلّ الخفايا، لو سألني صاحبي عن ذلك لأمكنني أن آتي له بكلّ المواد القانونية التي تدعم موقفي أو كلّ المواقف الشرعية التي أصوغها حسب ما أريد، لكن لو وقفت بين يديّ الله عندما ينطلق النداء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24] يا فلان وقل لنفسك ذلك، لو أنَّ الله سألك عن هذا المال كيف أتيت به فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف حكمت على فلان فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف أيّدت فلاناً وكيف رفضت فلاناً هل عندك جواب، قل لنفسك إنَّ الله قال لنا {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] لو فكّرت عندما تريد أن تضرب زوجتك إذا سألك الله عن ذلك، أو تضرب ولدك أو تظلم جارك أو تعمل أيّ شيء، ليس هناك فرق بين المواقف، إذا أردت أن تقف موقفاً فاعمل على أن تكون لديك الحجّة أمام الله على ذلك، وهذا هو معنى الصدق في الموقف، الله قال لك عندما التزمت بالإيمان فإنَّ ذلك عهدٌ منك لي أنّك تسير في خطّي، فهل صدقت عهدك، اطرح كلّ أعمالك حتى تعرف ذلك من خلال عملك {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] ثمّ بعد ذلك لا يكفي أن تكون صادقاً في نفسك، بل لا بدّ أن تكون مع الصادقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] مسؤوليّتك كصادق مؤمن أن تدعم كلّ مواقف الصدق في مواقف الصادقين لتكون القوّة للصادقين، لا تكن حياديّاً بين الصادقين والكاذبين، ومن الطبيعي أن لا تكون قوّة للكاذبين ضدّ الصادقين، بل أن تكون قوّة للصادقين من موقع المسؤولية التي تتحرّك تحت عنوان التقوى في ذلك كلّه.
إنَّنا نريد من خلال ذلك أن نقف في محطة الإيمان من خلال القرآن ومن خلال سُنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن خلال أحاديث أهل بيته التي لا تبتعد عن كتاب الله وسُنّة رسوله، نريد أن نقف في محطّة هادئة أمام كلّ الضجيج الذي نعيش فيه وأمام كلّ الفوضى التي نتحرّك فيها، ليعرف كلّ واحدٍ منّا نفسه وليعرف كلّ واحدٍ منّا ربّه وليعرف كلّ إنسانٍ منّا موقفه من ربّه وموقعه من ربّه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 ـــ 89]، لهذا قد نحتاج إلى أن نفكِّر طويلاً كما نحتاج عندما يوصلنا الفكر إلى نتيجة أساسية أن ندرّب إرادتنا على أن تكون في خدمة فكرنا، فكِّروا في ذلك، وتواصوا بالحقّ في ذلك وتواصوا بالصبر في خطّ ذلك كلّه. لأنَّ هذا هو أساس الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن خلال ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. مَن هم الصادقون في ما نملك من مقياس الصدق في القرآن؟ {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر : 33]، الصادق هو الذي يأتي بالصدق، وما هو الصدق؟ الإسلام هو الصدق لأنّه يمثّل الحقيقة التي أنزلها الله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...} [آل عمران : 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85]، الذي جاء بالإسلام وطَرَحه وصدَّق به في قلبه وصدّق به في لسانه وصدَّق به في موقفه، وهذا ما أراد الله من نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلنه أمام الناس كلِّهم؛ أن يكون أوّل المسلمين {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] أن تكون المسلم في كيانك، في عقلك وروحك ولسانك وأن تكون المسلم في موقفك.
الإمام وخطّ الصدق
وعلى هذا الأساس فإنَّنا نحدِّد مواقفنا مع الصادقين، وعندما رأينا الصدق متجسّداً فكراً وكلمة وموقفاً وجهاداً في الإمام الخميني(1) (حفظه الله) اتّقينا الله وكنّا معه، وعندما رأينا الصدق في مَن انطلق معه وسار في خطّه وعمل على أساس أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى وانطلق في دعوته للعالم كلّه أن لا يكون شرقياً ولا غربياً بل يكون إسلامياً، كنّا معه ومعهم لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، وعلى ذلك انطلقنا معه كقائد إسلامي يعيش قيادته من مواقع فقهه ووعيه وتقواه لا كشخص، وانطلقنا مع السائرين معه لا بصفتهم القومية ولكن بصفتهم الإسلامية، ولذلك فنحن مع الإسلام ومع الذي يصدق في خطّ الإسلام ويصدق في موقف الإسلام، ويصدق في تأكيد مواقع الإسلام ويصدق في تحرير أرض الإسلام ويصدق في تحرير إرادة الإنسان المسلم، مع الصادقين أينما كانوا في شرق الأرض وغربها، ولهذا فإنّنا مع كلّ المسلمين الذين ينادون بالإسلام ليكون شريعة الحياة الشاملة، حتّى لو كان الناس ضدّهم، وحتّى لو وقف الاستكبار ضدّهم، لأنّنا إذا وقفنا ضدّهم فنحن نقف ضدّ الإسلام، ومَن يقف ضدّ الإسلام، فكيف يمكن أن يكون على خطّ الإسلام المستقيم؟!.
لهذا، إنَّ المسألة، في كلّ الخطّ الفكري وفي كلّ الخطّ السياسي تفرز الأشخاص عندما تفرز المواقف {الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 3] الذين صدقوا في مواقفهم، والذين يتحمّلون الأخطار من أجل أن يكونوا قوّة للإسلام، تلك هي المسألة.
حملة عالمية لحصار الإسلاميين
لهذا، نحن نواجه هذه الحملة على الإسلاميين في كلّ مكان سواء كان في المغرب، في كلّ بلدانه، أو في مصر أو في المشرق العربي أو في افريقيا أو في أيّ مكان يحاصَر فيه الإسلام وتتحرّك كلّ أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية والعربية من أجل أن تحاصر المؤمنين المتديّنين الذين يعيشون تقواهم في صلاتهم ودعائهم ونداءاتهم، إنّهم يشيرون إليهم: هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء هم المتطرّفون، هؤلاء هم المتعصّبون، راقبوهم وحاصروهم وإذا استطعتم أن تقتلوهم فتلك هي النتيجة الحاسمة، هذا موقف يواجهه كلّ مؤمن صادق في كلّ مواقعه في الحياة، ونحن نشعر بأنَّ المسألة في هذه المرحلة لدى العالَم المستكبر هي محاصرة الإسلام المقاوم والإسلام المجاهد والإسلام الحركي والإسلام المتحدّي، إنّهم يريدون أن يحاصروه لأنّه خطر، صحيح أنّه الخطر، ولكن على مَن؟ خطر على الكفر كلّه وخطر على الاستكبار كلّه وخطر على الانحراف كلّه، ولكنّه يمثّل الرعاية لكلّ المستضعفين الذين يتحرّكون في نداء الله وفي خطّ الحريّة، وهناك نغمة تتردَّد اليوم قالها رئيس هذا النظام في الجزائر ليستميل القمّة العربية لموقفه على أساس أن يقول أعينونا أعانَكم الشيطان على هؤلاء الأصوليين المتطرّفين، إنّهم الخطر على لبنان، "إسرائيل" ليست خطراً على لبنان، المارونية السياسية التي أدخلت لبنان في أكثر من حرب للمحافظة على امتيازاتها ليست خطراً على لبنان، كلّ الغرباء الذين جاؤوا بهم، الغرباء الكبار، ليسوا خطراً على لبنان، مَن؟ الذين يلتزمون الإسلام المنفتح الإنساني غير المتعصّب الذي يؤمن بالحوار ويؤمن بالتعايش ويؤمن بتركيز الأمور على أساس كلمة الله، هذا هو الخطر حتّى يستميل هواهم وحتّى يقول أعطونا مالاً وسلاحاً حتّى نضرب هؤلاء الأصوليين.
