يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران: 133- 136]. صدق الله العليّ العظيم.
التَّوبة قبل فوات الأوان
في هذه الآيات، دعوة من الله إلى عباده بأن يسارعوا إلى الجنَّة، وإلى الحصول على مغفرته قبل أن تفوتهم الفرصة، لأنَّ العمر الَّذي نتحرَّك في امتداده هو كلّ الفرصة لنا.
فالله سبحانه وتعالى أعطانا العمر من أجل أن نحركه في اتجاه الأهداف الكبرى الَّتي حمَّلنا مسؤوليَّتها، والَّتي إذا انطلقنا بها في الحياة في دروب الله وسبيله، فإنَّنا نحصل على رضاه تعالى وعلى جنّته، باعتبار أنَّ الدنيا والآخرة متلازمتان. فمن كانت دنياه في طريق الله، فإنَّ آخرته سوف تكون مع الله، ومن كانت دنياه في طريق الشَّيطان، فإنَّ آخرته سوف تكون مع الشَّيطان؛ لأنَّ "الدنيا مزرعة الآخرة"، فمن يزرع في الدّنيا خيرًا، يلق في الآخرة خيرًا، ومن يزرع في الدّنيا شرًّا، يلق في الآخرة شرًّا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
ولذلك، فإنَّ الإنسان منَّا قد يسوّف في التَّوبة، ظنّاً منه أنَّ الوقت أمامه طويل، فقد يقول الشابّ لنفسه، إنَّ أمامي متّسعاً من الوقت لأتوب إلى الله وأستغفره، ولأحصل على رضوانه، لأنَّني لا أزال في عمر الشباب، وأمامي سنون وسنون، فهناك فترة الشَّباب لا بدَّ أن أقضيها، وهناك فترة الكهولة، وقد أبلغ مرحلة الشيخوخة.
ولكن، من يضمن لنفسه أن يعيش شبابه؟ ومن يضمن لنفسه أن يبلغ الكهولة؟ ومن يضمن لنفسه إذا كان كهلًا أن يصل إلى الشَّيخوخة؟ لأنَّ القضيَّة هي: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: 34]، {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران: 154].
لذلك، الفرصة هي فرصة سريعة، لأنَّ الإنسان لا يعرف متى يأتيه الأجل {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34].
ولذلك، يقول الله سبحانه: أيُّها الإنسان، إنَّك الآن في حياتك، وإنَّك الآن في شبابك، وإنَّك الآن في وعيك، وإنَّ الفرصة تتحرَّك في جسدك، وإنّك تستطيع أن تنطق بلسانك لتدعو ربَّك وتستغفره، وتستطيع أن تتحرَّك بجسدك لتؤدّي فرائض ربّك فيما كلَّفك من فرائض، ولتؤدّي إلى النَّاس حقوقهم فيما كلَّفك من حقوق.. الآن في الصحَّة قبل المرض، وفي القوَّة قبل الضّعف، وفي الوعي قبل أن يذهب وعيك، وفي الحالات الَّتي تستطيع أن تتدبَّر أمرك، سارع إلى المغفرة والتّوبة حتَّى لا تفوتك الفرصة فيما بعد.
الاستغفار من الذّنوب
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. كيف نسارع إلى المغفرة؟ بأن نقوم بالأعمال الّتي بها يغفر الله لنا من ذنوبنا ما تقدَّم منها وما تأخَّر، أن نقوم بعبادات الله الَّتي فرضها علينا، أن لا نؤخّر الصَّلاة عن وقتها، ولا الصَّوم عن وقته، ولا الحجَّ عن وقته، وأن لا نؤخّر الخمس والزكاة عن وقتهما، ولا نؤخّر واجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه النَّاس من حولنا، لأنَّ الله جعل لكلّ عمل وقتًا محدودًا، وعلى الإنسان أن يأتي بكلّ عمل في وقته، عندما تتوفَّر كلّ الشّروط لهذا العمل أو لذاك العمل. وعندما نسارع إلى الواجبات، ونسارع إلى المسؤوليَّات، فإنَّ ذلك يعتبر مسارعة للحصول على مغفرة الله سبحانه وتعالى.
بعض النَّاس إذا حان وقت الصَّلاة، تراه يؤخّرها إلى آخر الوقت، ويقدّم عليها الكثير من الأشغال، وقد لا يصلّيها حتّى في آخر الوقت، لتبقى في ذمّته قضاءً. ولكن، ألا يعلم هذا الإنسان أنَّ العمل عندما يؤتى به في وقته، فإنَّ حجمه يكون كبيرًا، وعندما يؤتى به في آخر وقته، فإنَّ حجمه يكون صغيرًا، وعندما يؤتى به خارج وقته، فإنَّ صاحبه يكون مأثومًا بذلك، وإذا كان من ثوابٍ، فإنَّه يكون ثوابًا قليلًا لا قيمة له؟!
وقد ورد أنَّ "الصَّلاة في أوَّل وقتها جزور، وفي آخرها عصفور". فإذا أدَّى الإنسان الصَّلاة في وقتها، فإنَّه يحصل بذلك على ثواب بحجم كبير، كما هو حجم الجمل بالنّسبة إلى العصفور، وإذا أدَّاها في آخر وقتها، فيكون ثوابه كما حجم العصفور إلى الجمل.
وكذلك، إذا أدَّى الإنسان الصَّلاة فرادى فله ثواب، وإذا أدَّاها في المسجد فله ثواب أكبر، وإذا أدَّاها جماعةً، وكانت الجماعة أكثر من عشرة أشخاص، فإنَّ الملائكة لا يحصون ثواب هذه الصَّلاة.
ثمن الحصول على الجنَّة
لذلك، نحن محتاجون إلى الحسنات، ومحتاجون إلى مغفرة الله ورضوانه، فلماذا نبخل على أنفسنا بذلك؟ إنَّنا لو قيل لنا إنَّ هناك عوضًا مادّيًّا عن صلاتنا، ألا ترانا نبادر إليها ونسرع للحصول على العوض المادّيّ؟ ولكن لماذا عندما يقال لنا إنَّ هناك عوضًا أخرويًّا نتقاعس؟ فهل نشكّ في أنَّ الله يعطينا ذلك، أو أنَّنا لا ندرك قيمة ثواب الله سبحانه وتعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، ويوم يبحث كلّ إنسان عمَّا قدَّم لنفسه، ويقول بعض النَّاس آنذاك: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 24]، قدَّمت لها ما يرضي الله وينفعني في آخرتي؟!
لذلك، أيُّها الأحبَّة، انظروا إلى الأمور نظرة جادَّة، لا تنظروا إليها نظرةً عارضةً طارئة. اعرفوا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد اشترى نفوسكم بما تقدّمون من أعمالكم، وهناك ما يقدّمه الإنسان مما يربح به نفسه، وهناك ما يخسر به نفسه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزّمر: 15]، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
هل تحبّون الجنَّة؟ هل ترغبون فيها؟ هل تريدونها؟ إنَّ المسألة هي أنَّ الحصول على الجنَّة محدود، ليس بمعنى أنَّ أراضي الجنَّة محدودة، بل إنَّ الجنَّة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، لكن بمعنى أنَّ فرصة الحصول عليها محدودة.
الآن أنا أسألكم: لو قيل لأحدكم إنَّ هناك توزيع شقق أو أراض، وكان هناك وقت محدَّد لتحصلوا عليها، فهل تؤجّلون الأمر، أم أنّه يصبح هناك تدافع بين النّاس للحصول عليها؟ بعض النَّاس عندما يكون هناك توزيع أغذية أو توزيع إعاشة، يذهب قبل الموعد بساعتين، وقد يكون هناك من الفجر.
وهكذا نحن، فربّما نكون في فجر عمرنا ولا يأتي الظّهر علينا، وربما نكون في ظهر عمرنا ولا يأتي العصر علينا، ونكون في عصر عمرنا ولا يأتي الغروب والعشاء علينا.. فالمدَّة إذاً محدودة بحدود عمرنا، وبحدود جهدنا وعملنا.
الجنّة لمن اتّقى
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. إنَّ الله أعدَّ الجنَّة لمن اتَّقى، والتَّقوى هي أن تراقب الله في عملك، أن تراقبه في نفسك، وفي أهلك، وفي من حولك وفيما حولك، في كلّ شيء تريد أن تقوله، وفي كلّ شيء تريد أن تعمله، وفي كلّ علاقة تريد أن تنشئها. فكّر، إذا أردت أن تتكلَّم بكلمة، هل يرضى الله بهذه الكلمة أو لا يرضاها، وإذا أردت أن تقوم بعمل، هل يرضى الله بهذا العمل أو لا يرضاه، وإذا أردت أن تنشئ علاقة بشخص، هل يقبل الله أن أنشئ علاقة مع هذا الشَّخص أو لا؟ هذه هي التَّقوى، أن تحسب حساب الله قبل أن تحسب حساب النَّاس {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: 37]، لأنَّ خشية النَّاس لا تشكّل خطرًا عليك لو تجاوزتها، ولكنَّك إذا لم تخشَ ربَّك، فإنَّ هناك الخطر، كلّ الخطر، في كلّ حياتك وآخرتك.
مسؤوليَّة الإنفاق
ما هي بعض صفات المتَّقين؟ إنَّ المتّقي لله لا يكون بخيلاً {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمّد: 38]، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].
إنَّ المؤمن يعتبر أنَّ ما أعطاه الله من مال هو أمانة الله عنده، وقد جعل الله لهذا المال وظيفة؛ أن تنفق منه على نفسك وعيالك، وأن تنفق منه على النَّاس من حولك، وعلى الحياة فيما حولك، بمقدار طاقتك وإمكاناتك، لأنَّ الله لا يكلّفك أن تنفق مالك وتبقى جائعًا أو عريانًا، أو يبقى أهلك جياعًا أو عطاشى أو عراة، قم بمسؤوليَّتك في الإنفاق على نفسك وعلى عيالك، وانفتح على مسؤوليَّتك في الإنفاق على من يحتاج إليك {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذّاريات: 19]، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7].
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ - عند السّعة - وَالضَّرَّاءِ} عند الضّيق، بحجم ما يستطيعون من إنفاق، هؤلاء يعيشون روح العطاء {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: 8 - 12].
إنّك عندما تنفق من مالك للفقراء والمحتاجين، فإنَّك بذلك تنفق على نفسك أوّلاً، وتتخفَّف بذلك من عذاب الله وتحصل على نعمه، والصَّدقة، كما ورد في بعض الأحاديث، "تقع في يد الله قبل أن تقع في يد العبد". فأنت عندما تتصدَّق، إنّما تتصدَّق لله سبحانه، لأنَّ الله هو الّذي أراد لك أن تتصدّق وتنفق من مالك على عباده، وكما ورد في الحديث: "الخلق كلّهم عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله". تلك هي المسألة في الوعي.
بعض الناس يفكّر أنَّ عليّ أن أحتفظ بمالي لأضمن مستقبلي ومستقبل أولادي... صحيح، من حقّك أن تضمن مستقبلك ومستقبل أولادك. لكن، هل مستقبلك هو مستقبل الدّنيا فقط؟ أليس لك مستقبل في الآخرة؟ ألم يرد الله لك أن تقدّم بين يديك ما تستطيع من خلاله أن ترتّب أمرك هناك؟ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمل: 20]، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[البقرة: 197]. إنَّ ما تتركه وراءك ليس لك، هو لأولادك، ولورثتك، بينما ما تقدّمه بين يديك هو الَّذي يبقى لك. كما قال ذاك الشَّاعر:
ما كان منه فاضلًا عن قوته فليعلمنَّ بأنَّه ميراث
وإذا كنت تخاف على مَن بعدك، فتذكَّر أنَّ هناك ربّاً يرعى عباده ويتولّى أمرهم، وهو الّذي يرعى أولادك ويتولّاهم. نعم، على الإنسان أن لا يترك أولاده ضعافًا يسألون النَّاس، ولكن عليه أن يفكّر في نفسه كما يفكّر في أولاده، وأن يقدّم لنفسه ما يحقّق له الفوز عند الله، كما يفكّر أن يترك لأولاده ما يحقّق لهم الرَّاحة في الحياة.
كظم الغيظ
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، الَّذين يملكون سعة الصَّدر، وهدوء الأعصاب، والسَّيطرة على انفعالاتهم، فإذا أثار غيظَهم شخص قريب أو بعيد، أو بلاء هنا أو مشكلة هناك، لم يفجّروا غيظهم بطريقة تسيء إلى أنفسهم وإلى النَّاس، ولم ينفّسوا عن انفعالاتهم بالطَّريقة الَّتي يشعرون فيها بأنَّ قيمة الحياة أن يفجّر الإنسان غيظه بشتيمة أو كلمة هنا أو ضربة أو أيّ عمل سلبيّ... أن يكظم غيظه، أن يحبسه في داخل نفسه، ثمَّ يفكّر بعد ذلك ماذا يفعل.
إنَّ الَّذين يعيشون كظم الغيظ، ويسيطرون على عوامل الغيظ في نفوسهم، وعلى حركة الغضب في كيانهم، هؤلاء هم الَّذين يستطيعون أن يثبتوا عندما يريد الآخرون لهم أن يهتزّوا، وهم الَّذين يستطيعون أن يصمدوا عندما يريد الآخرون لهم أن يسقطوا. إنَّ الإنسان الَّذي يثور عند أيَّة حالة غضب، ويتصرَّف من موقع غضبه، هو إنسان يستطيع الآخرون أن يجرّوه إلى أكثر من حفرة، وإلى أكثر من خطأ وخطر.
فلو أنَّ شخصاً جاء إليك، وأطلق في وجهك كلاماً مسيئاً، ليثير أعصابك وغضبك، حتّى تقتل، وتجرح، وتشتم، وحتَّى تدخل في معركة أرادها لك... فمعنى ذلك أنّه يستطيع أن يتلاعب بك، لأنَّك عندما لا تسيطر على مشاعرك ولا على مزاجك، فإنَّك بذلك تسمح للآخرين بأن يجرّوك إلى ما لا تريد من خلال إثارة غضبك وانفعالاتك. لكنَّك إذا كنت الإنسان الَّذي يسيطر على انفعالاته جيّدًا، فلا يتركها تتحرَّك إلَّا بعدما يعطيها هو الإشارة من عقله بأن تتحرَّك أو لا تتحرَّك، فإنّك بذلك تكون الإنسان المستقيم.
هناك كلمة للنَّبيّ محمَّد (ص) يقول فيها، بعد أن رأى بعض النَّاس ينظرون إلى الإنسان القويّ البطل بأنّه الّذي لا يصبر على ضيم، والَّذي يثور عند كلّ كلمة، ويضرب عند كل تحدٍّ، ولكنّ النّبيّ (ص) صحَّح لهم الفكرة، وقال لهم: "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ".
فالشَّخص الَّذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه، ويضبط انفعالاته، هو الَّذي يكون صاحب المواقف الصَّلبة، وهو الَّذي يستطيع أن يحدّد المعركة، لا أن يحدّدها له الآخرون، لأنَّه ربما يحدّد لك الآخرون وقت المعركة وأنت غير مستعدّ، ربما يحاول الآخرون أن يثيروك وليس في مصلحتك أن تثور، وربما يحاولون أن يوقعوك في أخطاء تتَّصل بحياتك، فتطلّق زوجتك، وتفسخ الشَّركة مع شريكك، وتقاطع من لك المصلحة في مواصلته، أو ما إلى ذلك مما يحدث عند الغضب، فيكونون هم الَّذين حدَّدوا لك كيف تسير، ولكن إذا ملكت نفسك عند الغضب، وكظمت غيظك، تكون أنت الَّذي تحدّد لنفسك هل تدخل المعركة أو تسكت، هل تثور أو تصبر، هل تطلّق زوجتك على أساس ما أثاره النَّاس حولها أو لا تطلّقها، هل تنتقل من بيتك إذا صارت هناك مشكلة بينك وبين جارك أم تحلّ المشكلة معه؟ وهكذا.
وفي المثل الشَّائع: "الَّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيرًا". أمَّا أن تظنَّ أنّك نفّست عن غضبك، وضربت ضربتك، وضحكت أوَّلًا، فقد تكتشف بعد أن تصحو من هذه السّكرة، أنّك خلّصت نفسك من مشكلة لتدخل في ألف مشكلة، وأنَّ ما قمت به قد يؤثّر في حياتك كلّها.. أليس هناك من النَّاس من يسيطر عليه الغضب، فلا يتحمَّل كلمة، فيقتل بسبب غضبه، وتتغيّر كلّ حياته في لحظة، فبينما يعيش مرتاحًا، ويعمل بشكل طبيعيّ، يصبح مطاردًا، مشرّدًا، أو مرميًّا في قعر السّجون؟!
فلو أنّه صبر على هذه الكلمة، وفكّر في الطَّريقة الَّتي يستطيع من خلالها أن يلتفّ عليها، عند ذلك تبقى حياته في سلام، ولن يضيع حقّه، لأنَّ الإنسان عندما لا يملك غضبه، لا يملك عقله، فعندما يسيطر الانفعال على الإنسان، يعني أنَّه يسمح له بأن يسيطر على مصيره، ولا سيَّما عندما يكون الغضب في درجة الغليان، أمَّا العقل، فيبقى متوازنًا، ويحسب حساب الأرباح والخسائر.
ولذلك، اعتبر الله أنَّ الَّذين يكظمون غيظهم هم الَّذين يستحقّون الجنَّة، لأنَّ كظم الغيظ يدلّ على قوة الشَّخصيَّة، وعلى قوّة العقل والإيمان. ومن كان هذا حاله، فلا بدَّ من أن يكون الإنسان المنفتح على الله في ذلك.
العفوُ عن النَّاس
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، الّذي يعفو عن النّاس عندما يخطئون معه، فلا يتعقَّد، بل يدرس الأمور بصدر واسع يمتصّ أخطاء الآخرين وإساءاتهم، ولا يرى في الصّفح والعفو ضعفًا، بل قوّة، ولا سيّما إذا كان العفو عند المقدرة، لأنَّ الإنسان عندما يعفو وهو قادر على الاقتصاص ممّن أخطأ بحقّه وأساء إليه، فمعنى ذلك أنّه يتفضّل عليه بعفوه عنه، ولذلك، نجد بعض النَّاس الَّذين يخطئون مع الآخرين، يقول: أنا لا أتحمّل أن يعفو فلان عنّي، لأنَّ عفوه عنّي معناه أنّه في موقع أرفع من موقعي وأسمى، وأنا لا أقبل بذلك..
إنَّ العفو عند المقدرة ليس مظهر ضعف، والله يقول في بعض الحالات: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشّورى: 43]. فالصَّبر ليس ضعفًا، بل هو موقف تماسك في شخصيَّة الإنسان ريثما يدرس المسألة، والمغفرة هي موقف تضحية من أجل أن يحصل الإنسان بها على النَّتائج الكبرى.
عن الإمام عليّ (ع)، يقول: "آلَةُ الرّئاسةِ سَعَةُ الصَّدرِ". فأنت لكي تصبح شخصًا متقدّمًا في المجتمع، فأوَّل شرط لحصولك على هذا المركز الَّذي يجعل النَّاس يحبّونك ويلتفّون حولك ويهتفون باسمك ويسيرون وراءك، هو أن يكون صدرك واسعًا، وتكون قادرًا على استيعاب أخطاء النّاس معك؛ أن تعفو عن مسيئهم، وأن تتجاوز عن خطئهم، وأن تسعهم بقلبك وعقلك وصدرك، عند ذلك، ستكون الإنسان الَّذي يحصل على محبَّة النَّاس له قبل أن يحصل على التفافهم حوله.
لذلك، العفو ليس حالة سلبيَّة، ولو كان حالة سلبيَّة لما ارتضاها الله لنفسه. بعض النَّاس ربما يأتي إليه شخص ويقول له: اعفُ عن فلان؛ فلان أخطأ معك، ابنك أخطأ، جارك أخطأ، شريكك أخطأ... وما إلى ذلك، فيرفض رفضًا تامًّا ويصرّ على أن يأخذ حقَّه. نعم، أنت من حقّك أن تردّ على من أخطأ معك أو أساء إليك، لكنَّك تكون أكبر إذا عفوت وتجاوزت، ومهما كان خطأ النّاس معنا، فإنّه لا يصل إلى مستوى أخطائنا مع الله تعالى، فإذا كان العفو ضعفًا، فهل يرتضي الله الضّعف لنفسه، وهو العفوّ الغفور؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
إذًا، لو لم يكن في العفو قيمة كأعلى القيم، ولو لم يكن في العفو الفضل كأعلى الفضل، لما ارتضاه الله لنفسه.
ونحن نقرأ في شهر رمضان في دعاء أبي حمزة الثَّمالي: "اللَّهمَّ إنَّك أنزلت في كتابك العفو - وقلت: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}[النّور: 22] - وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا - واستحقّينا عقابك - فاعفُ عنَّا، فإنَّك أولى بذلك منَّا". فإذا كنّا نعفو عمّن ظلمنا على أساس ما أمرتنا به، أفلا تعفو عنّا إذا أخطأنا وأنت الكريم؟ فإذا عفونا عن النَّاس، فإنَّ ذلك يكون حجَّة لنا أمام الله يوم القيامة عندما نقف بين يديه تعالى ليعفو عنّا، إضافةً إلى أنَّ ذلك يجعل الحياة أطرى وألطف وأغنى وأوسع. قد يعاني الإنسان شيئًا في نفسه بسبب العفو عمَّن أساء إليه، ولكن إذا كان ثمن ذلك الجنَّة، فما أحلى المرارة في سبيل الجنَّة!
المحسنون في عفوهم
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، أن تعفو عن النَّاس وتحسن إليهم.
تروي القصّة، أنَّ الإمام زين العابدين (ع)، كانت له جارية تصبّ على يديه الماء من إبريق، ويبدو أنَّ هذا الإبريق كان من نحاس، فبينما تصبّ الماء، وكانت تتشاغل وتنظر هنا وهناك، وقع الإبريق من يدها على رأس الإمام، فشجّه وسال منه الدَّم، ولأنَّ هذه الجارية كانت قد تثقّفت في بيت الإمام (ع)، قالت له، وقد أدركت حجم خطئها: "إنَّ الله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال: عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي، فأنت حرَّة لوجه الله".
فهناك مراتب، في المرحلة الأولى تحبس غيظك، ثمّ تفرّغ قلبك من هذا الغيظ، وتعفو عمَّن أساء إليك، وفي المرحلة الثَّالثة، تقدّم إليه هدية {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فقد أعطى الله المحسنين محبَّته، ومحبَّة الله رضوانه، ورضوان الله نعيمه في جنَّته وكرامته في الآخرة.
وقد يراها الإنسان أمرًا صعبًا عليه أن يحسن إلى من أساء إليه، فإذا كان العفو صعبًا، فكيف بالإحسان؟ لكن علينا دائمًا، أيُّها الإخوة، أن نفكّر في الله عندما نفكّر في الثَّمن، أن يعرف الإنسان أنّ ذلك يجعله يحصل على رضا الله سبحانه وثوابه ومحبّته، والأهمّ أنّه يحصل بذلك على الجنّة، وهذا الكلام الّذي يقوله الله سبحانه {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن هم المتّقون؟ {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أفلا يستحقّ ذلك أن يصبر الإنسان على مزاجه ليحصل على هذه النّتيجة عند الله؟ صحيح أنّه قد يتعكّر مزاجه، وقد يسمع النّاس يقولون له كيف تذلّ نفسك هكذا، ولكن عليه أن يعرف أنّه لا يذلّ نفسه لأحد من النَّاس، بل يذلّ نفسه لله تعالى، لأنّه سبحانه هو الَّذي يقول له: اعف عن النّاس، وأحسن إلى من أساء إليك، وهو الَّذي يقول لي: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، فالمؤمن لا يتصرَّف مع من أساء إليه على أساس هل يستحقّ العفو أو لا يستحقّ، بل إنّه يتصرّف وفقًا لحساب الله.. صحيح أنَّ الإنسان قد يحسن إلى شخص ولا يحفظ له إحسانه، ولكنّ المهمّ أن يكون ذلك مسجّلًا عند الله تعالى، والله يقول: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195]. فإذا كانت النّتيجة مضمونة عند الله تعالى، فليس علينا أن نحسب حساب أحد غيره في كلّ ما نعمله.
ونحن قد لا نلتفت إلى ذلك، ولكنَّنا يمكن أن نأخذ العبرة عندما نفقد عزيزًا وندفنه، ونقف عند قبره لنرى أنَّ هذا الإنسان الّذي كان لا يطيق أن يكون هناك ذرّة غبار على وجهه، يهال عليه التّراب، ولا يأخذ معه إلّا ما حصَّله من عمل، وما عدا ذلك من جاه وثروة، لا يستفيد منه إلّا ورثته، أمَّا هو، فلا يستفيد إلَّا بمقدار ما قدّم من عمل بين يدي الله.
المسارعة إلى التَّوبة
والصَّفة الأخيرة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً - يعني معصية كبيرة - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ - بالمعاصي - ذَكَرُوا اللَّهَ – فلا يبقى الإنسان مصرًّا على معصيته {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201] - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ – فلمجرَّد أن يلتفت إلى خطئه، يستغفر الله ويطلب منه العفو - وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا - لأنَّ الإصرار على الصّغيرة كبيرة - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
جزاء المتَّقين عند الله
وعلام يحصل هؤلاء النَّاس عند الله؛ هل يحصّلون مالًا أو ثروة؟ {أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - لا موت هناك - وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}، وأيّ أجر أعظم من هذا الأجر؟
الثّبات على الإيمان
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفتح قلوبنا لله، وننطلق في مسؤوليَّاتنا في الحياة من خلال ذلك. افتح قلبك لربّك وأنت في بيتك مع زوجتك، لتطيع الله في علاقتك معها، اذكر ربَّك وأنت في بيتك مع أولادك أو مع أبويك، لتطيع الله فيهم، اذكر الله وأنت في بيتك مع جيرانك لتطيع الله فيهم، واذكر الله في حياتك مع النَّاس عندما تبيع وتشتري، وعندما تصادق وتعادي، وعندما تسالم وتحارب، اذكر ربَّك، حتَّى يشرق الله في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، فتسير على نور، فلا تصادق إلَّا من قلب مفتوح، ولا تعادي إلَّا من خلال قاعدة ثابتة، ولا تعارض إلَّا على أساس الحقّ هنا والباطل هناك.
وإذا واجهت الحياة في القضايا الكبرى، وكانت هناك صعوبات فيما تواجهه، ومشاكل فيما تتحرك فيه، فإنَّ عليك أن تستنفر إيمانك، وتذكر ربَّك، ليعينك على الثَّبات في مواقع الزلزال، وليعينك على الصّمود في مواقع الاهتزاز، وليعينك على السَّير على نور عندما تأتي الظّلمات من كلّ جانب {أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة: 5].
وإذا فكَّرنا في الجنَّة، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ الجنَّة ليست مجَّانًا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التَّوبة: 111]. ادفع من نفسك، ادفع من مالك ثمن الجنَّة، تكن لك الجنَّة. الإمام عليّ (ع) كان يخاطب أصحابه ويقول لهم، وهو ينعى عليهم الكثير من الأوضاع السلبيَّة الَّتي كانوا يعيشونها، كان يقول: "أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللَّه في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع اللَّه عن جنَّته، ولا تنال مرضاته إلَّا بطاعته".
إنَّ القضيَّة هي أن َّالله دقيق في حسابه {لَّا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف: 49]. هذه الأمور يجب نفكّر فيها. نعم، نحن عندنا مشاغل في الحياة، عندنا علاقات، عندنا مشاكل، ولكنَّ المسألة هي أنَّها نفوسنا الَّتي إمَّا أن نشتريها بالعمل الصَّالح المرتكز على الإيمان، وإمَّا أن نفقدها جملةً وتفصيلًا.
* من خطبة الجمعة لسماحته للرّجال في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 15/01/1993م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران: 133- 136]. صدق الله العليّ العظيم.
التَّوبة قبل فوات الأوان
في هذه الآيات، دعوة من الله إلى عباده بأن يسارعوا إلى الجنَّة، وإلى الحصول على مغفرته قبل أن تفوتهم الفرصة، لأنَّ العمر الَّذي نتحرَّك في امتداده هو كلّ الفرصة لنا.
فالله سبحانه وتعالى أعطانا العمر من أجل أن نحركه في اتجاه الأهداف الكبرى الَّتي حمَّلنا مسؤوليَّتها، والَّتي إذا انطلقنا بها في الحياة في دروب الله وسبيله، فإنَّنا نحصل على رضاه تعالى وعلى جنّته، باعتبار أنَّ الدنيا والآخرة متلازمتان. فمن كانت دنياه في طريق الله، فإنَّ آخرته سوف تكون مع الله، ومن كانت دنياه في طريق الشَّيطان، فإنَّ آخرته سوف تكون مع الشَّيطان؛ لأنَّ "الدنيا مزرعة الآخرة"، فمن يزرع في الدّنيا خيرًا، يلق في الآخرة خيرًا، ومن يزرع في الدّنيا شرًّا، يلق في الآخرة شرًّا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
ولذلك، فإنَّ الإنسان منَّا قد يسوّف في التَّوبة، ظنّاً منه أنَّ الوقت أمامه طويل، فقد يقول الشابّ لنفسه، إنَّ أمامي متّسعاً من الوقت لأتوب إلى الله وأستغفره، ولأحصل على رضوانه، لأنَّني لا أزال في عمر الشباب، وأمامي سنون وسنون، فهناك فترة الشَّباب لا بدَّ أن أقضيها، وهناك فترة الكهولة، وقد أبلغ مرحلة الشيخوخة.
ولكن، من يضمن لنفسه أن يعيش شبابه؟ ومن يضمن لنفسه أن يبلغ الكهولة؟ ومن يضمن لنفسه إذا كان كهلًا أن يصل إلى الشَّيخوخة؟ لأنَّ القضيَّة هي: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: 34]، {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران: 154].
لذلك، الفرصة هي فرصة سريعة، لأنَّ الإنسان لا يعرف متى يأتيه الأجل {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف: 34].
ولذلك، يقول الله سبحانه: أيُّها الإنسان، إنَّك الآن في حياتك، وإنَّك الآن في شبابك، وإنَّك الآن في وعيك، وإنَّ الفرصة تتحرَّك في جسدك، وإنّك تستطيع أن تنطق بلسانك لتدعو ربَّك وتستغفره، وتستطيع أن تتحرَّك بجسدك لتؤدّي فرائض ربّك فيما كلَّفك من فرائض، ولتؤدّي إلى النَّاس حقوقهم فيما كلَّفك من حقوق.. الآن في الصحَّة قبل المرض، وفي القوَّة قبل الضّعف، وفي الوعي قبل أن يذهب وعيك، وفي الحالات الَّتي تستطيع أن تتدبَّر أمرك، سارع إلى المغفرة والتّوبة حتَّى لا تفوتك الفرصة فيما بعد.
الاستغفار من الذّنوب
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. كيف نسارع إلى المغفرة؟ بأن نقوم بالأعمال الّتي بها يغفر الله لنا من ذنوبنا ما تقدَّم منها وما تأخَّر، أن نقوم بعبادات الله الَّتي فرضها علينا، أن لا نؤخّر الصَّلاة عن وقتها، ولا الصَّوم عن وقته، ولا الحجَّ عن وقته، وأن لا نؤخّر الخمس والزكاة عن وقتهما، ولا نؤخّر واجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه النَّاس من حولنا، لأنَّ الله جعل لكلّ عمل وقتًا محدودًا، وعلى الإنسان أن يأتي بكلّ عمل في وقته، عندما تتوفَّر كلّ الشّروط لهذا العمل أو لذاك العمل. وعندما نسارع إلى الواجبات، ونسارع إلى المسؤوليَّات، فإنَّ ذلك يعتبر مسارعة للحصول على مغفرة الله سبحانه وتعالى.
بعض النَّاس إذا حان وقت الصَّلاة، تراه يؤخّرها إلى آخر الوقت، ويقدّم عليها الكثير من الأشغال، وقد لا يصلّيها حتّى في آخر الوقت، لتبقى في ذمّته قضاءً. ولكن، ألا يعلم هذا الإنسان أنَّ العمل عندما يؤتى به في وقته، فإنَّ حجمه يكون كبيرًا، وعندما يؤتى به في آخر وقته، فإنَّ حجمه يكون صغيرًا، وعندما يؤتى به خارج وقته، فإنَّ صاحبه يكون مأثومًا بذلك، وإذا كان من ثوابٍ، فإنَّه يكون ثوابًا قليلًا لا قيمة له؟!
وقد ورد أنَّ "الصَّلاة في أوَّل وقتها جزور، وفي آخرها عصفور". فإذا أدَّى الإنسان الصَّلاة في وقتها، فإنَّه يحصل بذلك على ثواب بحجم كبير، كما هو حجم الجمل بالنّسبة إلى العصفور، وإذا أدَّاها في آخر وقتها، فيكون ثوابه كما حجم العصفور إلى الجمل.
وكذلك، إذا أدَّى الإنسان الصَّلاة فرادى فله ثواب، وإذا أدَّاها في المسجد فله ثواب أكبر، وإذا أدَّاها جماعةً، وكانت الجماعة أكثر من عشرة أشخاص، فإنَّ الملائكة لا يحصون ثواب هذه الصَّلاة.
ثمن الحصول على الجنَّة
لذلك، نحن محتاجون إلى الحسنات، ومحتاجون إلى مغفرة الله ورضوانه، فلماذا نبخل على أنفسنا بذلك؟ إنَّنا لو قيل لنا إنَّ هناك عوضًا مادّيًّا عن صلاتنا، ألا ترانا نبادر إليها ونسرع للحصول على العوض المادّيّ؟ ولكن لماذا عندما يقال لنا إنَّ هناك عوضًا أخرويًّا نتقاعس؟ فهل نشكّ في أنَّ الله يعطينا ذلك، أو أنَّنا لا ندرك قيمة ثواب الله سبحانه وتعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، ويوم يبحث كلّ إنسان عمَّا قدَّم لنفسه، ويقول بعض النَّاس آنذاك: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 24]، قدَّمت لها ما يرضي الله وينفعني في آخرتي؟!
لذلك، أيُّها الأحبَّة، انظروا إلى الأمور نظرة جادَّة، لا تنظروا إليها نظرةً عارضةً طارئة. اعرفوا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد اشترى نفوسكم بما تقدّمون من أعمالكم، وهناك ما يقدّمه الإنسان مما يربح به نفسه، وهناك ما يخسر به نفسه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزّمر: 15]، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].
هل تحبّون الجنَّة؟ هل ترغبون فيها؟ هل تريدونها؟ إنَّ المسألة هي أنَّ الحصول على الجنَّة محدود، ليس بمعنى أنَّ أراضي الجنَّة محدودة، بل إنَّ الجنَّة {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، لكن بمعنى أنَّ فرصة الحصول عليها محدودة.
الآن أنا أسألكم: لو قيل لأحدكم إنَّ هناك توزيع شقق أو أراض، وكان هناك وقت محدَّد لتحصلوا عليها، فهل تؤجّلون الأمر، أم أنّه يصبح هناك تدافع بين النّاس للحصول عليها؟ بعض النَّاس عندما يكون هناك توزيع أغذية أو توزيع إعاشة، يذهب قبل الموعد بساعتين، وقد يكون هناك من الفجر.
وهكذا نحن، فربّما نكون في فجر عمرنا ولا يأتي الظّهر علينا، وربما نكون في ظهر عمرنا ولا يأتي العصر علينا، ونكون في عصر عمرنا ولا يأتي الغروب والعشاء علينا.. فالمدَّة إذاً محدودة بحدود عمرنا، وبحدود جهدنا وعملنا.
الجنّة لمن اتّقى
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. إنَّ الله أعدَّ الجنَّة لمن اتَّقى، والتَّقوى هي أن تراقب الله في عملك، أن تراقبه في نفسك، وفي أهلك، وفي من حولك وفيما حولك، في كلّ شيء تريد أن تقوله، وفي كلّ شيء تريد أن تعمله، وفي كلّ علاقة تريد أن تنشئها. فكّر، إذا أردت أن تتكلَّم بكلمة، هل يرضى الله بهذه الكلمة أو لا يرضاها، وإذا أردت أن تقوم بعمل، هل يرضى الله بهذا العمل أو لا يرضاه، وإذا أردت أن تنشئ علاقة بشخص، هل يقبل الله أن أنشئ علاقة مع هذا الشَّخص أو لا؟ هذه هي التَّقوى، أن تحسب حساب الله قبل أن تحسب حساب النَّاس {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: 37]، لأنَّ خشية النَّاس لا تشكّل خطرًا عليك لو تجاوزتها، ولكنَّك إذا لم تخشَ ربَّك، فإنَّ هناك الخطر، كلّ الخطر، في كلّ حياتك وآخرتك.
مسؤوليَّة الإنفاق
ما هي بعض صفات المتَّقين؟ إنَّ المتّقي لله لا يكون بخيلاً {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}[محمّد: 38]، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9].
إنَّ المؤمن يعتبر أنَّ ما أعطاه الله من مال هو أمانة الله عنده، وقد جعل الله لهذا المال وظيفة؛ أن تنفق منه على نفسك وعيالك، وأن تنفق منه على النَّاس من حولك، وعلى الحياة فيما حولك، بمقدار طاقتك وإمكاناتك، لأنَّ الله لا يكلّفك أن تنفق مالك وتبقى جائعًا أو عريانًا، أو يبقى أهلك جياعًا أو عطاشى أو عراة، قم بمسؤوليَّتك في الإنفاق على نفسك وعلى عيالك، وانفتح على مسؤوليَّتك في الإنفاق على من يحتاج إليك {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذّاريات: 19]، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[الحديد: 7].
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ - عند السّعة - وَالضَّرَّاءِ} عند الضّيق، بحجم ما يستطيعون من إنفاق، هؤلاء يعيشون روح العطاء {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: 8 - 12].
إنّك عندما تنفق من مالك للفقراء والمحتاجين، فإنَّك بذلك تنفق على نفسك أوّلاً، وتتخفَّف بذلك من عذاب الله وتحصل على نعمه، والصَّدقة، كما ورد في بعض الأحاديث، "تقع في يد الله قبل أن تقع في يد العبد". فأنت عندما تتصدَّق، إنّما تتصدَّق لله سبحانه، لأنَّ الله هو الّذي أراد لك أن تتصدّق وتنفق من مالك على عباده، وكما ورد في الحديث: "الخلق كلّهم عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله". تلك هي المسألة في الوعي.
بعض الناس يفكّر أنَّ عليّ أن أحتفظ بمالي لأضمن مستقبلي ومستقبل أولادي... صحيح، من حقّك أن تضمن مستقبلك ومستقبل أولادك. لكن، هل مستقبلك هو مستقبل الدّنيا فقط؟ أليس لك مستقبل في الآخرة؟ ألم يرد الله لك أن تقدّم بين يديك ما تستطيع من خلاله أن ترتّب أمرك هناك؟ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}[المزمل: 20]، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[البقرة: 197]. إنَّ ما تتركه وراءك ليس لك، هو لأولادك، ولورثتك، بينما ما تقدّمه بين يديك هو الَّذي يبقى لك. كما قال ذاك الشَّاعر:
ما كان منه فاضلًا عن قوته فليعلمنَّ بأنَّه ميراث
وإذا كنت تخاف على مَن بعدك، فتذكَّر أنَّ هناك ربّاً يرعى عباده ويتولّى أمرهم، وهو الّذي يرعى أولادك ويتولّاهم. نعم، على الإنسان أن لا يترك أولاده ضعافًا يسألون النَّاس، ولكن عليه أن يفكّر في نفسه كما يفكّر في أولاده، وأن يقدّم لنفسه ما يحقّق له الفوز عند الله، كما يفكّر أن يترك لأولاده ما يحقّق لهم الرَّاحة في الحياة.
كظم الغيظ
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، الَّذين يملكون سعة الصَّدر، وهدوء الأعصاب، والسَّيطرة على انفعالاتهم، فإذا أثار غيظَهم شخص قريب أو بعيد، أو بلاء هنا أو مشكلة هناك، لم يفجّروا غيظهم بطريقة تسيء إلى أنفسهم وإلى النَّاس، ولم ينفّسوا عن انفعالاتهم بالطَّريقة الَّتي يشعرون فيها بأنَّ قيمة الحياة أن يفجّر الإنسان غيظه بشتيمة أو كلمة هنا أو ضربة أو أيّ عمل سلبيّ... أن يكظم غيظه، أن يحبسه في داخل نفسه، ثمَّ يفكّر بعد ذلك ماذا يفعل.
إنَّ الَّذين يعيشون كظم الغيظ، ويسيطرون على عوامل الغيظ في نفوسهم، وعلى حركة الغضب في كيانهم، هؤلاء هم الَّذين يستطيعون أن يثبتوا عندما يريد الآخرون لهم أن يهتزّوا، وهم الَّذين يستطيعون أن يصمدوا عندما يريد الآخرون لهم أن يسقطوا. إنَّ الإنسان الَّذي يثور عند أيَّة حالة غضب، ويتصرَّف من موقع غضبه، هو إنسان يستطيع الآخرون أن يجرّوه إلى أكثر من حفرة، وإلى أكثر من خطأ وخطر.
فلو أنَّ شخصاً جاء إليك، وأطلق في وجهك كلاماً مسيئاً، ليثير أعصابك وغضبك، حتّى تقتل، وتجرح، وتشتم، وحتَّى تدخل في معركة أرادها لك... فمعنى ذلك أنّه يستطيع أن يتلاعب بك، لأنَّك عندما لا تسيطر على مشاعرك ولا على مزاجك، فإنَّك بذلك تسمح للآخرين بأن يجرّوك إلى ما لا تريد من خلال إثارة غضبك وانفعالاتك. لكنَّك إذا كنت الإنسان الَّذي يسيطر على انفعالاته جيّدًا، فلا يتركها تتحرَّك إلَّا بعدما يعطيها هو الإشارة من عقله بأن تتحرَّك أو لا تتحرَّك، فإنّك بذلك تكون الإنسان المستقيم.
هناك كلمة للنَّبيّ محمَّد (ص) يقول فيها، بعد أن رأى بعض النَّاس ينظرون إلى الإنسان القويّ البطل بأنّه الّذي لا يصبر على ضيم، والَّذي يثور عند كلّ كلمة، ويضرب عند كل تحدٍّ، ولكنّ النّبيّ (ص) صحَّح لهم الفكرة، وقال لهم: "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ".
فالشَّخص الَّذي يستطيع أن يسيطر على أعصابه، ويضبط انفعالاته، هو الَّذي يكون صاحب المواقف الصَّلبة، وهو الَّذي يستطيع أن يحدّد المعركة، لا أن يحدّدها له الآخرون، لأنَّه ربما يحدّد لك الآخرون وقت المعركة وأنت غير مستعدّ، ربما يحاول الآخرون أن يثيروك وليس في مصلحتك أن تثور، وربما يحاولون أن يوقعوك في أخطاء تتَّصل بحياتك، فتطلّق زوجتك، وتفسخ الشَّركة مع شريكك، وتقاطع من لك المصلحة في مواصلته، أو ما إلى ذلك مما يحدث عند الغضب، فيكونون هم الَّذين حدَّدوا لك كيف تسير، ولكن إذا ملكت نفسك عند الغضب، وكظمت غيظك، تكون أنت الَّذي تحدّد لنفسك هل تدخل المعركة أو تسكت، هل تثور أو تصبر، هل تطلّق زوجتك على أساس ما أثاره النَّاس حولها أو لا تطلّقها، هل تنتقل من بيتك إذا صارت هناك مشكلة بينك وبين جارك أم تحلّ المشكلة معه؟ وهكذا.
وفي المثل الشَّائع: "الَّذي يضحك هو الَّذي يضحك أخيرًا". أمَّا أن تظنَّ أنّك نفّست عن غضبك، وضربت ضربتك، وضحكت أوَّلًا، فقد تكتشف بعد أن تصحو من هذه السّكرة، أنّك خلّصت نفسك من مشكلة لتدخل في ألف مشكلة، وأنَّ ما قمت به قد يؤثّر في حياتك كلّها.. أليس هناك من النَّاس من يسيطر عليه الغضب، فلا يتحمَّل كلمة، فيقتل بسبب غضبه، وتتغيّر كلّ حياته في لحظة، فبينما يعيش مرتاحًا، ويعمل بشكل طبيعيّ، يصبح مطاردًا، مشرّدًا، أو مرميًّا في قعر السّجون؟!
فلو أنّه صبر على هذه الكلمة، وفكّر في الطَّريقة الَّتي يستطيع من خلالها أن يلتفّ عليها، عند ذلك تبقى حياته في سلام، ولن يضيع حقّه، لأنَّ الإنسان عندما لا يملك غضبه، لا يملك عقله، فعندما يسيطر الانفعال على الإنسان، يعني أنَّه يسمح له بأن يسيطر على مصيره، ولا سيَّما عندما يكون الغضب في درجة الغليان، أمَّا العقل، فيبقى متوازنًا، ويحسب حساب الأرباح والخسائر.
ولذلك، اعتبر الله أنَّ الَّذين يكظمون غيظهم هم الَّذين يستحقّون الجنَّة، لأنَّ كظم الغيظ يدلّ على قوة الشَّخصيَّة، وعلى قوّة العقل والإيمان. ومن كان هذا حاله، فلا بدَّ من أن يكون الإنسان المنفتح على الله في ذلك.
العفوُ عن النَّاس
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، الّذي يعفو عن النّاس عندما يخطئون معه، فلا يتعقَّد، بل يدرس الأمور بصدر واسع يمتصّ أخطاء الآخرين وإساءاتهم، ولا يرى في الصّفح والعفو ضعفًا، بل قوّة، ولا سيّما إذا كان العفو عند المقدرة، لأنَّ الإنسان عندما يعفو وهو قادر على الاقتصاص ممّن أخطأ بحقّه وأساء إليه، فمعنى ذلك أنّه يتفضّل عليه بعفوه عنه، ولذلك، نجد بعض النَّاس الَّذين يخطئون مع الآخرين، يقول: أنا لا أتحمّل أن يعفو فلان عنّي، لأنَّ عفوه عنّي معناه أنّه في موقع أرفع من موقعي وأسمى، وأنا لا أقبل بذلك..
إنَّ العفو عند المقدرة ليس مظهر ضعف، والله يقول في بعض الحالات: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشّورى: 43]. فالصَّبر ليس ضعفًا، بل هو موقف تماسك في شخصيَّة الإنسان ريثما يدرس المسألة، والمغفرة هي موقف تضحية من أجل أن يحصل الإنسان بها على النَّتائج الكبرى.
عن الإمام عليّ (ع)، يقول: "آلَةُ الرّئاسةِ سَعَةُ الصَّدرِ". فأنت لكي تصبح شخصًا متقدّمًا في المجتمع، فأوَّل شرط لحصولك على هذا المركز الَّذي يجعل النَّاس يحبّونك ويلتفّون حولك ويهتفون باسمك ويسيرون وراءك، هو أن يكون صدرك واسعًا، وتكون قادرًا على استيعاب أخطاء النّاس معك؛ أن تعفو عن مسيئهم، وأن تتجاوز عن خطئهم، وأن تسعهم بقلبك وعقلك وصدرك، عند ذلك، ستكون الإنسان الَّذي يحصل على محبَّة النَّاس له قبل أن يحصل على التفافهم حوله.
لذلك، العفو ليس حالة سلبيَّة، ولو كان حالة سلبيَّة لما ارتضاها الله لنفسه. بعض النَّاس ربما يأتي إليه شخص ويقول له: اعفُ عن فلان؛ فلان أخطأ معك، ابنك أخطأ، جارك أخطأ، شريكك أخطأ... وما إلى ذلك، فيرفض رفضًا تامًّا ويصرّ على أن يأخذ حقَّه. نعم، أنت من حقّك أن تردّ على من أخطأ معك أو أساء إليك، لكنَّك تكون أكبر إذا عفوت وتجاوزت، ومهما كان خطأ النّاس معنا، فإنّه لا يصل إلى مستوى أخطائنا مع الله تعالى، فإذا كان العفو ضعفًا، فهل يرتضي الله الضّعف لنفسه، وهو العفوّ الغفور؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
إذًا، لو لم يكن في العفو قيمة كأعلى القيم، ولو لم يكن في العفو الفضل كأعلى الفضل، لما ارتضاه الله لنفسه.
ونحن نقرأ في شهر رمضان في دعاء أبي حمزة الثَّمالي: "اللَّهمَّ إنَّك أنزلت في كتابك العفو - وقلت: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}[النّور: 22] - وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا - واستحقّينا عقابك - فاعفُ عنَّا، فإنَّك أولى بذلك منَّا". فإذا كنّا نعفو عمّن ظلمنا على أساس ما أمرتنا به، أفلا تعفو عنّا إذا أخطأنا وأنت الكريم؟ فإذا عفونا عن النَّاس، فإنَّ ذلك يكون حجَّة لنا أمام الله يوم القيامة عندما نقف بين يديه تعالى ليعفو عنّا، إضافةً إلى أنَّ ذلك يجعل الحياة أطرى وألطف وأغنى وأوسع. قد يعاني الإنسان شيئًا في نفسه بسبب العفو عمَّن أساء إليه، ولكن إذا كان ثمن ذلك الجنَّة، فما أحلى المرارة في سبيل الجنَّة!
المحسنون في عفوهم
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، أن تعفو عن النَّاس وتحسن إليهم.
تروي القصّة، أنَّ الإمام زين العابدين (ع)، كانت له جارية تصبّ على يديه الماء من إبريق، ويبدو أنَّ هذا الإبريق كان من نحاس، فبينما تصبّ الماء، وكانت تتشاغل وتنظر هنا وهناك، وقع الإبريق من يدها على رأس الإمام، فشجّه وسال منه الدَّم، ولأنَّ هذه الجارية كانت قد تثقّفت في بيت الإمام (ع)، قالت له، وقد أدركت حجم خطئها: "إنَّ الله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال: عفا الله عنك. قالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي، فأنت حرَّة لوجه الله".
فهناك مراتب، في المرحلة الأولى تحبس غيظك، ثمّ تفرّغ قلبك من هذا الغيظ، وتعفو عمَّن أساء إليك، وفي المرحلة الثَّالثة، تقدّم إليه هدية {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فقد أعطى الله المحسنين محبَّته، ومحبَّة الله رضوانه، ورضوان الله نعيمه في جنَّته وكرامته في الآخرة.
وقد يراها الإنسان أمرًا صعبًا عليه أن يحسن إلى من أساء إليه، فإذا كان العفو صعبًا، فكيف بالإحسان؟ لكن علينا دائمًا، أيُّها الإخوة، أن نفكّر في الله عندما نفكّر في الثَّمن، أن يعرف الإنسان أنّ ذلك يجعله يحصل على رضا الله سبحانه وثوابه ومحبّته، والأهمّ أنّه يحصل بذلك على الجنّة، وهذا الكلام الّذي يقوله الله سبحانه {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن هم المتّقون؟ {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أفلا يستحقّ ذلك أن يصبر الإنسان على مزاجه ليحصل على هذه النّتيجة عند الله؟ صحيح أنّه قد يتعكّر مزاجه، وقد يسمع النّاس يقولون له كيف تذلّ نفسك هكذا، ولكن عليه أن يعرف أنّه لا يذلّ نفسه لأحد من النَّاس، بل يذلّ نفسه لله تعالى، لأنّه سبحانه هو الَّذي يقول له: اعف عن النّاس، وأحسن إلى من أساء إليك، وهو الَّذي يقول لي: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، فالمؤمن لا يتصرَّف مع من أساء إليه على أساس هل يستحقّ العفو أو لا يستحقّ، بل إنّه يتصرّف وفقًا لحساب الله.. صحيح أنَّ الإنسان قد يحسن إلى شخص ولا يحفظ له إحسانه، ولكنّ المهمّ أن يكون ذلك مسجّلًا عند الله تعالى، والله يقول: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195]. فإذا كانت النّتيجة مضمونة عند الله تعالى، فليس علينا أن نحسب حساب أحد غيره في كلّ ما نعمله.
ونحن قد لا نلتفت إلى ذلك، ولكنَّنا يمكن أن نأخذ العبرة عندما نفقد عزيزًا وندفنه، ونقف عند قبره لنرى أنَّ هذا الإنسان الّذي كان لا يطيق أن يكون هناك ذرّة غبار على وجهه، يهال عليه التّراب، ولا يأخذ معه إلّا ما حصَّله من عمل، وما عدا ذلك من جاه وثروة، لا يستفيد منه إلّا ورثته، أمَّا هو، فلا يستفيد إلَّا بمقدار ما قدّم من عمل بين يدي الله.
المسارعة إلى التَّوبة
والصَّفة الأخيرة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً - يعني معصية كبيرة - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ - بالمعاصي - ذَكَرُوا اللَّهَ – فلا يبقى الإنسان مصرًّا على معصيته {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201] - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ – فلمجرَّد أن يلتفت إلى خطئه، يستغفر الله ويطلب منه العفو - وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا - لأنَّ الإصرار على الصّغيرة كبيرة - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
جزاء المتَّقين عند الله
وعلام يحصل هؤلاء النَّاس عند الله؛ هل يحصّلون مالًا أو ثروة؟ {أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - لا موت هناك - وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}، وأيّ أجر أعظم من هذا الأجر؟
الثّبات على الإيمان
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفتح قلوبنا لله، وننطلق في مسؤوليَّاتنا في الحياة من خلال ذلك. افتح قلبك لربّك وأنت في بيتك مع زوجتك، لتطيع الله في علاقتك معها، اذكر ربَّك وأنت في بيتك مع أولادك أو مع أبويك، لتطيع الله فيهم، اذكر الله وأنت في بيتك مع جيرانك لتطيع الله فيهم، واذكر الله في حياتك مع النَّاس عندما تبيع وتشتري، وعندما تصادق وتعادي، وعندما تسالم وتحارب، اذكر ربَّك، حتَّى يشرق الله في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، فتسير على نور، فلا تصادق إلَّا من قلب مفتوح، ولا تعادي إلَّا من خلال قاعدة ثابتة، ولا تعارض إلَّا على أساس الحقّ هنا والباطل هناك.
وإذا واجهت الحياة في القضايا الكبرى، وكانت هناك صعوبات فيما تواجهه، ومشاكل فيما تتحرك فيه، فإنَّ عليك أن تستنفر إيمانك، وتذكر ربَّك، ليعينك على الثَّبات في مواقع الزلزال، وليعينك على الصّمود في مواقع الاهتزاز، وليعينك على السَّير على نور عندما تأتي الظّلمات من كلّ جانب {أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة: 5].
وإذا فكَّرنا في الجنَّة، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ الجنَّة ليست مجَّانًا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التَّوبة: 111]. ادفع من نفسك، ادفع من مالك ثمن الجنَّة، تكن لك الجنَّة. الإمام عليّ (ع) كان يخاطب أصحابه ويقول لهم، وهو ينعى عليهم الكثير من الأوضاع السلبيَّة الَّتي كانوا يعيشونها، كان يقول: "أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللَّه في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع اللَّه عن جنَّته، ولا تنال مرضاته إلَّا بطاعته".
إنَّ القضيَّة هي أن َّالله دقيق في حسابه {لَّا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف: 49]. هذه الأمور يجب نفكّر فيها. نعم، نحن عندنا مشاغل في الحياة، عندنا علاقات، عندنا مشاكل، ولكنَّ المسألة هي أنَّها نفوسنا الَّتي إمَّا أن نشتريها بالعمل الصَّالح المرتكز على الإيمان، وإمَّا أن نفقدها جملةً وتفصيلًا.
* من خطبة الجمعة لسماحته للرّجال في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 15/01/1993م.