يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[التّوبة: 36].
واحةٌ للسَّلام
شهر رجب هو من الأشهر الحرم الَّتي أراد الله لها أن تكون أشهر سلام، لأنَّ الله أراد للنَّاس الَّذين يتنازعون ويقتتلون، أيّاً كانت أسباب النّزاع والقتال، أن يعيشوا في هذه الصَّحراء، صحراء الزَّمن كلّه في السَّنة، وصحراء الأرض كلّها في الواقع، أن يعيشوا واحة سلام في المكان والزَّمان، يتفيَّؤون ظلَّها، ويبتعدون عن القتال، ليفكّروا وليتأمَّلوا، لماذا يتقاتلون ويتنازعون، فلعلَّهم إذا ابتعدوا عن الحمَّى الَّتي تعيش في عقولهم وقلوبهم وحياتهم، تحسَّسوا أنَّ القتال لم ينطلق من قاعدة تخدم الإنسان في دنياه وآخرته.
لذلك، جعل الله في الزَّمن واحة سلام في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة الحرام، وذو الحجَّة الحرام، وشهر رجب الحرام، ويسمَّى شهر رجب الفرد، على أساس أنَّه الشَّهر الحرام وحده المنفصل عن الشّهور الأخرى، وقد أراد الله للنَّاس أن لا يتقاتلوا في هذه الأشهر، وأن يعيشوا السَّلام بينهم فيها، إلَّا في حالة الدّفاع عن النَّفس، وفي الحالات الّتي تتطوَّر فيها الأمور إلى المستوى الَّذي تكون مصلحة المسلمين في القتال أكبر من مصلحة المحافظة على حرمة الشَّهر.
وهناك أيضاً واحة سلام في المكان، وهي الحرم، والله جعل مكَّة وما حولها البلد الحرام الَّذي أراد الله للنَّاس أن يعيشوا فيه بسلام، حتى إنَّ الإنسان إذا رأى قاتل أبيه، فعليه أن لا يقتله هناك.
وقد ورد عندنا في السنَّة الشَّريفة أنَّ لهذا الشَّهر خصائص عباديَّة، من خلال ما حشد الله فيه، مما روي عن رسول الله (ص)، ومما حدَّثنا به الأئمَّة (ع) عن رسول الله (ص)، في صوم هذا الشَّهر، وفي صلوات هذا الشَّهر، وفي الاستغفار فيه، وقد ورد عن رسول الله (ص): "رَجَب شَهْرَ الاستِغْفَارِ لِأُمَّتي، فَأَكْثِرُوا فِيهِ الاستغفارَ، فإنَّهُ غَفُورٌ رَحِيْمٌ، ويسمَّى الرَّجَبَ الأَصَبَّ، لأنَّ الرَّحْمَةَ عَلَى أُمَّتِي تُصَبُّ فِيهِ صَبّاً، فَاسْتَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: أَسْتَغْفِرُ الله وَأَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ".
وجاء عن النَّبيّ (ص) فيما روي عنه: "رَجَب شَهْرُ الله، وَشَعْبَانُ شَهْرِي، وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتي، أَلَا فَمَنْ صَامَ مِنْ رَجَب يَوْمًا، اسْتَوْجَبَ رضْوَانَ اللهِ الأَكبرَ، وابْتَعَدَ عَنْ غَضَبِ اللهِ، وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ".
مناسباتُ الشَّهر
ونحن أيضاً نستقبل في شهر رجب، اليومَ الَّذي أسري فيه بالنَّبيّ (ص) إلى بيت المقدس وعرج به إلى السَّماء، واليوم الَّذي بُعِثَ فيه النَّبيّ (ص)، مما جاءت به بعض الرّوايات، كما نستقبل فيه أكثر من مناسبة من مناسبات الأئمَّة من أهل البيت (ع)، وهي مولد الإمامين محمَّد الباقر وعليّ الهادي، ووفاة الإمام الهادي، ومولد الإمام عليّ، ووفاة الإمام الكاظم (عليهم السّلام)، وبهذا كان هذا الشَّهر مليئاً بالرّوح الرّوحانيَّة، وبالجانب العباديّ، وبروح السَّلام، وبالمناسبات الإسلاميَّة الموحية الَّتي تجعلنا نتحسَّس كلّ حركيَّة الإسلام في هذا الشَّهر، لنعيش فيه الإسلام عقلاً وروحاً وحركةً في مواجهة الكفر كلّه، وفي مواجهة الاستكبار كلّه.
مسؤوليَّةُ الوحدة
وإذا أردنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الإسلام في هذا الشَّهر، فإنَّ علينا أن نفهم جيّداً أنَّ صدق إسلامنا هو أن نعيش في الواقع الإسلاميّ كلّه روح المحبَّة للمسلمين، وروح الرَّحمة لهم، وروح الوحدة فيما بينهم، لأنَّ إحساس الإنسان بإسلامه، يجعلُهُ يعيش الإحساسَ الواعيَ بمسؤوليَّته، لا عن الإسلام في الكتاب والسنَّة فحسب، بل أن يعيش مسؤوليَّته عن الإسلام في المسلمين، بأن نعيش كلَّ قضاياهم وكلَّ أوضاعهم، أن نعيش واقع الجهل في المسلمين، لنسعى إلى أن نحوّله إلى حالة علم، ونسعى إذا عشنا أوضاع التخلّف في المسلمين، أن نعمل على إنقاذهم من هذا التخلّف إلى حركة التقدّم والوعي، وإذا رأينا أنَّ هناك تمزّقاً في الواقع الإسلاميّ، فعلينا أن نعمل جميعاً من أجل أن يتوحَّد المسلمون ولا يتحاربوا. وهكذا، إذا انطلقنا في الواقع، ورأينا في المسلمين ضلالاً وانحرافاً مما يَتَّهم به المسلمون بعضهم بعضاً، بانحراف هذا، وبضلال ذاك، فإنَّ علينا أن نأخذ بقول الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}[النّساء: 59]، لأنَّ قوَّة الإسلام بقوَّة المسلمين، ولأنَّ انطلاقة الإسلام إنَّما تكون بانطلاقة المسلمين صفّاً واحداً كأنّهم بنيانٌ مرصوص.
ولعلَّ من المؤسف جدّاً، أنَّنا ونحن نعيش في الشَّهر الحرام، هذا الشَّهر الَّذي حرَّم الله فيه القتال حتَّى مع الكافرين، إلَّا إذا اعتدوا علينا فيه، إنَّ المؤسف أنَّ المسلمين يعملون على أساس أن يحلّلوا القتال فيما بينهم ويحرّموا القتال مع العدوّ، فنحن نعيش في الواقع الإسلاميّ كلّه الدَّعوة إلى ما يسمَّى بالسَّلام مع اليهود، والله قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82]، إنَّنا ندعو إلى السَّلام معهم، ونحن نعرف أنَّه لا سلام معهم ما داموا يحتلّون أرضنا، وما داموا يهدّدون أمننا واقتصادنا وسياستنا، ولكنَّنا في الوقت نفسه، نسمع بينَ وقتٍ وآخر تهديداً بالحرب بينَ موقع إسلاميٍّ وموقعٍ إسلاميّ آخر، وجماعة إسلاميَّة وجماعة إسلاميَّة أخرى، ونعمل على أساس كلّ الأحقاد الَّتي تحملها جماعة إسلاميَّة عن جماعة إسلاميَّة أخرى، بينما نقول عن المشركين: {هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النّساء: 51]!
شهرُ الرّوحانيَّة والاستغفار
أيُّها الأحبَّة، في شهر الله الحرام، في شهر العبادة في الصَّلاة والصّيام، في شهر الرّوحانيَّة، في شهر الاستغفار، علينا أن نكثر من الاستغفار لله من كلّ ما نمارسه من ذنوبٍ ومعصية في كلّ أوضاعنا؛ أن نستغفره تعالى من كلّ هذه العداوة الضَّاربة أطنابها فيما بيننا على أساس أمور طارئة، ومن كلّ هذا التّمزّق بين المسلمين الَّذي نعمل على أن نوسّعه ونقوّيه ونجعله واقعاً إسلاميّاً عامّاً، أن نستغفره من كلّ هذا الحقد الَّذي يحمله هذا المسلم ضدّ المسلم انطلاقاً من حالة حزبيَّة أو سياسيَّة أو طائفيَّة. إنَّ الله حرَّم القتال في هذا الشَّهر، لأنَّه يريد للنَّاس أن يفكّروا في السَّلام الرّوحيّ والإنسانيّ الاجتماعيّ على الأسس الَّتي يحبّها الله ورسوله، وإنَّ السَّلام يعني أن تفتح قلبك، فلا ينطلق الحقد فيه ضدّ الآخر، بل أن تنطلق المحبَّة فيه للآخر.
الصَّومُ الأكبر
أيُّها الأحبَّة، قد يتقرَّب بعض النَّاس إلى الله - وفي ذلك القربى كلّ القربى - بصوم هذا الشَّهر؛ أن يصوموا عن طعامهم وشرابهم وشهواتهم، ولكن التقرّب الأكبر إليه، أن تصوموا عن الحقد في هذا الشَّهر وعن العداوة فيه، وأن تصوموا عن حمل السّوء للمسلمين فيه، وأن تصوموا عن كلّ ما يربك الواقع الاجتماعيّ بين المسلمين فيه، وأن تصوموا عن التجسّس لأعداء الله، وعن المعاونة للظَّالمين، وعن الكذب مع المؤمنين، وأن تصوموا عن الإيذاء للمؤمنين، أن تصوموا عن ذلك كلّه، لأنَّ قضيَّة الصَّوم في التَّشريع الإسلاميّ، إنّما هو أن يكون صومك عن طعامك وشرابك وشهواتك، وسيلةً من وسائل الصَّوم عن كلّ محرَّمات الله؛ إنَّه الصَّوم الصَّغير الَّذي هو مقدّمة للصَّوم الكبير.
لذلك، لنعرف كيف نصوم الصَّوم الاجتماعيّ، بأن نتبعد عن كلّ ما يفرّق النَّاس بعضهم عن بعض، وأن نصوم الصَّوم السياسيّ، بأن نبتعد عن كلّ ما يقوّي الظَّالمين والمستكبرين، وأن نصوم الصَّوم الأخلاقيّ، بأن نلتزم بكلّ الأخلاق الإيجابيَّة الَّتي أراد الله لنا أن نلتزم بها، وأن نعمل على أن نبتعد عن كلّ الأخلاق الَّتي أراد الله لنا أن نبتعد عنها.
إنَّ هذا الصَّوم هو الصَّوم الَّذي يربط الإنسان بالله ويقرّبه إليه؛ أن يصوم عقلك عن الباطل، وأن يصوم قلبك عن الحقد، وأن تصوم جوارحك عن الشّرّ، وأن تصوم حياتك عن كلّ ظلم، وعن كلّ ما يبعدك عن الله سبحانه وتعالى.
وإذا كنَّا نقف الآن في ذكرى الإمام عليّ بن محمَّد الهادي (ع)، في ذكرى مولده وذكرى وفاته، فإنَّ علينا أن نقف مع بعض كلماته الَّتي أراد لنا أن نعيش فيها القرب من الله، لنعيش فيها القرب مع أنفسنا ومع حياتنا.
التَّوحيدُ في الطّاعة
روي عنه (ع) أنّه قال: "مَنِ اتَّقَى اللهَ يُتَّقَى - فإنَّ الإنسان إذا اتَّقى الله سبحانه وتعالى، غرسَ الله في نفس النَّاس الهيبة له - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ يُطَاعُ - لأنَّ من أصلح بينه وبين الله، أصلح الله بينه وبين النَّاس - وَمَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَم يُبالِ بِسَخَطِ المَخلُوقِينَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَليَيقَنْ أنْ يَحِلَّ بِهِ سَخَطُ المَخلُوقِينَ".
لتكن موحّداً في طاعتك لله سبحانه وتعالى، حاولْ أن تفتحَ عقلَكَ وقلبَكَ وحياتَكَ لله، لتقل يا ربّ، إني عبدك المطيع لك، ولا مشكلة عندي إذا أطعتك وسرت في خطّ طاعتك، لا قيمة عندي أن يسخط النَّاس عليَّ أو أن يرضوا عنّي. ذلك هو خطّ رسول الله (ع) عندما تعسَّف المشركون معه، وعندما ضربوه بالحجارة وشتموه، وقال كلمته الَّتي أرادها أن تكون برنامجاً لكلّ داعية للحقّ، ولكلّ سائر على خطّ الله، ولكلّ مستقيم في درب الله: "إِنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالي"، لأنَّه لا قيمة للمخلوق أمام الخالق، "وَمَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَم يُبالِ بِسَخَطِ المَخلُوقِينَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَليَيقَنْ أنْ يَحِلَّ بِهِ سَخَطُ المَخلُوقِينَ"، لأنَّك عندما تعصي الله لترضي المخلوقين، فإنَّ الله يحوّل وضعك إلى عكس ما تريد، فسوف يسخط عليك المخلوقون عندما تطيعهم وتعصي الله.
وهناك نقطة يمكن أن نستوحيها من هذه الكلمة، فهناك الكثير من النَّاس يتعاملون مع العدوّ، يتجسَّسون لمصلحته، ويساعدونه على أهلهم، ولكنَّك عندما تسمع حديث العدوّ عنهم، ترى أنَّه يحتقرهم، إنَّه يوظّفهم، ولكنَّه يحتقرهم لأنّهم يخونون شعوبهم، ولأنَّهم يعصون ربَّهم. لا تتصوَّر أنَّك إذا خدمت عدوَّك، وإذا تجسَّست على أهلك لحسابه، وإذا انطلقت من أجل أن تتعاون معه ضدَّ أهلك، لا تتصوَّر أنّه يحترمك، إنَّه يحتقرك. لذلك، إنَّ الله سوف يحوّل ما تريده من احترام العدوّ لك إذا عصيت ربَّك، إلى احتقار لك هنا وهناك.
الصَّبرُ على بلاءِ الدّنيا
ثمَّ يحدّثنا (ع) أنَّ علينا أن نصبر على بلاء الدّنيا، وأن نعي طبيعته، وأن نعرف كيف نتحرَّك به، وأن لا نعترض على الله في ذلك، لأنَّ لكلّ شيء ثمناً.
يقول (ع): "إنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، وَالآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى - {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]. إنَّ من طبيعة الحياة في كلّ قضاياها، وفي كلّ أوضاعها، أن يتعب الإنسان فيها، لأنّك إذا لم تتعب، فلن تحصل على شيء، وحتَّى إذا جلست في حالة استرخاء، فسيأتيك البلاء من خلال طبيعة الدّنيا - وَجَعَلَ بَلوَى الدُّنيا لِثَوابِ الآخِرَةِ سَبَباً، وَثَوابَ الآخِرَةِ مِن بَلوَى الدُّنيا عِوَضاً". اصبر على بلاء الله، وحاول أن تكون واعياً في حركة البلاء، أن لا تتنازل عن مواقفك، ولا تبتعد عن خطّك، بل أن تصبر على كلّ مسؤوليَّاتك، حتَّى لو ابتليت أشدَّ البلاء في حركة الرّسالة، فإنَّك ستجد العوض عند الله في ذلك كلّه.
الاستعدادُ للمصيرِ المحتوم
ثمَّ يقول (ع) للإنسان الَّذي يمتدّ أمله في الدنيا، والَّذي يعيش الغفلة عن مسؤوليَّاته أمام الله في دنياه، لا تأمن على نفسك، ولا تستغرق في ما أنت فيه، اذكر وأنت ترى شخصاً يموت هنا وهو بلا حراك بين أهله، "اذْكُرْ مَصْرَعَكَ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِكَ، وَلَا طَبِيبَ يَمْنَعُكَ، وَلَا حَبِيبَ يَنْفَعُكَ"، اذكر السَّاعة الأخيرة من حياتك، وفكّر ماذا بعد السَّاعة الأخيرة، وفكّر كيف تستعدّ لها إذا كنت تعرف أنَّ بعدها ساعات طوالاً تقف فيها غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى لتقدّم كلَّ حسابك، ولتقرأ كلَّ كتابك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس: 34 - 37]، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88].
الخطبة الثَّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ ما تقبلون عليه في مستقبل أيَّامكم، مما يتحرَّك في مسؤوليَّاتكم في الدّنيا، مما كلَّفكم الله به في حياتكم الفرديَّة والاجتماعيَّة، ومما أراده لكم من الجهاد في سبيله؛ الجهاد بالكلمة، والجهاد بالموقف، والجهاد في ساحة الجهاد. اتَّقوا الله في ذلك كلّه، وليكن جهاد النَّفس أكبر الجهاد في حياتكم، لأنَّ المسلمين إذا استطاع كلّ واحد منهم أن يجاهد كلّ نوازع الشَّرّ والحقد في قلبه، وكلّ عوامل الانحراف في عقله، فإنَّه يستطيع أن يكون عنصر خير وحقّ وعدل في كلّ ما يريده الله له، وسوف يعرف كيف يعيش مع المسلمين والمؤمنين كأخ لهم، في كلّ ما يتعاون فيه الأخُ مع أخيه، على مستوى القضايا الفرديَّة والاجتماعيَّة.
هدفُ الاستكبارِ العالميّ
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلّ الواقع الإسلاميّ الَّذي يريد الاستكبار العالميّ أن يجعله واقع الاهتزاز والسّقوط والفوضى والخلاف بين المسلمين، حاولوا أن تعرفوا كيف يتحرَّك الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ ومن معه، من أجل إسقاط كلّ قضايانا، ومن أجل استغلال كلّ نقاط ضعفنا، ومن أجل أن يحوّلنا إلى مزقٍ متناثرة، وأن يدفعنا إلى أن نخرّب بيوتنا بأيدينا، وإلى أن ننشر الفوضى في ساحاتنا.
انظروا كيف يتحرَّك الاستكبار العالميّ في كلّ موقع إسلاميّ، من أجل أن يتحرَّك ليحصل على الثَّروة في مواقع الثَّروات، وليحصل على الموقع الاستراتيجيّ في المواقع الاستراتيجيَّة، لحسابه لا لحسابنا، من أجل رخائه لا من أجل رخائنا.
لذلك، علينا أن نكون الواعين لكلّ ذلك، وأن يعرف كلّ إنسان موقعه، وأن يعرف كلّ إنسان دوره، وأن نعرف أنَّ كلَّ هؤلاء الَّذين نصبهم الاستكبار العالميّ ملوكاً وأمراء ورؤساء على البلاد الإسلاميَّة، ليكونوا موظَّفين عنده، يحرسون مصالحه على حساب مصالح المسلمين، ويعملون لخدمته في مواجهة واقع المسلمين، علينا أن نتعرَّف كلَّ حركاتهم، وكلَّ أساليبهم، وكلَّ أوضاعهم، فلعلَّنا نستطيع أن نتخفَّف من كلّ الضّغوط الَّتي تطبق علينا من كلّ جانب ومكان. وعلينا الآن أن نتعرَّف ماذا هناك.
المؤامرةُ على فلسطين
تقوم الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الآن بالإعداد لاتّفاق فلسطينيّ صهيونيّ في المرحلة الحاضرة، ولكن بطريقة تتوزَّع فيها الأدوار مع إسرائيل، للضَّغط على الفلسطينيّين لتقديم التَّنازلات من أرضهم وأمنهم وحرياتهم وسياستهم، وللخضوع لسيطرة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة في الإشراف على تنفيذ الشّروط الإسرائيليَّة من قبل سلطة الحكم الذَّاتيّ. ومن المصادفات، أنَّه لأوَّل مرَّة في الواقع السياسيّ، تبرز الـ CIA في المفاوضات كعنصر أصيل يضمن لإسرائيل تنفيذ الفلسطينيّين لشروطهم، كأنَّ المخابرات الأمريكيَّة تقول لإسرائيل إنَّنا نضمن أمنكم فيما يجب أن يقوم به الفلسطينيّون ضدّ شعبهم. ومع ذلك، مع كلّ التَّنسيق بين CIA وبين الصّهيونيَّة، فالصّهيونيَّة لا تثق إلَّا بنفسها، ولذلك، فهي تقف لتضمن لنفسها كلَّ الوسائل الَّتي يمكن أن تنفّذها لحماية ما تعتبره أمناً لها، أمَّا نحن، فنعطي أمريكا والمخابرات المركزيَّة أكثر مما تريد، كما قال السَّادات آنذاك، إنَّ أمريكا تملك 99% من الأوراق، وبعضنا يعطي أمريكا أكثر من 100 % إذا كان عنده.
هذا هو الفرق بين الضّعف العربيّ والإسلاميّ في واقع العرب والمسلمين، وبين القوَّة اليهوديَّة، اليهود يأخذون من أمريكا ولكنَّهم لا يعطونها شيئاً إلَّا ما يتَّفق مع مصالحهم، ونحن ندفع لأمريكا شعبنا وثرواتنا وسياستنا على أساس أن لا تغضب أمريكا.
وقصَّة هذه المفاوضات الآن في أمريكا من قبل الفلسطينيّين، هي أنَّ سلطة الحكم الذَّاتيّ تريد أن تنقذ كلينتون من بعض ما وقع فيه من مشاكله الدَّاخليَّة، في الوقت الَّذي يصرّح نتنياهو بأنَّنا لسنا مستعدّين لأن نحلّ مشاكل الآخرين على حساب مصالحنا، أمّا نحن، فنعمل على أساس أن نحلّ مشاكل الرَّئيس الأمريكيّ، ولو أضاف هذا الرّئيس، من خلال ضعفه، ومن خلال ما يريده من تقديم الخدمات لليهود، ولو أضاف إلى مشاكلنا مشاكل، وهكذا انطلق الضّعف العربيّ والفلسطينيّ من أجل أن يسقط أكثر من قضيَّة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على الأردن
وقد عملت أمريكا لتكمل اللّعبة، على إدخال الأردن في عمليَّة الضّغط على الفلسطينيّين، بدعوة الملك حسين للمشاركة في المفاوضات، بالرّغم من مرضه الشَّديد، في الوقت الَّذي تتحدَّث وسائل الإعلام الأمريكيَّة لتخويف الأردن، عن شكوك حول إمكانيَّة بقاء الأردن كدولة بعد الملك حسين، وهو الأمر الَّذي من شأنه أن ينعكس تحركاً أردنيّاً سريعاً لتكثيف الضّغوط على الجانب الفلسطينيّ، مخافة أن يكون الأردن هو الكيان الفلسطينيّ البديل في المستقبل.
القضيّةُ في الدوّامةِ الأمريكيّة
إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تتراجع يوماً بعد يوم، وإنَّ التَّنسيق بين أمريكا وإسرائيل يؤدّي إلى إثارة الفتنة في الشَّارع الفلسطينيّ، من خلال ملاحقة سلطة الحكم الذَّاتيّ للمجاهدين من رجال الانتفاضة باسم مكافحة الإرهاب.
ويبقى الفلسطينيّون في سياسة الدوَّامة الأمريكيَّة الَّتي تعمل على حلّ مشاكلها الدَّاخليَّة على حساب الفلسطينيّين، في الوقت الَّذي يستعدّ الكونغرس الأمريكي لإصدار قرار برفض إقامة الدَّولة الفلسطينيَّة، بعد قراره السَّابق باعتبار القدس عاصمة أبديَّة لإسرائيل.
إنَّ على العالم العربيّ والإسلاميّ، أن يشعر بالمسؤوليَّة لإنقاذ القضيَّة الفلسطينيَّة من الضّياع، ومن الوقوع في متاهات الضّغوط الأمريكيَّة والإسرائيليَّة على أكثر من صعيد، وعلى الفلسطينيّين أن يدركوا أنَّ هناك أكثر من فخّ سياسيّ وأمنيّ ينصب لهم في هذه المفاوضات لإسقاط الحاضر والمستقبل. ولذلك، فإنَّنا ندعوهم، ولا سيَّما الإسلاميّين منهم، إلى المزيد من اللُّحمة في الدَّاخل، والعمل لتقويض خطط التَّآمر، لتقوية الانتفاضة، ولتصعيد الجهاد ضدّ المحتلّين، وهو ما يقوم به المجاهدون من خلال العمليَّة الَّتي حصلت مؤخّراً في بئر السَّبع، وقبلها القدس.
تراجعُ التَّهديدِ التّركيّ
وفي هذا الجوّ، نلاحظ أنَّ الضَّجَّة التركيَّة المفتعلة بالتَّهديدات الموجَّهة إلى سوريا قد هدأت، بفعل الطَّريقة العقلانيَّة الَّتي أدارت بها سوريا الأزمة، بالبعد عن سياسة الانفعال الَّتي تتحرَّك بذهنيَّة ردّ الفعل، وبعد انكشاف الأهداف الَّتي سعى النّظام التركيّ للوصول إليها.
إنَّ على تركيا أن تعرف أنَّ اختيارها إبدالها هويَّتها الإسلاميَّة بالهويَّة الأوروبيَّة الَّتي ترفضها أوروبّا، وإضعاف علاقاتها بمحطيها العربيّ والإسلاميّ، بتقوية علاقاتها بإسرائيل، لن يحقّق لها شيئاً كبيراً على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، وأنَّ مصلحتها هي في العودة إلى مواقعها الإسلاميَّة وعلاقاتها العربيَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقّق لها وللمنطقة الاستقرار.
وبالمناسبة، فإنَّ الحديث المتكرّر عن تنسيق تركيّ إسرائيليّ أردنيّ، لن يفيد الأردن شيئاً، بل يؤدّي به إلى مزيدٍ من الاهتزاز الدَّاخليّ والخارجيّ، ولا سيَّما أمام الأخبار الّتي تتحدَّث بأنَّه يعطي إسرائيل عمقاً أمنيّاً عسكريّاً لمصلحة الأمن الإسرائيليّ ضدّ الأمن العربيّ.
ضغوطٌ على إيران
وليس بعيداً من ذلك، لا تزال أمريكا تلاحق إيران بالضَّغوط على أكثر من دولة، بمنع المساعدات عنها إذا قدَّمت إلى إيران أيّ خبرة فنيَّة أو تكنولوجيَّة عسكريَّة، وهذا ما قرأناه في تهديدها لروسيا بمنع بعض المساعدات الأمريكيَّة عنها على هذا الأساس.
إنَّنا نعتقد أنَّ أمريكا لن تنجح في هذه الضّغوط، بل قد تواجه أكثر من موقف سلبيّ ضدّ سياستها، لأنَّ للدول، ولا سيَّما روسيا، كرامتها ومصالحها الحيويَّة في علاقتها الاقتصاديَّة بإيران، الدَّولة الكبرى المهمَّة في المنطقة.
تصعيدٌ في العدوان
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوان الإسرائيليَّ لا يزال يتصاعد في الجنوب، حيث تضاعفت الاعتداءات الصّهيونيَّة على المدنيّين، والَّتي طالت عدداً من البلدات في جبل عامل بشكل مباشر، من دون مناسبة مما كان يتذرَّع به الاحتلال من عمليَّات المقاومة أو قصفها وما إلى ذلك. إنَّ هذا الوضع يؤكّد أنَّ العدوَّ يتململ ولا يشعر بالارتياح، سواء من ناحية الدَّور الَّذي تقوم به المقاومة في مطاردة جنوده والعملاء، أو لناحية الوضع الدَّاخلي في لبنان، من خلال بعض التطوّرات الأخيرة الَّتي لم تلق قبولاً من العدوّ، ولا سيَّما في الدَّور الَّذي يقوم به الجيش اللّبنانيّ في التَّنسيق مع المقاومة، وفي إيمانه بقضيَّة التَّحرير.
التَّعاونُ لمصلحةِ البلد
وأخيراً، إنَّنا نريد من الشَّعب اللّبنانيّ أن لا يغرق في المشاكل غير الواقعيَّة، لأنَّ المشاكل الصَّعبة في البلد، بحاجة إلى الكثير من التَّخطيط والتَّضامن والتَّعاون والتَّطهير الإداريّ، والخروج من الدَّوَّامة السياسيَّة الَّتي يعيشها البلد، ومن الاهتراء السياسيّ والاقتصاديّ، وهذا ما لا يستطيع شخص أن يقوم به، مهما كانت قوَّته، ومهما كانت نظافته، لأنَّه لا بدَّ أن ينطلق من وجود واقع سياسيّ واقتصاديّ يتعاون فيه الجميع على حلّ المشاكل الصَّعبة المزمنة الَّتي عاشها لبنان في الحرب وبعدها، والَّتي تعيشها المنطقة في أكثر من مشكلة اقتصاديَّة وسياسيَّة وأمنيَّة.
لقد تعوَّد اللّبنانيّون في كلّ عهد أن ينطلقوا بالمدح والثَّناء بشكلٍ غير متوازن. إنَّنا نقول، أيُّها النَّاس، لا تعطوا المسؤول مدحاً، ولكن أعطوه نصحاً، لأنَّ المدح ربَّما يسيء إلى طبيعة نظرة المسؤول إلى نفسه، أمَّا النُّصح، فإنَّه يعرّفه طبيعة المشاكل الَّتي يعيش فيها، ويعرّفه طبيعة الحلول الَّتي ينبغي أن يعمل لها.
إنَّ المسؤولين في الحاضر والمستقبل، بحاجةٍ إلى النُّصح أكثر مما هم بحاجة إلى المدح، وإنَّ التَّفاؤل بالوضع الجديد، لا بدَّ أن يخضع للمزيد من الواقعيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة، حتَّى لا يُثقِلَ النَّاسَ القائمينَ على المسؤوليَّة بالأحلام الخياليَّة المغرقة في الضّباب.
إنّنَا نتمنَّى للعهد الجديد التحرّك في اتجاه التَّخطيط الواعي المدروس للمشاكل العالقة في البلد، من خلال فريق عملٍ مسؤولٍ بعيدٍ من ذهنيَّة الاستغلال، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقّق النَّجاح للعهد وللبلاد، ولا بدَّ من الصَّبر المسؤول المنفتح على الحلول الواقعيَّة الَّتي تحتاج إلى المزيد من الجهد والوقت والإخلاص.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 23/10/1998م.
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[التّوبة: 36].
واحةٌ للسَّلام
شهر رجب هو من الأشهر الحرم الَّتي أراد الله لها أن تكون أشهر سلام، لأنَّ الله أراد للنَّاس الَّذين يتنازعون ويقتتلون، أيّاً كانت أسباب النّزاع والقتال، أن يعيشوا في هذه الصَّحراء، صحراء الزَّمن كلّه في السَّنة، وصحراء الأرض كلّها في الواقع، أن يعيشوا واحة سلام في المكان والزَّمان، يتفيَّؤون ظلَّها، ويبتعدون عن القتال، ليفكّروا وليتأمَّلوا، لماذا يتقاتلون ويتنازعون، فلعلَّهم إذا ابتعدوا عن الحمَّى الَّتي تعيش في عقولهم وقلوبهم وحياتهم، تحسَّسوا أنَّ القتال لم ينطلق من قاعدة تخدم الإنسان في دنياه وآخرته.
لذلك، جعل الله في الزَّمن واحة سلام في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة الحرام، وذو الحجَّة الحرام، وشهر رجب الحرام، ويسمَّى شهر رجب الفرد، على أساس أنَّه الشَّهر الحرام وحده المنفصل عن الشّهور الأخرى، وقد أراد الله للنَّاس أن لا يتقاتلوا في هذه الأشهر، وأن يعيشوا السَّلام بينهم فيها، إلَّا في حالة الدّفاع عن النَّفس، وفي الحالات الّتي تتطوَّر فيها الأمور إلى المستوى الَّذي تكون مصلحة المسلمين في القتال أكبر من مصلحة المحافظة على حرمة الشَّهر.
وهناك أيضاً واحة سلام في المكان، وهي الحرم، والله جعل مكَّة وما حولها البلد الحرام الَّذي أراد الله للنَّاس أن يعيشوا فيه بسلام، حتى إنَّ الإنسان إذا رأى قاتل أبيه، فعليه أن لا يقتله هناك.
وقد ورد عندنا في السنَّة الشَّريفة أنَّ لهذا الشَّهر خصائص عباديَّة، من خلال ما حشد الله فيه، مما روي عن رسول الله (ص)، ومما حدَّثنا به الأئمَّة (ع) عن رسول الله (ص)، في صوم هذا الشَّهر، وفي صلوات هذا الشَّهر، وفي الاستغفار فيه، وقد ورد عن رسول الله (ص): "رَجَب شَهْرَ الاستِغْفَارِ لِأُمَّتي، فَأَكْثِرُوا فِيهِ الاستغفارَ، فإنَّهُ غَفُورٌ رَحِيْمٌ، ويسمَّى الرَّجَبَ الأَصَبَّ، لأنَّ الرَّحْمَةَ عَلَى أُمَّتِي تُصَبُّ فِيهِ صَبّاً، فَاسْتَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: أَسْتَغْفِرُ الله وَأَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ".
وجاء عن النَّبيّ (ص) فيما روي عنه: "رَجَب شَهْرُ الله، وَشَعْبَانُ شَهْرِي، وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتي، أَلَا فَمَنْ صَامَ مِنْ رَجَب يَوْمًا، اسْتَوْجَبَ رضْوَانَ اللهِ الأَكبرَ، وابْتَعَدَ عَنْ غَضَبِ اللهِ، وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ".
مناسباتُ الشَّهر
ونحن أيضاً نستقبل في شهر رجب، اليومَ الَّذي أسري فيه بالنَّبيّ (ص) إلى بيت المقدس وعرج به إلى السَّماء، واليوم الَّذي بُعِثَ فيه النَّبيّ (ص)، مما جاءت به بعض الرّوايات، كما نستقبل فيه أكثر من مناسبة من مناسبات الأئمَّة من أهل البيت (ع)، وهي مولد الإمامين محمَّد الباقر وعليّ الهادي، ووفاة الإمام الهادي، ومولد الإمام عليّ، ووفاة الإمام الكاظم (عليهم السّلام)، وبهذا كان هذا الشَّهر مليئاً بالرّوح الرّوحانيَّة، وبالجانب العباديّ، وبروح السَّلام، وبالمناسبات الإسلاميَّة الموحية الَّتي تجعلنا نتحسَّس كلّ حركيَّة الإسلام في هذا الشَّهر، لنعيش فيه الإسلام عقلاً وروحاً وحركةً في مواجهة الكفر كلّه، وفي مواجهة الاستكبار كلّه.
مسؤوليَّةُ الوحدة
وإذا أردنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيش الإسلام في هذا الشَّهر، فإنَّ علينا أن نفهم جيّداً أنَّ صدق إسلامنا هو أن نعيش في الواقع الإسلاميّ كلّه روح المحبَّة للمسلمين، وروح الرَّحمة لهم، وروح الوحدة فيما بينهم، لأنَّ إحساس الإنسان بإسلامه، يجعلُهُ يعيش الإحساسَ الواعيَ بمسؤوليَّته، لا عن الإسلام في الكتاب والسنَّة فحسب، بل أن يعيش مسؤوليَّته عن الإسلام في المسلمين، بأن نعيش كلَّ قضاياهم وكلَّ أوضاعهم، أن نعيش واقع الجهل في المسلمين، لنسعى إلى أن نحوّله إلى حالة علم، ونسعى إذا عشنا أوضاع التخلّف في المسلمين، أن نعمل على إنقاذهم من هذا التخلّف إلى حركة التقدّم والوعي، وإذا رأينا أنَّ هناك تمزّقاً في الواقع الإسلاميّ، فعلينا أن نعمل جميعاً من أجل أن يتوحَّد المسلمون ولا يتحاربوا. وهكذا، إذا انطلقنا في الواقع، ورأينا في المسلمين ضلالاً وانحرافاً مما يَتَّهم به المسلمون بعضهم بعضاً، بانحراف هذا، وبضلال ذاك، فإنَّ علينا أن نأخذ بقول الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول}[النّساء: 59]، لأنَّ قوَّة الإسلام بقوَّة المسلمين، ولأنَّ انطلاقة الإسلام إنَّما تكون بانطلاقة المسلمين صفّاً واحداً كأنّهم بنيانٌ مرصوص.
ولعلَّ من المؤسف جدّاً، أنَّنا ونحن نعيش في الشَّهر الحرام، هذا الشَّهر الَّذي حرَّم الله فيه القتال حتَّى مع الكافرين، إلَّا إذا اعتدوا علينا فيه، إنَّ المؤسف أنَّ المسلمين يعملون على أساس أن يحلّلوا القتال فيما بينهم ويحرّموا القتال مع العدوّ، فنحن نعيش في الواقع الإسلاميّ كلّه الدَّعوة إلى ما يسمَّى بالسَّلام مع اليهود، والله قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82]، إنَّنا ندعو إلى السَّلام معهم، ونحن نعرف أنَّه لا سلام معهم ما داموا يحتلّون أرضنا، وما داموا يهدّدون أمننا واقتصادنا وسياستنا، ولكنَّنا في الوقت نفسه، نسمع بينَ وقتٍ وآخر تهديداً بالحرب بينَ موقع إسلاميٍّ وموقعٍ إسلاميّ آخر، وجماعة إسلاميَّة وجماعة إسلاميَّة أخرى، ونعمل على أساس كلّ الأحقاد الَّتي تحملها جماعة إسلاميَّة عن جماعة إسلاميَّة أخرى، بينما نقول عن المشركين: {هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النّساء: 51]!
شهرُ الرّوحانيَّة والاستغفار
أيُّها الأحبَّة، في شهر الله الحرام، في شهر العبادة في الصَّلاة والصّيام، في شهر الرّوحانيَّة، في شهر الاستغفار، علينا أن نكثر من الاستغفار لله من كلّ ما نمارسه من ذنوبٍ ومعصية في كلّ أوضاعنا؛ أن نستغفره تعالى من كلّ هذه العداوة الضَّاربة أطنابها فيما بيننا على أساس أمور طارئة، ومن كلّ هذا التّمزّق بين المسلمين الَّذي نعمل على أن نوسّعه ونقوّيه ونجعله واقعاً إسلاميّاً عامّاً، أن نستغفره من كلّ هذا الحقد الَّذي يحمله هذا المسلم ضدّ المسلم انطلاقاً من حالة حزبيَّة أو سياسيَّة أو طائفيَّة. إنَّ الله حرَّم القتال في هذا الشَّهر، لأنَّه يريد للنَّاس أن يفكّروا في السَّلام الرّوحيّ والإنسانيّ الاجتماعيّ على الأسس الَّتي يحبّها الله ورسوله، وإنَّ السَّلام يعني أن تفتح قلبك، فلا ينطلق الحقد فيه ضدّ الآخر، بل أن تنطلق المحبَّة فيه للآخر.
الصَّومُ الأكبر
أيُّها الأحبَّة، قد يتقرَّب بعض النَّاس إلى الله - وفي ذلك القربى كلّ القربى - بصوم هذا الشَّهر؛ أن يصوموا عن طعامهم وشرابهم وشهواتهم، ولكن التقرّب الأكبر إليه، أن تصوموا عن الحقد في هذا الشَّهر وعن العداوة فيه، وأن تصوموا عن حمل السّوء للمسلمين فيه، وأن تصوموا عن كلّ ما يربك الواقع الاجتماعيّ بين المسلمين فيه، وأن تصوموا عن التجسّس لأعداء الله، وعن المعاونة للظَّالمين، وعن الكذب مع المؤمنين، وأن تصوموا عن الإيذاء للمؤمنين، أن تصوموا عن ذلك كلّه، لأنَّ قضيَّة الصَّوم في التَّشريع الإسلاميّ، إنّما هو أن يكون صومك عن طعامك وشرابك وشهواتك، وسيلةً من وسائل الصَّوم عن كلّ محرَّمات الله؛ إنَّه الصَّوم الصَّغير الَّذي هو مقدّمة للصَّوم الكبير.
لذلك، لنعرف كيف نصوم الصَّوم الاجتماعيّ، بأن نتبعد عن كلّ ما يفرّق النَّاس بعضهم عن بعض، وأن نصوم الصَّوم السياسيّ، بأن نبتعد عن كلّ ما يقوّي الظَّالمين والمستكبرين، وأن نصوم الصَّوم الأخلاقيّ، بأن نلتزم بكلّ الأخلاق الإيجابيَّة الَّتي أراد الله لنا أن نلتزم بها، وأن نعمل على أن نبتعد عن كلّ الأخلاق الَّتي أراد الله لنا أن نبتعد عنها.
إنَّ هذا الصَّوم هو الصَّوم الَّذي يربط الإنسان بالله ويقرّبه إليه؛ أن يصوم عقلك عن الباطل، وأن يصوم قلبك عن الحقد، وأن تصوم جوارحك عن الشّرّ، وأن تصوم حياتك عن كلّ ظلم، وعن كلّ ما يبعدك عن الله سبحانه وتعالى.
وإذا كنَّا نقف الآن في ذكرى الإمام عليّ بن محمَّد الهادي (ع)، في ذكرى مولده وذكرى وفاته، فإنَّ علينا أن نقف مع بعض كلماته الَّتي أراد لنا أن نعيش فيها القرب من الله، لنعيش فيها القرب مع أنفسنا ومع حياتنا.
التَّوحيدُ في الطّاعة
روي عنه (ع) أنّه قال: "مَنِ اتَّقَى اللهَ يُتَّقَى - فإنَّ الإنسان إذا اتَّقى الله سبحانه وتعالى، غرسَ الله في نفس النَّاس الهيبة له - وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ يُطَاعُ - لأنَّ من أصلح بينه وبين الله، أصلح الله بينه وبين النَّاس - وَمَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَم يُبالِ بِسَخَطِ المَخلُوقِينَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَليَيقَنْ أنْ يَحِلَّ بِهِ سَخَطُ المَخلُوقِينَ".
لتكن موحّداً في طاعتك لله سبحانه وتعالى، حاولْ أن تفتحَ عقلَكَ وقلبَكَ وحياتَكَ لله، لتقل يا ربّ، إني عبدك المطيع لك، ولا مشكلة عندي إذا أطعتك وسرت في خطّ طاعتك، لا قيمة عندي أن يسخط النَّاس عليَّ أو أن يرضوا عنّي. ذلك هو خطّ رسول الله (ع) عندما تعسَّف المشركون معه، وعندما ضربوه بالحجارة وشتموه، وقال كلمته الَّتي أرادها أن تكون برنامجاً لكلّ داعية للحقّ، ولكلّ سائر على خطّ الله، ولكلّ مستقيم في درب الله: "إِنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالي"، لأنَّه لا قيمة للمخلوق أمام الخالق، "وَمَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَم يُبالِ بِسَخَطِ المَخلُوقِينَ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَليَيقَنْ أنْ يَحِلَّ بِهِ سَخَطُ المَخلُوقِينَ"، لأنَّك عندما تعصي الله لترضي المخلوقين، فإنَّ الله يحوّل وضعك إلى عكس ما تريد، فسوف يسخط عليك المخلوقون عندما تطيعهم وتعصي الله.
وهناك نقطة يمكن أن نستوحيها من هذه الكلمة، فهناك الكثير من النَّاس يتعاملون مع العدوّ، يتجسَّسون لمصلحته، ويساعدونه على أهلهم، ولكنَّك عندما تسمع حديث العدوّ عنهم، ترى أنَّه يحتقرهم، إنَّه يوظّفهم، ولكنَّه يحتقرهم لأنّهم يخونون شعوبهم، ولأنَّهم يعصون ربَّهم. لا تتصوَّر أنَّك إذا خدمت عدوَّك، وإذا تجسَّست على أهلك لحسابه، وإذا انطلقت من أجل أن تتعاون معه ضدَّ أهلك، لا تتصوَّر أنّه يحترمك، إنَّه يحتقرك. لذلك، إنَّ الله سوف يحوّل ما تريده من احترام العدوّ لك إذا عصيت ربَّك، إلى احتقار لك هنا وهناك.
الصَّبرُ على بلاءِ الدّنيا
ثمَّ يحدّثنا (ع) أنَّ علينا أن نصبر على بلاء الدّنيا، وأن نعي طبيعته، وأن نعرف كيف نتحرَّك به، وأن لا نعترض على الله في ذلك، لأنَّ لكلّ شيء ثمناً.
يقول (ع): "إنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، وَالآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى - {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]. إنَّ من طبيعة الحياة في كلّ قضاياها، وفي كلّ أوضاعها، أن يتعب الإنسان فيها، لأنّك إذا لم تتعب، فلن تحصل على شيء، وحتَّى إذا جلست في حالة استرخاء، فسيأتيك البلاء من خلال طبيعة الدّنيا - وَجَعَلَ بَلوَى الدُّنيا لِثَوابِ الآخِرَةِ سَبَباً، وَثَوابَ الآخِرَةِ مِن بَلوَى الدُّنيا عِوَضاً". اصبر على بلاء الله، وحاول أن تكون واعياً في حركة البلاء، أن لا تتنازل عن مواقفك، ولا تبتعد عن خطّك، بل أن تصبر على كلّ مسؤوليَّاتك، حتَّى لو ابتليت أشدَّ البلاء في حركة الرّسالة، فإنَّك ستجد العوض عند الله في ذلك كلّه.
الاستعدادُ للمصيرِ المحتوم
ثمَّ يقول (ع) للإنسان الَّذي يمتدّ أمله في الدنيا، والَّذي يعيش الغفلة عن مسؤوليَّاته أمام الله في دنياه، لا تأمن على نفسك، ولا تستغرق في ما أنت فيه، اذكر وأنت ترى شخصاً يموت هنا وهو بلا حراك بين أهله، "اذْكُرْ مَصْرَعَكَ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِكَ، وَلَا طَبِيبَ يَمْنَعُكَ، وَلَا حَبِيبَ يَنْفَعُكَ"، اذكر السَّاعة الأخيرة من حياتك، وفكّر ماذا بعد السَّاعة الأخيرة، وفكّر كيف تستعدّ لها إذا كنت تعرف أنَّ بعدها ساعات طوالاً تقف فيها غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى لتقدّم كلَّ حسابك، ولتقرأ كلَّ كتابك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس: 34 - 37]، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88].
الخطبة الثَّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ ما تقبلون عليه في مستقبل أيَّامكم، مما يتحرَّك في مسؤوليَّاتكم في الدّنيا، مما كلَّفكم الله به في حياتكم الفرديَّة والاجتماعيَّة، ومما أراده لكم من الجهاد في سبيله؛ الجهاد بالكلمة، والجهاد بالموقف، والجهاد في ساحة الجهاد. اتَّقوا الله في ذلك كلّه، وليكن جهاد النَّفس أكبر الجهاد في حياتكم، لأنَّ المسلمين إذا استطاع كلّ واحد منهم أن يجاهد كلّ نوازع الشَّرّ والحقد في قلبه، وكلّ عوامل الانحراف في عقله، فإنَّه يستطيع أن يكون عنصر خير وحقّ وعدل في كلّ ما يريده الله له، وسوف يعرف كيف يعيش مع المسلمين والمؤمنين كأخ لهم، في كلّ ما يتعاون فيه الأخُ مع أخيه، على مستوى القضايا الفرديَّة والاجتماعيَّة.
هدفُ الاستكبارِ العالميّ
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلّ الواقع الإسلاميّ الَّذي يريد الاستكبار العالميّ أن يجعله واقع الاهتزاز والسّقوط والفوضى والخلاف بين المسلمين، حاولوا أن تعرفوا كيف يتحرَّك الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ ومن معه، من أجل إسقاط كلّ قضايانا، ومن أجل استغلال كلّ نقاط ضعفنا، ومن أجل أن يحوّلنا إلى مزقٍ متناثرة، وأن يدفعنا إلى أن نخرّب بيوتنا بأيدينا، وإلى أن ننشر الفوضى في ساحاتنا.
انظروا كيف يتحرَّك الاستكبار العالميّ في كلّ موقع إسلاميّ، من أجل أن يتحرَّك ليحصل على الثَّروة في مواقع الثَّروات، وليحصل على الموقع الاستراتيجيّ في المواقع الاستراتيجيَّة، لحسابه لا لحسابنا، من أجل رخائه لا من أجل رخائنا.
لذلك، علينا أن نكون الواعين لكلّ ذلك، وأن يعرف كلّ إنسان موقعه، وأن يعرف كلّ إنسان دوره، وأن نعرف أنَّ كلَّ هؤلاء الَّذين نصبهم الاستكبار العالميّ ملوكاً وأمراء ورؤساء على البلاد الإسلاميَّة، ليكونوا موظَّفين عنده، يحرسون مصالحه على حساب مصالح المسلمين، ويعملون لخدمته في مواجهة واقع المسلمين، علينا أن نتعرَّف كلَّ حركاتهم، وكلَّ أساليبهم، وكلَّ أوضاعهم، فلعلَّنا نستطيع أن نتخفَّف من كلّ الضّغوط الَّتي تطبق علينا من كلّ جانب ومكان. وعلينا الآن أن نتعرَّف ماذا هناك.
المؤامرةُ على فلسطين
تقوم الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الآن بالإعداد لاتّفاق فلسطينيّ صهيونيّ في المرحلة الحاضرة، ولكن بطريقة تتوزَّع فيها الأدوار مع إسرائيل، للضَّغط على الفلسطينيّين لتقديم التَّنازلات من أرضهم وأمنهم وحرياتهم وسياستهم، وللخضوع لسيطرة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة في الإشراف على تنفيذ الشّروط الإسرائيليَّة من قبل سلطة الحكم الذَّاتيّ. ومن المصادفات، أنَّه لأوَّل مرَّة في الواقع السياسيّ، تبرز الـ CIA في المفاوضات كعنصر أصيل يضمن لإسرائيل تنفيذ الفلسطينيّين لشروطهم، كأنَّ المخابرات الأمريكيَّة تقول لإسرائيل إنَّنا نضمن أمنكم فيما يجب أن يقوم به الفلسطينيّون ضدّ شعبهم. ومع ذلك، مع كلّ التَّنسيق بين CIA وبين الصّهيونيَّة، فالصّهيونيَّة لا تثق إلَّا بنفسها، ولذلك، فهي تقف لتضمن لنفسها كلَّ الوسائل الَّتي يمكن أن تنفّذها لحماية ما تعتبره أمناً لها، أمَّا نحن، فنعطي أمريكا والمخابرات المركزيَّة أكثر مما تريد، كما قال السَّادات آنذاك، إنَّ أمريكا تملك 99% من الأوراق، وبعضنا يعطي أمريكا أكثر من 100 % إذا كان عنده.
هذا هو الفرق بين الضّعف العربيّ والإسلاميّ في واقع العرب والمسلمين، وبين القوَّة اليهوديَّة، اليهود يأخذون من أمريكا ولكنَّهم لا يعطونها شيئاً إلَّا ما يتَّفق مع مصالحهم، ونحن ندفع لأمريكا شعبنا وثرواتنا وسياستنا على أساس أن لا تغضب أمريكا.
وقصَّة هذه المفاوضات الآن في أمريكا من قبل الفلسطينيّين، هي أنَّ سلطة الحكم الذَّاتيّ تريد أن تنقذ كلينتون من بعض ما وقع فيه من مشاكله الدَّاخليَّة، في الوقت الَّذي يصرّح نتنياهو بأنَّنا لسنا مستعدّين لأن نحلّ مشاكل الآخرين على حساب مصالحنا، أمّا نحن، فنعمل على أساس أن نحلّ مشاكل الرَّئيس الأمريكيّ، ولو أضاف هذا الرّئيس، من خلال ضعفه، ومن خلال ما يريده من تقديم الخدمات لليهود، ولو أضاف إلى مشاكلنا مشاكل، وهكذا انطلق الضّعف العربيّ والفلسطينيّ من أجل أن يسقط أكثر من قضيَّة.
ضغطٌ أمريكيٌّ على الأردن
وقد عملت أمريكا لتكمل اللّعبة، على إدخال الأردن في عمليَّة الضّغط على الفلسطينيّين، بدعوة الملك حسين للمشاركة في المفاوضات، بالرّغم من مرضه الشَّديد، في الوقت الَّذي تتحدَّث وسائل الإعلام الأمريكيَّة لتخويف الأردن، عن شكوك حول إمكانيَّة بقاء الأردن كدولة بعد الملك حسين، وهو الأمر الَّذي من شأنه أن ينعكس تحركاً أردنيّاً سريعاً لتكثيف الضّغوط على الجانب الفلسطينيّ، مخافة أن يكون الأردن هو الكيان الفلسطينيّ البديل في المستقبل.
القضيّةُ في الدوّامةِ الأمريكيّة
إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تتراجع يوماً بعد يوم، وإنَّ التَّنسيق بين أمريكا وإسرائيل يؤدّي إلى إثارة الفتنة في الشَّارع الفلسطينيّ، من خلال ملاحقة سلطة الحكم الذَّاتيّ للمجاهدين من رجال الانتفاضة باسم مكافحة الإرهاب.
ويبقى الفلسطينيّون في سياسة الدوَّامة الأمريكيَّة الَّتي تعمل على حلّ مشاكلها الدَّاخليَّة على حساب الفلسطينيّين، في الوقت الَّذي يستعدّ الكونغرس الأمريكي لإصدار قرار برفض إقامة الدَّولة الفلسطينيَّة، بعد قراره السَّابق باعتبار القدس عاصمة أبديَّة لإسرائيل.
إنَّ على العالم العربيّ والإسلاميّ، أن يشعر بالمسؤوليَّة لإنقاذ القضيَّة الفلسطينيَّة من الضّياع، ومن الوقوع في متاهات الضّغوط الأمريكيَّة والإسرائيليَّة على أكثر من صعيد، وعلى الفلسطينيّين أن يدركوا أنَّ هناك أكثر من فخّ سياسيّ وأمنيّ ينصب لهم في هذه المفاوضات لإسقاط الحاضر والمستقبل. ولذلك، فإنَّنا ندعوهم، ولا سيَّما الإسلاميّين منهم، إلى المزيد من اللُّحمة في الدَّاخل، والعمل لتقويض خطط التَّآمر، لتقوية الانتفاضة، ولتصعيد الجهاد ضدّ المحتلّين، وهو ما يقوم به المجاهدون من خلال العمليَّة الَّتي حصلت مؤخّراً في بئر السَّبع، وقبلها القدس.
تراجعُ التَّهديدِ التّركيّ
وفي هذا الجوّ، نلاحظ أنَّ الضَّجَّة التركيَّة المفتعلة بالتَّهديدات الموجَّهة إلى سوريا قد هدأت، بفعل الطَّريقة العقلانيَّة الَّتي أدارت بها سوريا الأزمة، بالبعد عن سياسة الانفعال الَّتي تتحرَّك بذهنيَّة ردّ الفعل، وبعد انكشاف الأهداف الَّتي سعى النّظام التركيّ للوصول إليها.
إنَّ على تركيا أن تعرف أنَّ اختيارها إبدالها هويَّتها الإسلاميَّة بالهويَّة الأوروبيَّة الَّتي ترفضها أوروبّا، وإضعاف علاقاتها بمحطيها العربيّ والإسلاميّ، بتقوية علاقاتها بإسرائيل، لن يحقّق لها شيئاً كبيراً على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، وأنَّ مصلحتها هي في العودة إلى مواقعها الإسلاميَّة وعلاقاتها العربيَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقّق لها وللمنطقة الاستقرار.
وبالمناسبة، فإنَّ الحديث المتكرّر عن تنسيق تركيّ إسرائيليّ أردنيّ، لن يفيد الأردن شيئاً، بل يؤدّي به إلى مزيدٍ من الاهتزاز الدَّاخليّ والخارجيّ، ولا سيَّما أمام الأخبار الّتي تتحدَّث بأنَّه يعطي إسرائيل عمقاً أمنيّاً عسكريّاً لمصلحة الأمن الإسرائيليّ ضدّ الأمن العربيّ.
ضغوطٌ على إيران
وليس بعيداً من ذلك، لا تزال أمريكا تلاحق إيران بالضَّغوط على أكثر من دولة، بمنع المساعدات عنها إذا قدَّمت إلى إيران أيّ خبرة فنيَّة أو تكنولوجيَّة عسكريَّة، وهذا ما قرأناه في تهديدها لروسيا بمنع بعض المساعدات الأمريكيَّة عنها على هذا الأساس.
إنَّنا نعتقد أنَّ أمريكا لن تنجح في هذه الضّغوط، بل قد تواجه أكثر من موقف سلبيّ ضدّ سياستها، لأنَّ للدول، ولا سيَّما روسيا، كرامتها ومصالحها الحيويَّة في علاقتها الاقتصاديَّة بإيران، الدَّولة الكبرى المهمَّة في المنطقة.
تصعيدٌ في العدوان
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوان الإسرائيليَّ لا يزال يتصاعد في الجنوب، حيث تضاعفت الاعتداءات الصّهيونيَّة على المدنيّين، والَّتي طالت عدداً من البلدات في جبل عامل بشكل مباشر، من دون مناسبة مما كان يتذرَّع به الاحتلال من عمليَّات المقاومة أو قصفها وما إلى ذلك. إنَّ هذا الوضع يؤكّد أنَّ العدوَّ يتململ ولا يشعر بالارتياح، سواء من ناحية الدَّور الَّذي تقوم به المقاومة في مطاردة جنوده والعملاء، أو لناحية الوضع الدَّاخلي في لبنان، من خلال بعض التطوّرات الأخيرة الَّتي لم تلق قبولاً من العدوّ، ولا سيَّما في الدَّور الَّذي يقوم به الجيش اللّبنانيّ في التَّنسيق مع المقاومة، وفي إيمانه بقضيَّة التَّحرير.
التَّعاونُ لمصلحةِ البلد
وأخيراً، إنَّنا نريد من الشَّعب اللّبنانيّ أن لا يغرق في المشاكل غير الواقعيَّة، لأنَّ المشاكل الصَّعبة في البلد، بحاجة إلى الكثير من التَّخطيط والتَّضامن والتَّعاون والتَّطهير الإداريّ، والخروج من الدَّوَّامة السياسيَّة الَّتي يعيشها البلد، ومن الاهتراء السياسيّ والاقتصاديّ، وهذا ما لا يستطيع شخص أن يقوم به، مهما كانت قوَّته، ومهما كانت نظافته، لأنَّه لا بدَّ أن ينطلق من وجود واقع سياسيّ واقتصاديّ يتعاون فيه الجميع على حلّ المشاكل الصَّعبة المزمنة الَّتي عاشها لبنان في الحرب وبعدها، والَّتي تعيشها المنطقة في أكثر من مشكلة اقتصاديَّة وسياسيَّة وأمنيَّة.
لقد تعوَّد اللّبنانيّون في كلّ عهد أن ينطلقوا بالمدح والثَّناء بشكلٍ غير متوازن. إنَّنا نقول، أيُّها النَّاس، لا تعطوا المسؤول مدحاً، ولكن أعطوه نصحاً، لأنَّ المدح ربَّما يسيء إلى طبيعة نظرة المسؤول إلى نفسه، أمَّا النُّصح، فإنَّه يعرّفه طبيعة المشاكل الَّتي يعيش فيها، ويعرّفه طبيعة الحلول الَّتي ينبغي أن يعمل لها.
إنَّ المسؤولين في الحاضر والمستقبل، بحاجةٍ إلى النُّصح أكثر مما هم بحاجة إلى المدح، وإنَّ التَّفاؤل بالوضع الجديد، لا بدَّ أن يخضع للمزيد من الواقعيَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة، حتَّى لا يُثقِلَ النَّاسَ القائمينَ على المسؤوليَّة بالأحلام الخياليَّة المغرقة في الضّباب.
إنّنَا نتمنَّى للعهد الجديد التحرّك في اتجاه التَّخطيط الواعي المدروس للمشاكل العالقة في البلد، من خلال فريق عملٍ مسؤولٍ بعيدٍ من ذهنيَّة الاستغلال، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقّق النَّجاح للعهد وللبلاد، ولا بدَّ من الصَّبر المسؤول المنفتح على الحلول الواقعيَّة الَّتي تحتاج إلى المزيد من الجهد والوقت والإخلاص.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 23/10/1998م.