من هو العنصري على المستوى اللبناني
أخيراً، جاء في عِظة دينية مارونية، أنّ الأصولية تمثّل العنصرية، هؤلاء العنصريون علينا أن نتخلّص منهم في لبنان، وهي نغمة دينية جديدة. كيف تفهمون الإسلام الذي لا نريد له اسم الأصولية لأنّ الإسلام هو حالة أصولية في كلّ مجالاته، ليس عندنا إسلامان، إمّا إسلام يستمدّ قوّته من ينابيعه الأصيلة وإمّا شيء منحرف يأخذ شكل الإسلام وليس هو بإسلام كما يريد الله، هل هذه عنصرية، الإسلام يقول {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ...} [آل عمران : 64] والإسلام يقول {... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة : 82] هل هذه هي العنصرية، والإسلام الذي يقول {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...} [الممتحنة : 8]، هل هذه هي العنصرية؟ إسلامنا ليس إسلام الطائفة، إذا كنتم تفكّرون بالطائفة فلسنا نفكِّر بالطائفة، لأنّها عشيرة، ولكنّنا نفكّر بالإسلام القرآني المنفتح على الناس كافّة وعلى الحياة كلّها، مَن الذي ينادي بالعنصرية الذي يقول أيُّها الناس سنقول الحقّ، وأنتم تقولون لبنان بلد الحريّة، والله قال لنا {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] هل هذه العنصرية، أم الذي يقول لا بدّ أن يكون رئيس الجمهورية مارونيّاً في لبنان ولا بدّ أن تكون الطائفة المارونية هي الطائفة المسيطرة على لبنان؟ لماذا تتحدّثون بلغة غير مفهومة، إنَّنا نريد أن نقول لمن قال كلامه في القمّة العربية في الجزائر ولمن قال كلامه في واشنطن. لن تنفعكم القمّة العربية ولن تنفعكم واشنطن ولا باريس، لكن إذا شئتم أن تكونوا مسيحيين كما هي المسيحية فافتحوا قلوبكم للإسلام وللمسلمين كما هو الإسلام والمسلمون، وستجدون أنّهم أقرب إليكم من كلّ القمم ومن كلّ العواصم إذا أخلصتم النيّة. ولكنَّ المسألة عندهم الإسلام، ولذلك يشوّهون صورته، والكثيرون منّا ينطلقون من أجل أن يرضى عنهم الآخرون ليشوّهوا صورة الإسلام والمسلمين والملتزمين بكلّ الأكاذيب والتضليلات حتى يقول عمر بن سعد أيّاً تمثّل، في أيّ بلدٍ كان، اشهدوا لي عند أميركا أنّي أوّل مَن رمى، المسألة هي هذه، والله يقول لكلّ الناس الذين يبحثون عن أن يقول الناس عنهم أنّهم معتدلون وواقعيّون ومتسامحون على حساب كثير من قضايا الإسلام والمسلمين {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى...} [البقرة : 120] الذي يجب أن نلزمه في كلّ حياتنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] وعليكم أن تعرفوا الصادقين والكاذبين لتحدِّدوا موقفكم من خلال تحديد مواقعكم.
نحن مع الانتفاضة وضدّ المتنازلين
وعلى هذا الأساس فنحن مع الانتفاضة الإسلامية حتّى لو أراد بعض الناس أن ينزع عنها هذه الصفة، لأنّ كلّ الناس الذين يعيشون هناك انطلقوا في عمق حركتهم الجهادية من مواقعهم النفسية والروحية الإسلامية حتّى لو كانت مغطّاة بألف شعار وشعار، لأنَّ الإنسان يتحرّك من موقع العمق ولا يتحرّك من موقع السطح، وإنْ خُيّل له أنّه يتحرّك مع السطح، كنّا معهم لأنّهم كانوا الصادقين، وكنّا ضدّ كلّ ذلك الخطّ الذي يعمل في دائرة القضية الفلسطينية ليستجدي سلماً من "إسرائيل" وليستجدي مبادرة من "إسرائيل" وليستجدي مفاوضات من "إسرائيل" وليقدّم اعترافه بـــ "إسرائيل" مجاناً من دون أن يأخذ منها شيئاً، ليقول الناس عنهم إنّهم معتدلون لا متطرّفون وإنّهم ليسوا إرهابيين. كنّا مع الصادقين، ورأينا أنّ مواقع صدقهم تحرّكت في استمرار انتفاضتهم واستمرار جهادهم على الرغم من كلّ الضغوط الكبيرة التي كانت تحاول أن تسقط مواقعهم وأن تسقط إرادتهم وأن تثير الخوف والرعب في نفوسهم، ولكنّهم استمروا وانطلقوا لتتّسع حركتهم حتّى تشكّل خطراً على الاقتصاد اليهودي بعد أن شكّلت خطراً على الأمن اليهودي، ونحن نأمل أن تستمرَّ ونأمل من كلّ الشعوب الإسلامية أن تساند هذه الانتفاضة لتستجيب لنداء الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن نريد أن نقول لهم إنّا معكم في خطّ المقاومة الإسلامية التي تعتبر أنّ "إسرائيل" ليست مجرّد خطر على حدود معيّنة ولكنّها خطر على الإسلام والمسلمين وعلى كلّ المستضعفين في المنطقة، إنّنا معكم في هذا الخطّ كما كنتم معنا عندما استلهمتم مواقف أبطال المقاومة من المجاهدين في الجنوب.
حريّة المجاهدين يجب أن لا تمسّ
ونحن على هذا الأساس نريد أن نقول لكلّ الناس، إنَّ مسألة حريّة المجاهدين هي مسألة يجب أن لا تدخل في كلّ الحرتقات السياسية وفي كلّ المواقع التي تثير المشاكل الصغيرة هنا وهناك، لأنّها القضية الكبيرة وكلّ ما عداها هو الصغائر التي يمكن أن يلهو اللاهون بها في أيّ مفاوضات أو في أيّة كلمات يراد أنْ تثار، وعندما نريد أن نؤكّد حريّة المجاهدين كلّ المجاهدين فإنّنا نريد أن نقول لكلّ الإخوة من المؤمنين، أيّاً كانوا وفي أيّة دائرة كانوا، إنَّ المرحلة التي ينبغي أن نتحرّك فيها جميعاً هي مرحلة الوحدة، الوحدة في المواقف التي نلتقي عليها والحوار في المواقف التي نختلف فيها، لتكون قوّتنا في ما نلتقي عليه ومشاعرنا الطيّبة في ما نتّفق فيه، هي الأساس في حلّ كلّ المشاكل في ما نختلف فيه، لهذا ليست القضية أن يؤكّد كلّ إنسان ذاته، بل القضية أن يؤكّد كلّ إنسان رسالته وأن يؤكّد كلّ إنسان مصير أُمّته بما يرضي الله سبحانه وتعالى في كلّ مجالات الحياة.
الملهاة
وإذا كان الناس يتحدّثون عن الحقوق على كلّ المستويات في هذا البلد، وإذا كان الناس يتحدّثون عن الإصلاحات أيّاً كانت في هذا البلد، وإذا كنّا نواجه كثيراً من الملهاة التي تتحرّك في النفايات السامّة تارّة وفي اللّحوم المستوردة المتعفّنة أخرى وفي التبغ المسموم ثالثة وفي غير ذلك من الأمور التي أُريدَ لها أن تكون ملهاتنا التي تبعدنا عن قضايانا، إذا كنتم واعين لذلك فكيف تشغلون أنفسكم بقضايا صغيرة تمنعكم من مواجهة الاستحقاقات الكبيرة وهي استحقاقات ما هو النظام في هذا البلد وما هو المصير في هذا البلد وما هو المستقبل في هذا البلد؟ فتعالوا إلى كلمةٍ سواء في السّاحة كلّها حتّى نلتقي على كلّ القضايا الكبيرة على أساس من تقوى الله، لأنّ أيّ شخص وأيّة قيادة لن تستطيع أن تتماسك إذا لم يتماسك المصير كلّه وإذا لم يتثبَّت المستقبل كلّه، ستسقط كلّ القيادات إذا لم تكن في مستوى الوعي الكبير الذي يجعلها تتّفق على كلّ القضايا وتنسى أو تجمّد كلّ خلافاتها، فقد نكون وقعنا في مصائب كبيرة.
أقفلوا ملف العبث
لماذا نلحّ على أن نهيِّئ الأجواء لمصائب أخرى، إنّنا نقول من جديد أغلقوا لنا ملف الكلمات والكلمات المضادّة، أغلقوا لنا الاتّهامات والاتّهامات المضادّة، أغلقوا العبث الإعلامي الذي قد يكون عبثاً في ما تفكِّرون وتتعقّدون، ولكنّه يتحوّل إلى خطر في ما تتحرّكون وتتنازعون، لنكفّ عن الحرب الإعلامية وعن كلّ الحروب التي تثير الأحقاد، وليتَّقِ الله كلّ الناس في كلماتهم غير المسؤولة ولاسيّما إذا كان هؤلاء الناس في مواقع القيادة أيّة قيادة كانت، ليتَّقِ الله كلّ الناس في تحرُّكاتهم الصغيرة لأنَّ المسألة أنّ التحرّكات الصغيرة قد تغري التحرّكات الكبيرة.
ونلفت أخيراً إلى هؤلاء الذين يتقاتلون على الدمار في شاتيلا وعلى الدمار في مخيَّم برج البراجنة(1)، الدمار هنا والدمار هناك مهما استطاع هذا الفريق أو ذاك أن يربح هذا المخيّم أو ذاك المخيَّم، إنّكم لن تربحوا إلاَّ الدمار، الدمار في الحجارة الذي يتمثّل في كلّ الصور التي نراها والدمار الإنساني في كلّ الضحايا التي تسقط والدمار السياسي في كلّ المواقف التي تسقط، لا أدري ما قصّة هذا "اللبنان" الذي يدمّر نفسه أكثر ممّا يدمّره الآخرون، ولا أدري ما مشكلة هذا الفلسطيني الذي يدمّر أهله أنفسهم أكثر ممّا يدمّرهم الآخرون؟ هل استحققنا جميعاً لعنة الدمار علينا، المسألة تحتاج إلى فكر وتحتاج إلى تقوى وتحتاج إلى وعي يرصد المستقبل، وتحتاج إلى إرادة تقف في مواقف الحقّ، وذلك هو الخطّ الذي يريدنا الله أن نتبعه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

الموقف المبدئي بين الصدق والكذب(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن الذين ينالون رحمته ويقربون إلى رضوانه ويعيشون في جنّته، في مقابل أولئك الذين يبتعدون عن رحمته ويعيشون في عذابه وعقابه، يحدّثنا عن الصادقين الذين يجيؤون بالصدق عندما يريدون أن يتحرَّكوا في حياة الناس ليمارسوا مسؤولياتهم كما يحدّثنا عن الكاذبين الذين يكذبون على الله ويكذبون على أنفسهم ويتّخذون الموقف الذي يبعدهم عن الله، ليكون الصادق هو الذي يتّصل بالله من موقع الصدق لأنَّ الصدق هو الحقّ والله هو الحقّ ويكون الكاذب من ليس له علاقة بالله، كما لا علاقة بين الحقّ والباطل لأنَّ الكذب باطل، قال الله وهو يتحدّث مع عيسى بن مريم (عليهما السلام) {... أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ...} [المائدة : 116] فأجابه عيسى بما أجابه وخَتَم الله الحديث مع عيسى. والله عندما يحدّث نبيّاً من أنبيائه لا يحدّثه بشخصه ولكنّه يحدّث الناس كلّهم، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة : 119] أن يرضى الله عنك وأن ترضى عن الله هي القضية، أن تصدق الله في كلّ حياتك كما صدقك الله في كلّ أمورك.
الصدق والكذب في ميزان الدين
وهكذا يحدّثنا الله عن النموذجين {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ*وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ*لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ*لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 32 ـــ 35] وهكذا يحدّثنا الله عن الذين يفترون الكذب {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل : 105] وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى عن الذين يكذبون عليه {... وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 78] هذه الآيات تريد أن تؤكّد للإنسان المؤمن شخصيّته على أساس عمق المعنى الذي يتمثّل في أخلاقيّته؛ ما هو خلقك؟ مَن أنت في حركة الصدق والكذب في الحياة؟ فإذا كنتَ صادقاً فأنتَ المؤمن، وإذا كنتَ كاذباً فلست بالمؤمن. سئل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن حالات الانحراف التي قد يضعف المؤمن فيها أمام نقاط الضعف في داخل شخصيّته من خلال ما يحيط به من تهاويل وأوضاع، أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن في لحظات الضعف حالة البخل، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ربّما يعيش المؤمن حالة الجبن أمام نوازع الخوف، قد يضعف، قالوا: هل يكون المؤمن كذّاباً؟ قال: لا... أن تكون كذّاباً وأن تكون مؤمناً لا يلتقيان، فمعنى ذلك أنّك إذا أخذت بالكذب في حياتك واتّخذت الكذب طابعاً لحياتك وتحرّكت في الحياة على أساس أن تكذب، فمعنى ذلك أنّ إيمانك يهرب منك في اللحظة التي تلتقي فيها بالكذب، وعندها لن تكون المؤمن. صلِّ ما شئت، وصُمْ ما شئت أيُّها الكذّاب، وحُجّ ما شئت واعمل ما تريد، ولكن كنْ الكاذب في حديثك والكاذب في وعدك والكاذب في عهدك والكاذب في موقفك؛ فلستَ بمؤمن، لماذا؟ لأنَّ معنى الإيمان هو أن ترتبط بالحقّ، ومعنى الكذب أن ترتبط بالباطل، ولا يجتمع في قلب شخص مؤمن وفي حياة شخص مؤمن أن يرتبط بالحقّ وأن يرتبط بالباطل في آنٍ معاً، لهذا فكِّروا في المسألة تفكيراً دقيقاً لأنَّ القضية تتّصل بعمق الإيمان ولا تتّصل بالحالات الطارئة للانحراف العملي في الحياة، لن يكون المؤمن كذّاباً، فإذا عاش الكذب في حياته هرب الإيمان من شخصيّته. وهكذا نمتد أكثر لنلتقي بالصفة التي يوصف بها الكذّاب في الإسلام، ويوصف بها الصادق في الإسلام؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، أيُّها الكاذب إنّك خائن، أيُّها الصادق إنَّك الأمين، لأنّك عندما تعيش في المجتمع وعندما تعيش مع الله ومع نفسك، فالحقيقة أمانة الله عندك والحقيقة أمانة الناس عندك والحقيقة أمانة الإيمان عندك، عليك أن تحوطها بما تحوط به نفسك وأهلك وأولادك.

الكذب خيانة للأُمّة
الحقيقة تدخل في وعي الناس للفكرة، ووعي الناس للحادثة، ووعي الناس للموقف، الحقيقة تربط الناس بطبيعة الأشياء التي يرتبطون بها ويتحرّكون من خلالها، فإذا قلبت لهم الحقيقة وتحدّثت عن الباطل، وقلت كلمة الكذب في العقيدة؛ فمعنى ذلك أنّك أبعدت الناس عن مواقع سلامتهم، وإذا قلت كلمة الكذب في الحادثة التي حدثت فمعنى ذلك أنّك شوَّهت الصورة للواقع، وإذا كذبت الكذبة في الموقف فمعنى ذلك أنّك أربكت الموقف، الكذَّاب يخون الناس لأنّه يخون الحياة التي يرتبط بها واقع الناس ويرتبط بها مصير الناس في كلّ مجال. إِنّك عندما تقف أمام الكذّاب وأنتَ واثق به لأنّك لم تعرف عمق شخصيّته سيقول لك إنَّ فلاناً إنسان مخلص، وهو إنسان غير مخلص، فيدفعك ذلك إلى أن تتبع فلاناً وتسقط أمام زيف فلان الذي حجبه هذا عنك ومنعك أن تكتشفه من خلال تجربتك الشخصية، وهكذا عندما ينقل لك الصورة على غير الحقيقة فإنّه يدفعك إلى أن تأخذ قناعة أو تصدر حكماً أو تتصرَّف تصرُّفاً يجعلك تظلم البريء أو تحكم عليه بغير حقّ ويجعلك تتصرَّف تصرُّفاً لا يرضاه الله، لهذا كان الكذب خيانة، إذا كنت تتعامل بالكذب فخذ هذا الوسام من الله سبحانه وتعالى ليخاطبك به الله يوم القيامة، ولا تلم الناس إذا قالوا عنك إنّك خائن لأنّك ارتضيت لنفسك عندما كنت الكذَّاب أن تكون الخائن، لأنَّ الكذب والخيانة يتحرّكان في موقعٍ واحد، والصدق أمانة الصادق، يعتبر الحقّ في الفكرة، والحقّ في الحادثة، والحقّ في الموقف، يعتبره من الأمور التي تمثّل أعلى أنواع الأمانة، لهذا تراه يدقّق في كلماته كي لا تزيد عن الفكرة ولا تنقص عنها، يدقّق في كلماته كي لا ينسى كلمة أو يضيف كلمة لأنّه يعتبر أنّ كلمته تمثّل الصورة التي يتمثّلها الناس للحقيقة.


الصدق يستلزم الأمانة
الصدق والأمانة يتحرّكان معاً، فلن تجد صادقاً غير أمين لأنَّ بعض الناس قد يصدقون في كلماتهم ولكنّهم لا يصدقون في الأمانات في ما يأتمنهم الناس، هم الكاذبون في مواقفهم، ولهذا هم ليسوا صادقين، ولهذا جعل الإسلام الصدق والأمانة يسيران جنباً إلى جنب، فكان رسول الله الصادق الأمين، وجاءت كلمات أهل البيت (عليهم السلام) التي تقول لنا إذا أردتم أن تكتشفوا إيمان شخص هل هو مؤمن أو ليس بمؤمن، فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده فلعلَّها عادة اعتادها ويشقّ على المرء ترك عادته، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وقال الإمام الصادق (سلام الله عليه) لبعض أصحابه وهو يريد أن يبلّغه رسالة إلى شخص آخر: انظر ما بلغ به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من المنزلة عند رسول الله فالزمه، فإنّك بذلك تنال المنزلة عندي فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغه عند رسول الله بالصدق والأمانة، فقد كان الصادق الأمين، وهذا ما يجب علينا أن نعيشه في حياتنا ولاسيّما إذا كان الإنسان الذي تكذب عليه يثق بك وأنتَ تستغلّ ثقته بك وتستغلّ أنّه لا يشكّ فيك لتعمل على تشويه الصورة عنده، كبُرت خيانة أن تحدث خيانة، يعني من أكبر أنواع الخيانة خيانة أن تحدّث أخاك بحديث هو لك مصدق وأنتَ به كاذب، لأنّك كنتَ تتحرّك من خلال خيانتين: خيانة الثقة التي يمنحك إيّاها الإنسان وخيانة الحقيقة التي لم تقدّمها كما يجب مع هذا الإنسان أو ذاك، إيّاكم والكذب فإنّه يهدي إلى الفجور وهو في النار، إذا كذبت فإنَّ الكذب يفتح لكَ أبواباً ويفتح لك متاهات ويفتح لك آباراً عميقة في الحياة وستلتقي بالنار في كلّ ذلك.
مَن هم الصادقون؟
بعض الناس يقول نحن شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى هذا الأساس "حبّ عليّ حَسَنة لا تضرّ معها سيّئة"، فلا مانع من أن نكذب، فالسياسة تحتاج إلى كذب، والتجارة تحتاج إلى كذب، والحياة الاجتماعية تحتاج إلى كذب، وتريدون منّا أن نحمل "السلّم بالعرض" فنصدق والنّاس كلّهم يكذبون، بعض الناس يقول ذلك، لكن إذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي هو سيّد عليّ (عليه السلام) وإمامه ونبيّه وقائده وأستاذه الصادق الأمين، وإذا كان عليّ (عليه السلام) بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكانت مشكلته أنّه الصادق الذي عاش مع الحقّ وعاش الحقّ معه، فما قيمة أن تحبُّوه أيُّها الكذّابون، ما قيمة ذلك؟ عليّ (عليه السلام) لم يحارب الناس على أساس عواطفهم، ولكنّه حارب الناس على أساس موقفهم من الله، ولهذا مَن كان وليّاً لله فهو ولي لعليّ الذي لا يتحرّك في ولايته إلاّ من خلال الله، ومن كان عدواً لله فهو له عدو. واستمعوا إلى كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان في شيعة زمانه بعض الكذّابين، كما أنّ هناك في شيعته وغير شيعته الكثير من الكذّابين الآن، يقول إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر ـــ يعني فيمن ينتحل التشيُّع ويقول إنّني من شيعة عليّ وشيعة أولاده ـــ "إنَّ فيمن ينتحل هذا الأمر لمن يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه"(1)، يعني كذّاب من الدرجة الأولى بحيث يحتاج الشيطان أن يتعلَّم منه حتى يرقى إلى مستوى كذبه، هذا واقع موجود، يقول بعضهم أنا شيعي، ولكنّه يكذب حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه، أيّ شيعي هو هذا الشيعي، وأيّ التشيُّع هو هذا، إنَّ التشيُّع ليس عاطفة، إنّه الإسلام الذي ينطلق في خطّ حاسم على النهج الذي انطلق به الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ حياته. أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الحقّ، أن تكون شيعيّاً يعني أن تكون مع الصدق، وأمّا إذا كنت مع الباطل وكنت مع الكذب فكيف يتعرّف عليك عليّ (عليه السلام) الصادق الذي حارَبَ من أجل الصدق. لهذا لا تفكِّروا بالشكليات ولكن فكّروا بالعمق في ذلك كلّه، لأنّكم تقفون أمام الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يطّلع على كلّ شيء مهما كان دقيقاً ومهما كان خفيّاً. وهكذا جاء رجل إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال يا رسول الله ما عمل الجنّة، أنا أحبّ أن أدخل الجنّة وأنتَ دليلنا إلى الجنّة ودليلنا إلى الأعمال التي تدخلنا الجنّة، قال: "الصدق، إنَّ العبد إذا صدَق برّ وإذا برّ آمن وإذا آمن دخل الجنّة"، الصدق يقودك إلى الخير والخير يقودك إلى الإيمان والإيمان يقودك إلى الجنّة، قال رسول الله وما عمل النار، قال: "الكذب، إنّ العبد إذا كذب فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار"، وهناك حديث أخطر من ذلك يقول إنّ الله جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتيح لتلك الأقفال الشراب والكذب، والكذب شرّ من الشراب. إذا قالوا عن أحدكم إنّه يصلّي ويصوم ويشرب الخمر، فهل يعقل أن يكون الإنسان مصليّاً وشارباً للخمر، ولكنّ الكذب شرّ من الشراب لأنَّ الشراب يسيء إليك وحدك؛ يُذهِب عقلك ويُفسِد جسدك، ولكنّ الكذب يشكِّل خطراً على حياتك وحياة الآخرين، فهو أخطر من الشراب في النتائج وهو من مفاتيح الشرّ التي أراد الله لها أن تبقى مغلقة في الحياة، استمعوا إلى هذا الحديث، أيُّها المؤمنون الذين تستحلُّون الكذب في المزاح: "لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه"(1) وفي وصية الإمام زين العابدين (عليه السلام) لأولاده قال: "اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في هزل أو جدّ، فإنَّ الرجل إذا اجترأ على الصغير اجترأ على الكبير"(2)، يعني الإنسان يأخذ كذبةً صغيرة وفي ما بعد يأخذ أكبر منها بقليل حتّى يصل إلى الكذبة الكبيرة، وهكذا تبدأ كذبة مزاح ويتعوَّد اللّسان على أن يتحرّك بالباطل.
فلهذا يحرم الكذب في الجدّ والهزل وتحرم الكذبة الصغيرة كما تحرم الكذبة الكبيرة، لأنَّ الله لا يريد للحياة أن تفقد الصورة الحقيقية التي يتمثّلها الناس في كلّ أمورهم وفي كلّ قضاياهم وفي كلّ حياتهم.
متى يكون الكذب مباحاً؟
وإذا كان الكذب يمثّل الشرّ الذي يفتح كثيراً من الشرور في الحياة، فإنَّ هناك استثناءات في الإسلام لمسألة الكذب، فقد يكون الكذب واجباً وقد يكون الصدق حراماً، قد يجب الكذب إذا أردت أن تصلح بين اثنين وكان الخلاف بينهما يؤدّي إلى إزهاق النفوس وتوقَّف الصلح على أن تكذب على هذا لتفتح قلبه على ذاك وأن تكذب على ذاك لتفتح قلبه على هذا بكلام لم يقله هذا ولم يقله ذاك، إنّك في هذه الحالة يجب عليك أن تكذب لتمنع النتائج الكبيرة التي تتحرّك من خلال هذا الخلاف في ما بينهم، وقد يستحبّ الكذب إذا لم تكن المسألة بدرجة الوصول إلى الخلافات التي تؤدّي إلى القتل أو ما إلى ذلك. وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الكذب في الإصلاح بين الناس لا يمثّل أيّة خطيئة بل يمثّل الأجر عند الله حتّى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قال: "الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس"(1)، فاعتبر الإصلاح بين الناس خارجاً عن دائرة التقابل بين الصدق والكذب كأنّه يمثّل قَسَمَاً بذاته، وهكذا يجوز لك أن تكذب إذا أردت أن تنقذ أخاك من الموت أو من خطر محدق أو تنقذ نفسك، لأنَّ الكذب إنّما حرَّمه الله لما فيه من المفسدة، فإذا كانت المصلحة فيه أعلى من المفسدة فإنَّ الله يعطيك الإجازة في ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث "احلف بالله كذِباً ونجِّ أخاكَ من الموت أو من القتل"، وقد ورد في الحديث في هذا المجال أنّ "الله أحبَّ الكذب في الصلاح وأبغض الصدق في الفساد"(2)، لو جاءك إنسان وطَلَب منك أن تدلّ على أخيك ليقتله أو ليسجنه ويعذّبه فإنَّ الله رخَّص لك أن تنقذ أخاك وإن اضطررت لأن تقول غير الحقيقة، فإذا أردت أن تصدق فإنّك مأثوم في صدقك لأنَّ الصدق يقودك إلى أن تقتل أخاك أو أن تورّطه في شيء يشكِّل خطراً على حياته، ولا بدّ للنّاس من أن يأخذوا هذه الأمور بالاحتياط وأن يأخذوا هذه الأمور بالدقّة التي تجعلهم معذورين أمام الله ليراجعوا الأُمناء على حلال الله وحرامه ليعرِّفوهم ما يجب لهم أن يفعلوه من ذلك كلّه.



محّص كلام الفاسق
وهكذا ننتقل بعد ذلك إلى مسألة الاستماع إلى الكذّابين؛ فالله حدّثنا في كتابه {... وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ...} [المائدة: 41] يعني يلقون بآذانهم إلى الكذّابين ويشجِّعونهم بالإقبال على الكذب ويصدقونهم في كذبهم من دون أن يبحثوا عن طبيعة الموضوع. إنَّ الله يمقت هؤلاء الناس الذين يرتاحون للحديث الذي يعجبهم حتّى من الكذّابين ويرتاحون للكلمات التي تمثّل مصلحتهم الذاتية حتّى من الكذّابين والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لا تأخذوا كلمات الفاسق ولا تستغرقوا في الاستماع إلى حديثه ولكن تبيَّنوا حديثه هل هو حقّ أم باطل، هل هو صدق أم كذب، تبيَّنوا الحديث جيّداً حتى لا تظلموا الناس {أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]، وإذا أردتم أن تعرفوا مسؤولية الاستماع للكذّابين والاستغراق في الإقبال عليهم والتصديق لكلامهم من دون فحص فأصغوا إلى هذا الحديث، "مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده"(1)، إنَّك عندما تصغي إلى من يتكلَّم بكلّ مسامع قلبك وأُذنك وبكلّ كيانك فهذا موقف عبادة، أنتَ تخشع له، وتخضع له فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عَبَدَ الله في إقباله عليه، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عَبَدَ الشيطان، فأنتَ عندما تستغرق مع الكذّابين في حديثهم وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى قلبك بدون أيّ تفكير أو أيّ تفتيش أو أيّ بحث، وتسمح لأحاديثهم بأن تنفذ إلى فكرك وإلى لسانك فإنّك تعبد الشيطان، وإنْ كنتَ تقول أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، لأنَّ المسألة هي مسألة الموقف وليست مسألة الكلمة، وهناك صدق في المعاملة وكذب في المعاملة، أنتَ عندما تعطي التزاماً على نفسك في عملك على أساس شروط معيّنة ومواصفات معيّنة ثمّ لا تفي بذلك فأنتَ الكاذب في عقدك وعهدك والكاذب في شرطك الذي التزمت به لأنّك أعطيت كلاماً، والمؤمنون عند شروطهم. عليك أن تصدق في ما أعطيت لأنَّ آية المنافق ثلاث، إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا ائتمن خان. فحاولوا إذا كنتم من أصحاب الأعمال، في أيّ عمل من الأعمال، ووقعتم على شروط، فعليكم أن تفوا بهذه الشروط وإلاّ كنتم من الخونة وكنتم من الكاذبين في معاملاتهم وفي شروطهم. وهكذا حتّى في الوعود العادية عليك أن تكون الصادق في وعدك حتّى لولدك.
الآثار السلبية للكذب في العائلة والمجتمع
بعض الناس يستحلُّون الكذب على أولادهم وكأنّهم يعتبرون أنّ المسألة مسألة على مَن تكذب، هذا طفل ويريد أن يتعلَّق بي ليخرج معي فأقول له ارجع إلى البيت وسأجلب لكَ معي هديّة، وأنا عازم على أن لا أجلب له تلك الهدية، تلك كذبة يعاقبك الله عليها من ناحيتين: أوّلاً لأنّك كذبت، وثانياً لأنّك أعطيت ولدك أوّل درس في الكذب، لأنّه عندما تأتي والهدية ليست معك فإنّه يعتقد بأنّ الكذب شيء جيّد، أبي يكذب وهو المثل الأعلى، فعليَّ أن أكذب عليه، وعليَّ أن أكذب على أخي وعليّ أن أكذب على ابن الجيران، وبذلك تكون أوّل مدرسة يتعلَّم فيها الولد الكذب، هي مدرسة أمّه وأبيه. هذه مسألة أساسية لا بدّ من معرفتها. بعض الناس يفكِّرون أنّ علينا أن نصدق مع المسلمين أمّا غير المسلمين من الكافرين فعلينا أن نكذب عليهم، نكذب عليهم في المعاملة ونكذب عليهم في الحديث ونكذب عليهم في المواقف، ولكنَّ الله يريد للحقيقة أن يعرفها كلّ الناس من المؤمنين ومن الكافرين، لأنَّ الله يريد للكافر أن يرتبط بالحقيقة في الحياة حتّى يقوده الارتباط بالحقيقة إلى أن يرتبط بالإيمان بالله الذي هو حقيقة الحقائق، لهذا مسألة أن تكذب، ليست مسألة الشخص الذي تكذب عليه ولكنّها مسألة الحقيقة التي تخفيها وتشوّهها من خلال كذبك.




الدعوة بغير اللّسان
كونوا الصادقين مع كلّ الناس صغاراً وكباراً وكونوا الصادقين مع كلّ الناس مسلمين وغير مسلمين، لأنَّ ذلك أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يوجّه نصيحته إلى أصحابه يقول: "كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم"(1)، أتريدون أن تدعوا إلى الله، أتريدون أن تدعوا إلى خطّ أهل البيت (عليهم السلام) كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم ليلقوا منكم الصدق والخير والورع فإنَّ هذا أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله.
بين القناعة النظرية والموقف العملي
ثمّ هناك مسألة الصدق في الموقف، أن يكون موقفك متطابقاً مع قناعتك ومع إيمانك، فلا يكون إيمانك في جهة وموقفك في جهةٍ أخرى، تماماً كالكثيرين الذين كانوا يعيشون قناعات معيّنة ولكنّهم وقفوا ضدّ قناعاتهم لأنّهم يريدون ما لا تكفّله مواقف القناعات بإمكانه أن يجمع بين قناعته وبين مسألة الانحراف في الموقف، لأنَّ الله سبحانه وتعالى فَتَحَ للإنسان باب التوبة إذا عصاه العبد، فيمكن للإنسان أن يبتعد عن قناعته وعن إيمانه ثمّ يتوب إلى الله بعد ذلك، هذا منطق الكثيرين، كما يُروى عن عمر بن سعد(1) أو يمثّل لسان حاله:
فواللهِ ما أدري وإنّي لحائرٌ أُفكّرُ في أمري على خطرينِ
أأتركُ مُلْكَ الريِّ والريُّ منيتي أَمَ ارجعُ مأثوماً بقتلِ حُسينِ
يقولونَ إنَّ اللهَ خالقُ جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغِلِّ يدينِ
فإنْ صدقوا في ما يقولونَ فإنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
فيجمع الدنيا والآخرة، بعض الناس يفكِّرون بهذه الطريقة، وكان أهل الكوفة والكثيرون من الناس يفكِّرون بهذه الطريقة أو يريدون جاهاً، أو يريدون أيَّ شيء، ماذا كان عمر بن سعد، ما قد يكون انطباعكم سيّئاً عنه ولكنّكم تملكون رأياً عظيماً في كثير من أمثال عمر بن سعد، لأنَّ مشكلتكم أنّكم تحدّقون بالشخص في التاريخ ولكنّكم لا تحدّقون به كنموذج للموقف وكنموذج للانحراف، لتجعلوا من الشخص صورة لكلّ شخص، فيزيد ليس شخصاً في التاريخ ولكنّه شخص في كلّ حركة الانحراف في الحياة، وهكذا بالنسبة إلى عمر بن سعد وأمثاله، كان يحبّ الحسين كأعظم ما يكون الحبّ، وكان يحترمه كأعظم ما يكون الاحترام، ولكن لوَّح له يزيد بملك الري، وكان التلويح مناسبة ليعيش القلق وليوازن بين قناعته وبين موقفه، وخُيِّل إليه أنّه ينقل عن لسان أحد الزائرين للكوفة رداً على سؤاله كيف تركت الناس في الكوفة قوله قلوبهم معك، يحبُّونك وتدمع عيونهم عندما نذكر اسمك أمامهم، ولكنَّ سيوفهم عليك، لأنَّ سيوفهم كانت في خدمة جيوبهم وأطماعهم، والكثيرون من الناس يعيشون هذا الواقع، يعيشون واقع الازدواجية في القناعة وفي الموقف، لأنَّ القناعة قد لا تطعم خبزاً كما يقول بعض الناس، إنَّ الإسلام لا يطعمنا خبزاً، والإيمان لا يطعمنا فاكهة، إذاً نحن مضطرون، نحن أصحاب عيال وأطفال، نحن مضطرون إلى جرعة من الكفر هنا وإلى صحن من الباطل هناك، وموقف ممّا بين الحقّ والباطل حتّى لا نكون متطرّفين متزمّتين، حتّى يرضى عنّا الذين يملكون الطمع في كلّ أوضاعهم. كن صادقاً في مواقفك. إيمانك عهد بينك وبين الله، فكِّر قبل أن تتقدَّم، فكِّر لأنّه سيأتي وقت لا يفيدك التفكير فيه عندما تتّخذ الموقف هنا بعيداً عن التفكير في وقوفك غداً بين يديّ الله. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، هل أنتَ مع الإيمان حقّاً، هل أنتَ مع الصدق حقاً، هل أنتَ مع الإسلام حقاً، أم أنك تقلِّد الناس الذين سبقوك.


أصحاب الحسين والصدق في الموقف
إذا كنتَ مع الإسلام حقّاً، ففكِّر في أيِّ موقع يقف الإسلام، وعليك أن لا يخدعك الناس عن الإسلام، بل أن تأخذه من الأُمناء على حلال الله وحرامه، من العلماء، الذين يقول فيهم رسول الله: "العلماء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا"(1) قالوا يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا قال: "اتّباع السلطان فإذا رأيتم العالَم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم"(2)، محبّاً لدنياه بمعنى أنّه مستعد لأن يغيّر موقفه لخدمة دنياه على حساب الدين، اعرفوا الإسلام جيّداً واعرفوا مواقعكم فيه، واعرفوا مواقفكم منه وركِّزوا الموقف في الموقع الصحيح لتقفوا أمام الله لتشهدوه أنّكم صدقتموه في إيمانكم {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23] هذه كانت في أجواء الإسلام الأولى وتمثّلت في كلمات الحسين (عليه السلام) وهو يستعرض الجيش الذي جاء لمحاربته والجماعة القليلة الطيّبة الذين كان الواحد منهم يأتي ليستأذنه في الحرب، كان يقول وهو ينقل عينيه بين هؤلاء وبين أولئك بين الذين صدقوا العهد مع الله فجاؤوا من أجل أن ينصروا الموقف حتّى لو كان الموقف لا يحمل كثرة من الناس ولا كثرة من المال، كان الموقف يحمل العمق الرسالي المتمثّل في الحسين (عليه السلام) الذي يقول لهم لو كان الحسين وحده جبهة وكان العالَم كلّه جبهة فإنَّ الحقّ مع الحسين والباطل مع كلّ العالم، كانوا يفكِّرون بهذه الطريقة، أنَّ مسألة الحقّ والباطل لا تتمثَّل بكثرة الرجال أو قلَّتهم، فإنَّ الحقّ كان دائماً قليل الرجال، والباطل دائماً كان كثير الرجال، هكذا كان يفكِّر أبطال كربلاء. فالمسألة ليست أن تكون عندك شعبية في أوساط أعداء الله والمنحرفين عن خطّ الله بل أن تكون لك شعبية في أوساط أولياء الله والمستقيمين على خطّ الله، ولهذا كانوا يستأذنون الحسين (عليه السلام) وكان يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ويلتفت إلى الأجساد المطروحة بين يديه من أهله ومن أصحابه {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23] هذا هو العمق في إيمانك.
المسألة أنّ عليك أن لا تبدّل مواقفك كما تبدّل ملابسك، بعض الناس يعتبرون المسألة في المواقف مسألة الموضة في الثياب، فكما يبدّل الإنسان ملابسه فهو يبدّل مواقفه وذلك حسب تبدّل الأوضاع والرياح، فإذا كانت شرقية فالموقف لا بدّ أن يكون شرقياً، وإذا كانت غربية، فالموقف لا بدّ أن يكون غربياً، وإذا كانت متوسّطة بين رياح شرقية وغربية فالإنسان يأخذ خطّ الاعتدال.. معنى {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أن يكون لك موقف في الدنيا تستطيع أن تدافع عنه أمام الله في كلّ المواقف سواء كانت مواقف شخصية في بيتك مع زوجتك وأولادك، أو كانت مواقف عامّة في محلّتك مع جيرانك وفي حياتك مع الناس من حولك في الدائرة السياسية وفي الدائرة الاقتصادية والاجتماعية والجهادية وغير ذلك، فكِّر أنّ موقفك في الدنيا هو موقفك في الآخرة وأنَّ جماعتك في الدنيا هم جماعتك في الآخرة، {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67]، تلك هي المسألة فحدِّد موقفك الآن حتّى إذا سألك الله عنه قبل أن تقف الموقف الصعب، أقولها لنفسي وأقولها لكم، قبل أن ننطلق لنحدِّد الموقف لا بدّ من أن نفكّر مع أنفسنا بهذه الطريقة سأؤيّد فلاناً، سأرفض فلاناً، سأسبّ فلاناً، سأعمل على أساس أن أحكم بهذا أو أتّهم ذاك أو ما إلى ذلك، في هذا المجال لو سألني الله عن ذلك وهو يعلم كلّ الخفايا، لو سألني صاحبي عن ذلك لأمكنني أن آتي له بكلّ المواد القانونية التي تدعم موقفي أو كلّ المواقف الشرعية التي أصوغها حسب ما أريد، لكن لو وقفت بين يديّ الله عندما ينطلق النداء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات : 24] يا فلان وقل لنفسك ذلك، لو أنَّ الله سألك عن هذا المال كيف أتيت به فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف حكمت على فلان فهل عندك جواب، ولو سألك الله كيف أيّدت فلاناً وكيف رفضت فلاناً هل عندك جواب، قل لنفسك إنَّ الله قال لنا {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36] لو فكّرت عندما تريد أن تضرب زوجتك إذا سألك الله عن ذلك، أو تضرب ولدك أو تظلم جارك أو تعمل أيّ شيء، ليس هناك فرق بين المواقف، إذا أردت أن تقف موقفاً فاعمل على أن تكون لديك الحجّة أمام الله على ذلك، وهذا هو معنى الصدق في الموقف، الله قال لك عندما التزمت بالإيمان فإنَّ ذلك عهدٌ منك لي أنّك تسير في خطّي، فهل صدقت عهدك، اطرح كلّ أعمالك حتى تعرف ذلك من خلال عملك {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] ثمّ بعد ذلك لا يكفي أن تكون صادقاً في نفسك، بل لا بدّ أن تكون مع الصادقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] مسؤوليّتك كصادق مؤمن أن تدعم كلّ مواقف الصدق في مواقف الصادقين لتكون القوّة للصادقين، لا تكن حياديّاً بين الصادقين والكاذبين، ومن الطبيعي أن لا تكون قوّة للكاذبين ضدّ الصادقين، بل أن تكون قوّة للصادقين من موقع المسؤولية التي تتحرّك تحت عنوان التقوى في ذلك كلّه.
إنَّنا نريد من خلال ذلك أن نقف في محطة الإيمان من خلال القرآن ومن خلال سُنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن خلال أحاديث أهل بيته التي لا تبتعد عن كتاب الله وسُنّة رسوله، نريد أن نقف في محطّة هادئة أمام كلّ الضجيج الذي نعيش فيه وأمام كلّ الفوضى التي نتحرّك فيها، ليعرف كلّ واحدٍ منّا نفسه وليعرف كلّ واحدٍ منّا ربّه وليعرف كلّ إنسانٍ منّا موقفه من ربّه وموقعه من ربّه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 ـــ 89]، لهذا قد نحتاج إلى أن نفكِّر طويلاً كما نحتاج عندما يوصلنا الفكر إلى نتيجة أساسية أن ندرّب إرادتنا على أن تكون في خدمة فكرنا، فكِّروا في ذلك، وتواصوا بالحقّ في ذلك وتواصوا بالصبر في خطّ ذلك كلّه. لأنَّ هذا هو أساس الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن خلال ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. مَن هم الصادقون في ما نملك من مقياس الصدق في القرآن؟ {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر : 33]، الصادق هو الذي يأتي بالصدق، وما هو الصدق؟ الإسلام هو الصدق لأنّه يمثّل الحقيقة التي أنزلها الله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...} [آل عمران : 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85]، الذي جاء بالإسلام وطَرَحه وصدَّق به في قلبه وصدّق به في لسانه وصدَّق به في موقفه، وهذا ما أراد الله من نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلنه أمام الناس كلِّهم؛ أن يكون أوّل المسلمين {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 12] أن تكون المسلم في كيانك، في عقلك وروحك ولسانك وأن تكون المسلم في موقفك.
الإمام وخطّ الصدق
وعلى هذا الأساس فإنَّنا نحدِّد مواقفنا مع الصادقين، وعندما رأينا الصدق متجسّداً فكراً وكلمة وموقفاً وجهاداً في الإمام الخميني(1) (حفظه الله) اتّقينا الله وكنّا معه، وعندما رأينا الصدق في مَن انطلق معه وسار في خطّه وعمل على أساس أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى وانطلق في دعوته للعالم كلّه أن لا يكون شرقياً ولا غربياً بل يكون إسلامياً، كنّا معه ومعهم لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، وعلى ذلك انطلقنا معه كقائد إسلامي يعيش قيادته من مواقع فقهه ووعيه وتقواه لا كشخص، وانطلقنا مع السائرين معه لا بصفتهم القومية ولكن بصفتهم الإسلامية، ولذلك فنحن مع الإسلام ومع الذي يصدق في خطّ الإسلام ويصدق في موقف الإسلام، ويصدق في تأكيد مواقع الإسلام ويصدق في تحرير أرض الإسلام ويصدق في تحرير إرادة الإنسان المسلم، مع الصادقين أينما كانوا في شرق الأرض وغربها، ولهذا فإنّنا مع كلّ المسلمين الذين ينادون بالإسلام ليكون شريعة الحياة الشاملة، حتّى لو كان الناس ضدّهم، وحتّى لو وقف الاستكبار ضدّهم، لأنّنا إذا وقفنا ضدّهم فنحن نقف ضدّ الإسلام، ومَن يقف ضدّ الإسلام، فكيف يمكن أن يكون على خطّ الإسلام المستقيم؟!.
لهذا، إنَّ المسألة، في كلّ الخطّ الفكري وفي كلّ الخطّ السياسي تفرز الأشخاص عندما تفرز المواقف {الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـــ 3] الذين صدقوا في مواقفهم، والذين يتحمّلون الأخطار من أجل أن يكونوا قوّة للإسلام، تلك هي المسألة.
حملة عالمية لحصار الإسلاميين
لهذا، نحن نواجه هذه الحملة على الإسلاميين في كلّ مكان سواء كان في المغرب، في كلّ بلدانه، أو في مصر أو في المشرق العربي أو في افريقيا أو في أيّ مكان يحاصَر فيه الإسلام وتتحرّك كلّ أجهزة المخابرات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية والعربية من أجل أن تحاصر المؤمنين المتديّنين الذين يعيشون تقواهم في صلاتهم ودعائهم ونداءاتهم، إنّهم يشيرون إليهم: هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء هم المتطرّفون، هؤلاء هم المتعصّبون، راقبوهم وحاصروهم وإذا استطعتم أن تقتلوهم فتلك هي النتيجة الحاسمة، هذا موقف يواجهه كلّ مؤمن صادق في كلّ مواقعه في الحياة، ونحن نشعر بأنَّ المسألة في هذه المرحلة لدى العالَم المستكبر هي محاصرة الإسلام المقاوم والإسلام المجاهد والإسلام الحركي والإسلام المتحدّي، إنّهم يريدون أن يحاصروه لأنّه خطر، صحيح أنّه الخطر، ولكن على مَن؟ خطر على الكفر كلّه وخطر على الاستكبار كلّه وخطر على الانحراف كلّه، ولكنّه يمثّل الرعاية لكلّ المستضعفين الذين يتحرّكون في نداء الله وفي خطّ الحريّة، وهناك نغمة تتردَّد اليوم قالها رئيس هذا النظام في الجزائر ليستميل القمّة العربية لموقفه على أساس أن يقول أعينونا أعانَكم الشيطان على هؤلاء الأصوليين المتطرّفين، إنّهم الخطر على لبنان، "إسرائيل" ليست خطراً على لبنان، المارونية السياسية التي أدخلت لبنان في أكثر من حرب للمحافظة على امتيازاتها ليست خطراً على لبنان، كلّ الغرباء الذين جاؤوا بهم، الغرباء الكبار، ليسوا خطراً على لبنان، مَن؟ الذين يلتزمون الإسلام المنفتح الإنساني غير المتعصّب الذي يؤمن بالحوار ويؤمن بالتعايش ويؤمن بتركيز الأمور على أساس كلمة الله، هذا هو الخطر حتّى يستميل هواهم وحتّى يقول أعطونا مالاً وسلاحاً حتّى نضرب هؤلاء الأصوليين.
من هو العنصري على المستوى اللبناني
أخيراً، جاء في عِظة دينية مارونية، أنّ الأصولية تمثّل العنصرية، هؤلاء العنصريون علينا أن نتخلّص منهم في لبنان، وهي نغمة دينية جديدة. كيف تفهمون الإسلام الذي لا نريد له اسم الأصولية لأنّ الإسلام هو حالة أصولية في كلّ مجالاته، ليس عندنا إسلامان، إمّا إسلام يستمدّ قوّته من ينابيعه الأصيلة وإمّا شيء منحرف يأخذ شكل الإسلام وليس هو بإسلام كما يريد الله، هل هذه عنصرية، الإسلام يقول {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ...} [آل عمران : 64] والإسلام يقول {... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة : 82] هل هذه هي العنصرية، والإسلام الذي يقول {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...} [الممتحنة : 8]، هل هذه هي العنصرية؟ إسلامنا ليس إسلام الطائفة، إذا كنتم تفكّرون بالطائفة فلسنا نفكِّر بالطائفة، لأنّها عشيرة، ولكنّنا نفكّر بالإسلام القرآني المنفتح على الناس كافّة وعلى الحياة كلّها، مَن الذي ينادي بالعنصرية الذي يقول أيُّها الناس سنقول الحقّ، وأنتم تقولون لبنان بلد الحريّة، والله قال لنا {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف : 29] هل هذه العنصرية، أم الذي يقول لا بدّ أن يكون رئيس الجمهورية مارونيّاً في لبنان ولا بدّ أن تكون الطائفة المارونية هي الطائفة المسيطرة على لبنان؟ لماذا تتحدّثون بلغة غير مفهومة، إنَّنا نريد أن نقول لمن قال كلامه في القمّة العربية في الجزائر ولمن قال كلامه في واشنطن. لن تنفعكم القمّة العربية ولن تنفعكم واشنطن ولا باريس، لكن إذا شئتم أن تكونوا مسيحيين كما هي المسيحية فافتحوا قلوبكم للإسلام وللمسلمين كما هو الإسلام والمسلمون، وستجدون أنّهم أقرب إليكم من كلّ القمم ومن كلّ العواصم إذا أخلصتم النيّة. ولكنَّ المسألة عندهم الإسلام، ولذلك يشوّهون صورته، والكثيرون منّا ينطلقون من أجل أن يرضى عنهم الآخرون ليشوّهوا صورة الإسلام والمسلمين والملتزمين بكلّ الأكاذيب والتضليلات حتى يقول عمر بن سعد أيّاً تمثّل، في أيّ بلدٍ كان، اشهدوا لي عند أميركا أنّي أوّل مَن رمى، المسألة هي هذه، والله يقول لكلّ الناس الذين يبحثون عن أن يقول الناس عنهم أنّهم معتدلون وواقعيّون ومتسامحون على حساب كثير من قضايا الإسلام والمسلمين {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى...} [البقرة : 120] الذي يجب أن نلزمه في كلّ حياتنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] وعليكم أن تعرفوا الصادقين والكاذبين لتحدِّدوا موقفكم من خلال تحديد مواقعكم.
نحن مع الانتفاضة وضدّ المتنازلين
وعلى هذا الأساس فنحن مع الانتفاضة الإسلامية حتّى لو أراد بعض الناس أن ينزع عنها هذه الصفة، لأنّ كلّ الناس الذين يعيشون هناك انطلقوا في عمق حركتهم الجهادية من مواقعهم النفسية والروحية الإسلامية حتّى لو كانت مغطّاة بألف شعار وشعار، لأنَّ الإنسان يتحرّك من موقع العمق ولا يتحرّك من موقع السطح، وإنْ خُيّل له أنّه يتحرّك مع السطح، كنّا معهم لأنّهم كانوا الصادقين، وكنّا ضدّ كلّ ذلك الخطّ الذي يعمل في دائرة القضية الفلسطينية ليستجدي سلماً من "إسرائيل" وليستجدي مبادرة من "إسرائيل" وليستجدي مفاوضات من "إسرائيل" وليقدّم اعترافه بـــ "إسرائيل" مجاناً من دون أن يأخذ منها شيئاً، ليقول الناس عنهم إنّهم معتدلون لا متطرّفون وإنّهم ليسوا إرهابيين. كنّا مع الصادقين، ورأينا أنّ مواقع صدقهم تحرّكت في استمرار انتفاضتهم واستمرار جهادهم على الرغم من كلّ الضغوط الكبيرة التي كانت تحاول أن تسقط مواقعهم وأن تسقط إرادتهم وأن تثير الخوف والرعب في نفوسهم، ولكنّهم استمروا وانطلقوا لتتّسع حركتهم حتّى تشكّل خطراً على الاقتصاد اليهودي بعد أن شكّلت خطراً على الأمن اليهودي، ونحن نأمل أن تستمرَّ ونأمل من كلّ الشعوب الإسلامية أن تساند هذه الانتفاضة لتستجيب لنداء الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن نريد أن نقول لهم إنّا معكم في خطّ المقاومة الإسلامية التي تعتبر أنّ "إسرائيل" ليست مجرّد خطر على حدود معيّنة ولكنّها خطر على الإسلام والمسلمين وعلى كلّ المستضعفين في المنطقة، إنّنا معكم في هذا الخطّ كما كنتم معنا عندما استلهمتم مواقف أبطال المقاومة من المجاهدين في الجنوب.
حريّة المجاهدين يجب أن لا تمسّ
ونحن على هذا الأساس نريد أن نقول لكلّ الناس، إنَّ مسألة حريّة المجاهدين هي مسألة يجب أن لا تدخل في كلّ الحرتقات السياسية وفي كلّ المواقع التي تثير المشاكل الصغيرة هنا وهناك، لأنّها القضية الكبيرة وكلّ ما عداها هو الصغائر التي يمكن أن يلهو اللاهون بها في أيّ مفاوضات أو في أيّة كلمات يراد أنْ تثار، وعندما نريد أن نؤكّد حريّة المجاهدين كلّ المجاهدين فإنّنا نريد أن نقول لكلّ الإخوة من المؤمنين، أيّاً كانوا وفي أيّة دائرة كانوا، إنَّ المرحلة التي ينبغي أن نتحرّك فيها جميعاً هي مرحلة الوحدة، الوحدة في المواقف التي نلتقي عليها والحوار في المواقف التي نختلف فيها، لتكون قوّتنا في ما نلتقي عليه ومشاعرنا الطيّبة في ما نتّفق فيه، هي الأساس في حلّ كلّ المشاكل في ما نختلف فيه، لهذا ليست القضية أن يؤكّد كلّ إنسان ذاته، بل القضية أن يؤكّد كلّ إنسان رسالته وأن يؤكّد كلّ إنسان مصير أُمّته بما يرضي الله سبحانه وتعالى في كلّ مجالات الحياة.
الملهاة
وإذا كان الناس يتحدّثون عن الحقوق على كلّ المستويات في هذا البلد، وإذا كان الناس يتحدّثون عن الإصلاحات أيّاً كانت في هذا البلد، وإذا كنّا نواجه كثيراً من الملهاة التي تتحرّك في النفايات السامّة تارّة وفي اللّحوم المستوردة المتعفّنة أخرى وفي التبغ المسموم ثالثة وفي غير ذلك من الأمور التي أُريدَ لها أن تكون ملهاتنا التي تبعدنا عن قضايانا، إذا كنتم واعين لذلك فكيف تشغلون أنفسكم بقضايا صغيرة تمنعكم من مواجهة الاستحقاقات الكبيرة وهي استحقاقات ما هو النظام في هذا البلد وما هو المصير في هذا البلد وما هو المستقبل في هذا البلد؟ فتعالوا إلى كلمةٍ سواء في السّاحة كلّها حتّى نلتقي على كلّ القضايا الكبيرة على أساس من تقوى الله، لأنّ أيّ شخص وأيّة قيادة لن تستطيع أن تتماسك إذا لم يتماسك المصير كلّه وإذا لم يتثبَّت المستقبل كلّه، ستسقط كلّ القيادات إذا لم تكن في مستوى الوعي الكبير الذي يجعلها تتّفق على كلّ القضايا وتنسى أو تجمّد كلّ خلافاتها، فقد نكون وقعنا في مصائب كبيرة.
أقفلوا ملف العبث
لماذا نلحّ على أن نهيِّئ الأجواء لمصائب أخرى، إنّنا نقول من جديد أغلقوا لنا ملف الكلمات والكلمات المضادّة، أغلقوا لنا الاتّهامات والاتّهامات المضادّة، أغلقوا العبث الإعلامي الذي قد يكون عبثاً في ما تفكِّرون وتتعقّدون، ولكنّه يتحوّل إلى خطر في ما تتحرّكون وتتنازعون، لنكفّ عن الحرب الإعلامية وعن كلّ الحروب التي تثير الأحقاد، وليتَّقِ الله كلّ الناس في كلماتهم غير المسؤولة ولاسيّما إذا كان هؤلاء الناس في مواقع القيادة أيّة قيادة كانت، ليتَّقِ الله كلّ الناس في تحرُّكاتهم الصغيرة لأنَّ المسألة أنّ التحرّكات الصغيرة قد تغري التحرّكات الكبيرة.
ونلفت أخيراً إلى هؤلاء الذين يتقاتلون على الدمار في شاتيلا وعلى الدمار في مخيَّم برج البراجنة(1)، الدمار هنا والدمار هناك مهما استطاع هذا الفريق أو ذاك أن يربح هذا المخيّم أو ذاك المخيَّم، إنّكم لن تربحوا إلاَّ الدمار، الدمار في الحجارة الذي يتمثّل في كلّ الصور التي نراها والدمار الإنساني في كلّ الضحايا التي تسقط والدمار السياسي في كلّ المواقف التي تسقط، لا أدري ما قصّة هذا "اللبنان" الذي يدمّر نفسه أكثر ممّا يدمّره الآخرون، ولا أدري ما مشكلة هذا الفلسطيني الذي يدمّر أهله أنفسهم أكثر ممّا يدمّرهم الآخرون؟ هل استحققنا جميعاً لعنة الدمار علينا، المسألة تحتاج إلى فكر وتحتاج إلى تقوى وتحتاج إلى وعي يرصد المستقبل، وتحتاج إلى إرادة تقف في مواقف الحقّ، وذلك هو الخطّ الذي يريدنا الله أن نتبعه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية