محاضرات
30/12/2025

الأنس بالله في زمن المحن: قراءة في وصايا الإمام الجواد (ع)

الأنس بالله في زمن المحن: قراءة في وصايا الإمام الجواد (ع)

يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا}[الأحزاب: 33].

من أئمَّة أهل البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الجواد (ع)، الَّذي تصادف ذكرى وفاته آخر ذي القعدة، في هذين اليومين.

ونحن نريد أن نقف مع هذه الذّكرى، لنتعلَّم كيف نعيش الإسلام من خلال هذه الصَّفوة الطيّبة من أهل البيت (ع)، وكيف نواجه حاضرنا من خلال الخطوط المضيئة في ماضينا، من أجل أن نصنع مستقبلنا جميعاً على أساس وحي الله وتعاليم رسوله (ص) الَّتي انطلق بها أهل البيت، الَّذين جسَّدوا في كلماتهم، وفي تعاليمهم، وفي أعمالهم وسيرتهم، كلَّ ما انطلق به الكتاب، وما تحركت به السنَّة.

الإمامةُ المبكرةُ

والإمام الجواد (ع) هو الَّذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يصدق عليه ما صدق على يحيى في نبوَّته: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]. وكان بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) محلَّ اهتمامٍ كبيرٍ، وتعظيمٍ شديدٍ من المأمون الخليفة العبّاسيّ، حتَّى إنَّه زوَّجه ابنته أمَّ الفضل، وعندما أنكر عليه العبّاسيّون ذلك، خوفاً من أن تكون هذه المصاهرة وسيلةً من وسائل ولاية عهد جديدة، تكون للإمام الجواد كما كانت لأبيه الإمام الرِّضا بالنّسبة إلى المأمون، مما قد يبعد الخلافة عن العبَّاسيِّين، حدَّثهم عن فضله وعلمه، وحدَّثوه عن صغر سنِّه، وعندما حدَّثوه عن ذلك، قال لهم اختاروا له عالماً كبيراً لتختبروه، فإن كان الأمر كما تقولون، فإنَّني أتخذ موقفاً وفق ما تريدون، وإن كان الأمر كما أقول، فعليكم أن تعرفوا قيمة ما أقدمت عليه.

واختاروا قاضي القضاة يحيى بن أكثم، وقالوا له هيِّئ له من مسائلك الشِّداد، واجتمعوا في مجلس كبير ضمَّ أعيان الدَّولة والعلماء، وبدأ هذا الرَّجل يلقي على الإمام مسائله، وبدأ الإمام (ع) يخرج من كلِّ مسألة أكثر من مسألة، ليقول له: هل إنَّك تسأل في هذا الجانب من المسألة أو في ذاك الجانب منها، أو في هذه القضيَّة أو تلك القضيَّة، حتَّى فرَّع له المسألة الواحدة إلى ما يزيد عن عشرين أو ثلاثين مسألة، وقال له إنَّ لكلِّ واحدة حكماً، فعن أيّ شيء تسأل؟ ولم يكن هذا القاضي مستعدّاً لذلك، ولهذا حار جواباً، وبدا عليه الانكسار، وقال له المأمون: إن أردت أن تفصِّل لنا جواب ما أثرته من الأسئلة. وفصَّل ذلك تفصيلاً كثيراً، لا يتَّسع المجال للحديث عنه، ولهذا أقرَّ الجميع بعلمه وبفضله.

إمامُ العلمِ والحكمة

وكان موضع تقدير العلماء، حتَّى إنَّ المعتصم العبَّاسي بعد المأمون، عندما أشكلت عليه بعض المسائل، جمع علماء بغداد آنذاك، وهم من مختلف المذاهب، ليحدِّدوا حجم يد السَّارق الَّتي تُقطَع؛ هل تُقطَع من الأصابع، أو من أصلِ الزّند، وعندما أعطوا رأيهم، سأل الإمامَ الجوادَ عن رأيه، وعندما أعطى رأيَه، أخذ برأيه وترك آراءهم، لأنَّ رأيه كان ينطلق من الحجَّة السَّاطعة من كتاب الله سبحانه وتعالى.

وهكذا نرى أنَّ النَّاس كانوا يفدون عليه من كلِّ مكان، وكانوا يسألونه في مختلف جوانب العلم، وفي مختلف قضايا الحياة، وكان يجيبهم على صغر سنِّه، مع عجز الكثيرين من الشّيوخ عن ذلك، حتّى عُدَّ له في وقتٍ قصيرٍ، على ما ذكره الرواة، أكثر من ثلاثين ألف مسألة.

ولذلك، كنَّا نقول في موقف سابق، عندما تحدَّثنا عن الإمام الجواد (ع)، إنَّه الإمام المعجزة، فأن يقف إنسانٌ في صغر سنِّه، في هذا الموقع الَّذي يتصاغر عنده العلماء الكبار، هو أمر لا ينطلق إلَّا من خلال ما يفيضه الله سبحانه وتعالى على أوليائه، مما يلهمهم من علم ينفتحون به على كلِّ ما يحتاجه النَّاس.

ويقول الشَّيخ المفيد (ره) في "الإرشاد": "كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (ع) – وهذه كنيته - لما رأى من فضله مع صغر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزَّمان، فزوَّجه ابنته أمَّ الفضل، وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره".

وانطلق الإمام (ع) في كلِّ هذا الجوّ حتَّى أخذ قلوب المسلمين، ما دعا المعتصمَ العبَّاسيَّ، كما جاءت به الرّوايات، إلى أن يدسَّ إليه السُّمّ، فكانت وفاته في سنّ مبكرة جدّاً.

ونحن الآن، عندما نريد أن نثير ذكراه، نريد أن نتوقَّف أمام بعض الكلمات الَّتي رواها عن عليّ (ع)، أو الّتي كان يوجِّه بها النَّاس، ونحن نعرف أنَّ كلامهم واحد، وأنَّ خطَّهم واحد، فما يقوله الأوَّل يقوله الآخر. وهكذا ينطلقون جميعاً من رسول الله (ص) فيما حدَّث به، وفيما سارَ به، ورسول الله هو الأصل لهم، وهم الفرع عنه، وكتاب الله هو الأصل للجميع.

الأنسُ باللهِ في المِحَن

في روايته عن عليّ (ع)، أنَّ عليّا ًقالَ لأبي ذرّ عندما أُبعِدَ عن المدينة، وهو يريد أن يهوِّن  عليه مشكلته وبلاءَه وابتعادَه عن مدينة رسول الله (ص) الَّتي قضى فيها كلَّ عمره الإسلاميّ: "يا أبا ذرّ، إنَّك إنَّما غضبْتَ للهِ عزَّ وجلَّ، فارجُ من غضبْتَ له - أي أنَّك يا أبا ذرّ، أنت لم تغضب لنفسك، لتكون المسألة مسألة شخصيَّة يعيشُ فيها الإنسانُ حالةَ اليأسِ والإحباطِ، ولكنَّك غضبت لله، والله هو المهيمن على الأمر كلِّه، إنَّك غضبت لأنَّك رأيت الله يُعصَى فنهيت عن المنكر، ورأيت الله لا يُطاع فأمرت بالمعروف. فالقضيَّة هي قضيَّتك مع الله، والله هو المهيمن على كلِّ شيء، فارج من غضبت له.

وهذا درسٌ لكلِّ إنسانٍ مصلحٍ عاملٍ، عندما يضطهده النَّاس المنحرفون أو الظَّالمون، فإنَّ عليه عندما يغضب، وينال التّعسّف والقسوة والتَّشويه من خلال غضبه لله سبحانه وتعالى، أن لا يسقط، بل أن يرجو الله سبحانه وتعالى.

- إنَّ القومَ خافوكَ على دنياهم وخفْتَهم على دينِكَ، فأَرحلُوكَ عن الفناءِ، وامتحنوكَ بالبلاءِ - الفرق بينك وبين هؤلاء، أنَّهم انطلقوا في دنيا انحرفوا فيها عن الخطّ، وكنت تريد أن تعيدهم إلى الخطّ، ولو أعدتهم إلى خطّ الاستقامة بعيداً من خطّ الانحراف، لفقدوا الكثير من امتيازاتهم الَّتي وضعوها لأنفسهم، ولذلك خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، لأنَّك لم تنطلق من دنيا تريدها، ولم تنطلق من منصب فقدته، أو من مال لم تحصل عليه، وإنما انطلقت من خوفك على الدّين أن ينحرف به النَّاس عن الخطِّ المستقيم.

ثمَّ أراد (ع) أن يفتح له كلَّ أبواب الأمل، ويفتح من خلاله كلَّ أبواب الأمل لكلِّ العاملين في سبيل الله، فقال له: – والله، لو كانَتِ السَّماواتُ والأرضُ على عبدٍ رتقاً – يعني مغلقة - ثمَّ اتَّقى اللهَ عزَّ وجلَّ، جعلَ له منها مخرجاً.

ثمَّ قال له، والكلمة لنا جميعاً: - فلا يُؤْنِسُكَ إلَّا الحقُّ، ولا يُوحِشُكَ إلَّا الباطلُ"، إنَّ أهل الحقِّ عندما ينفضّ النَّاس عنهم، لا يستوحشون، لأنَّ الحقَّ هو الأنيس لهم، والله هو الحقّ، وما يدعون من دونه هو الباطل.

أمَّا إذا عاش الإنسان الباطل، فحتَّى لو كان كلّ النَّاس معه، فإنَّه يعيش الوحشة، لأنَّ الباطل عندما يحيط به، فإنَّه يعيش في غربة، أيّ غربة.

وهذا أمر لا بدَّ لكلِّ العاملين في سبيل الله، ولكلِّ المجاهدين في سبيل الله، أن يتمثَّلوه في أنفسهم؛ أن يكون الحقّ هو الأنسَ الّذي يأنسون به، وأن يكون الباطل هو الموحشَ الَّذي يستوحشون منه، حتَّى ينطلقوا في أمل كبير في الحياة، وهذا ما كان عليّ (ع) يقوله: "لا تزيدُني كثرةُ النَّاسِ حولي عزَّةً، ولا تفرُّقُهم عنِّي وحشةً".

وكان عليّ (ع) يقول للنَّاس كلّهم: "لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ - يعني إذا كنت تريد أن تمشي في طريق كلُّه خيرٌ، وكلّه حقٌّ، وكلّه عدلٌ، وليس معك إلّا ناس قليلون، فلا تستوحش - فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَة شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ". يقول (ع) إنَّ من يشبع من الدّنيا الآن، سيشبع لسنوات، ولكنَّه سيجوع في الآخرة، وهي دار الخلود.

بينَ الجزعِ والصَّبرِ

وهكذا نجد أنَّ الإمام الجواد (ع) قال له رجلٌ: أوصِني؟ قال (ع): وتقبلُ؟ قالَ: نعم. قالَ: توسَّدِ الصَّبرَ - يعني عليك أن تنام على فرشة الصَّبر، بحيث إذا واجهتك الحياة في تحدّياتها، وواجهتك الحياة في بلائها، وواجهتك المشاكل والضّغوط، فلا تسقط، ولكن نمْ على فرشةِ الصَّبر كما ينام الإنسان المرتاح، فالصَّبر مفتاح الفرج.

- واعتنقِ الفقرَ - فإذا جاءك الفقر، فلا تعمل على أساس أن تسقط، ولكن اعتنقه، وحاول أن تصبر عليه، وأن تتعايش معه، حتَّى يفرّجها الله.

- وارفضِ الشَّهواتِ – لأنَّها قد تقودك إلى الابتعاد عن الحقِّ وإلى دخول النَّار.

- وخالفِ الهوى - لا تجعلْ كلَّ طموحك في الحياة أن تحقِّق هوى نفسك، ولكن ادرس هوى نفسك، فإن كان يصدُّك عن الحقّ، وينحرف بك عن الله، فخالفه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

- واعلمْ أنَّكَ لنْ تخلوَ من عينِ اللهِ – ففي أيّ مكان تكون، أنت في رقابة الله، وفي الوقت نفسه برعايته سبحانه. لذلك، تحرَّك في الحياة على أساس أن تراقب نفسك في كلِّ صغيرة وكبيرة، لأنَّ الله يراقبك، ولأنَّ عين الله تراقبك، وإذا جاءك اليأس والإحباط، فاعلم أنَّك بعين الله وبرعايته - فانظر كيف تكون"، كيف يكون موقفك، وكيف يكون مسيرك.

ويعالج الإمام (ع) نقطةً قد يتعرَّض لها بعض التجّار أو العاملون في سبيل الرّزق، فقد يكون لديك، مثلاً، بضاعة وتخسرها، فقد تغرق في البحر، أو يأتي من يسلبها منك من المحلّ... فكيف يكون موقفك؟ بعض النَّاس قد ينتحر، والبعض قد يضرب نفسه...

هناك قصَّة حدثت مع الإمام الجواد (ع)، ولاحظ كيف واجه هذه المسألة: "روي أنَّه حُمِلَ له بزٌّ – وهو قماش - له قيمه كثيرة، فسُلّ في الطَّريق - سُلِبَ - فكتبَ إليه الَّذي حملَهُ يعرِّفُهُ الخبرَ، فوقَّعَ بخطِّهِ: إنَّ أنفسَنا وأموالَنا مِنْ مواهبِ اللهِ الهنيئةِ، وعواريـهِ المستودَعةِ -  يقول إنَّ نفوسنا الَّتي خلقها الله هي هبةٌ من الله، وعاريةٌ أودعها الله عندنا إلى وقتٍ ما، وأموالُنا كذلك، وهبنا اللهُ إيَّاها، واللهُ أعارنا إيَّاها إلى فترة من عمرنا، فواقع النفس وواقع المال هو حال العارية الَّتي تستعيرها، ويمكن أن يستردَّها من أعارك إيَّاها، هذه هي الفكرة – يُمتَّعُ بما مُتِّعَ بها في سرورٍ وغبطةٍ – إذا أعطانا إيَّاها اللهُ ومهَّلنا فيها، فسوفَ نستمتع بنفوسنا وأموالنا في غبطة ومصلحة - ويأخذُ ما أُخِذَ منها في أجرٍ وحسبةٍ – كذلك عندما يأخذها الله منّا ونصبر، ونحتسبها عندَ الله، فلنا الأجر في ذلك.

وهناك نقطة لا بدَّ من الانتباه إليها، فهناك مَنْ قد تواجهه الحروب، أو يتعرَّض للسَّرقة أو النَّهب، أو مصادرة أموالٍ من قوى هنا وهناك، فيقول الإمام الجواد (ع) في ذلك - فمَنْ غلَبَ جزعُهُ على صبرِهِ، حبطَ أجرُهُ، ونعوذُ باللهِ من ذلك"، وهذا هو الخطُّ الَّذي لا بدَّ لنا أن نسير عليه من خلال تعليمات الإمام الجواد الَّتي هي تعليمات الإسلام.

مسؤوليَّةُ الإصغاء

الحديث الآخر يعالج مسألة النَّاس الَّذين ينجذبون إلى الخطباء وإلى الأشخاص الَّذين يتحدَّثون مع النّاس، بحيث ينجذبون إليهم ويحملون ما يفكِّرون فيه. يقول (ع)، قبل أن تستمع إلى أيِّ ناطقٍ يتكلَّم معك، يخطب فيك ويحدِّثك، ادرس شخصيَّته؛ هل هذا الإنسان ينطق بما ينطق به عن الله؟ هل هو من الَّذين يحملون رسالة الله ويخلصون للحقّ؟ هل هو من الَّذين يرتبطون بالله على أساس الإيمان والتَّقوى، أم هو ممن يرتبطون بالشَّيطان في أفكارهم وأعمالهم؟ يقولُ: عندما تنجذبُ إلى شخصٍ يتكلَّم، وتُدخِلُ فكرَه في فكرِك، فهذا نوعٌ من العبادة، لأنَّ العبادةَ استغراق؛ أن تستغرقَ في حديث الشَّخص، أن تنجذبَ إليه، أن تخضعَ لفكره، لذلك اختر من تسمعه، اختر من تنجذب إليه: "مَنْ أصغى إلى ناطقٍ فقدْ عبدَهُ، فإنْ كانَ النَّاطقُ ينطقُ عنِ اللهِ فقدْ عبدَ الله، وإن كانَ النَّاطقُ ينطقُ عن لسانِ إبليسَ فقدْ عبدَ إبليسَ".

لذلك، لا تجعل فكرك تحت رحمة الأبالسة، أو الَّذين يرتبطون بالأبالسة، وكما هناك أبالسة من الجنّ، هناك أبالسة من الإنس، ألا نقرأ: {مِن شَرِّ الوسواس الخنّاس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[النَّاس: 4- 6]؟!.

لذلك، عندما تستمع إلى شخص، أو تصغي إلى ما كتبه شخص، أو تصغي إلى التّلفزيون، وتنجذب إلى هذا البطل وهذه البطلة، أو هذا الممثِّل وهذه الممثِّلة، أو هذا المحدِّث وهذه المحدِّثة... فالأمر هو نفسه، فإذا كان هذا الَّذي في التلفاز ينطق عن الله، فأنت في عبادة لله عندما تصغي إليه، وإذا كان ينطق عن إبليس، فأنت في عبادة إبليس عندما تصغي إليه.. لذلك، علينا أن نرى أنفسنا عندما نسهر في اللَّيل، هل نحن نصلِّي صلاة اللَّيل لإبليس أم لله، عندما نجلس أمام التِّلفاز في فيلم طويل أو قصير، أو في حديث، أو ما إلى ذلك؟!

خصالٌ يحتاجُها المؤمنُ

"المؤمنُ يحتاجُ إلى ثلاثِ خصالٍ - حتَّى يركِّز إيمانه وينطلق به - توفيقٍ منَ الله -  لأنَّ الله إذا سحب توفيقه لنا نضيع، لذا على المؤمن أن يطلب من الله دائماً أن يعطيه التَّوفيق في أموره - وواعظٍ من نفسِهِ - أن يحاول المؤمن أن يحاسبَ نفسه، ويفكِّر في نفسه، وفيما مضى عليه من الزَّمان، وأن يفكِّر في الماضين وفي الحاضرين، وفي كلِّ الأشياء، حتَّى يعظ نفسه - وقبولٍ ممَّنْ ينصحُهُ"، فهناك أناسٌ يأتون إليك لينصحوك في أمر دينك ودنياك، وليبيِّنوا لك أخطاءك، وليرشدوك إلى الطَّريقِ المستقيم... فعلى المؤمن أن يقبل نصيحة من ينصحه، وأن يعظَ نفسه بنفسه، وأن يطلبَ التَّوفيق من الله سبحانه وتعالى.

الإخلاصُ لله.. والتَّوكّلُ عليه

ثمَّ يقولُ (ع) في هذا الخطّ: "لا تكنْ وليّاً لله في العلانية، وعدوّاً له في السّرّ"، أن لا يكونَ ظاهرُكَ شيئاً وباطنُكَ شيئاً آخر، بحيث تكون أمام النَّاس المؤمنَ الخيِّرَ الّذي يحمل مسبحته ويسبِّح بها، وعندما تكونُ مع نفسِكَ، تكونُ عدوّاً لله، تعملُ كلَّ شيء؛ تسرق وتخون وتزني في السّرّ وما إلى ذلك. فلا تكنْ وليّاً لله في العلانية، وعدوّاً له في السّرّ.

ثمَّ يخبرنا (ع) كيف على الإنسان أن يواجه موقفه من الله سبحانه وتعالى: "كيف يضيع مَنِ اللهُ كافلُهُ؟ - أي انَّ عليك أن تطلب من الله دائماً أن يكفلك ويحفظك ويرعاك، وإذا كانَتْ علاقتك بالله جيِّدة، وكان الله كافلك، فلا يمكن أن تضيع.

- وكَيْفَ ينجو مَنِ اللهُ طالبُهُ؟ - يعني أنت الآن تعصي الله، وتهربُ من هنا وهنا، ولكن عندما يطلب اللهُ أحداً، فأين يذهب ويهرب؟ في الدّعاء نقرأ: "وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلَا فِي نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإِنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الفَوْتَ"، فأنت إذا  أردت أن تلحق أحداً، فمتى تستعجل؟ تستعجل لأنَّك تخاف أن يذهبَ هذا الشَّخص فلا تجده، ولكن اللهَ إذا طلبَ شخصاً، فلا بدَّ أن يدركَهُ. لذلك على الإنسان أن لا يعتبر أنَّ بإمكانه أن ينجو من عذابِ الله سبحانه وتعالى.

- ومَنِ انقطعَ إلى غيرِ اللهِ، وكلَهُ اللهُ إليْهِ - هناك بعض النَّاس عندما يحدِّثك، يقول أنا عندي فلان، أنا ظهري فلان، أنا الَّذي يحميني فلان، أنا أعرف الرّئيس أو الوزير أو كذا... فمن يقدرُ عليَّ؟! ولكنَّ الله يقول لك، إذا كنت توكل أمرك إلى فلان فاذهب إليه، ولكن ماذا تفعل إذا مات فلان، إو إذا دارت الدَّوائر على فلان؟ {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، وماذا تفعل إذا مرضَ فلان، أو ضعف فلان؟ إنَّ على الإنسان عندما يريد أن يتَّكل على شخص، فينبغي أن يكون هذا الشّخص ضمانةً له في كلّ الحالات، بحيث يضمنك مائة في المائة، ولا يمكن أن يضعف أو يموت! فمن يمكن أن يكون كذلك؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطَّلاق: 3]، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الحيّ الَّذي لا يموت، وهو المهيمن على الأمر كلِّه.

"ومنِ انقطعَ إلى غيرِ اللهِ وكلَهُ اللهُ إليْهِ - لا تجعل قلبك مشدوداً إلى عبدٍ لا فرق بينك وبينه إلَّا أنَّ لديه فرصاً ليست عندك، ولكنَّه يموت كما تموت، ويضعف كما تضعف، وتدور الأيَّام عليه كما تدور الأيَّام عليك.

- ومن عمِلَ على غيرِ علمٍ، كانَ ما يُفْسِدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ"، فعندما تقوم بأيّ عمل؛ سواء كان عملاً صناعيّاً أو زراعيّاً أو عباديّاً أو تربويّاً أو سياسيّاً... فحاول أن يكون عندك علم ما تعمل وثقافة العمل، وإلَّا لو كنت تعمل بغير علم، فإنَّما يفسدك أكثر مما يصلحك.

الخيانةُ.. والزَّمن

وقد ورد عنه (ع) أيضاً: "كفَى بالمرءِ خيانةً أن يكونَ أميناً للخونة". أنت لست خائناً، لكنَّك أمينٌ للخونة؛ تدافعُ عنهم، وتحفظُ أسرارَهم، وتبرِّرُ لهم خيانتَهم، وما إلى ذلك، فيقول (ع) إنَّ هذا من أكثر الخيانة، فما الفرق بين أن تخون أنت، وبين أن تكون قوَّةً للخائن؟!

وفي نهاية المطاف، يعلِّمنا الإمام (ع) عندما نتحرَّك مع الزَّمن، أن لا ننسب الأشياء إلى الزّمن، أي أنّه ليس هناك يوم مبارك أو يوم مشؤوم من حيث مداه الزّمني، فكلّه من الله، وعلينا أن نربط كلَّ الأشياء بالله سبحانه وتعالى.

فعندما تزوَّج الإمامُ (ع) أمَّ الفضل بنت المأمون، قال شخص من أصحاب الإمام (ع) له: "يا مولايَ، لقد عظمَتْ علينا بركةُ هذا اليومِ، فقالَ (ع): يا أبا هاشم، عَظُمَتْ بركاتُ اللهِ علينا فيه - لا تنسبِ البركةَ إلى اليوم، فإنَّ اليومَ لا يملكُ أن يؤخِّرَ أو يقدِّمَ، ولكن إذا جاءتك البركات في أيِّ يوم أو أيِّ زمان، فانسبها إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّه هو الَّذي يعطي وهو الَّذي يمنع - قلْتُ: نعم يا مولاي، فما أقولُ في اليوم؟ فقال: قلْ فيه خيراً، فإنَّه يصيبُكَ"، تفاءل بالأيَّام، ولكن ليكن تفاؤلك من خلال ثقتك بالله، وطلبك من الله سبحانه وتعالى.

أيُّها الأحبَّة، هذه بعضُ التَّعاليم الَّتي يمكن أن تضيء لنا أفكارنا وحياتنا، وهذا سرُّ علاقتنا بالأئمَّة من أهل البيت (ع)، وبجدِّهم رسول الله (ص)، أنَّهم يعطوننا إسلاماً نستضيء به في كلِّ مواقع حياتنا.

 
*خطبة الجمعة الأولى لسماحته في مسجد الحسنين (ع)، حارة حريك، بتاريخ: 27-03-1998م.
 


يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا}[الأحزاب: 33].

من أئمَّة أهل البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الجواد (ع)، الَّذي تصادف ذكرى وفاته آخر ذي القعدة، في هذين اليومين.

ونحن نريد أن نقف مع هذه الذّكرى، لنتعلَّم كيف نعيش الإسلام من خلال هذه الصَّفوة الطيّبة من أهل البيت (ع)، وكيف نواجه حاضرنا من خلال الخطوط المضيئة في ماضينا، من أجل أن نصنع مستقبلنا جميعاً على أساس وحي الله وتعاليم رسوله (ص) الَّتي انطلق بها أهل البيت، الَّذين جسَّدوا في كلماتهم، وفي تعاليمهم، وفي أعمالهم وسيرتهم، كلَّ ما انطلق به الكتاب، وما تحركت به السنَّة.

الإمامةُ المبكرةُ

والإمام الجواد (ع) هو الَّذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يصدق عليه ما صدق على يحيى في نبوَّته: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]. وكان بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) محلَّ اهتمامٍ كبيرٍ، وتعظيمٍ شديدٍ من المأمون الخليفة العبّاسيّ، حتَّى إنَّه زوَّجه ابنته أمَّ الفضل، وعندما أنكر عليه العبّاسيّون ذلك، خوفاً من أن تكون هذه المصاهرة وسيلةً من وسائل ولاية عهد جديدة، تكون للإمام الجواد كما كانت لأبيه الإمام الرِّضا بالنّسبة إلى المأمون، مما قد يبعد الخلافة عن العبَّاسيِّين، حدَّثهم عن فضله وعلمه، وحدَّثوه عن صغر سنِّه، وعندما حدَّثوه عن ذلك، قال لهم اختاروا له عالماً كبيراً لتختبروه، فإن كان الأمر كما تقولون، فإنَّني أتخذ موقفاً وفق ما تريدون، وإن كان الأمر كما أقول، فعليكم أن تعرفوا قيمة ما أقدمت عليه.

واختاروا قاضي القضاة يحيى بن أكثم، وقالوا له هيِّئ له من مسائلك الشِّداد، واجتمعوا في مجلس كبير ضمَّ أعيان الدَّولة والعلماء، وبدأ هذا الرَّجل يلقي على الإمام مسائله، وبدأ الإمام (ع) يخرج من كلِّ مسألة أكثر من مسألة، ليقول له: هل إنَّك تسأل في هذا الجانب من المسألة أو في ذاك الجانب منها، أو في هذه القضيَّة أو تلك القضيَّة، حتَّى فرَّع له المسألة الواحدة إلى ما يزيد عن عشرين أو ثلاثين مسألة، وقال له إنَّ لكلِّ واحدة حكماً، فعن أيّ شيء تسأل؟ ولم يكن هذا القاضي مستعدّاً لذلك، ولهذا حار جواباً، وبدا عليه الانكسار، وقال له المأمون: إن أردت أن تفصِّل لنا جواب ما أثرته من الأسئلة. وفصَّل ذلك تفصيلاً كثيراً، لا يتَّسع المجال للحديث عنه، ولهذا أقرَّ الجميع بعلمه وبفضله.

إمامُ العلمِ والحكمة

وكان موضع تقدير العلماء، حتَّى إنَّ المعتصم العبَّاسي بعد المأمون، عندما أشكلت عليه بعض المسائل، جمع علماء بغداد آنذاك، وهم من مختلف المذاهب، ليحدِّدوا حجم يد السَّارق الَّتي تُقطَع؛ هل تُقطَع من الأصابع، أو من أصلِ الزّند، وعندما أعطوا رأيهم، سأل الإمامَ الجوادَ عن رأيه، وعندما أعطى رأيَه، أخذ برأيه وترك آراءهم، لأنَّ رأيه كان ينطلق من الحجَّة السَّاطعة من كتاب الله سبحانه وتعالى.

وهكذا نرى أنَّ النَّاس كانوا يفدون عليه من كلِّ مكان، وكانوا يسألونه في مختلف جوانب العلم، وفي مختلف قضايا الحياة، وكان يجيبهم على صغر سنِّه، مع عجز الكثيرين من الشّيوخ عن ذلك، حتّى عُدَّ له في وقتٍ قصيرٍ، على ما ذكره الرواة، أكثر من ثلاثين ألف مسألة.

ولذلك، كنَّا نقول في موقف سابق، عندما تحدَّثنا عن الإمام الجواد (ع)، إنَّه الإمام المعجزة، فأن يقف إنسانٌ في صغر سنِّه، في هذا الموقع الَّذي يتصاغر عنده العلماء الكبار، هو أمر لا ينطلق إلَّا من خلال ما يفيضه الله سبحانه وتعالى على أوليائه، مما يلهمهم من علم ينفتحون به على كلِّ ما يحتاجه النَّاس.

ويقول الشَّيخ المفيد (ره) في "الإرشاد": "كان المأمون قد شغف بأبي جعفر (ع) – وهذه كنيته - لما رأى من فضله مع صغر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساوه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزَّمان، فزوَّجه ابنته أمَّ الفضل، وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره".

وانطلق الإمام (ع) في كلِّ هذا الجوّ حتَّى أخذ قلوب المسلمين، ما دعا المعتصمَ العبَّاسيَّ، كما جاءت به الرّوايات، إلى أن يدسَّ إليه السُّمّ، فكانت وفاته في سنّ مبكرة جدّاً.

ونحن الآن، عندما نريد أن نثير ذكراه، نريد أن نتوقَّف أمام بعض الكلمات الَّتي رواها عن عليّ (ع)، أو الّتي كان يوجِّه بها النَّاس، ونحن نعرف أنَّ كلامهم واحد، وأنَّ خطَّهم واحد، فما يقوله الأوَّل يقوله الآخر. وهكذا ينطلقون جميعاً من رسول الله (ص) فيما حدَّث به، وفيما سارَ به، ورسول الله هو الأصل لهم، وهم الفرع عنه، وكتاب الله هو الأصل للجميع.

الأنسُ باللهِ في المِحَن

في روايته عن عليّ (ع)، أنَّ عليّا ًقالَ لأبي ذرّ عندما أُبعِدَ عن المدينة، وهو يريد أن يهوِّن  عليه مشكلته وبلاءَه وابتعادَه عن مدينة رسول الله (ص) الَّتي قضى فيها كلَّ عمره الإسلاميّ: "يا أبا ذرّ، إنَّك إنَّما غضبْتَ للهِ عزَّ وجلَّ، فارجُ من غضبْتَ له - أي أنَّك يا أبا ذرّ، أنت لم تغضب لنفسك، لتكون المسألة مسألة شخصيَّة يعيشُ فيها الإنسانُ حالةَ اليأسِ والإحباطِ، ولكنَّك غضبت لله، والله هو المهيمن على الأمر كلِّه، إنَّك غضبت لأنَّك رأيت الله يُعصَى فنهيت عن المنكر، ورأيت الله لا يُطاع فأمرت بالمعروف. فالقضيَّة هي قضيَّتك مع الله، والله هو المهيمن على كلِّ شيء، فارج من غضبت له.

وهذا درسٌ لكلِّ إنسانٍ مصلحٍ عاملٍ، عندما يضطهده النَّاس المنحرفون أو الظَّالمون، فإنَّ عليه عندما يغضب، وينال التّعسّف والقسوة والتَّشويه من خلال غضبه لله سبحانه وتعالى، أن لا يسقط، بل أن يرجو الله سبحانه وتعالى.

- إنَّ القومَ خافوكَ على دنياهم وخفْتَهم على دينِكَ، فأَرحلُوكَ عن الفناءِ، وامتحنوكَ بالبلاءِ - الفرق بينك وبين هؤلاء، أنَّهم انطلقوا في دنيا انحرفوا فيها عن الخطّ، وكنت تريد أن تعيدهم إلى الخطّ، ولو أعدتهم إلى خطّ الاستقامة بعيداً من خطّ الانحراف، لفقدوا الكثير من امتيازاتهم الَّتي وضعوها لأنفسهم، ولذلك خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، لأنَّك لم تنطلق من دنيا تريدها، ولم تنطلق من منصب فقدته، أو من مال لم تحصل عليه، وإنما انطلقت من خوفك على الدّين أن ينحرف به النَّاس عن الخطِّ المستقيم.

ثمَّ أراد (ع) أن يفتح له كلَّ أبواب الأمل، ويفتح من خلاله كلَّ أبواب الأمل لكلِّ العاملين في سبيل الله، فقال له: – والله، لو كانَتِ السَّماواتُ والأرضُ على عبدٍ رتقاً – يعني مغلقة - ثمَّ اتَّقى اللهَ عزَّ وجلَّ، جعلَ له منها مخرجاً.

ثمَّ قال له، والكلمة لنا جميعاً: - فلا يُؤْنِسُكَ إلَّا الحقُّ، ولا يُوحِشُكَ إلَّا الباطلُ"، إنَّ أهل الحقِّ عندما ينفضّ النَّاس عنهم، لا يستوحشون، لأنَّ الحقَّ هو الأنيس لهم، والله هو الحقّ، وما يدعون من دونه هو الباطل.

أمَّا إذا عاش الإنسان الباطل، فحتَّى لو كان كلّ النَّاس معه، فإنَّه يعيش الوحشة، لأنَّ الباطل عندما يحيط به، فإنَّه يعيش في غربة، أيّ غربة.

وهذا أمر لا بدَّ لكلِّ العاملين في سبيل الله، ولكلِّ المجاهدين في سبيل الله، أن يتمثَّلوه في أنفسهم؛ أن يكون الحقّ هو الأنسَ الّذي يأنسون به، وأن يكون الباطل هو الموحشَ الَّذي يستوحشون منه، حتَّى ينطلقوا في أمل كبير في الحياة، وهذا ما كان عليّ (ع) يقوله: "لا تزيدُني كثرةُ النَّاسِ حولي عزَّةً، ولا تفرُّقُهم عنِّي وحشةً".

وكان عليّ (ع) يقول للنَّاس كلّهم: "لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ - يعني إذا كنت تريد أن تمشي في طريق كلُّه خيرٌ، وكلّه حقٌّ، وكلّه عدلٌ، وليس معك إلّا ناس قليلون، فلا تستوحش - فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَة شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ". يقول (ع) إنَّ من يشبع من الدّنيا الآن، سيشبع لسنوات، ولكنَّه سيجوع في الآخرة، وهي دار الخلود.

بينَ الجزعِ والصَّبرِ

وهكذا نجد أنَّ الإمام الجواد (ع) قال له رجلٌ: أوصِني؟ قال (ع): وتقبلُ؟ قالَ: نعم. قالَ: توسَّدِ الصَّبرَ - يعني عليك أن تنام على فرشة الصَّبر، بحيث إذا واجهتك الحياة في تحدّياتها، وواجهتك الحياة في بلائها، وواجهتك المشاكل والضّغوط، فلا تسقط، ولكن نمْ على فرشةِ الصَّبر كما ينام الإنسان المرتاح، فالصَّبر مفتاح الفرج.

- واعتنقِ الفقرَ - فإذا جاءك الفقر، فلا تعمل على أساس أن تسقط، ولكن اعتنقه، وحاول أن تصبر عليه، وأن تتعايش معه، حتَّى يفرّجها الله.

- وارفضِ الشَّهواتِ – لأنَّها قد تقودك إلى الابتعاد عن الحقِّ وإلى دخول النَّار.

- وخالفِ الهوى - لا تجعلْ كلَّ طموحك في الحياة أن تحقِّق هوى نفسك، ولكن ادرس هوى نفسك، فإن كان يصدُّك عن الحقّ، وينحرف بك عن الله، فخالفه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

- واعلمْ أنَّكَ لنْ تخلوَ من عينِ اللهِ – ففي أيّ مكان تكون، أنت في رقابة الله، وفي الوقت نفسه برعايته سبحانه. لذلك، تحرَّك في الحياة على أساس أن تراقب نفسك في كلِّ صغيرة وكبيرة، لأنَّ الله يراقبك، ولأنَّ عين الله تراقبك، وإذا جاءك اليأس والإحباط، فاعلم أنَّك بعين الله وبرعايته - فانظر كيف تكون"، كيف يكون موقفك، وكيف يكون مسيرك.

ويعالج الإمام (ع) نقطةً قد يتعرَّض لها بعض التجّار أو العاملون في سبيل الرّزق، فقد يكون لديك، مثلاً، بضاعة وتخسرها، فقد تغرق في البحر، أو يأتي من يسلبها منك من المحلّ... فكيف يكون موقفك؟ بعض النَّاس قد ينتحر، والبعض قد يضرب نفسه...

هناك قصَّة حدثت مع الإمام الجواد (ع)، ولاحظ كيف واجه هذه المسألة: "روي أنَّه حُمِلَ له بزٌّ – وهو قماش - له قيمه كثيرة، فسُلّ في الطَّريق - سُلِبَ - فكتبَ إليه الَّذي حملَهُ يعرِّفُهُ الخبرَ، فوقَّعَ بخطِّهِ: إنَّ أنفسَنا وأموالَنا مِنْ مواهبِ اللهِ الهنيئةِ، وعواريـهِ المستودَعةِ -  يقول إنَّ نفوسنا الَّتي خلقها الله هي هبةٌ من الله، وعاريةٌ أودعها الله عندنا إلى وقتٍ ما، وأموالُنا كذلك، وهبنا اللهُ إيَّاها، واللهُ أعارنا إيَّاها إلى فترة من عمرنا، فواقع النفس وواقع المال هو حال العارية الَّتي تستعيرها، ويمكن أن يستردَّها من أعارك إيَّاها، هذه هي الفكرة – يُمتَّعُ بما مُتِّعَ بها في سرورٍ وغبطةٍ – إذا أعطانا إيَّاها اللهُ ومهَّلنا فيها، فسوفَ نستمتع بنفوسنا وأموالنا في غبطة ومصلحة - ويأخذُ ما أُخِذَ منها في أجرٍ وحسبةٍ – كذلك عندما يأخذها الله منّا ونصبر، ونحتسبها عندَ الله، فلنا الأجر في ذلك.

وهناك نقطة لا بدَّ من الانتباه إليها، فهناك مَنْ قد تواجهه الحروب، أو يتعرَّض للسَّرقة أو النَّهب، أو مصادرة أموالٍ من قوى هنا وهناك، فيقول الإمام الجواد (ع) في ذلك - فمَنْ غلَبَ جزعُهُ على صبرِهِ، حبطَ أجرُهُ، ونعوذُ باللهِ من ذلك"، وهذا هو الخطُّ الَّذي لا بدَّ لنا أن نسير عليه من خلال تعليمات الإمام الجواد الَّتي هي تعليمات الإسلام.

مسؤوليَّةُ الإصغاء

الحديث الآخر يعالج مسألة النَّاس الَّذين ينجذبون إلى الخطباء وإلى الأشخاص الَّذين يتحدَّثون مع النّاس، بحيث ينجذبون إليهم ويحملون ما يفكِّرون فيه. يقول (ع)، قبل أن تستمع إلى أيِّ ناطقٍ يتكلَّم معك، يخطب فيك ويحدِّثك، ادرس شخصيَّته؛ هل هذا الإنسان ينطق بما ينطق به عن الله؟ هل هو من الَّذين يحملون رسالة الله ويخلصون للحقّ؟ هل هو من الَّذين يرتبطون بالله على أساس الإيمان والتَّقوى، أم هو ممن يرتبطون بالشَّيطان في أفكارهم وأعمالهم؟ يقولُ: عندما تنجذبُ إلى شخصٍ يتكلَّم، وتُدخِلُ فكرَه في فكرِك، فهذا نوعٌ من العبادة، لأنَّ العبادةَ استغراق؛ أن تستغرقَ في حديث الشَّخص، أن تنجذبَ إليه، أن تخضعَ لفكره، لذلك اختر من تسمعه، اختر من تنجذب إليه: "مَنْ أصغى إلى ناطقٍ فقدْ عبدَهُ، فإنْ كانَ النَّاطقُ ينطقُ عنِ اللهِ فقدْ عبدَ الله، وإن كانَ النَّاطقُ ينطقُ عن لسانِ إبليسَ فقدْ عبدَ إبليسَ".

لذلك، لا تجعل فكرك تحت رحمة الأبالسة، أو الَّذين يرتبطون بالأبالسة، وكما هناك أبالسة من الجنّ، هناك أبالسة من الإنس، ألا نقرأ: {مِن شَرِّ الوسواس الخنّاس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[النَّاس: 4- 6]؟!.

لذلك، عندما تستمع إلى شخص، أو تصغي إلى ما كتبه شخص، أو تصغي إلى التّلفزيون، وتنجذب إلى هذا البطل وهذه البطلة، أو هذا الممثِّل وهذه الممثِّلة، أو هذا المحدِّث وهذه المحدِّثة... فالأمر هو نفسه، فإذا كان هذا الَّذي في التلفاز ينطق عن الله، فأنت في عبادة لله عندما تصغي إليه، وإذا كان ينطق عن إبليس، فأنت في عبادة إبليس عندما تصغي إليه.. لذلك، علينا أن نرى أنفسنا عندما نسهر في اللَّيل، هل نحن نصلِّي صلاة اللَّيل لإبليس أم لله، عندما نجلس أمام التِّلفاز في فيلم طويل أو قصير، أو في حديث، أو ما إلى ذلك؟!

خصالٌ يحتاجُها المؤمنُ

"المؤمنُ يحتاجُ إلى ثلاثِ خصالٍ - حتَّى يركِّز إيمانه وينطلق به - توفيقٍ منَ الله -  لأنَّ الله إذا سحب توفيقه لنا نضيع، لذا على المؤمن أن يطلب من الله دائماً أن يعطيه التَّوفيق في أموره - وواعظٍ من نفسِهِ - أن يحاول المؤمن أن يحاسبَ نفسه، ويفكِّر في نفسه، وفيما مضى عليه من الزَّمان، وأن يفكِّر في الماضين وفي الحاضرين، وفي كلِّ الأشياء، حتَّى يعظ نفسه - وقبولٍ ممَّنْ ينصحُهُ"، فهناك أناسٌ يأتون إليك لينصحوك في أمر دينك ودنياك، وليبيِّنوا لك أخطاءك، وليرشدوك إلى الطَّريقِ المستقيم... فعلى المؤمن أن يقبل نصيحة من ينصحه، وأن يعظَ نفسه بنفسه، وأن يطلبَ التَّوفيق من الله سبحانه وتعالى.

الإخلاصُ لله.. والتَّوكّلُ عليه

ثمَّ يقولُ (ع) في هذا الخطّ: "لا تكنْ وليّاً لله في العلانية، وعدوّاً له في السّرّ"، أن لا يكونَ ظاهرُكَ شيئاً وباطنُكَ شيئاً آخر، بحيث تكون أمام النَّاس المؤمنَ الخيِّرَ الّذي يحمل مسبحته ويسبِّح بها، وعندما تكونُ مع نفسِكَ، تكونُ عدوّاً لله، تعملُ كلَّ شيء؛ تسرق وتخون وتزني في السّرّ وما إلى ذلك. فلا تكنْ وليّاً لله في العلانية، وعدوّاً له في السّرّ.

ثمَّ يخبرنا (ع) كيف على الإنسان أن يواجه موقفه من الله سبحانه وتعالى: "كيف يضيع مَنِ اللهُ كافلُهُ؟ - أي انَّ عليك أن تطلب من الله دائماً أن يكفلك ويحفظك ويرعاك، وإذا كانَتْ علاقتك بالله جيِّدة، وكان الله كافلك، فلا يمكن أن تضيع.

- وكَيْفَ ينجو مَنِ اللهُ طالبُهُ؟ - يعني أنت الآن تعصي الله، وتهربُ من هنا وهنا، ولكن عندما يطلب اللهُ أحداً، فأين يذهب ويهرب؟ في الدّعاء نقرأ: "وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلَا فِي نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإِنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الفَوْتَ"، فأنت إذا  أردت أن تلحق أحداً، فمتى تستعجل؟ تستعجل لأنَّك تخاف أن يذهبَ هذا الشَّخص فلا تجده، ولكن اللهَ إذا طلبَ شخصاً، فلا بدَّ أن يدركَهُ. لذلك على الإنسان أن لا يعتبر أنَّ بإمكانه أن ينجو من عذابِ الله سبحانه وتعالى.

- ومَنِ انقطعَ إلى غيرِ اللهِ، وكلَهُ اللهُ إليْهِ - هناك بعض النَّاس عندما يحدِّثك، يقول أنا عندي فلان، أنا ظهري فلان، أنا الَّذي يحميني فلان، أنا أعرف الرّئيس أو الوزير أو كذا... فمن يقدرُ عليَّ؟! ولكنَّ الله يقول لك، إذا كنت توكل أمرك إلى فلان فاذهب إليه، ولكن ماذا تفعل إذا مات فلان، إو إذا دارت الدَّوائر على فلان؟ {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، وماذا تفعل إذا مرضَ فلان، أو ضعف فلان؟ إنَّ على الإنسان عندما يريد أن يتَّكل على شخص، فينبغي أن يكون هذا الشّخص ضمانةً له في كلّ الحالات، بحيث يضمنك مائة في المائة، ولا يمكن أن يضعف أو يموت! فمن يمكن أن يكون كذلك؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطَّلاق: 3]، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الحيّ الَّذي لا يموت، وهو المهيمن على الأمر كلِّه.

"ومنِ انقطعَ إلى غيرِ اللهِ وكلَهُ اللهُ إليْهِ - لا تجعل قلبك مشدوداً إلى عبدٍ لا فرق بينك وبينه إلَّا أنَّ لديه فرصاً ليست عندك، ولكنَّه يموت كما تموت، ويضعف كما تضعف، وتدور الأيَّام عليه كما تدور الأيَّام عليك.

- ومن عمِلَ على غيرِ علمٍ، كانَ ما يُفْسِدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ"، فعندما تقوم بأيّ عمل؛ سواء كان عملاً صناعيّاً أو زراعيّاً أو عباديّاً أو تربويّاً أو سياسيّاً... فحاول أن يكون عندك علم ما تعمل وثقافة العمل، وإلَّا لو كنت تعمل بغير علم، فإنَّما يفسدك أكثر مما يصلحك.

الخيانةُ.. والزَّمن

وقد ورد عنه (ع) أيضاً: "كفَى بالمرءِ خيانةً أن يكونَ أميناً للخونة". أنت لست خائناً، لكنَّك أمينٌ للخونة؛ تدافعُ عنهم، وتحفظُ أسرارَهم، وتبرِّرُ لهم خيانتَهم، وما إلى ذلك، فيقول (ع) إنَّ هذا من أكثر الخيانة، فما الفرق بين أن تخون أنت، وبين أن تكون قوَّةً للخائن؟!

وفي نهاية المطاف، يعلِّمنا الإمام (ع) عندما نتحرَّك مع الزَّمن، أن لا ننسب الأشياء إلى الزّمن، أي أنّه ليس هناك يوم مبارك أو يوم مشؤوم من حيث مداه الزّمني، فكلّه من الله، وعلينا أن نربط كلَّ الأشياء بالله سبحانه وتعالى.

فعندما تزوَّج الإمامُ (ع) أمَّ الفضل بنت المأمون، قال شخص من أصحاب الإمام (ع) له: "يا مولايَ، لقد عظمَتْ علينا بركةُ هذا اليومِ، فقالَ (ع): يا أبا هاشم، عَظُمَتْ بركاتُ اللهِ علينا فيه - لا تنسبِ البركةَ إلى اليوم، فإنَّ اليومَ لا يملكُ أن يؤخِّرَ أو يقدِّمَ، ولكن إذا جاءتك البركات في أيِّ يوم أو أيِّ زمان، فانسبها إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّه هو الَّذي يعطي وهو الَّذي يمنع - قلْتُ: نعم يا مولاي، فما أقولُ في اليوم؟ فقال: قلْ فيه خيراً، فإنَّه يصيبُكَ"، تفاءل بالأيَّام، ولكن ليكن تفاؤلك من خلال ثقتك بالله، وطلبك من الله سبحانه وتعالى.

أيُّها الأحبَّة، هذه بعضُ التَّعاليم الَّتي يمكن أن تضيء لنا أفكارنا وحياتنا، وهذا سرُّ علاقتنا بالأئمَّة من أهل البيت (ع)، وبجدِّهم رسول الله (ص)، أنَّهم يعطوننا إسلاماً نستضيء به في كلِّ مواقع حياتنا.

 
*خطبة الجمعة الأولى لسماحته في مسجد الحسنين (ع)، حارة حريك، بتاريخ: 27-03-1998م.
 


اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية