دروس من الإسراء والمعراج والمبعث

دروس من الإسراء والمعراج والمبعث

[خطبة الجمعة:18/3/1988]

دروس من
الإسراء والمعراج والمبعث

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2-4].. {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:11].. {...ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9].
قضايا ثلاث
تتحدث هذه الآيات عن قضايا ثلاث في انطلاقة الإسلام وفي حركته في عالم الغيب، فقد صادفنا قبل يومين ذكرى اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، الذي يرى فريق من المسلمين أنه كان يوم مبعث رسول الله(ص)، كما يرى بعض المسلمين أنه كان يوم الإسراء والمعراج. ونحن لا نريد أن ندخل في التدقيق في أيّ من الروايتين أصح، لأنه ليست عندنا مشكلة في أن يكون المبعث في هذا اليوم أو ذاك اليوم، أو يكون الإسراء والمعراج في هذا اليوم أو ذاك، ولكن المسألة أن نظل نقف دائماً مع المناسبات الإسلامية التاريخية الحية التي تحمل لنا معنى يمتد في امتداد الحياة، وتختزن مضموناً روحياً وفكرياً وحركياً نشعر بأننا بحاجة إليه كما كان المسلمون الأولون، لأننا مجتمع الرسالة في جيلنا كما كان المسلمون الأولون مجتمع الرسالة في جيلهم، ونحن نأخذ على عاتقنا مسؤولية حمل الرسالة والدعوة إليها وتحريكها في المجتمع والجهاد في سبيلها تماماً كما كان المسلمون الأولون يعيشون هذا الدور.
أيها المسلمون، لا تعتبروا أن مسؤولية الرسالة كانت مسؤولية أولئك المجاهدين من الصحابة، ودوركم هو دور التلقي والاتباع من دون أن تكون لكم مسؤولية.. الله سبحانه وتعالى جعل مسألة الدعوة إلى الله والدعوة إلى الخير مسؤولية كل المسلمين {ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} [فصلت:33]، {ولتكُن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104]، هذا نداء لكل مؤمن ولكل مسلم.. وعلى هذا الأساس فإننا نواجه هذه المناسبات أو الذكريات الإسلامية بالروح نفسها التي واجهها المسلمون آنذاك، فكيف نتمثّلها في حياتنا في هذه المرحلة، وفي ما نستقبل من مراحل؟
في البداية، في المبعث عندما بُعث رسول الله(ص) وتلقى النداء من الله على لسان جبرائيل حسب رواية المبعث: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]، عندما سمع هذا النداء الذي يقول له أن هذا المجتمع الأمي يحتاج أن يقرأ ويحتاج أن يتعلم بالقلم، ويحتاج أن يتعلم بالفكر، ويحتاج أن يتعلم بالتأمل ليبدأ دور جديد للإنسانية من خلال ذلك حتى تنطلق الإنسانية في هذا الجزء من العالم ا لذي يتحرك نحو العالم كله في رسالة تفتح عقل الإنسان على الحقيقة من خلال الفكر، وتفتح قلب الإنسان على المسؤولية من خلال الإيمان.
المسؤولية والظروف الصعبة
كان النبي وحده وكان العالم يعيش الشرك في أكثر مواقعه ويعيش الكفر في أكثر مواقعه.. كان وحده ولم يضعف، وكان القرآن يغذيه وينمّيه ويقوّيه {يا أيّها المدّثّر}، وكان البرد يأخذه، يرتجف من الصقيع ويتدثّر بالصوف ونزلت الآية لتؤكد بأن لا مجال لتعيش الاسترخاء أمام البرد أو الحر، لا بد أن تتحمل البر في حركة المسؤولية، ولا بد أن تتحمل الحر في حركة المسؤولية: {يا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدّثر:1-5]، ونزع النبي كل دثاره وتحرّك، تحرّك ليدعو إلى الله ولم يقل كما نقول نحن الآن وقبل الآن وبعد الآن، لا يقول لو دعوت إلى الله وإلى الإسلام فسوف يكرهني الناس وسوف لا يرضى عني الناس، لو واجهت العادلة الشركية والمعادلة الجاهلية لقال الناس عني كلاماً غير مألوف.. لم يقل ذلك، وإنما قال الكلمة بقوة، ودعى إليها بحكمة، وتحرك من خلالها بتخطيط، وقرر أن يتحمل مسؤولية الكلمة بكل ما يمكن أن ينفتح عنها من سُباب وشتائم واتهامات وما إلى ذلك منه كلمات.
قرر أن عليه أن يصبر أمام كل ذلك، وقرر أن عليه أن يتحمل الإيذاء ويتحمل الضرب بالحجارة ويتحمل الحصار ويتحمل التهديد بالقتل، يتحمل كل الأخطار، لأنه يعرف أنه جاء للقوم برسالة تُلغي كل امتيازاتهم الطبقية وتُلغي كل أطماعهم الذاتية، جاء ليوحد بين اسيد والعبد وبين الأبيض والأسود وبين كل القوميات: "كلكم من آدم وآدم من تراب"( ) و{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
كان يريد أن يلغي امتيازاتهم، امتيازات الطبقة المسيطرة بغناها والمسيطرة بمواقعها والمسيطرة بقوتها وما إلى ذلك، كان يريد أن يلغي ذلك لتكون الأرض للمستضعفين لا للمستكبرين، {ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهُم أئمةً ونجعلَهم الوارثين} [القصص:5]، كانت الرسالة تتحرك في هذا الاتجاه، فكيف يقبلها المستكبرون وكيف يقبلها الأغنياء وكيف يقبلها المتجبرون والطغاة؟ وقرر أن يتحمل، ولم يضعفه التصور أنه وحده، وأن الأكثرية ليست معه، كان يستمع إلى آيات الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، ولهذا كان لا يخاف من الأكثرية التي تقف ضده وتسبّه وتلعنه وتتهمه في عقله وتتهمه في صدقه وتتهمه في كثير من مواقع حياته وتحاصره..
واستمر يجمع الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والعشرة، وكان يدير الأمور بكل حكمة وبكل قوة، وكان يُقال عنه أنه كذاب بعد أن كان الصادق الأمين عندهم، وكان يُقال عنه أنه ساحر عندما رأوا تأثير كلامه في الناس، كانوا يريدون أن يبطلوا قداسته في وعي الناس وأرواحهم، ورأوا أنه مستمر لا يأبه بذلك، قالوا عنه أنه مجنون، وانطلقوا وانطلق أبو لهب الذي تبّت يداه، انطلق وراءه لأن تأثير الأقربين على الناس أكبر من تأثير الأبعدين، كان أبو لهب يقول: لا تصدقوا ابن أخي، نحن أعر به، نحن أعمامه، لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون، وقال الله له أن يقول لهم {قل إنما أعِظكُم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذابٍ شديد} [سبأ:46].
واندفعوا إلى القرآن الذي كان يريدهم أن يؤمنوا بأنه وحي الله بالبينات التي قدمها إليهم، وبالتحدي الذي أطلقه في وجوههم {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل:103]، وصبر واستمر، وكانت أخلاقه العالية جزءاً من أسلوبه الرسالي: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].. كانت أخلاقه تمثل جزءاً من حركة رسالته، أخلاقه في ذاته، أخلاقه في بيته وعائلته، أخلاقه مع أصحابه، أخلاقه مع أعدائه، أخلاقه المنفتحة على الله فيما يريده الله منه.
وهكذا انطلق من موقع الإنسان النبي القائد الذي وقف وحده أمام العالم ولم يخف واستطاع أن يتقدم على أساس سياسة النفس الطويل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهكذا نأخذ من المبعث أن علينا أن لا نخاف من الآخرين الذين يقفون أمامنا ليبطلوا دعوتنا إلى الله وإلى الإسلام، ويخوفونا بالقوى المسيطرة التي تحكم العالم، وليهزمونا بالقوى المسيطرة التي تحكم المنطقة، وليسقطونا باسم القوى المهيمنة التي تحكم البلد.. كل ذلك كان يواجهه رسول الله ولم يسقط ولم يضعف، ولم يحزن، وكان يقول للمسلمين ما قاله الله له: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران:139-140].
وكان يقول لهم ما قال الله له، أيها المسلمون إذا كنتم ضعفاء فإنكم تستطيعون أن تكونوا أقوياء {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم...} [الأنفال:60]، كونوا القوة الكبيرة التي ترهب الآخرين من موقع قوتها ليحذر الآخرون من الاعتداء عليها، لأنكم إذا أبقيتم أنفسكم ضعفاء وإذا أوحى بعضكم إلى بعض بالضعف وإذا استسلمتم لهذا الضعف وإذا لم تأخذوا بأسباب القوة في ما أعطاكم الله من عناصر القوة في الثروات المخزونة في أرضكم والثروات التي يمكن أن تتحرك في طاقاتكم والطاقات التي تملكون أن تبدعوا فيها القوة، إذا لم تأخذوا بذلك كله فسوف تسحقكم الأرجل وسوف تكونون الأذلاّء.
كان النبي(ص) يفكر أن المسألة ليست هي أن ترضى قريش عنه أو ترضى القبائل عنه، كان يفكر أن يرضى الله عنه: "إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي"، وعندما اصطدم باليهود والنصارة فلم يفكر أن يكون هدفه أن يرضوا عنه لأن الله قال له أن يقول للمسلمين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:20]..
وقال للمسلمين كونوا الأعزة، إنكم إذا كنتم مؤمنين فالإيمان يمثل قوة وقيمة تربطكم برسول الله وتربطكم بالله لتكون العزة صفتكم كما هي صفة رسول الله ولتكون العز صفتكم كما هي صفة الله، فإن الله لا يريد لعباده المؤمنين أن يكونوا الأذلة أمام الكافرين والمستكبرين {... ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين...} [المنافقون:8]، كونوا الأعزاء من موقع عزة الله ورسوله في ما تؤمنون به بالله وبرسوله وبخط الله ورسوله.
وهكذا انتصر لأنه كان يخاف من الله وحده، وانتصر لأنه كان يراقب الله وحده، وانتصر لأنه كان يستمد ثقته بنفسه وبحركته وبرسالته من موقع إيمانه بالله وثقته بالله، كان يشعر بأن الله معه في الحالات التي ليس فيها أحد معه، {.. إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} [التوبة:40]، قال للمسلمين ما قاله الله له وهو يحدثه عن دين الله الذي ليس فيه نقص لا في العقيدة ولا في المفاهيم، ولا في التشريع ولا في المنهج {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...} [المائدة:3] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، أكمل الدين بلاغاً وأكمله قوةً وأكمله منهجاً، وقال له ربه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، ولحق الرسول بالرفيق الأعلى.. وكان الله قد قال للمسلمين قبل أن يموت رسول الله، إن مسألة إسلامكم لا تتحدد بحياة رسول الله، فرسول الله بشر يحيا كما يحيا البشر ويموت كما يموتون، ولكن الإسلام رسالة الله فاحملوه بعد رسول الله وتحملوا مسؤوليته بعد رسول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، هذه قصة المبعث في حركة رسول الله في اتجاه الرسالة التي يمثلها المبعث.
ذكرى المبعث وتحمل المسؤولية
ما هو دورنا الآن، مرّت ذكرى المبعث، بعض الناس يقيمون مهرجاناً خطابياً، وبعض الناس يقيمون مسيرة إيمانية، وبعض الناس يكتب كلمة هنا وحديثاً هناك، ولكن المسألة ليست أن نقيم مهرجاناً لبعثة الرسول، بل القصة أن نتحرك في اتجاه أن نعرف مسؤوليتنا في جيلنا وفي مرحلتنا على ضوء المعنى الذي بُعث به الرسول، كيف نحرك القرآن في الحياة كما حرّكه؟ وكيف ندعو إلى الإسلام في الحياة كما دعا إليه؟ وكيف نقوي مواقع الإسلام في كل ساحات الصراع كما قوّاه،وكيف نطلقه دعوةً للعالم كله كما كان دعوةً للعالم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...} [سبأ:28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
أيها الأخوة المؤمنون، تحملوا مسؤوليتكم عن الإسلام، فإن الله سيسألكم عن دوركم في الحياة، سيقول لكم عندما انطلق كل واحد منكم إلى الحياة، كانت قوة الإسلام بنسبة عشرين في المئة، فهل تحركتم لتكون نسبة القوة 25 في المئة؟ ماذا أعطيتم من فكركم للإسلام؟ ماذا أعطيتم من مالكم للإسلام؟ وقد كان المسلمون الأولون، كان منهم من يعطي ماله وكانت خديجة صاحبة مال كثير وماتت فقيرة لأنها أعطت كل مالها للإسلام، ومنهم من يعطي جهده وفكره وقوته، فماذا أعطيتم أنتم، إن بعضكم قد يعطي ماله للكفر وللفسق والفجور، وليس مستعداً لأن يعطي الإسلام قرشاً واحداً.
إن بعضكم يعطي فكره للكفر وللشرك وللطغيان وليس مستعداً لأن يعطي من فكره للإسلام شيئاً، إن بعضكم يعطي جهده للظلم وللطغيان والبعث والانحراف ولا يعطي الإسلام شيئاً من ذلك، كيف تكونوا مسلمين وتبخلون على الإسلام بما أعطاكم الله من النعم التي أرادكم أن تشكروها بأن توجهوها في ما أحبّ الله.
عندما نتذكر المبعث فلنتصور أن رسول الله الآن بيننا، فبِمَ يتحدث؟ لو كان رسول الله في لبنان؟ هل يتحدث عن الخط الوطني أو القومي أو الاشتراكي أو الديمقراطي أو التقدمي أو ما إلى ذلك، أو يتحدث عن الإسلام؟ سيقول بعض الناس: يا رسول الله إن وضع لبنان وضعٌ خاص، نحن لا نريد أن نتحدث عن الإسلام، لأن الإسلام يثير الحساسيات الطائفية ويثير المشاكل الداخلية، فلنغطِ الإسلام بألف غطاء، ماذا يجيبكم رسول الله: {إن الدّين عند الله الإسلام}، {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم:23]، فكّروا في ما كان يطرح رسول الله، وحاولوا أن تحكموا على كل الطروحات وكل الأشخاص من خلال ذلك، لأن رسول الله هو الميزان الذي نعرف به الحق والباطل، والقرآن هو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل وليس هناك أحد أو مؤسسة أو جهة يمكن لها أن تحدد الخط لنا، وحده رسول الله كلمته كلمة الله، حركته حركة الله، منهجه منهج الله، سياسته سياسة الله، نعرفها من خلال ما بيذنه في كتاب الله، ونعرفها في ما بيّنه في سنة رسول الله(ص).
هذا هو الخط، فإذا أردتم أن تحتفلوا بالمبعث فاحتفلوا به في بيوتكم عندما تعلِّمون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم الإسلام، واحتفلوا به في مواقع عملكم عندما تدعون زملاءكم في العمل إلى الإسلام، واحتفلوا به في مواقع عملكم عندما تدعون زملاءكم في العمل إلى الإسلام، واحتفلوا به في مدارسكم عندما تعملون على دعوة زملائكم إلى الإسلام، ادعوهم إلى الإسلام إذا كانوا لا يؤمنون به وادعوهم إلى الالتزام بالإسلام إذا كانوا مسلمين لا يلتزمون به، تلك مسؤوليتكم التي سيسألكم الله عنها.
كل شخص يستطيع أن يهدي شخصاً ويقول لا أريد أن أتعب رأسي فقد عصى ربه، كل شخص يستطيع أن يهدي جماعة من الناس ويقول لا أريد أن أثير المشاكل من حولي، فقد أخطأ وعصى ربه، لأن الدعوة واجبة على كل من يستطيعها، والهداية واجبة على كل من يستطيعها، كان الوجوب كفائياً في مرحلة، أما الآن فالواجب عيني على كل قادر على الدعوة بنسبة قدرته، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فكما الصلاة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة فالدعوة إلى الله والهداية إلى طريق الله واجبة على كل مسلم ومسلمة.
حاولوا أن تحافظوا على الإسلام في عنوانه، لا يخدعنّكم أحد أن ترتبطوا بغير الإسلام، أو تعطوا أنفسكم صفة غير الإسلام، الله أعطاكم الإسلام صفة، ولا قيمة لكل التنظيمات ولكل الحكومات ولكل الأحزاب أمام الإسلام أن تأخذوا صفتها وتتركوا صفة الإسلام. قولوا لكل الناس الذين يريدونكم أن تسيروا معهم سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو عسكرياً، ما هو موقع الإسلام من نهجكم وحركتكم ومسيرتكم ودعوتكم؟ وقولوا لهم إننا نريد أن نموت على اسم الإسلام وتحت راية الإسلام، ولا نريد أن نموت تحت أية راية أخرى.
قيمة لبنان أن يكون مسلماً وقيمة العرب أن يكونوا مسلمين وقيمة الإيرانيين والأتراك وغيرهم أن يكونوا مسلمين، تلك هي الصفة التي نريد أن نحركها في حياتنا، فسوف لن يسألكم الله غداً عندما تقفون بين يديه من أية قرية أنت؟ ومن أي محلة أنت؟ ومن أي بلد أنت؟ ومن أي وطن أنت؟ ومن أية قومية أنت؟ ومن أي حزب أو حركة أو تنظيم أنت؟ سيسألك الله هل آمنت بالله وبرسوله وبكتابه واليوم الآخر؟ أو لم تؤمن بذلك؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130]، هذا هو السؤال فابحثوا في أنفسكم وفي حركتكم وفي علاقاتكم وفي انتماءاتكم عما يجيب على هذا السؤال.
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله...} [الإسراء:1].
وتأتي مناسبة الإسراء قبل الهجرة بسنة أو سنتين، فيأتي جبرائيل إلى رسول الله(ص) ليسير به ليلاً في مثل اللمحة واللحظة ويقطع تلك المسافات ليصل إلى بيت المقدس، ليلتقي إبراهيم الخليل(ع) وليلتقي موسى وعيسى عليهما السلام ويشاور معهما وليأخذ تجربتهم ويلتقي مع بقية الأنبياء ويعيش تلك الروح التي اختصر فيها كل التاريخ الذي سبقه، فاجتمع بالأنبياء الذين سبقوه، ورأى آيات الله في ذلك وتوسعت آفاقه، كانت التجربة التي أراد الله من خلالها وهو يعد النبي(ص) لإبلاغ الرسالة إلى العالم ليكون رسوله إلى العالم كله، وليعد النبي ليكون خاتم الأنبياء، ولتكون رسالته خاتمة الرسالات، لهذا أراد أن يعطيه الفكرة الحية من خلال ذلك، وذلك غيب الله، وعندما حدّث قومه بذلك ارتدّ قوم عن الإسلام لأنهم كانوا لا يفهمون الغيب جيداً ولكن النبي أعطاهم ما أثبت لهم صدقه.
الانطلاق باتجاه المسجد الأقصى
وعندما نلتقي بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى معنى ذلك أن القرآن يريد أن يجعل في حياتنا مسألة المسجد الحرام والمسجد الأقصى رمزين وعنوانين لما يقدسه المسلمون ولما يتحمل مسؤوليته المسلمون ولما يجاهد في سبيله المسلمون.. {.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} أن ننطلق كما انطلق النبي من هناك من مكة إلى بيت المقدس ليرى آيات اله في كل ما أراد الله له أن يراه، وليجمع الرسالات في وحدة يختزنها الإسلام في مفاهيم الرسالات الخالدة أيضاً، لا بد لنا أن نسير من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دائماً، خط السير هذا بدأه رسول الله، وقال للمسلمين أن يسيروا عليه، وبعد رسول الله سار المسلمون من المسلمون من المسجد الحرام ومن المدينة إلى المسجد الأقصى واستطاع الإسلام أن يدخل إلى المسجد الأقصى، وحكم المسلمون المسجد الأقصى والأرض المباركة من حوله، وكانوا أفضل الحاكمين المنفتحين بالرحمة على كل الناس الذين بقوا على دينهم من أهل الكتاب فلم يعرضوا لهم بسوء بل أعطوهم كل ما يمكن للإسلام أن يعطي الفئات التي يختلف معها من أهل الكتاب من إنسانية ورعاية وعدالة في كل المجالات.
"إسرائيل" والجلاء عن المنطقة
ثم مرّت سنون، ومرّ التاريخ وجاءت القوى المستعمرة الأوروبية تحت عنوان الصليب من أجل أن تسيطر على المسجد الأقصى( )، ولكن المسلمين لم ييأسوا ولم يضعفوا، بل فكروا أن يحرروا المسجد الأقصى من الصليبيين ولو بعد مئتي سنة، وتحرر المسجد الأقصى.. وعادت أمريكا وعادت أوروبا من خلال الاستعمار البريطاني من أجل أن يقدموا المسجد الأقصى وما حوله لليهود في وعد بلفور ليركزوا دولتهم، ولم يكن هذا قراراً بريطانياً ولكنه كان قراراً أوروبياً يأخذ البركة من أمريكا ولا يغضب روسيا آنذاك.
وتذكر بعض المذكرات التاريخية أن مسألة الجلاء عن لبنان وعن سوريا لم تكن مسألة أن يكون لبنان مستقلاً أو تكون سوريا مستقلة، بل كانت المسألة كما نقل عن "ديغول" أن تجلو فرنسا من سوريا ولبنان لتهيِّئ لبريطانيا أن تجلو عن فلسطين وتسلم فلسطين لليهود، كانت من أجل أن تكون المسألة في ضمن سياسة واحدة يكون الجلاء فيها هنا مقدمة للجلاء هناك من أجل المصلحة اليهودية.
هذا معنى الاستقلال اللبناني، الذي لم يكن استقلالاً ينطلق من واقع المشكلة اللبنانية السياسية، بل كان حركة في الاتفاق الموجود لإعادة تمركز اليهود في فلسطين ضمن صورة سياسية باسم الجلاء عن المناطق المستعمرة من قبل الدول الأوروبية.
والمسألة حسب كثير من المذكرات التاريخية كانت قبل عام 48 اتصالات بين المنظمات الصهيونية وبين الدول الأوروبية على طريقة إعداد المسألة السياسية والأمنية من قبل الأوروبيين في فلسطين حتى يمكن أن تسيطر الصهيونية على فلسطين، كانت معدّة بالأرقام، وحسب هذه المذكرات التاريخية التي ترقى إلى 70 أو 71 سنة كانت الحدود المتفق عليها في الدولة الإسرائيلي من الجانب اللبناني أن تكون حدود "إسرائيل" إلى ما يقرب من مدينة صيدا..
ولهذا فإن "إسرائيل" تعمل على تنفيذ هذه الخطة بالتنسيق مع أوروبا ومع أمريكا بطريقة تدريجية، ولهذا ليست مسألة بقائها في المنطقة الحدودية مجرد مسألة أمنية، بل هي تعد مسألة سياسية دستورية مستقبلية تماماً كما تفكر بالنسبة للضفة الغربية وغزة وكما فعلت بالنسبة إلى الجولان، قد تضطر "إسرائيل" للانسحاب كما اضطرت فيما سبق ولكنها تعد الأرض والطرقات والمواقع الاستراتيجية والعملاء والجواسيس والسياسيين وغيرهم بطريقة تمكّنها من العودة عند حدوث أية متغيرات سياسية في الساحة.. فنحن عندما نريد للناس أن ينتبهوا إلى "إسرائيل" كخطر حالي ومستقبلي على وجودنا في داخل جبل عام أولاً وعلى وجودنا الإسلامي في المنطقة كلها، ثانياً فذلك لأننا نفكر بهذه الطريقة ولأننا نرى أن أمريكا تعلن بكل هيئاتها أنها تدعم أمن "إسرائيل" وتدعم قوتها دعماً مطلقاً، وأنها ليست مستعدة أن تضغط على إسرائيل وليست مستعدة أن تعاقب إسرائيل، وليست مستعدتة أن تسمح لمجلس الأمن بأن يدينها.
عندما تكون المسألة كذلك فإن علينا أن نتصور أن مسألة الوجود اليهودي في فلسطين تماماً كما هو الوجود الأوروبي الذي جاءت ت حت لافتة الصليب في فلسطين سابقاً، وأن المسألة ليست مسألة حدود بيننا وبين إسرائيل ليتحدث الناس عن اتفاقية الهدنة أو يتحدثوا عن الترتيبات الأمنية أو غير ذلك، المسألة أخطر من ذلك، هذه عناوين تريد أن تطرحها إسرائيل في الساحة السياسية أو الأمنية، حتى تستطيع أن تحصل على بعض المواقع أو على بعض الأوضاع السياسية التي تريدها في هذا الاتجاه. وقد درجت أمريكا أن تقدّم للعرب كلمات وأن تقدم لهم عروض التنازلات "لإسرائيل" وتسعى لإقناعهم بأن يقدموا المزيد من التنازلات بحجة أن ذلك من شأنه أن يقوي السياسي المعتدل في "إسرائيل"، قدموا لنا بعض التنازلات حتى نستطيع أن نضغط بعض الضغط على سياسة "إسرائيل"، والعرب يشعرون بالبركة عندما يتنازل وزير خارجية أمريكا ليطوف عليهم، ويشعرون بالإحراج لأن العرب مضيفون جيّدون باعتبار:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
الضيافة العربية تفرض أن تقول لأميركا هذه بلادنا بلادكم، أنتم ضيوفنا تفضلوا خذوها وتصرفوا بها كيفما شئتم، هذه الضيافة العربية لا تمثل العرب وإنما تمثل هؤلاء الذين أرادهم المستعمرون أن يكونوا حراساً لـ"إسرائيل".
ادرسوا جيداً حركة الواقع السياسي العربي واعرفوا جيداً كيف أن الملوك والرؤساء والمنظمات والأحزاب كلهم يعملون على أساس أن لا تمس "إسرائيل" بسوء، لا تمسوها بسوء من خلال الأردن، ولا تمسوها بسوء من خلال مصر، ولا تمسوها بسوء من خلال الجولان، ولا تمسوها بسوء من خلال لبنان، المسألة هي أنه يراد حتى لقوات الأمم المتحدة أن تحرس "إسرائيل" قبل أن تحرسنا، بعيداً عن كل الكلام الذي يقال، فلذلك علينا أن لا نفكر باللحظة الحاضرة.
مستقبل هزائم لمنطق الانهزام
اقرأوا جيداً الكتب التي تتحدث عن كيفية ولادة "إسرائيل" وعن كيفية حركة الواقع السياسي لضمانة واقع"إسرائيل" لماذا يفكر كل العالم السياس في الساحة العربية أن المشكلة هي مشكلة هؤلاء الإسلاميين الأصوليين أو الذين يعبّرون عنهم أخيراً بالإسلاميين الإيرانيين وغير ذلك؟ لأن هؤلاء يريدون أن يعشوا حرية أرضهم كما يفعل المجاهدون المسلمون في داخل الضفة الغربية وغزة، فهؤلاء هم الذين أعادوا المسألة الفلسطينية بعد أن قطعت أشواطاً في المسألة الأمريكية والإسرائيلية إلى نقطة البداية، والبداية هي أن شعار "زحفاً زحفاً نحو القدس" وتحرير فلسطين، لأن مسألة وعيهم "لإسرائيل" هي أنها ليست مجرد دولة نعيش معها بعض النزاعات، ولكنها دولة تريد أن تأخذ أرضنا في المستقبل كما أخذت أرضنا في الماضي، ولهذا فإذا لم نستطع أن نواجهها بالقوة لنربك وضعها فلنعمل على إعداد القوة لهزيمتها في المستقبل، فسوف يتحول كل مستقبلنا إلى هزائم، ولهذا لاحظوا أن المشكلة كانت في لبنان ولا تزال هي مشكلة المقاومة الإسلامية والمقاومة المؤمنة.
العنوان الإسلامي ممنوع!
المشكلة هي أن لا ينطلق للإسلام وللإيمان صوت لأنهم لا يريدون للمسلم أن يشعر بأنه مسلم أو أنه مؤمن حتى يستثير إيمانه وإسلامه حركته في خط الجهاد، يريدون أن يعطوه عنواناً يخضعه للخطوط السياسية التي تخضع للمعادلات الدولية، حتى العنوان الإسلامي، حتى العنوان الإيماني ممنوع في الساحات العربية واللبنانية لأنه عنوان لا يخضع لمعادلة أمريكية أو أوروبية أو إسرائيلية أو غير ذلك، ولهذا يريدوننا أن نخضع للعناوين التي تتحرك في دائرة المبادرات ودائرة المعادلات الدولية. وهكذا نجد أنهم يواجهون الانتفاضة الإسلامية التي يشهد الجميع أنها انتفاضة انطلقت من داخل المساجد وأنها انتفاضة انطلقت تحت شعار "الله أكبر" وشعار "لا إله إلا الله".
انطلقت من خلال هذه الشعارات التي يشعر فيها المسلم بالأصالة من خلال خط التوحيد لله وعدم الإشراك بغيره، ليفهم مسألة توحيد الله أن لا يشرك به غيره حتى لو كان أمريكياً أو أوروبياً أو إسرائيلياً أو غير ذلك.. لهذا كانوا يريدون أن يطوقوها ولا تزال الساحات العربية الآن لا تفكر في دعم الانتفاضة ومساعدتها، بل المسألة هي كيف يفكرون بمبادرة (شولتز)( )، وكيف يستطيعون أن يحركوا المسألة العربية لتتكامل مع المسألة الإسرائيلية تحت المظلة الأمريكية، لأن الأمريكيين قالوا لهم اعتبروا الانتفاضةا مسألة داخلية تعالجها "إسرائيل"، لأنكم إذا لم تعتبروها كذلك فسوف تزحف الانتفاضة إلى بلادكم وسوف تتحرك الانتفاضة نحو عروشكم التي يعرف المسلمون المجاهدون جيداً أنها عروش صنعت في المعامل الأمريكية والأوروبية ولم تصنع في الساحة الإسلامية أو العربية..
إنهم يريدون أن يحاصروها ويطوّقوها، ولهذا أعطوا إسرائيل الحرية في أن تضغط، قال لها "كيسنجر"( ) أن تضغط حتى لو كلفها ذلك أن تبيد الشعب المسلم في فلسطين، وأمريكا لا تتحرك خطوة في اتجاه أن تمنع إسرائيل من أن تكسر أذرع الأطفال وأن تدفن الناس أحياء وأن تطلق الرصاص على كل الناس هناك وأن تحاصرهم حصاراً اقتصادياً، إنهم لا يتحركون لأنهم لا يريدون لانتفاضة فلسطينية إسلامية أن تخرج عن الحدود المرسومة للمسألة الفلسطينية في الساحة، لا يريدون لها أن تخرج عن الخطوط الحمر التي فرضوها، ولهذا فإن هناك حلفاً أمريكياً عربياً( ) إسرائيلياً يعمل بكل ما عنده من طاقة ومن إمكانات في سبيل الضغط على الانتفاضة وفي سبيل محاصرتها حتى يمكن تعديل مواقفها لمصلحة المواقف السائدة في العالم العربي ولمصلحة السياسة العربية.. إن المسألة تعيش في هذا الاتجاه، ولكننا نعرف أنهم {... يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال:30]، {...ولينصرنّ الله من ينصره إنه لقويٌ عزيز} [الحج:40].. إن الله سينصر هؤلاء ولو بعد حين عندما تستمر هذه الروح الإسلامية في كل أعماقهم.
فلنعمل لتحرير القدس
وهكذا نشعر أن علينا أيها الأخوة المسلمون أن ننطلق لنتكامل مع كل الذين يعملون على تحرير القدس وعلى إنقاذ المنطقة من إسرائيل.. ومن هنا نعرف قيمة التكامل والارتباط بالقيادة الإسلامية في الثورة الإسلامية التي يمثلها الإمام الخميني حفظه الله( )، أن نتكامل معها ومع المسلمين المجاهدين في فلسطين ومع كل الإسلاميين في العالم من أجل أن نصل إلى الهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام ليؤكد مواقعه وليؤكد حركته من أجل الحرية في كل مجال.. إن رفض "إسرائيل" ومقاومتها ليست مجرد كلمة تُقال وحتى ليست مجرد عمليات في وجه "إسرائيل" ولكنها تمثل نهجاً سياسياً يتدخل في كل مواقع حركتنا السياسية، حيث أننا عندما نؤيد أي موقف فعلينا أن نفحص أي توجد "إسرائيل" فيه، أو أي قرار فعلينا أن نشعر كيف تختبئ "إسرائيل" في داخله.. ومن هنا كانت نظرتنا إلى كثير من قرارات الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية، كانت نظرتنا نظرة حذر وشك وريبة، لأنها تنطلق من خلال اعتبار "إسرائيل" أساساً في مسألة الأمن في المنطقة والسياسة في المنطقة، ودققوا في ذلك تعرفوا ذلك بعيداً عن كل الاستعراضات الكلامية والاستهلاكية في البلاد.
سياسة و"من الحبّ ما قتل"
وعلى ضوء هذا نقول، إن المسألة التي تدور الآن في لبنان والتي تتحرك بين التفاؤل تارة وبين التشاؤم أخرى، والتي يحدثنا فيها بعض السياسيين بأن علينا ان نغتنم الفرصة، أية فرصة؟! إن أمريكا أعطتنا بركتها وبدأت تهتم بنا، أرسلت لنا شولتز ومورفي وأرسلت أيضاً غلاسبي وغيرهم حتى يقولوا هنا إن أمريكا تحبنا جيداً، ولكن هناك كلاماً يقول: ومن الحب ما قتل.
هذه المحبة فيها نظر، إنها جاءت على أساس أن تكون موظفة في وزارة البرق والبريد اللبنانية حت تنقل ما يقوله السياسيون المسمّون فريقاً إسلامياً في الغربية إلى السياسيين الذين يسمون فريقاً مسيحياً في الشرقية، أن تنقل الرسالة هنا وهناك عبر دمشق من أجل أن تجعل اللبنانيين يتحاورون بالمراسلة التي تشرف عليها أمريكا وهي تملي على الذي يكتب الرسالة الجوابية هناك أن يكتب بطريقة معينة تحرك اللعبة بطريقة تتناسب مع المصالح الأمريكية.. لماذا الفريقان اللذان يحملان الرسائل، فريق أمريكي وفريق سوري عربي؟ على أساس أن الفريق الأمريكي يمثله أولئك وأميركا تمثل هذا الفريق، وسوريا تمثل الفريق الآخر حتى تعتبر المسألة في الرأي العام الدولي مسألة سورية أمريكية وليست مسألة لبنانية ـ لبنانية من أجل أن تضغط أمريكا على سوريا نم خلال الورقة اللبنانية وأن ينطلق الحكم في كل أجوبته وفي كل كلماته على أساس النظرة الأمريكية التي تحاول أن لا تظهر في الواجهة.
حوار داخلي أم إقليمي ودولي؟
ولهذا، فإن الحوار الداخلي لو نظرنا إليه نظرة عميقة، لوجدنا أنه في الواقع ليس حواراً داخلياً، ولكنه حوار إقليمي ودولي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ونحن نشكّ ونحذر، لا نشك فقط أو نحذر فقط، بل نعرف أن أمريكا تعمل على أساس تمييع القضايا لتي انطلق الناس ليثوروا من أجلها، وتعمل على أساس أن تحل المشاكل في لبنان لحسابها، كما كانت هي التي أوجدت المشاكل في لبنان لحسابها، ولهذا فإننا لن نعتبرها فرصة أن تأتي أمريكيا لتدبر أمرنا ولتميّع قضايانا ويكون هناك إخراج لإلغاء الطائفية السياسية، أن تجتمع هناك لجان وتبحث الموضوع لتجتمع مرة كل سنة ويضيع الموضوع مع كل الأجواء السياسية المستقبلية، إذا لم تستطع حرب دامت ثلاث عشرة سنة وقبلها هناك حرب متحركة حُضِّر لها، إذا لم تستطع أن تحقق مطلب إلغاء الطائفية السياسية، أومطلب المشاركة في الحكم، وإنما تطرح هذين المطلبين على المستقبل بعد انتخاب مجلس نيابي جديد وبعد أن تنطلق، فهل تستطيع لجان أو مجالس نيابية خاضعة للعبة الأمريكية وغير الأمركيية أن تحقق لنا ذلك، أما أننا نحتاج إلى ج ولة جديدة بعد عشر سنين ليُقتَلَ فيها اللبنانيون لحساب الآخرين باسم مطالبهم الإصلاحية؟ إن المطالب الإصلاحية هي الطعم الذي يقدم في الفتنة، ولكنهم لا يسمحون له بأن يأخذ دوره ويصل به إلى النهايات ثم يجمدونه لوقت آخر.
إننا نتصور أن المسألة لا تزال تدور في المجالات الدولية والإقليمية التي تعمل على تحريك ضغوط وضغوط أخرى، وإن المسألة هي أن تمسك أمريكا بكل الساحة اللبنانية في الموقف السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري والمني من أجل أن تتكامل الساحة اللبنانية مع الساحة الإسرائيلية في خدمة أهداف "إسرائيل" من جهة، وخدمة أهداف الاستعمار العالمي من جهة أخرى، هذه هي نظرتنا إلى المسألة، وسوف تجدون القضية في المستقبل الذي نرجو أن لا يحمل لنا ذلك، وإن علينا أن نعمل في سبيل أن نقف في وجه ذلك، لأن المشكلة لن تكون أكثر ألماً وأكثر تأثيراً في هزيمة واقعنا من الحل الذي يراد له أن يعيش على صورة الذين صنعوا المشكلة، هذه نقطة يجب أن نواجهها جيداً.
تخطيط للفتنة
وهناك في ساحتنا العامة تخطيط للفتنة، يتحرك في اتجاه أن ينطلق المجاهدون والمقاومون من أجل أن يعيشوا الأحقاد في ما بينهم، وأن يعيشوا الخلافات التي تجعل من الأخ عداً لأخيه، وتجعل من الساحة ساحةً للأوضاع السلبية في حركة الموقف الواحد( ).. إننا ندعو كل أخواننا وكل أهلنا إلى أن يواجهوا أية مفردة من مفردات الفتنة بالأسلوب الإسلامي {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم} [فصلت:34]، وأن يواجهوها عندما تكون أي قضيةمن القضايا التي يتهم فيها فريق فريقاً آخر أو هذا الفريق فريقاً آخر، أية قضية من القضايا التي تثير الاجتهدات والخلافات..
ارجعوا إلى كلام الله {ولا تقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36]، وإلى كلمة علي بن أبي طالب(ع): "أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع؛ فسئل(ع) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذانه وعينه ثم قال: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت"( )، وعليكم أن تنتبهوا إلى أن المخابرات المتنوعة سواء كانت مخابرات أمريكية أو صهيونية أو رسمية لبنانية أو عربية مناوئة للاتجاه الإسلامية التحرري أو لبنانية حزبية، تجد في كل مواقع الخلاف والنزاع مجالاً لبثّ الإشاعات ومجالاً لتوتير الأعصاب ومجالاً لإثارة العصبيات..
لهذا ارجعوا إلى كتاب الله عندما تسمعون شيئاً عن أي ج هة كانت، {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتُم نادمين} [الحجرات:6].. لا تجعلوا عقولكم في آذانكم بل اجعلوا عقولكم في قلب إيمانكم وعلى خطّ قرآنكم، استمعوا إلى الناس ثم قولوا لهم لقد سمعنا وعينا أن ندقق في ما قلتموه، وعلينا أن نحقق في ما سمعنا لأن الله يقول لنا {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظنّ إثم...} [الحجرات:12]، ولأن رسول الله(ص) قال لنا ما قاله لبعض أصحابه وهو يقول له: يا رسول اله قد أدعى للشهادة، قال: "على مثل هذه ـ وأشار إلى الشمس في وقت الضحى ـ على مثل هذه فاشهد أو دع الشهادة".
عندما نلتزم خط القرآن، علينا أن لا نحكم بغير علم، وأن لا نقبل قولاً بغير علم، وأن لا نأخذ انطباعاً عن غير علم، فسنعرف كيف نتفاهم، وسنعرف كيف نواجه كل مخططات المخابرات، وسنعرف كيف نضبط الساحة، وسنعرف كيف نصل إلى الحق لنقول الحق ضد كل من سار في طريق الباطل أنّى كانت صفته، حتى لو كان من أقرب الناس إلينا أو من أحب الناس إلينا، لأن الله يقول: {... وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152]، لننطلق من موقع العدل الذي يحمل أدواته الحقيقية، وبذلك نستطيع أن نمنع الفتنة..القضية كل القضية أن لا تكونوا وقوداً للفتنة التي يريد أن يثيرها الكثيرون من صانعي الفتنة ومن موظفي الفتنة ومن حراس الفتنة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن وحدة الساحة في مواجهة الكفر والاستكبار والصهيونية أمانة الله في أعناقكم، فعليكم أن تحفظوا هذه الأمانة بالكثير من الإيمان وبالكثير من الوعي وبالكثير من الصبر وبالكثير من دراسة الموقف على أساس ما يحبه الله ورسوله. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
[خطبة الجمعة:18/3/1988]

دروس من
الإسراء والمعراج والمبعث

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2-4].. {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:11].. {...ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9].
قضايا ثلاث
تتحدث هذه الآيات عن قضايا ثلاث في انطلاقة الإسلام وفي حركته في عالم الغيب، فقد صادفنا قبل يومين ذكرى اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، الذي يرى فريق من المسلمين أنه كان يوم مبعث رسول الله(ص)، كما يرى بعض المسلمين أنه كان يوم الإسراء والمعراج. ونحن لا نريد أن ندخل في التدقيق في أيّ من الروايتين أصح، لأنه ليست عندنا مشكلة في أن يكون المبعث في هذا اليوم أو ذاك اليوم، أو يكون الإسراء والمعراج في هذا اليوم أو ذاك، ولكن المسألة أن نظل نقف دائماً مع المناسبات الإسلامية التاريخية الحية التي تحمل لنا معنى يمتد في امتداد الحياة، وتختزن مضموناً روحياً وفكرياً وحركياً نشعر بأننا بحاجة إليه كما كان المسلمون الأولون، لأننا مجتمع الرسالة في جيلنا كما كان المسلمون الأولون مجتمع الرسالة في جيلهم، ونحن نأخذ على عاتقنا مسؤولية حمل الرسالة والدعوة إليها وتحريكها في المجتمع والجهاد في سبيلها تماماً كما كان المسلمون الأولون يعيشون هذا الدور.
أيها المسلمون، لا تعتبروا أن مسؤولية الرسالة كانت مسؤولية أولئك المجاهدين من الصحابة، ودوركم هو دور التلقي والاتباع من دون أن تكون لكم مسؤولية.. الله سبحانه وتعالى جعل مسألة الدعوة إلى الله والدعوة إلى الخير مسؤولية كل المسلمين {ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} [فصلت:33]، {ولتكُن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104]، هذا نداء لكل مؤمن ولكل مسلم.. وعلى هذا الأساس فإننا نواجه هذه المناسبات أو الذكريات الإسلامية بالروح نفسها التي واجهها المسلمون آنذاك، فكيف نتمثّلها في حياتنا في هذه المرحلة، وفي ما نستقبل من مراحل؟
في البداية، في المبعث عندما بُعث رسول الله(ص) وتلقى النداء من الله على لسان جبرائيل حسب رواية المبعث: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]، عندما سمع هذا النداء الذي يقول له أن هذا المجتمع الأمي يحتاج أن يقرأ ويحتاج أن يتعلم بالقلم، ويحتاج أن يتعلم بالفكر، ويحتاج أن يتعلم بالتأمل ليبدأ دور جديد للإنسانية من خلال ذلك حتى تنطلق الإنسانية في هذا الجزء من العالم ا لذي يتحرك نحو العالم كله في رسالة تفتح عقل الإنسان على الحقيقة من خلال الفكر، وتفتح قلب الإنسان على المسؤولية من خلال الإيمان.
المسؤولية والظروف الصعبة
كان النبي وحده وكان العالم يعيش الشرك في أكثر مواقعه ويعيش الكفر في أكثر مواقعه.. كان وحده ولم يضعف، وكان القرآن يغذيه وينمّيه ويقوّيه {يا أيّها المدّثّر}، وكان البرد يأخذه، يرتجف من الصقيع ويتدثّر بالصوف ونزلت الآية لتؤكد بأن لا مجال لتعيش الاسترخاء أمام البرد أو الحر، لا بد أن تتحمل البر في حركة المسؤولية، ولا بد أن تتحمل الحر في حركة المسؤولية: {يا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدّثر:1-5]، ونزع النبي كل دثاره وتحرّك، تحرّك ليدعو إلى الله ولم يقل كما نقول نحن الآن وقبل الآن وبعد الآن، لا يقول لو دعوت إلى الله وإلى الإسلام فسوف يكرهني الناس وسوف لا يرضى عني الناس، لو واجهت العادلة الشركية والمعادلة الجاهلية لقال الناس عني كلاماً غير مألوف.. لم يقل ذلك، وإنما قال الكلمة بقوة، ودعى إليها بحكمة، وتحرك من خلالها بتخطيط، وقرر أن يتحمل مسؤولية الكلمة بكل ما يمكن أن ينفتح عنها من سُباب وشتائم واتهامات وما إلى ذلك منه كلمات.
قرر أن عليه أن يصبر أمام كل ذلك، وقرر أن عليه أن يتحمل الإيذاء ويتحمل الضرب بالحجارة ويتحمل الحصار ويتحمل التهديد بالقتل، يتحمل كل الأخطار، لأنه يعرف أنه جاء للقوم برسالة تُلغي كل امتيازاتهم الطبقية وتُلغي كل أطماعهم الذاتية، جاء ليوحد بين اسيد والعبد وبين الأبيض والأسود وبين كل القوميات: "كلكم من آدم وآدم من تراب"( ) و{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
كان يريد أن يلغي امتيازاتهم، امتيازات الطبقة المسيطرة بغناها والمسيطرة بمواقعها والمسيطرة بقوتها وما إلى ذلك، كان يريد أن يلغي ذلك لتكون الأرض للمستضعفين لا للمستكبرين، {ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهُم أئمةً ونجعلَهم الوارثين} [القصص:5]، كانت الرسالة تتحرك في هذا الاتجاه، فكيف يقبلها المستكبرون وكيف يقبلها الأغنياء وكيف يقبلها المتجبرون والطغاة؟ وقرر أن يتحمل، ولم يضعفه التصور أنه وحده، وأن الأكثرية ليست معه، كان يستمع إلى آيات الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، ولهذا كان لا يخاف من الأكثرية التي تقف ضده وتسبّه وتلعنه وتتهمه في عقله وتتهمه في صدقه وتتهمه في كثير من مواقع حياته وتحاصره..
واستمر يجمع الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والعشرة، وكان يدير الأمور بكل حكمة وبكل قوة، وكان يُقال عنه أنه كذاب بعد أن كان الصادق الأمين عندهم، وكان يُقال عنه أنه ساحر عندما رأوا تأثير كلامه في الناس، كانوا يريدون أن يبطلوا قداسته في وعي الناس وأرواحهم، ورأوا أنه مستمر لا يأبه بذلك، قالوا عنه أنه مجنون، وانطلقوا وانطلق أبو لهب الذي تبّت يداه، انطلق وراءه لأن تأثير الأقربين على الناس أكبر من تأثير الأبعدين، كان أبو لهب يقول: لا تصدقوا ابن أخي، نحن أعر به، نحن أعمامه، لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون، وقال الله له أن يقول لهم {قل إنما أعِظكُم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذابٍ شديد} [سبأ:46].
واندفعوا إلى القرآن الذي كان يريدهم أن يؤمنوا بأنه وحي الله بالبينات التي قدمها إليهم، وبالتحدي الذي أطلقه في وجوههم {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل:103]، وصبر واستمر، وكانت أخلاقه العالية جزءاً من أسلوبه الرسالي: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].. كانت أخلاقه تمثل جزءاً من حركة رسالته، أخلاقه في ذاته، أخلاقه في بيته وعائلته، أخلاقه مع أصحابه، أخلاقه مع أعدائه، أخلاقه المنفتحة على الله فيما يريده الله منه.
وهكذا انطلق من موقع الإنسان النبي القائد الذي وقف وحده أمام العالم ولم يخف واستطاع أن يتقدم على أساس سياسة النفس الطويل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهكذا نأخذ من المبعث أن علينا أن لا نخاف من الآخرين الذين يقفون أمامنا ليبطلوا دعوتنا إلى الله وإلى الإسلام، ويخوفونا بالقوى المسيطرة التي تحكم العالم، وليهزمونا بالقوى المسيطرة التي تحكم المنطقة، وليسقطونا باسم القوى المهيمنة التي تحكم البلد.. كل ذلك كان يواجهه رسول الله ولم يسقط ولم يضعف، ولم يحزن، وكان يقول للمسلمين ما قاله الله له: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران:139-140].
وكان يقول لهم ما قال الله له، أيها المسلمون إذا كنتم ضعفاء فإنكم تستطيعون أن تكونوا أقوياء {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم...} [الأنفال:60]، كونوا القوة الكبيرة التي ترهب الآخرين من موقع قوتها ليحذر الآخرون من الاعتداء عليها، لأنكم إذا أبقيتم أنفسكم ضعفاء وإذا أوحى بعضكم إلى بعض بالضعف وإذا استسلمتم لهذا الضعف وإذا لم تأخذوا بأسباب القوة في ما أعطاكم الله من عناصر القوة في الثروات المخزونة في أرضكم والثروات التي يمكن أن تتحرك في طاقاتكم والطاقات التي تملكون أن تبدعوا فيها القوة، إذا لم تأخذوا بذلك كله فسوف تسحقكم الأرجل وسوف تكونون الأذلاّء.
كان النبي(ص) يفكر أن المسألة ليست هي أن ترضى قريش عنه أو ترضى القبائل عنه، كان يفكر أن يرضى الله عنه: "إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي"، وعندما اصطدم باليهود والنصارة فلم يفكر أن يكون هدفه أن يرضوا عنه لأن الله قال له أن يقول للمسلمين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:20]..
وقال للمسلمين كونوا الأعزة، إنكم إذا كنتم مؤمنين فالإيمان يمثل قوة وقيمة تربطكم برسول الله وتربطكم بالله لتكون العزة صفتكم كما هي صفة رسول الله ولتكون العز صفتكم كما هي صفة الله، فإن الله لا يريد لعباده المؤمنين أن يكونوا الأذلة أمام الكافرين والمستكبرين {... ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين...} [المنافقون:8]، كونوا الأعزاء من موقع عزة الله ورسوله في ما تؤمنون به بالله وبرسوله وبخط الله ورسوله.
وهكذا انتصر لأنه كان يخاف من الله وحده، وانتصر لأنه كان يراقب الله وحده، وانتصر لأنه كان يستمد ثقته بنفسه وبحركته وبرسالته من موقع إيمانه بالله وثقته بالله، كان يشعر بأن الله معه في الحالات التي ليس فيها أحد معه، {.. إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} [التوبة:40]، قال للمسلمين ما قاله الله له وهو يحدثه عن دين الله الذي ليس فيه نقص لا في العقيدة ولا في المفاهيم، ولا في التشريع ولا في المنهج {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...} [المائدة:3] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، أكمل الدين بلاغاً وأكمله قوةً وأكمله منهجاً، وقال له ربه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، ولحق الرسول بالرفيق الأعلى.. وكان الله قد قال للمسلمين قبل أن يموت رسول الله، إن مسألة إسلامكم لا تتحدد بحياة رسول الله، فرسول الله بشر يحيا كما يحيا البشر ويموت كما يموتون، ولكن الإسلام رسالة الله فاحملوه بعد رسول الله وتحملوا مسؤوليته بعد رسول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، هذه قصة المبعث في حركة رسول الله في اتجاه الرسالة التي يمثلها المبعث.
ذكرى المبعث وتحمل المسؤولية
ما هو دورنا الآن، مرّت ذكرى المبعث، بعض الناس يقيمون مهرجاناً خطابياً، وبعض الناس يقيمون مسيرة إيمانية، وبعض الناس يكتب كلمة هنا وحديثاً هناك، ولكن المسألة ليست أن نقيم مهرجاناً لبعثة الرسول، بل القصة أن نتحرك في اتجاه أن نعرف مسؤوليتنا في جيلنا وفي مرحلتنا على ضوء المعنى الذي بُعث به الرسول، كيف نحرك القرآن في الحياة كما حرّكه؟ وكيف ندعو إلى الإسلام في الحياة كما دعا إليه؟ وكيف نقوي مواقع الإسلام في كل ساحات الصراع كما قوّاه،وكيف نطلقه دعوةً للعالم كله كما كان دعوةً للعالم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...} [سبأ:28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
أيها الأخوة المؤمنون، تحملوا مسؤوليتكم عن الإسلام، فإن الله سيسألكم عن دوركم في الحياة، سيقول لكم عندما انطلق كل واحد منكم إلى الحياة، كانت قوة الإسلام بنسبة عشرين في المئة، فهل تحركتم لتكون نسبة القوة 25 في المئة؟ ماذا أعطيتم من فكركم للإسلام؟ ماذا أعطيتم من مالكم للإسلام؟ وقد كان المسلمون الأولون، كان منهم من يعطي ماله وكانت خديجة صاحبة مال كثير وماتت فقيرة لأنها أعطت كل مالها للإسلام، ومنهم من يعطي جهده وفكره وقوته، فماذا أعطيتم أنتم، إن بعضكم قد يعطي ماله للكفر وللفسق والفجور، وليس مستعداً لأن يعطي الإسلام قرشاً واحداً.
إن بعضكم يعطي فكره للكفر وللشرك وللطغيان وليس مستعداً لأن يعطي من فكره للإسلام شيئاً، إن بعضكم يعطي جهده للظلم وللطغيان والبعث والانحراف ولا يعطي الإسلام شيئاً من ذلك، كيف تكونوا مسلمين وتبخلون على الإسلام بما أعطاكم الله من النعم التي أرادكم أن تشكروها بأن توجهوها في ما أحبّ الله.
عندما نتذكر المبعث فلنتصور أن رسول الله الآن بيننا، فبِمَ يتحدث؟ لو كان رسول الله في لبنان؟ هل يتحدث عن الخط الوطني أو القومي أو الاشتراكي أو الديمقراطي أو التقدمي أو ما إلى ذلك، أو يتحدث عن الإسلام؟ سيقول بعض الناس: يا رسول الله إن وضع لبنان وضعٌ خاص، نحن لا نريد أن نتحدث عن الإسلام، لأن الإسلام يثير الحساسيات الطائفية ويثير المشاكل الداخلية، فلنغطِ الإسلام بألف غطاء، ماذا يجيبكم رسول الله: {إن الدّين عند الله الإسلام}، {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم:23]، فكّروا في ما كان يطرح رسول الله، وحاولوا أن تحكموا على كل الطروحات وكل الأشخاص من خلال ذلك، لأن رسول الله هو الميزان الذي نعرف به الحق والباطل، والقرآن هو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل وليس هناك أحد أو مؤسسة أو جهة يمكن لها أن تحدد الخط لنا، وحده رسول الله كلمته كلمة الله، حركته حركة الله، منهجه منهج الله، سياسته سياسة الله، نعرفها من خلال ما بيذنه في كتاب الله، ونعرفها في ما بيّنه في سنة رسول الله(ص).
هذا هو الخط، فإذا أردتم أن تحتفلوا بالمبعث فاحتفلوا به في بيوتكم عندما تعلِّمون أولادكم وبناتكم وزوجاتكم الإسلام، واحتفلوا به في مواقع عملكم عندما تدعون زملاءكم في العمل إلى الإسلام، واحتفلوا به في مواقع عملكم عندما تدعون زملاءكم في العمل إلى الإسلام، واحتفلوا به في مدارسكم عندما تعملون على دعوة زملائكم إلى الإسلام، ادعوهم إلى الإسلام إذا كانوا لا يؤمنون به وادعوهم إلى الالتزام بالإسلام إذا كانوا مسلمين لا يلتزمون به، تلك مسؤوليتكم التي سيسألكم الله عنها.
كل شخص يستطيع أن يهدي شخصاً ويقول لا أريد أن أتعب رأسي فقد عصى ربه، كل شخص يستطيع أن يهدي جماعة من الناس ويقول لا أريد أن أثير المشاكل من حولي، فقد أخطأ وعصى ربه، لأن الدعوة واجبة على كل من يستطيعها، والهداية واجبة على كل من يستطيعها، كان الوجوب كفائياً في مرحلة، أما الآن فالواجب عيني على كل قادر على الدعوة بنسبة قدرته، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فكما الصلاة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة فالدعوة إلى الله والهداية إلى طريق الله واجبة على كل مسلم ومسلمة.
حاولوا أن تحافظوا على الإسلام في عنوانه، لا يخدعنّكم أحد أن ترتبطوا بغير الإسلام، أو تعطوا أنفسكم صفة غير الإسلام، الله أعطاكم الإسلام صفة، ولا قيمة لكل التنظيمات ولكل الحكومات ولكل الأحزاب أمام الإسلام أن تأخذوا صفتها وتتركوا صفة الإسلام. قولوا لكل الناس الذين يريدونكم أن تسيروا معهم سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو عسكرياً، ما هو موقع الإسلام من نهجكم وحركتكم ومسيرتكم ودعوتكم؟ وقولوا لهم إننا نريد أن نموت على اسم الإسلام وتحت راية الإسلام، ولا نريد أن نموت تحت أية راية أخرى.
قيمة لبنان أن يكون مسلماً وقيمة العرب أن يكونوا مسلمين وقيمة الإيرانيين والأتراك وغيرهم أن يكونوا مسلمين، تلك هي الصفة التي نريد أن نحركها في حياتنا، فسوف لن يسألكم الله غداً عندما تقفون بين يديه من أية قرية أنت؟ ومن أي محلة أنت؟ ومن أي بلد أنت؟ ومن أي وطن أنت؟ ومن أية قومية أنت؟ ومن أي حزب أو حركة أو تنظيم أنت؟ سيسألك الله هل آمنت بالله وبرسوله وبكتابه واليوم الآخر؟ أو لم تؤمن بذلك؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130]، هذا هو السؤال فابحثوا في أنفسكم وفي حركتكم وفي علاقاتكم وفي انتماءاتكم عما يجيب على هذا السؤال.
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله...} [الإسراء:1].
وتأتي مناسبة الإسراء قبل الهجرة بسنة أو سنتين، فيأتي جبرائيل إلى رسول الله(ص) ليسير به ليلاً في مثل اللمحة واللحظة ويقطع تلك المسافات ليصل إلى بيت المقدس، ليلتقي إبراهيم الخليل(ع) وليلتقي موسى وعيسى عليهما السلام ويشاور معهما وليأخذ تجربتهم ويلتقي مع بقية الأنبياء ويعيش تلك الروح التي اختصر فيها كل التاريخ الذي سبقه، فاجتمع بالأنبياء الذين سبقوه، ورأى آيات الله في ذلك وتوسعت آفاقه، كانت التجربة التي أراد الله من خلالها وهو يعد النبي(ص) لإبلاغ الرسالة إلى العالم ليكون رسوله إلى العالم كله، وليعد النبي ليكون خاتم الأنبياء، ولتكون رسالته خاتمة الرسالات، لهذا أراد أن يعطيه الفكرة الحية من خلال ذلك، وذلك غيب الله، وعندما حدّث قومه بذلك ارتدّ قوم عن الإسلام لأنهم كانوا لا يفهمون الغيب جيداً ولكن النبي أعطاهم ما أثبت لهم صدقه.
الانطلاق باتجاه المسجد الأقصى
وعندما نلتقي بالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى معنى ذلك أن القرآن يريد أن يجعل في حياتنا مسألة المسجد الحرام والمسجد الأقصى رمزين وعنوانين لما يقدسه المسلمون ولما يتحمل مسؤوليته المسلمون ولما يجاهد في سبيله المسلمون.. {.. من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} أن ننطلق كما انطلق النبي من هناك من مكة إلى بيت المقدس ليرى آيات اله في كل ما أراد الله له أن يراه، وليجمع الرسالات في وحدة يختزنها الإسلام في مفاهيم الرسالات الخالدة أيضاً، لا بد لنا أن نسير من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دائماً، خط السير هذا بدأه رسول الله، وقال للمسلمين أن يسيروا عليه، وبعد رسول الله سار المسلمون من المسلمون من المسجد الحرام ومن المدينة إلى المسجد الأقصى واستطاع الإسلام أن يدخل إلى المسجد الأقصى، وحكم المسلمون المسجد الأقصى والأرض المباركة من حوله، وكانوا أفضل الحاكمين المنفتحين بالرحمة على كل الناس الذين بقوا على دينهم من أهل الكتاب فلم يعرضوا لهم بسوء بل أعطوهم كل ما يمكن للإسلام أن يعطي الفئات التي يختلف معها من أهل الكتاب من إنسانية ورعاية وعدالة في كل المجالات.
"إسرائيل" والجلاء عن المنطقة
ثم مرّت سنون، ومرّ التاريخ وجاءت القوى المستعمرة الأوروبية تحت عنوان الصليب من أجل أن تسيطر على المسجد الأقصى( )، ولكن المسلمين لم ييأسوا ولم يضعفوا، بل فكروا أن يحرروا المسجد الأقصى من الصليبيين ولو بعد مئتي سنة، وتحرر المسجد الأقصى.. وعادت أمريكا وعادت أوروبا من خلال الاستعمار البريطاني من أجل أن يقدموا المسجد الأقصى وما حوله لليهود في وعد بلفور ليركزوا دولتهم، ولم يكن هذا قراراً بريطانياً ولكنه كان قراراً أوروبياً يأخذ البركة من أمريكا ولا يغضب روسيا آنذاك.
وتذكر بعض المذكرات التاريخية أن مسألة الجلاء عن لبنان وعن سوريا لم تكن مسألة أن يكون لبنان مستقلاً أو تكون سوريا مستقلة، بل كانت المسألة كما نقل عن "ديغول" أن تجلو فرنسا من سوريا ولبنان لتهيِّئ لبريطانيا أن تجلو عن فلسطين وتسلم فلسطين لليهود، كانت من أجل أن تكون المسألة في ضمن سياسة واحدة يكون الجلاء فيها هنا مقدمة للجلاء هناك من أجل المصلحة اليهودية.
هذا معنى الاستقلال اللبناني، الذي لم يكن استقلالاً ينطلق من واقع المشكلة اللبنانية السياسية، بل كان حركة في الاتفاق الموجود لإعادة تمركز اليهود في فلسطين ضمن صورة سياسية باسم الجلاء عن المناطق المستعمرة من قبل الدول الأوروبية.
والمسألة حسب كثير من المذكرات التاريخية كانت قبل عام 48 اتصالات بين المنظمات الصهيونية وبين الدول الأوروبية على طريقة إعداد المسألة السياسية والأمنية من قبل الأوروبيين في فلسطين حتى يمكن أن تسيطر الصهيونية على فلسطين، كانت معدّة بالأرقام، وحسب هذه المذكرات التاريخية التي ترقى إلى 70 أو 71 سنة كانت الحدود المتفق عليها في الدولة الإسرائيلي من الجانب اللبناني أن تكون حدود "إسرائيل" إلى ما يقرب من مدينة صيدا..
ولهذا فإن "إسرائيل" تعمل على تنفيذ هذه الخطة بالتنسيق مع أوروبا ومع أمريكا بطريقة تدريجية، ولهذا ليست مسألة بقائها في المنطقة الحدودية مجرد مسألة أمنية، بل هي تعد مسألة سياسية دستورية مستقبلية تماماً كما تفكر بالنسبة للضفة الغربية وغزة وكما فعلت بالنسبة إلى الجولان، قد تضطر "إسرائيل" للانسحاب كما اضطرت فيما سبق ولكنها تعد الأرض والطرقات والمواقع الاستراتيجية والعملاء والجواسيس والسياسيين وغيرهم بطريقة تمكّنها من العودة عند حدوث أية متغيرات سياسية في الساحة.. فنحن عندما نريد للناس أن ينتبهوا إلى "إسرائيل" كخطر حالي ومستقبلي على وجودنا في داخل جبل عام أولاً وعلى وجودنا الإسلامي في المنطقة كلها، ثانياً فذلك لأننا نفكر بهذه الطريقة ولأننا نرى أن أمريكا تعلن بكل هيئاتها أنها تدعم أمن "إسرائيل" وتدعم قوتها دعماً مطلقاً، وأنها ليست مستعدة أن تضغط على إسرائيل وليست مستعدة أن تعاقب إسرائيل، وليست مستعدتة أن تسمح لمجلس الأمن بأن يدينها.
عندما تكون المسألة كذلك فإن علينا أن نتصور أن مسألة الوجود اليهودي في فلسطين تماماً كما هو الوجود الأوروبي الذي جاءت ت حت لافتة الصليب في فلسطين سابقاً، وأن المسألة ليست مسألة حدود بيننا وبين إسرائيل ليتحدث الناس عن اتفاقية الهدنة أو يتحدثوا عن الترتيبات الأمنية أو غير ذلك، المسألة أخطر من ذلك، هذه عناوين تريد أن تطرحها إسرائيل في الساحة السياسية أو الأمنية، حتى تستطيع أن تحصل على بعض المواقع أو على بعض الأوضاع السياسية التي تريدها في هذا الاتجاه. وقد درجت أمريكا أن تقدّم للعرب كلمات وأن تقدم لهم عروض التنازلات "لإسرائيل" وتسعى لإقناعهم بأن يقدموا المزيد من التنازلات بحجة أن ذلك من شأنه أن يقوي السياسي المعتدل في "إسرائيل"، قدموا لنا بعض التنازلات حتى نستطيع أن نضغط بعض الضغط على سياسة "إسرائيل"، والعرب يشعرون بالبركة عندما يتنازل وزير خارجية أمريكا ليطوف عليهم، ويشعرون بالإحراج لأن العرب مضيفون جيّدون باعتبار:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
الضيافة العربية تفرض أن تقول لأميركا هذه بلادنا بلادكم، أنتم ضيوفنا تفضلوا خذوها وتصرفوا بها كيفما شئتم، هذه الضيافة العربية لا تمثل العرب وإنما تمثل هؤلاء الذين أرادهم المستعمرون أن يكونوا حراساً لـ"إسرائيل".
ادرسوا جيداً حركة الواقع السياسي العربي واعرفوا جيداً كيف أن الملوك والرؤساء والمنظمات والأحزاب كلهم يعملون على أساس أن لا تمس "إسرائيل" بسوء، لا تمسوها بسوء من خلال الأردن، ولا تمسوها بسوء من خلال مصر، ولا تمسوها بسوء من خلال الجولان، ولا تمسوها بسوء من خلال لبنان، المسألة هي أنه يراد حتى لقوات الأمم المتحدة أن تحرس "إسرائيل" قبل أن تحرسنا، بعيداً عن كل الكلام الذي يقال، فلذلك علينا أن لا نفكر باللحظة الحاضرة.
مستقبل هزائم لمنطق الانهزام
اقرأوا جيداً الكتب التي تتحدث عن كيفية ولادة "إسرائيل" وعن كيفية حركة الواقع السياسي لضمانة واقع"إسرائيل" لماذا يفكر كل العالم السياس في الساحة العربية أن المشكلة هي مشكلة هؤلاء الإسلاميين الأصوليين أو الذين يعبّرون عنهم أخيراً بالإسلاميين الإيرانيين وغير ذلك؟ لأن هؤلاء يريدون أن يعشوا حرية أرضهم كما يفعل المجاهدون المسلمون في داخل الضفة الغربية وغزة، فهؤلاء هم الذين أعادوا المسألة الفلسطينية بعد أن قطعت أشواطاً في المسألة الأمريكية والإسرائيلية إلى نقطة البداية، والبداية هي أن شعار "زحفاً زحفاً نحو القدس" وتحرير فلسطين، لأن مسألة وعيهم "لإسرائيل" هي أنها ليست مجرد دولة نعيش معها بعض النزاعات، ولكنها دولة تريد أن تأخذ أرضنا في المستقبل كما أخذت أرضنا في الماضي، ولهذا فإذا لم نستطع أن نواجهها بالقوة لنربك وضعها فلنعمل على إعداد القوة لهزيمتها في المستقبل، فسوف يتحول كل مستقبلنا إلى هزائم، ولهذا لاحظوا أن المشكلة كانت في لبنان ولا تزال هي مشكلة المقاومة الإسلامية والمقاومة المؤمنة.
العنوان الإسلامي ممنوع!
المشكلة هي أن لا ينطلق للإسلام وللإيمان صوت لأنهم لا يريدون للمسلم أن يشعر بأنه مسلم أو أنه مؤمن حتى يستثير إيمانه وإسلامه حركته في خط الجهاد، يريدون أن يعطوه عنواناً يخضعه للخطوط السياسية التي تخضع للمعادلات الدولية، حتى العنوان الإسلامي، حتى العنوان الإيماني ممنوع في الساحات العربية واللبنانية لأنه عنوان لا يخضع لمعادلة أمريكية أو أوروبية أو إسرائيلية أو غير ذلك، ولهذا يريدوننا أن نخضع للعناوين التي تتحرك في دائرة المبادرات ودائرة المعادلات الدولية. وهكذا نجد أنهم يواجهون الانتفاضة الإسلامية التي يشهد الجميع أنها انتفاضة انطلقت من داخل المساجد وأنها انتفاضة انطلقت تحت شعار "الله أكبر" وشعار "لا إله إلا الله".
انطلقت من خلال هذه الشعارات التي يشعر فيها المسلم بالأصالة من خلال خط التوحيد لله وعدم الإشراك بغيره، ليفهم مسألة توحيد الله أن لا يشرك به غيره حتى لو كان أمريكياً أو أوروبياً أو إسرائيلياً أو غير ذلك.. لهذا كانوا يريدون أن يطوقوها ولا تزال الساحات العربية الآن لا تفكر في دعم الانتفاضة ومساعدتها، بل المسألة هي كيف يفكرون بمبادرة (شولتز)( )، وكيف يستطيعون أن يحركوا المسألة العربية لتتكامل مع المسألة الإسرائيلية تحت المظلة الأمريكية، لأن الأمريكيين قالوا لهم اعتبروا الانتفاضةا مسألة داخلية تعالجها "إسرائيل"، لأنكم إذا لم تعتبروها كذلك فسوف تزحف الانتفاضة إلى بلادكم وسوف تتحرك الانتفاضة نحو عروشكم التي يعرف المسلمون المجاهدون جيداً أنها عروش صنعت في المعامل الأمريكية والأوروبية ولم تصنع في الساحة الإسلامية أو العربية..
إنهم يريدون أن يحاصروها ويطوّقوها، ولهذا أعطوا إسرائيل الحرية في أن تضغط، قال لها "كيسنجر"( ) أن تضغط حتى لو كلفها ذلك أن تبيد الشعب المسلم في فلسطين، وأمريكا لا تتحرك خطوة في اتجاه أن تمنع إسرائيل من أن تكسر أذرع الأطفال وأن تدفن الناس أحياء وأن تطلق الرصاص على كل الناس هناك وأن تحاصرهم حصاراً اقتصادياً، إنهم لا يتحركون لأنهم لا يريدون لانتفاضة فلسطينية إسلامية أن تخرج عن الحدود المرسومة للمسألة الفلسطينية في الساحة، لا يريدون لها أن تخرج عن الخطوط الحمر التي فرضوها، ولهذا فإن هناك حلفاً أمريكياً عربياً( ) إسرائيلياً يعمل بكل ما عنده من طاقة ومن إمكانات في سبيل الضغط على الانتفاضة وفي سبيل محاصرتها حتى يمكن تعديل مواقفها لمصلحة المواقف السائدة في العالم العربي ولمصلحة السياسة العربية.. إن المسألة تعيش في هذا الاتجاه، ولكننا نعرف أنهم {... يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال:30]، {...ولينصرنّ الله من ينصره إنه لقويٌ عزيز} [الحج:40].. إن الله سينصر هؤلاء ولو بعد حين عندما تستمر هذه الروح الإسلامية في كل أعماقهم.
فلنعمل لتحرير القدس
وهكذا نشعر أن علينا أيها الأخوة المسلمون أن ننطلق لنتكامل مع كل الذين يعملون على تحرير القدس وعلى إنقاذ المنطقة من إسرائيل.. ومن هنا نعرف قيمة التكامل والارتباط بالقيادة الإسلامية في الثورة الإسلامية التي يمثلها الإمام الخميني حفظه الله( )، أن نتكامل معها ومع المسلمين المجاهدين في فلسطين ومع كل الإسلاميين في العالم من أجل أن نصل إلى الهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام ليؤكد مواقعه وليؤكد حركته من أجل الحرية في كل مجال.. إن رفض "إسرائيل" ومقاومتها ليست مجرد كلمة تُقال وحتى ليست مجرد عمليات في وجه "إسرائيل" ولكنها تمثل نهجاً سياسياً يتدخل في كل مواقع حركتنا السياسية، حيث أننا عندما نؤيد أي موقف فعلينا أن نفحص أي توجد "إسرائيل" فيه، أو أي قرار فعلينا أن نشعر كيف تختبئ "إسرائيل" في داخله.. ومن هنا كانت نظرتنا إلى كثير من قرارات الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية، كانت نظرتنا نظرة حذر وشك وريبة، لأنها تنطلق من خلال اعتبار "إسرائيل" أساساً في مسألة الأمن في المنطقة والسياسة في المنطقة، ودققوا في ذلك تعرفوا ذلك بعيداً عن كل الاستعراضات الكلامية والاستهلاكية في البلاد.
سياسة و"من الحبّ ما قتل"
وعلى ضوء هذا نقول، إن المسألة التي تدور الآن في لبنان والتي تتحرك بين التفاؤل تارة وبين التشاؤم أخرى، والتي يحدثنا فيها بعض السياسيين بأن علينا ان نغتنم الفرصة، أية فرصة؟! إن أمريكا أعطتنا بركتها وبدأت تهتم بنا، أرسلت لنا شولتز ومورفي وأرسلت أيضاً غلاسبي وغيرهم حتى يقولوا هنا إن أمريكا تحبنا جيداً، ولكن هناك كلاماً يقول: ومن الحب ما قتل.
هذه المحبة فيها نظر، إنها جاءت على أساس أن تكون موظفة في وزارة البرق والبريد اللبنانية حت تنقل ما يقوله السياسيون المسمّون فريقاً إسلامياً في الغربية إلى السياسيين الذين يسمون فريقاً مسيحياً في الشرقية، أن تنقل الرسالة هنا وهناك عبر دمشق من أجل أن تجعل اللبنانيين يتحاورون بالمراسلة التي تشرف عليها أمريكا وهي تملي على الذي يكتب الرسالة الجوابية هناك أن يكتب بطريقة معينة تحرك اللعبة بطريقة تتناسب مع المصالح الأمريكية.. لماذا الفريقان اللذان يحملان الرسائل، فريق أمريكي وفريق سوري عربي؟ على أساس أن الفريق الأمريكي يمثله أولئك وأميركا تمثل هذا الفريق، وسوريا تمثل الفريق الآخر حتى تعتبر المسألة في الرأي العام الدولي مسألة سورية أمريكية وليست مسألة لبنانية ـ لبنانية من أجل أن تضغط أمريكا على سوريا نم خلال الورقة اللبنانية وأن ينطلق الحكم في كل أجوبته وفي كل كلماته على أساس النظرة الأمريكية التي تحاول أن لا تظهر في الواجهة.
حوار داخلي أم إقليمي ودولي؟
ولهذا، فإن الحوار الداخلي لو نظرنا إليه نظرة عميقة، لوجدنا أنه في الواقع ليس حواراً داخلياً، ولكنه حوار إقليمي ودولي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، ونحن نشكّ ونحذر، لا نشك فقط أو نحذر فقط، بل نعرف أن أمريكا تعمل على أساس تمييع القضايا لتي انطلق الناس ليثوروا من أجلها، وتعمل على أساس أن تحل المشاكل في لبنان لحسابها، كما كانت هي التي أوجدت المشاكل في لبنان لحسابها، ولهذا فإننا لن نعتبرها فرصة أن تأتي أمريكيا لتدبر أمرنا ولتميّع قضايانا ويكون هناك إخراج لإلغاء الطائفية السياسية، أن تجتمع هناك لجان وتبحث الموضوع لتجتمع مرة كل سنة ويضيع الموضوع مع كل الأجواء السياسية المستقبلية، إذا لم تستطع حرب دامت ثلاث عشرة سنة وقبلها هناك حرب متحركة حُضِّر لها، إذا لم تستطع أن تحقق مطلب إلغاء الطائفية السياسية، أومطلب المشاركة في الحكم، وإنما تطرح هذين المطلبين على المستقبل بعد انتخاب مجلس نيابي جديد وبعد أن تنطلق، فهل تستطيع لجان أو مجالس نيابية خاضعة للعبة الأمريكية وغير الأمركيية أن تحقق لنا ذلك، أما أننا نحتاج إلى ج ولة جديدة بعد عشر سنين ليُقتَلَ فيها اللبنانيون لحساب الآخرين باسم مطالبهم الإصلاحية؟ إن المطالب الإصلاحية هي الطعم الذي يقدم في الفتنة، ولكنهم لا يسمحون له بأن يأخذ دوره ويصل به إلى النهايات ثم يجمدونه لوقت آخر.
إننا نتصور أن المسألة لا تزال تدور في المجالات الدولية والإقليمية التي تعمل على تحريك ضغوط وضغوط أخرى، وإن المسألة هي أن تمسك أمريكا بكل الساحة اللبنانية في الموقف السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري والمني من أجل أن تتكامل الساحة اللبنانية مع الساحة الإسرائيلية في خدمة أهداف "إسرائيل" من جهة، وخدمة أهداف الاستعمار العالمي من جهة أخرى، هذه هي نظرتنا إلى المسألة، وسوف تجدون القضية في المستقبل الذي نرجو أن لا يحمل لنا ذلك، وإن علينا أن نعمل في سبيل أن نقف في وجه ذلك، لأن المشكلة لن تكون أكثر ألماً وأكثر تأثيراً في هزيمة واقعنا من الحل الذي يراد له أن يعيش على صورة الذين صنعوا المشكلة، هذه نقطة يجب أن نواجهها جيداً.
تخطيط للفتنة
وهناك في ساحتنا العامة تخطيط للفتنة، يتحرك في اتجاه أن ينطلق المجاهدون والمقاومون من أجل أن يعيشوا الأحقاد في ما بينهم، وأن يعيشوا الخلافات التي تجعل من الأخ عداً لأخيه، وتجعل من الساحة ساحةً للأوضاع السلبية في حركة الموقف الواحد( ).. إننا ندعو كل أخواننا وكل أهلنا إلى أن يواجهوا أية مفردة من مفردات الفتنة بالأسلوب الإسلامي {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم} [فصلت:34]، وأن يواجهوها عندما تكون أي قضيةمن القضايا التي يتهم فيها فريق فريقاً آخر أو هذا الفريق فريقاً آخر، أية قضية من القضايا التي تثير الاجتهدات والخلافات..
ارجعوا إلى كلام الله {ولا تقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36]، وإلى كلمة علي بن أبي طالب(ع): "أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع؛ فسئل(ع) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذانه وعينه ثم قال: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت"( )، وعليكم أن تنتبهوا إلى أن المخابرات المتنوعة سواء كانت مخابرات أمريكية أو صهيونية أو رسمية لبنانية أو عربية مناوئة للاتجاه الإسلامية التحرري أو لبنانية حزبية، تجد في كل مواقع الخلاف والنزاع مجالاً لبثّ الإشاعات ومجالاً لتوتير الأعصاب ومجالاً لإثارة العصبيات..
لهذا ارجعوا إلى كتاب الله عندما تسمعون شيئاً عن أي ج هة كانت، {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتُم نادمين} [الحجرات:6].. لا تجعلوا عقولكم في آذانكم بل اجعلوا عقولكم في قلب إيمانكم وعلى خطّ قرآنكم، استمعوا إلى الناس ثم قولوا لهم لقد سمعنا وعينا أن ندقق في ما قلتموه، وعلينا أن نحقق في ما سمعنا لأن الله يقول لنا {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظنّ إثم...} [الحجرات:12]، ولأن رسول الله(ص) قال لنا ما قاله لبعض أصحابه وهو يقول له: يا رسول اله قد أدعى للشهادة، قال: "على مثل هذه ـ وأشار إلى الشمس في وقت الضحى ـ على مثل هذه فاشهد أو دع الشهادة".
عندما نلتزم خط القرآن، علينا أن لا نحكم بغير علم، وأن لا نقبل قولاً بغير علم، وأن لا نأخذ انطباعاً عن غير علم، فسنعرف كيف نتفاهم، وسنعرف كيف نواجه كل مخططات المخابرات، وسنعرف كيف نضبط الساحة، وسنعرف كيف نصل إلى الحق لنقول الحق ضد كل من سار في طريق الباطل أنّى كانت صفته، حتى لو كان من أقرب الناس إلينا أو من أحب الناس إلينا، لأن الله يقول: {... وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152]، لننطلق من موقع العدل الذي يحمل أدواته الحقيقية، وبذلك نستطيع أن نمنع الفتنة..القضية كل القضية أن لا تكونوا وقوداً للفتنة التي يريد أن يثيرها الكثيرون من صانعي الفتنة ومن موظفي الفتنة ومن حراس الفتنة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن وحدة الساحة في مواجهة الكفر والاستكبار والصهيونية أمانة الله في أعناقكم، فعليكم أن تحفظوا هذه الأمانة بالكثير من الإيمان وبالكثير من الوعي وبالكثير من الصبر وبالكثير من دراسة الموقف على أساس ما يحبه الله ورسوله. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية