جحيم الهوى وجنّة العقل

جحيم الهوى وجنّة العقل

جحيم الهوى وجنّة العقل(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد : 14] وقال سبحانه في آيةٍ أخرى {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29] وفي آية أخرى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43].
في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن الناس في ما يتحرَّكون به من أعمالٍ وفي ما يتكلّمون به من كلمات، وفي ما ينتمون إليه ممّا ينتسب إليه الناس من عقائد وأحزاب ومنظّمات وحركات وما إلى ذلك.
اتّباع الهوى
إنَّ الله يتحدّث عن السلوك العام للإنسان، كيف يجب أن ينطلق وعن أيّة قاعدة؟ فيحدّثنا عن وجود نماذج من الناس ـــ وهم الكثرة ـــ يتحرّكون في الحياة، من خلال أهوائهم ومن خلال شهواتهم وغرائزهم؛ فهم عندما يريدون أن يتكلّموا بكلمة فإنّهم يراقبون أنفسهم ماذا تشتهي، وماذا تحبّ، ولا يراقبون عقولهم فيما تناقش وفي ما تفكِّر. وإذا أرادوا أن ينشئوا علاقة مع أيّ إنسان، سواء كانت علاقة شخصية أو كانت علاقة عامّة، فإنّهم يفكِّرون في ما يتواصلون به وفي ما يتقاطعون فيه، يفكِّرون في هوى أنفسهم: هل أنّ نفسي تشتهي أنْ أبني علاقة مع فلان أو مع فلانة، أم أنّها لا تشتهي ذلك؟ فتكون علاقات أحدهم خاضعة لهوى نفسه ولمشتهياتها. وهكذا عندما يتّخذ أيّ موقف في الحياة، سواء كان الموقف اجتماعياً أو سياسياً أو أيّ موقف من المواقف، فإنَّ الأساس عنده هو ما تحبّه نفسه وما تشتهيه. هؤلاء هم نماذج موجودة في كلّ زمان وفي كلّ مكان. وهؤلاء الذين يعتبرون أنّ أقصى طموحاتهم في الحياة، هو أن يحصلوا على تلبية رغباتهم وشهواتهم؛ فالسعيد عندهم مَن حصل على ما يشتهي، والشقي عندهم هو الذي لا يحصل على ما يشتهي. والحياة عندهم تتحرّك في هذا الاتّجاه.
اتباع العقل
وهناك نماذج أخرى في الناس ـــ وقد تكون هذه النماذج هي الأقليّة ـــ تتحرّك في الحياة من موقع علم، ودراسة، وفكر. فهؤلاء يفكّرون أنّ النفس قد تشتهي شيئاً، ولكن قد يكون هلاكها في ما تشتهي؛ وقد تهوى أمراً، ولكن قد يكون حتفها في ما تهواه، لأنَّ النّفس عندما ترتبط بالأشياء فإنّها ترتبط بها من خلال غرائزها وانفعالاتها. ولهذا فإنَّ النّفس تتحرّك نحو الشيء من خلال سطحه لا من خلال عمقه.
راقبوا أنفسكم عندما تشتهون شيئاً تأكلونه أو شيئاً تشربونه أو شيئاً تمارسونه في مجال لذّاتكم. راقبوا أنفسكم هل تُقبلون على الشيء لتدرسوا عواقبه، أم أنّ النفس تقبل عليه من بداياته؟
غالباً ما نأكل الأكلة التي نشتهيها، دون أن نفكّر ما هو موقعها في حياة الجسد وفي صحّته. وهكذا عندما نمارس الشهوة التي نشتهيها فإنّنا ندرس أحاسيسنا ولا ندرس النتائج العامّة أو الخاصّة التي تنتهي إليها هذه الشهوة أو هذه اللّذة. أَلَسْنا نرتبط بشهواتنا من هذه الجهة؟ هذا النموذج يرى ذلك، ولذلك فهو يفهم جيداً قول الله سبحانه وتعالى في ما حكاه عن امرأة العزيز، وهو يريد أن يركّز حقيقة إنسانية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف : 53].. لماذا تكون النّفس أمّارةً بالسوء؟.. لأنّ النّفس تتحرّك في كلّ نشاطاتها، من موقع غرائزها ومن موقع سطح الأشياء، لا من موقع عمقها. والإنسان إذا أراد أن يواجه المسألة على السطح، فإنّه لا يواجه إلاّ الغرائز التي تقوده إلى الانحراف، والمعصية، وإلى ما يورّطه في أشياء كثيرة من خلال النتائج. فالله يقدّم لنا هؤلاء على أنّهم لا يخضعون لهوى أنفسهم، بل يدرسون المسألة عندما يشتهون شيئاً يأكلونه.. يدرسون موقعه من تغذية الجسد، ومن سلامته، ومن مسألة الحلال والحرام، وفي سلامة الموقف أمام الله. وبعد أن يدرسوا ذلك ويعرفوا عمقه ويعرفوا نتائج الغذاء، فإنّهم يتناولونه إذا كان صالحاً، ويرفضونه إذا كان فاسداً. وهكذا إذا اشتهت أنفسهم شراباً فإنَّهم يفكّرون في المسألة من ناحية علاقته بجسدهم، وبعقلهم، وبحياتهم، وبإيمانهم.. وفي كلّ المجالات الأخرى. وهكذا ـــ أيضاً ـــ عندما ينطلقون في أيّة شهوة، سواء كانت شهوة جنس أو كانت شهوة جاه أو أيّ نوع من أنواع الشهوات؛ فإنّهم يراقبون نتائجها ولا يراقبون بداياتها فحسب. ولهذا فإنَّ هؤلاء يتحرّكون في الحياة من موقع علم، فيدرسون المسألة ويعلمون طبيعتها، ويعلمون حقيقتها ثمّ يتحرّكون فيها. أمّا أولئك فإنّهم لا يتحرّكون من موقع علم، بل يتحرّكون من موقع جهل، لأنّهم يرتبطون بالأمور الحسيّة ولا يرتبطون بالأمور العقلية والفكرية. ومن هنا فإنَّ الله سبحانه وتعالى عندما عرَّفنا هؤلاء، قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمّد : 14].. أي هل يمكن أن يستوي هذا الإنسان، الذي إذا أراد أن يسير في أيّ طريق، فإنّه يحاول أن يدرس إذا كان عنده بيّنة واضحة من ربّه تبرّر له سلوك هذا الطريق أو تناول هذا الشيء أو ممارسة هذه اللّذة، مع مَن ليس عنده بيّنة واضحة من ربّه على صلاح هذا الأمر، بل ينطلق من خلال انفعالاته وشهواته وأهوائه.
وهكذا يقدّم الله لنا المسألة. وأيضاً عندما يتحدّث الله لنا عن الظالمين، سواء هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وبالمعصية، أو الذين ظلموا الناس بطغيانهم، فإنّه يحدّثنا عنهم بأنَّ مشكلتهم هي: كيف صاروا ظالمين؟ وكيف ظلموا أنفسهم؟ وكيف ظلموا الناس؟ إنّ الله يقول إنّهم اتّبعوا أهواءهم {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29].. اتّبعوا أهواءهم لأنّهم انطلقوا مع أهوائهم ومع انفعالاتهم فكفروا بالله، ليرضى عنهم الناس من حولهم أو لئلا يلتزموا الالتزامات الصعبة في الحياة. وهكذا أيضاً عندما يتحدّث عنهم، يذكر أنّهم طغوا في البلاد حتّى يعوّضوا عن عقدة الضعف التي يعيشونها ضدّ المظلومين، وحتّى يحاولوا أن يحصلوا على بعض اللّذات وبعض المشتهيات.

لنختر أحد السبيلين
هذان نموذجان من الناس؛ لنا أن نختار أحدهما في الحياة. والله يريدنا أن نختار النموذج الذي يتحرّك في الحياة من موقع دراسة ومن موقع فكر ومن موقع وعي، على أساس أن يدرس الإنسان كلّ مسألة وكلّ قضية من موقع علاقتها بحياته، وأن يدرسها على أساس موقعها من ربّه ومن قضية إيمانه وآخرته.
الله يخاطب المؤمنين: إذا كنتم تؤمنون بحياتين، فإنَّ عليكم أن تدرسوا سبل السلامة في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، وأن تناقشوا الأمور على أساس ما يحقّق لكم هذه السلامة هنا، وتلك السلامة هناك، حتّى تستطيعوا أن تعيشوا في صحّة وعافية في الدنيا، وتحصلوا على صحّة وعافية في الآخرة. وهذا ما نلاحظه في بعض الأدعية التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربّه، لا ليسأله عافية الدنيا فحسب، بل ليسأله عافية الدنيا والآخرة؛ العافية في الدنيا من البلاء والعافية في الآخرة من العذاب ومن العقاب.
مراقبة النّفس
لا بدّ للإنسان من أن يدرس كلّ مشتهيات نفسه، فيحدِّث نفسه حديثاً هادئاً، حتّى يستطيع أن يركّز فيها القضايا التي يمكن لها أن تسير فيها على هدى وعلى بيّنة. فالمشكلة في كثيرٍ من الناس أنّهم لا يجلسون مع أنفسهم، بقدر ما يجلسون مع الآخرين.
راقبوا أنفسكم من بداية اليوم إلى نهايته. إنّكم تجلسون مع زوجاتكم ومع أولادكم، وتتحدّثون مع زبائنكم ومع الناس الذين تعملون معهم ومع أصدقائكم. ولكن مَنْ منكم جَلَسَ مع نفسه ساعة، يفكِّر فيها ويتحدّث فيها لنفسه. إنّي أزعم أنّ أكثر الناس لا يطيقون الجلوس مع أنفسهم ولا يطيقون الحديث معها. ولهذا فإنَّ أنفسهم لا تتربّى على أساس إرادتهم، وإنّما تتربّى على أساس البيئة التي تحيط بهم.
من أين نأخذ عقليّاتنا؟ إنّنا نأخذها من البيت الذي نعيش فيه، من أصدقائنا، من أصحابنا ومن أقربائنا. فالبيئة تفرض علينا انفعالات وعصبيّات وشهوات وخطاً نسير فيه. وإذا بنا نشعر أنّنا نلتزم بعض الخطوط السياسية أو الاجتماعية، من دون أن نختارها من خلال عقولنا، ولكن لأنَّ عوائلنا اختارتها، ولأنَّ أصحابنا اختاروها، ولأنَّ أقرباءنا اختاروها. وهكذا فإنّنا عندما نختار طريقاً أو عقلية نتحرّك فيها، فإنّنا نأخذها من الناس من دون اختيار، من خلال أحاديثهم ومن خلال أوضاعهم، ونشعر أنّ عقليّاتنا لم نصنعها نحن باختيارنا ولم نُناقشها مع أنفسنا، وأنَّ انتماءاتنا ـــ عندما ننتمي إلى موقع سياسي أو اجتماعي أو أيّ موقعٍ آخر ـــ لم تكن وليدة قناعاتنا، إنّما هي وليدة قناعات الآخرين ورغباتهم.. وهكذا في كثير من مجالات الحياة.
قد نكتشف أنّنا لم نصنع انتماءنا أو عقليّتنا أو رغباتنا أو أحلامنا، بل تركناها تتحرّك في نفوسنا من خلال تأثّرها بمن حولها. ونحن نقول إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينعزل عن مجتمعه، لأنّه لا يستطيع أن يعيش وحده. لكن لا مانع من أن تستقبل تأثُّرات مجتمعك وتناقشها مع نفسك.. فناقش مع نفسك ما يقوله أبواك، وناقش ما يقوله أصدقاؤك، وناقش عادات وتقاليد مجتمعك، وناقش الأوضاع التي تتحرّك في المجتمع من حولك، في أيّ محور من محاور المجتمع.. ناقش: هل هذا صحيح؟ وكيف أثبت صحّته؟ أم هذا خطأ؟ وكيف أثبت خطأه؟ لا تلتفت إلى رغبات نفسك، ولكن التفت إلى حركات عقلك. التفت إلى العقل وهو يحاكم الأشياء ولا تلتفت إلى المشاعر وهي تشتهي الأشياء، فإنَّ الشهوة إذا لم تُدْرَسْ دراسة حقيقيّة قد تنقلب على صاحبها، لتعطيه آلاماً في المستقبل أكثر ممّا حصل فيه على لذَّات. ولذا يريد الله منّا أن نناقش شهواتنا وأهواءنا، لنبقي الأهواء التي يشرّعها العقل المتحرّك في خطّ الشرع، ونطرد الأهواء التي يقول لنا العقل، ويقول لنا الشرع إنّها أهواء ليست في مصلحتنا. وهذا إنّما لاحظناه في الآية الكريمة: {فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 ـــ 41] إنَّ معنى ذلك ـــ ونحن نريد أن ننفذ القرآن ـــ أنّ الفاصل بين الجنّة والنار، هو اتّباع الهوى أو عدم اتّباعه. فمن اتّبع هواه ولم يوقفه على قاعدة، فانطلق مع الدنيا تبعاً لهواه، فإنَّ الجحيم ستكون مأواه، ومَن خاف مقام ربّه فجعل علاقته بالله ومقام الله منه، هما الأساس في كلّ حياته {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى ذلك أنّنا لا بدّ أن ندرس أهواءنا من خلال أفكارنا، وندرس شهواتنا من خلال شريعة الله ووحيه، لنحدّد ما نفعله وما لا نفعله، ولنحدّد ما نتبعه وما لا نتبعه، لنستطيع أن نحدِّد طريق الجنّة وطريق النار.
عبادة الهوى
لقد اعتبر القرآن الكريم اتّباعَ الهوى عبادةً له. أن تجعل كلّ طموحك في الحياة أن ترضي هوى نفسك، يعني جعلت هواك إلهاً تعبده من دون الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43] اتركه لنفسه، عظه وأرشده وتحدَّث معه، ولكن إذا لم يقبل أن يتبع ربّه وفضَّل أن يتبع هواه، فاتركه لهواه فسيلاقي ثمرة اتّباعه هذا عندما يلاقي إلهه الحقّ، الله الواحد القهَّار.
ثمّ يقول في آيةٍ أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية : 23]. يحدّثنا الله عن نموذج من الناس يفهم الأمر تماماً، يفهم أنّ هذا حرام وأنّ في هذا الشيء ضرراً ومفسدة، ولكنّه لا يملك إرادته ولا يملك أن يثبت وعيه في الموقف الصعب، فينطلق مع شهوات نفسه فتغلبه على حساب خطوات عقله. هذا الإنسان هو الذي يبيّن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أنّه يضلّه. وليس معنى ذلك أن يوقعه في الضلال، ولكنّه عندما اختار الهوى وعندما جعل إلهه هواه ولم يَخَفْ مقام ربّه، فإنَّ نتيجة ذلك أنّه سيضيع، لأنَّ الهوى ليس له خطّ مستقيم، فاليوم يمكن أن يمشي بك إلى الشرق وغداً إلى الغرب وبعد غدٍ إلى طرقٍ أخرى وأخرى. ولذلك فإنَّ الذي يتبع هواه فإنّه يضلّ. وقد يضلّ الإنسان من غير علم وقد يضلّ بعلم عندما لا يستطيع أن يحكِّم إرادته {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} لأنَّ الهوى إذا سيطر على الإنسان، فإنّه يمنعه من أن يسمع فكأنَّ أذنه مغلقة، وإذا سيطر على قلب الإنسان ـــ وقلبه وعقله ـــ فإنّه يمنعه من أن يفكّر ويمنعه من أن يرى الأشياء على حقائقها. ولهذا فإنَّ الله تعالى ـــ يقول: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} لأنَّ الله جعل له سبيل الهدى، فخالفه واتّبع سبيل الهوى. وهكذا فإنَّ نتيجته أن يظلّ سائراً في الضلال، حتّى يلاقي الله غداً وهو ضالّ في حياته.
إنَّ الله يجعلنا نواجه المسألة على هذا الأساس، فيحدّثنا عن بعض الناس الذين كانوا يتبعون أهواءهم، ويذكر شخصاً كان موجوداً في بعض الأزمنة.. شخصاً لديه العلم ويعرف آيات الله ويعرف حقائق الإيمان وحقائق الأشياء، ولكنَّ علمه لم يتحوّل إلى قضية تعيش في ذاته، فكان علمه في عقله، ولكنَّ شهوته هي التي كانت تسيطر عليه فلم يستفد شيئاً. ولهذا لا يكفي العلم، بل لا بدّ من الإيمان ولا بدّ من الإرادة التي تجعل الإنسان يتحرّك في علمه من خلال إيمانه وإرادته. يقول الله لرسوله في ذلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا..} أي لم يرتبط بها وهو يعرفها ويعيها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف : 175]، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} يعني لو شئنا لجعلناه يرتفع إلى الدرجات العليا من آياتنا، ولكنّنا لا نجبر الناس على الهدى إنّما ندلّهم على الطريق، فإذا ساروا فيه فإنّنا نرفعهم {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ..} أي التصق بالأرض ولم ينفتح على السماء، التصق بشهواته ولم ينفتح على ربّه {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث..} لأنّ هناك مَن إذا تكلَّمت معه لا يستمع إليك وإذا تركته لا يستمع إليك، فحاله كحال الكلب إذا ما وقفت أمامه صار ينبح وإنْ تركته ظلّ ينبح. وهذه هي حال مَن يتبع هواه، لماذا؟ لأنّه ليس لديه عقل؛ إذ تحوَّل الهوى عنده إلى حالة مسعورة في داخل نفسه، تجعله يواجه القضايا من خلال شهواته ومن خلال انفعالاته ومن خلال عصبيّاته. ولذا أصبحت المسألة بمثابة الغريزة، فالنباح هو غريزة الكلاب، وكذلك هذا الإنسان عندما اتّبع هواه صار الضلال غريزة عنده {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الأعراف : 176] كلّ الذين كذَّبوا بآيات الله مَثَلهم هذا المثل، لأنّهم أخلدوا إلى الأرض، واتّبعوا أهواءهم فالله يقول لك: لا تلتصق بالأرض.. لا تلتصق بكلّ شهواتها وبكلّ مشاعرها، بل خذ من الأرض ما يبني لك حياتك على الخطّ الذي يريده الله منك، وانفتح على الله سبحانه وتعالى، لتسموَ نفسك وليكبر عقلك ولتنطلق أحلامك لتشمل الدنيا والآخرة، ولا تقتصر على الدنيا وحدها.
دعوة الحقّ
ثمّ يقول الله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف : 176] يريد الله أن يقصّ علينا ما جاء من قضايا الآخرين أو من الأمثال، حتّى نفكّر وحتّى نجتنب الطريق المنحرف، الذي لا يريدنا الله أن نسير عليه في كلّ حياتنا.
ويريد أن يقول لنا: أيُّها الناس، ستتعرّضون في حياتكم لمشاكل كثيرة من الناس، الذين يريدون منكم أن تنطلقوا بعيداً عن الله، ولكن {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء : 27].
إنَّ الله يناديكم إذا أخطأتم وإذا انحرفتم وإذا ضللتم عن الطريق بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر : 53] يقول الله لكم: يا عبادي إذا ابتعدتم عنّي، فتعالوا إليَّ {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] الله يريد أن يتوب عليكم، ويقول لكم إذا أخطأتم صحِّحوا خطأكم، وإذا انحرفتم فاستقيموا في طريقكم، وإذا أخطأتم فتوبوا إليَّ لأُصحِّح خطأكم. إنّه يريد أن يتوب عليكم لذلك يدعوكم إلى التوبة وإلى الرجوع إليه. أمّا الذين يتبعون الشهوات من زعمائكم وأصدقائكم وأقربائكم وأزواجكم وكلّ الناس من حولكم، فإنّهم يريدون منكم أن تميلوا عن الطريق ميلاً عظيماً.. فماذا تختارون؟ هل تسيرون مع الله، أم مع الذين يَتَّبِعون الشهوات؟
الله يقول لك: إبدأ الطريق المستقيم من جديد، وأولئك يقولون لك: لا تعش وحدك.. إمشِ مع الناس، خض مع الخائضين، واكذب مع الكذّابين، وانحرف مع المنحرفين، واظلم مع الظالمين، وخذ حصّتك مع الذين يأخذون حصصهم من كلّ حرام، ومن كلّ ظلم وما إلى ذلك. الذين يَتَّبِعون الشهوات يتحدّثون بهذه اللّغة ولا يريدون لكم أن تستقيموا. قد يأتي آباؤكم ويقولون لكم إذا رأوا منكم استقامة على طريق الله وهم يخافون عليكم من كثير من أجهزة المخابرات، ومن بعض الحكومات، ومن بعض الأحزاب والحركات والمنظّمات، ومن طغاة قريتكم أو منطقتكم.. يأتي آباؤكم إليكم ليقولوا لكم: اتركوا ما أنتم عليه.. لا تذهبوا إلى المساجد، ولكن اذهبوا إلى الملاهي، لأنَّ الأجهزة إذا رأتكم في الملاهي فسوف لا تحاسبكم، لكنّها إذا رأتكم في المساجد فسوف تراقبكم. يخافون عليكم ذلك لأنّهم يريدون أن يتَّبعوا الشهوات، ويريدون منكم أن تتَّبعوها، والله يريد أن يتوب عليكم ويقول لكم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153] يريدكم الله أن تأتوا إلى المسجد، لا لتنغلقوا فيه عن حركة الحياة، ولكنّه يريد منكم أن تتطهَّروا في المسجد؛ أن تطهِّروا عقولكم من كلّ كفر وشرك، وأن تطهِّروا عواطفكم من كلّ انحراف، وأن تطهِّروا مواقفكم من كلّ زلل.. يريد الله منكم ذلك ويقول لكم: كما أنّكم إذا توسَّخ جسدكم، تذهبون إلى الحمّام لتتطهَّروا، فإذا توسّخت عقولكم وأرواحكم ومشاعركم فتعالوا إليَّ في المسجد، لتتطهَّروا ولتعيشوا طهر الفكر وطهر الشعور وطهر الحركة والحياة.
إنَّنا نجد الكثيرين من الناس لا يكتفون بأن يتَّبعوا الشهوات، بل يحاولون أن يجعلوا أولادهم وأصدقاءهم وأقرباءهم معهم. هؤلاء هم الذين يخسرون: {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. يريد أن يتَّبع الشهوات ويشرب الخمر ويريد من أولاده أن يشربوا الخمر معه، ويتعقَّد من أولاده وزوجته وبناته إذا وقفوا ضدّه في ذلك. ويلعب القمار ويريد منهم أن يلعبوا، وينصر الظالمين ويريد منهم أن ينصروهم.. وهكذا في كلّ المجالات، بل إنَّ بعضهم يقدّم أولاده للشيطان ليموتوا في سبيله حتّى يحصل على مال، كما يفعل الكثير من الناس في المنطقة الحدودية، باعتبار أنّ "إسرائيل" تشترط أنّ الذي يريد أن يعمل في داخل فلسطين، في مزارع "إسرائيل" ومصانعها، لا بدّ أن يكون له ولد أو أخ يحارب أو ما إلى ذلك، فيأتي الآباء ليضغطوا على أبنائهم، ليتجنَّدوا مع الشيطان وليقاتلوا أهلهم وإخوانهم، حتّى يحصلوا على فرصة عمل. يموت ابنه ويذهب إلى النار وبئس القرار ليحصل على مال. لا مانع عندهم أن يقاتل أولاده مع الشيطان وفي سبيل أهدافه، ولكن عنده ألف مانع من أن يقاتل أولاده مع الله وفي سبيله. والناس كما يقول عمر بن سعد ـــ وهم في أغلبهم مع منطق عمر بن سعد:
يقولون إنَّ الله خالق جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغلِّ يدينِ
فإن صدقوا في ما يقولون إنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
ثمّ يقول آخر الأمر: "وما عاقل باع الوجود بدين".
هذا هو منطق الساحة ومنطق اتّباع الهوى، الذي يجعلك ترتبط بهواك فتبتعد عن الحقّ. ألسنا نتعصَّب على الإنسان الذي ليس معنا حتّى لو كان مع الحقّ؟ ألسنا نقف ضدّه ولا ندرس، هل هو مع الحقّ أم لا؟ قد لا يكون معك، ولكن قد يكون على حقّ، في الوقت الذي تكون فيه أنت في سلوكك على باطل. لماذا لا تناقش الأمور؟ ولماذا لا تعرف موقع رضى الله سبحانه وتعالى؟
الانفتاح منهج إلهي
هناك خطّ إلهي واضح يحدِّده قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} [الحجرات : 10] فاختلاف أحدكم مع أخيه لا يجعله كافراً، ولا يخرجه عن خطّ الإيمان العام. فعلى أيّ أساس تقاتله وهو يقاتلك، وتتعصَّب ضدّه وهو يتعصَّب ضدّك؟ أيّ معنى لذلك؟
إنَّ عصبيّة الشيطان هي من الأهواء والأنانية؛ أنانية الذّات والحزب والطائفة والحركة والمنظّمة والعشيرة. فالأنانية هي التي تسجن الإنسان في داخلها، ولا تسمح له بأنْ يتنفَّس الهواء الذي يتنفَّسه الناس الآخرون.
كن ابن نفسك وابن عشيرتك وابن حزبك وابن حركتك وابن طائفتك، ولكن لا تجعل هذه الأمور سجناً تسجن فيه ذاتك، بل عش في دائرة واترك فيها باباً ينفتح على الناس، حتّى تحاورهم ويحاوروك وحتّى تتفاهم معهم ويتفاهموا معك، لتكتشف خطأك من خلال ذلك، أو يكتشف الناس خطأهم. إنّ اتّباع الهوى لدى المجتمع، هو الذي يمنعه من أن يمارس عملية الانفتاح في ما بين أفراده. والله أرادنا أن نتعلَّم الانفتاح، فنتحاور إذا اختلفنا ونتناقش إذا تنازعنا، ونتحرّك في الحياة من موقع أنّنا عباد الله وأنّ غايتنا أن نكتشف مواقع رضى الله سبحانه وتعالى، سواء كانت مواقعه في المواقع الصعبة أو في المواقع السهلة، لأنَّ المسألة هي أن نكون على بيّنة من ربّنا، وأن نحفظ سلامة الدُّنيا وسلامة الآخرة.
لنغتنم فرصة الحياة
لنفكِّر بهذه الطريقة، فقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن نفكِّر فيه، وقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن ننفِّذ ما نفكِّر به. نحن في هدنة من الموت، سنذهب جميعاً إلى قبورنا وسنحشر جميعاً إلى مواقفنا بين يديّ ربّنا. هل منكم من يشكّ في ذلك؟ هل منكم من يعتقد بأنّه خالد؟ ليس منكم من يعتقد ذلك، وقد قالها الله لرسوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] إذا كنّا جميعاً سنحشر إلى قبورنا وسنقف بين يديّ ربّنا، فلنفكِّر: هل أنّنا نحشر إلى قبورنا مع الحقّ أم مع الباطل؟ هل نقف بين يديّ ربّنا مع إيماننا أم مع شهواتنا؟ وهل تبقى لنا شهوات؟ وهل يدخل في قبورنا شيء ممّا نأكل وممّا نشرب وممّا نستمتع وممّا نجمع من مال أو ما نعيشه من جاه؟ فكِّروا في ذلك بعمق، واسألوا أنفسكم: ما هي أصناف الطعام أو الشراب أو الشهوات التي تقدّم لنا هناك؟ هل يقدّم لنا شيء؟ أم تقدّم لنا فاتورة الحساب: كيف أكلت؟ وكيف شربت؟ وكيف استمتعت؟ وكيف حاربت؟ وكيف سالمت؟.. وفي ذلك يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وإنّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"(1) وهكذا نجد أنّ علياً (عليه السلام) يقول: "شتَّان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره"(2). ويقول أيضاً: "ما لعليٍّ ولنعيم يفنى، ولذّةٍ لا تبقى!"(3). والله ـــ كما قلنا ـــ لم يحرّم علينا طيّبات الحياة الدنيا واتّباع أهوائنا في ما لا يصطدم مع إيماننا ومع مسؤوليتنا.
الزهد في حقيقته
جاء شخص إلى أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وقال له: ما الزهد في الدنيا؟ هل نترك الطعام.. هل نترك الشراب.. هل نترك اللّباس الجيّد؟ فأجابه الإمام بأنَّ الأمر ليس كذلك، بل اترك الحرام وكل ما تشاء، واشرب ما تشاء، والبس ما تشاء، واسكن ما تشاء، واستمتع بما تشاء، بشرط أن يكون كلّ ذلك حلالاً، لا حقّ لله فيه، ولا حقّ للنّاس فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف : 32].. لا بدّ أن تعيش بهذه الروح؛ فافعل ما تحبّ، ولكن ليكن ذلك بالحلال. فإنَّ الله لم يرخّص لك في الحرام، سواء على مستوى الأمور المادية أو على مستوى الأمور المعنوية. وهذا ما يجعلنا نشعر بالحاجة إلى أن تكون مواقفنا وانتماءاتنا طوعاً لله. فكما أنّ الله لا يريدك أن تشرب خمراً، كذلك لا يريدك أن تؤيّد ظالماً؛ وكما أنّه لا يريد منك أن تلعب قماراً، فإنّه لا يريد منك أن تكون مع الذين يلعبون في مصائر أُمّتك، كما ورد في كتابه الكريم: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113]. وهكذا يريدنا الله أن نواجه أعداءنا الذين قال عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] وقد يكون هوانا أن نكون مع اليهود ومع الذين أشركوا.


التجرُّد عن العصبيّة
يريدنا الله أن لا نعيش العصبية، فقال في كتابه الكريم: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ...} [الفتح : 26] حرَّم الله علينا عصبية الجاهلية وأراد لنا أن نلتزم كلمة التقوى، كما التزمها النبيّ وأصحابه وكانوا أحقّ بها وأهلها. وكما حرَّم علينا اتّباع أهوائنا في مواقفنا السياسية والاجتماعية وفي كلّ مجالاتنا الاقتصادية والأمنية والعسكرية. ولهذا ورد في الحديث الشريف: "لا تحرِّكوا بأيديكم سيوفكم في هوى ألسنتكم" فعندما تمتلك سلاحاً لا تحرّكه من خلال مزاجك، بل حرّكه في خطّ مسؤوليّتك أمام الله. فالسلاح أمانة الله عندك عليك أن تحميَ به نفسك وعيالك، وأن تحميَ به الضعيف ولا تحميَ به هوى نفسك، ولا تحمي به ظالماً أو منحرفاً. إنّه أمانة الله عندك وسيسألك الله عن هذه الأمانة. والمال أمانة عندك فلا تسخِّر مالك في إفساد حياة الناس وفي اجتذاب الناس إلى الباطل، أو تقويته.. إنَّ الله لا يرضى أن تتبرَّع به للمبطلين وتمنعه عن المحقّين أو توظّفه في خدمة الظالمين وتمنعه عن خدمة العادلين. إنّه لا يريد منك ذلك، لأنّ المال أمانة عندك فانظر أين تضع هذه الأمانة؟
وكذلك مواقفك عندما تُحارب أو تُسالم أو تؤيّد وترفض؛ فإنَّ الله لم يطلق حريّتك إلا أن تؤيّد الحقّ وتخذل الباطل، وإلاّ أن تحارب الكفر والظلم وتسالِم الإيمان والعدل في كلّ مجالات الحياة. فقد ورد في الأحاديث الشريفة: "مَن لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1) و"مَن سَمِعَ رجلاً ينادي يا لَلْمُسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(2) وحتّى اهتماماتك يريد الله منك ألاّ تخضعها لانفعالاتك ولأنانيّتك. فلا بدّ لك من أن تتفاعل نفسياً مع كلّ موقع من المواقع ولا بدّ من أن تحمل في فكر وفي وعيك وفي إحساسك همَّ المسلمين جميعاً وأن تلاحق كلّ قضاياهم، وأن تفكِّر معهم، وتفكّر لهم، وأن تخطِّط في نفسك كيف تستطيع أن تنصرهم بكلّ ما عندك من إمكانات النصر في الحياة. لأنَّ الإنسان المسلم لا بدّ أن يشعر بأنّه جزء من أُمّة، فكلّ ما يصيب الأُمّة يجب أن يعيش اهتماماته.
الأُمّة... جسد واحد
لا بدّ من أن نعرف حقيقة واقعية وهي أنّ المسلمين إذا ضربوا في بعض مناطقهم، فإنَّ مناطقهم الأخرى تضعف بضعفهم. كما إذا ضُرِبَ الجسد في بعض أعضائه، فإنَّ بقية الأعضاء ـــ مهما كانت قويّة ـــ تضعف بضعف هذا العضو. ومن استطاع أن يتسلَّط على جزء من الأُمّة فسيكون تسلّطه على هذا الجزء أساساً لتسلّطه على الجزء الآخر. وبهذا نعتبر أنّ مسألة المسلمين في العالم هي مسألة متكاملة، سواء في مجال قوّتها أو مجال ضعفها. إنَّ أيّة قوّة لأيّ موقع إسلامي في العالم هي قوّة للمسلمين في كلّ مكان، يأخذون منه كلّ بقدرٍ معيّن. كما أنّ ضعف المسلمين في أيّ مكان في العالم، هو ضعف للمسلمين في بقيّة المجالات.
علينا أن ننطلق في هذا المجال، بعيداً عن كلّ الأهواء الوطنية القومية، التي تحاول أن تفصل ـــ في ما فيه مصلحة المسلمين ـــ بين موقعٍ وآخر وبين شخصٍ وآخر أو جهةٍ وأخرى. نعم، من حقّنا أن نهتمَّ ببلدنا وبالناس الذين يعيشون معنا، ولكن أيضاً من حقّ كلّ إخواننا من المسلمين في العالم أن نهتمَّ بهم، كما نطلب منهم أن يهتموا بنا، حتّى نستطيع أن نُضْعِفَ الذي يريد أن يغتنم فرصة ضعف المسلمين في بعض المواقع. وهذا هو الذي يحدِّد لنا مواقفنا مع كلّ الناس ومع كلّ الحكَّام.
إسرائيل والنظام المصري
ثم نعيش الخطر الإسرائيلي في المنطقة، هذا الخطر الذي خطَّطت له المنظّمات اليهودية منذ ما يقارب المئة سنة، والتي تعاونت معها كثير من المنظّمات غير اليهودية، وكثير من الدول الاستعمارية التي لم تستطع أن تسيطر على كلّ العالم الإسلامي، فحاولت أن تربك كلّ مواقعه بطريقةٍ وبأخرى. فجاءت بــ "إسرائيل" وزرعتها في قلب العالم الإسلامي والعالم العربي، من أجل أن تمنعه من أن يتَّحد بعضه مع بعض أو أن يلتقيَ بعضه مع بعض، لتكون "إسرائيل" هي الدولة التي يمكن أن تربك كلّ المنطقة، وتمنعها من أن تعمل على أن تكون قويّة وعلى أن تستفيد من كلّ ثرواتها، في سبيل بناء مستقبلها وبناء قوّتها. لهذا كنّا نقول: إنَّ ما يحدِّد علاقتنا بالناس، هو قربهم من مسألة الجهاد ضدّ "إسرائيل" وبعدهم عنها. ولهذا اتّخذنا الموقف ضدّ النظام المصري، على أساس أنّه عطَّل الحرب مع "إسرائيل" في العالم العربي. وعندما حيَّد مصر عن ساحة الصراع، استطاع أن يحيِّد كلّ العالم العربي ـــ على مستوى الأنظمة ـــ عن ساحة الصراع. ولهذا كنّا نرى أنّها الجريمة الكبيرة، التي لا تمثّل انسحاباً من ساحة الصراع وحسب، ولكنّها تمثّل إيجاد خلل في البنية العسكرية التي تواجه "إسرائيل".
وهكذا رأينا أنّ هذا النظام عمل على أن يكون الجسر، الذي يمكِّن "إسرائيل" من أن تكون جزءاً من المنطقة وأن تفعل ما تريد فيها، لأنّه نظام يرتبط بأميركا التي تكفل لــ "إسرائيل" كلّ قوّتها كفالة مطلقة وتكفل لها كلّ أمنها. إنّه نظام لأميركا، ولهذا فإنّه يسهل لها كلّ ما تريد، حتّى أنّه يجري مناورات معها.. تلك المناورات التي تسمّى "بالنجم الساطع" التي تحاول فيها أميركا أن توجد قوّة من الجنود الأميركيين، الذين يستطيعون أن يقمعوا أيّ حركة تحرّر موجودة في المنطقة، بتسهيل من النظام المصري.
وأخيراً عندما انطلقت تظاهرات من الجامع الأزهر ومن بقيّة الجوامع ومن الجامعات، كان دور هذا النظام هو ضرب التظاهرات، التي كانت تنادي بالموت لــ "إسرائيل" وبالاحتجاج على ما قامت به "إسرائيل" من قتل وتدمير الفلسطينيين في الضفّة الغربية وفي غزّة واعتقالهم بكلّ وحشية. أراد المصريون أن ينطلقوا من صلاة الجمعة ليحتجُّوا في تظاهرة، وصدرت الأوامر بقمع تلك التظاهرات وذكروا أنّ هؤلاء استغلّوا صلاة الجمعة لرفع شعارات لا تتناسب مع الأمن!.
ما هو دور صلاة الجمعة أساساً؟
إنّها الصلاة السياسية التي فرضت، ليبحث فيها المسلمون كلّ قضاياهم السياسية والاجتماعية وليست مجرّد صلاة عادية. لا معنى للقول بأنّهم استغلّوا صلاة الجمعة؛ فدور صلاة الجمعة هو هذا الدور، ولهذا كان الحكّام يعملون على أن يوظِّفوا خطباء جمعة، ويعطوهم الخطبة ليقرؤوها كما يقرأ الطالب ما يعطيه الأستاذ، لأنّهم يخافون من الروح الإسلامية الجماعية التي يجتمع فيها المسلمون في مساجدهم بين يديّ الله... يخافون منها أن تجدّد في المسلمين شعورهم بالحريّة والعزّة والكرامة والاستقلال وبضرورة مواجهة كلّ الذين يريدون أن يصنعوا مشاكلهم. ونحن نواجه الآن في أكثر العالم العربي صلاة جمعة لا روح فيها ولا معنى لها، لأنّها صلاة تعمل على التسبيح بحمد الظالمين والطغاة والكافرين من جهة، وتعمل على تخدير الأُمّة من جهةٍ ثانية، وتعمل على إبعاد الشعب عن الشعور بمشاكله وقضاياه من جهةٍ أخرى. ليست هي الصلاة التي يريدها الله سبحانه وتعالى في يوم الجمعة.
جهاد العلماء
يحدث بين وقتٍ وآخر أن ينطلق علماء مجاهدون لا يكترثون بقرار النظام، بل يحترمون قرار الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في ما حمّلهم من مسؤولية كي يقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو كلّفتهم كثيراً من حريّتهم ومن حياتهم. ومن هنا فإنّنا ننظر بإكبار وتقدير واحترام إلى كثير من علماء الضفة الغربية وغزّة، الذين استطاعوا أن يثيروا هذه الانتفاضة من مواقعها الإسلامية، حين قالوا كلمة الحقّ أمام "إسرائيل" وأمام احتلالها وضغطها، حتّى بدأت تخطّط لإبعادهم عن الضفّة الغربية وعن غزّة.


الأنظمة العميلة وأميركا
إنَّ المشكلة هي أنّ حكَّام هذا النظام وبقيّة الأنظمة عملوا على أن يكوِّنوا مع "إسرائيل" قوّة في وجه كلّ الذين يريدون أن يتحرَّر المسلمون من سيطرة الاستعمار، لأنَّ هؤلاء الحكَّام وظَّفهم الاستعمار وهيَّأ لهم وضعاً شعبياً معيّناً، حين جعل الشعب يعيش حالة الغشّ في ما ينطوي عليه أمرهم.
لقد التزم هؤلاء أميركا. فهل تعرفون كيف تتعامل أميركا مع قضايا العرب؟
لقد هلَّل العالم العربي كلّه، لأنَّ أميركا صوَّتت مع قرار مجلس الأمن بإدانة "إسرائيل" لأنّها تريد أن تبعد جماعة من الفلسطينيين، ولم تستعمل حقّ الفيتو. لكن ماذا حدث؟.. حدث أنَّ المسؤولين الأميركيين أرادوا أن يقولوا لكلّ العرب حتّى لجماعتهم: لا تفهموا القضية خطأ، فنحن نلتزم "إسرائيل" التزاماً مطلقاً من جميع الجهات، لأنَّ "إسرائيل" هي الدولة الديمقراطية الوحيدة الموجودة في المنطقة ـــ والكلام لوزير الخارجية الأميركية ـــ وربّما تحدث بيننا خلافات ولكنّ علاقتنا هي من العلاقات، التي لا يمكن أن تهتزّ مهما فعلت "إسرائيل" ولا نقبل أن يسيء إليها أحد. وهم يتحدّثون عن مسألة الضفة الغربية وغزّة على أنّها العنف، والعنف يستدعي العنف. وأكثر من ذلك حينما جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية لفظ الأراضي العربية، عاد واستدرك قائلاً: "نحن لا نقصد بالأراضي الفلسطينية أو الأراضي العربية أنّ السيادة فيها للفلسطينيين أو العرب، إنّما نشير بذلك إلى أكثرية سكّان هذه الأراضي"، معنى ذلك أنّ أميركا غير مستعدّة للاعتراف بسيادة العرب على الضفّة الغربية وغزّة والجولان وجنوب لبنان، وتريد أن يبقى الجوّ متحرِّكاً في خدمة "إسرائيل"، حتّى تستوليَ على ما بيدها من البلاد.
وهذا شامير يقول: نحن لا ننسحب من الضفّة الغربية وغزّة، وإنّما هي أرضنا، هي أرض "إسرائيل" ولا يمكن أن ننسحب من أرض "إسرائيل" ولهذا يأتي ممثّل الأمم المتحدة فلا يسمحون له بأن يدخل الضفّة وغزّة ليطلع على المخيّمات. معنى ذلك أنّ أميركا تلتزم بأمن "إسرائيل" وبسيادتها وبكلّ ما تقوم به. وهي تعرف مقدَّماً أنّ أغلب العالم العربي لن يحرِّك ساكناً، لأنَّ أغلب الحكّام يريدون الستر من أميركا ومن "إسرائيل". وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، حتّى نستطيع أن نربك كلّ الخطط الأميركية ـــ وحتّى الأوروبية ـــ التي تريد أن تضطهد وتصادر حريّته ومستقبله. وقد يتعبنا ذلك كثيراً، وقد يكلّفنا كثيراً، ولكن لا خيار لنا إلاّ أن تكون لنا إرادة الصمود أمام المستقبل، الذي يراد لنا فيه أن نعطيَ بأيدينا إعطاء الذليل ونقرّ إقرار العبيد. والأمور كلّها تسير من هذا الاتجاه.
الأصوليّة الإسلامية
في خطابه السنوي، أمام الدبلوماسيين، لم يجد الرئيس اللبناني مشكلة يثيرها في لبنان سوى الأصولية. إذ ليس في لبنان مشكلة اسمها مشكلة "إسرائيل" ولا مشكلة القوّات اللبنانية، ولا مشكلة الجيش الذي قصف الضاحية ودمّرها. المشكلة في لبنان هي هذه الأصولية، التي تريد أن تقف أمام الحضارة اللبنانية التي هي من أعلى الحضارات في المنطقة. إنَّ المشكلة في لبنان لدى رئيس الجمهورية هي الإسلام والإسلاميون الذين يلتزمون الإسلام بعمق!
ما سبب ذلك؟؟.. السبب في ذلك هو أنّ المسلمين لا يقرُّون الظلم الطائفي الذي تمارسه المارونية السياسية، وهم لا يقرّون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فضلاً عن جبل عامل والمناطق الأخرى؛ ولأنّهم لا يسمحون بأن يكون لبنان مزرعة أميركية أو إسرائيلية أو أوروبية، بل يريدون أن يكون لبنان لبنيه.. لكلّ بنيه، لأنَّ المسلمين لا يتحرّكون من موقع سياسة اللّف والدوران، وإنّما يريدون للشعب أن يعيش القضايا بوضوح. ولعلَّ السبب في الارتباك العربي بالنسبة إلى انتفاضة الضفّة الغربية وغزّة هو أنّها انتفاضة إسلامية، تريد أن تتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في لبنان، لتتكامل مع الانتفاضة في مصر وفي غيرها. ولهذا فإنَّهم يحاولون أن يحتووها ويدجّنوها ويطلقوا شعارات تريد أن تستلب هذا الوهج، الذي استطاعت أن تأخذه.
إنّهم يحاولون أن يمنعوا أيَّ تواصل إسلامي، لأنَّ التواصل الإسلامي يعمل على أساس أن يواجه المسلمون قضية حريّتهم، كقضية لا مجال للتحدّث فيها؛ ولهذا فإنّهم يعملون الآن على إظهار المسألة في الضفّة الغربية وغزّة على أنّها مجرّد مسألة أمنية داخلية. وتقول مصر: لا بدّ أن تتعاملوا مع هذه الانتفاضة بغير هذه الطريقة. وحتّى مجلس الأمن يتحدّث عن القضية كقضية إسرائيلية داخلية تسيء فيها "إسرائيل" للنّاس هناك، لا على أساس أنّها قضية شعب يريد أن يتحرَّر، وقضية حريّة ضدّ "إسرائيل" وضدّ احتلالها.
وهكذا الأمر في لبنان؛ إذ نرى أنّ محاصرة قرية لبنانية في الجنوب ومنع دخول الأغذية والأدوية إليها لا تشكّل مشكلة بالنسبة إلى الساحة السياسية اللبنانية.
وليس هناك مَن يتحدّث عن قصف "إسرائيل" لإقليم التّفاح في جبل عامل أو قصفها لمناطق من صيدا وقتلها العديد من العوائل فيها؛ ولو أنّ طفلاً إسرائيلياً قتل على الحدود، لاهتزّ العالم وتوالَت برقيات رؤساء الدول مستنكرة وحشية قتل الأطفال!!
نقول في الختام: إنَّ المسألة الفلسطينية طويلة، والمسألة اللبنانية طويلة، ومسألة الخليج طويلة.. هذه مسائل طويلة. وإذا أراد البعض أن يخدّرنا بالقول: إنّ المشكلة ستُحلُّ غداً أو بعد غد، فعلينا أن نعرف أنّ الوقت طويل طويل، وأنّ علينا أن نتعايش مع المشكلة، وأن نقلِّع شوكنا بأظافرنا، وأن نظلّ مع قرار الحسين (عليه السلام) حين قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
جحيم الهوى وجنّة العقل(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد : 14] وقال سبحانه في آيةٍ أخرى {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29] وفي آية أخرى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43].
في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن الناس في ما يتحرَّكون به من أعمالٍ وفي ما يتكلّمون به من كلمات، وفي ما ينتمون إليه ممّا ينتسب إليه الناس من عقائد وأحزاب ومنظّمات وحركات وما إلى ذلك.
اتّباع الهوى
إنَّ الله يتحدّث عن السلوك العام للإنسان، كيف يجب أن ينطلق وعن أيّة قاعدة؟ فيحدّثنا عن وجود نماذج من الناس ـــ وهم الكثرة ـــ يتحرّكون في الحياة، من خلال أهوائهم ومن خلال شهواتهم وغرائزهم؛ فهم عندما يريدون أن يتكلّموا بكلمة فإنّهم يراقبون أنفسهم ماذا تشتهي، وماذا تحبّ، ولا يراقبون عقولهم فيما تناقش وفي ما تفكِّر. وإذا أرادوا أن ينشئوا علاقة مع أيّ إنسان، سواء كانت علاقة شخصية أو كانت علاقة عامّة، فإنّهم يفكِّرون في ما يتواصلون به وفي ما يتقاطعون فيه، يفكِّرون في هوى أنفسهم: هل أنّ نفسي تشتهي أنْ أبني علاقة مع فلان أو مع فلانة، أم أنّها لا تشتهي ذلك؟ فتكون علاقات أحدهم خاضعة لهوى نفسه ولمشتهياتها. وهكذا عندما يتّخذ أيّ موقف في الحياة، سواء كان الموقف اجتماعياً أو سياسياً أو أيّ موقف من المواقف، فإنَّ الأساس عنده هو ما تحبّه نفسه وما تشتهيه. هؤلاء هم نماذج موجودة في كلّ زمان وفي كلّ مكان. وهؤلاء الذين يعتبرون أنّ أقصى طموحاتهم في الحياة، هو أن يحصلوا على تلبية رغباتهم وشهواتهم؛ فالسعيد عندهم مَن حصل على ما يشتهي، والشقي عندهم هو الذي لا يحصل على ما يشتهي. والحياة عندهم تتحرّك في هذا الاتّجاه.
اتباع العقل
وهناك نماذج أخرى في الناس ـــ وقد تكون هذه النماذج هي الأقليّة ـــ تتحرّك في الحياة من موقع علم، ودراسة، وفكر. فهؤلاء يفكّرون أنّ النفس قد تشتهي شيئاً، ولكن قد يكون هلاكها في ما تشتهي؛ وقد تهوى أمراً، ولكن قد يكون حتفها في ما تهواه، لأنَّ النّفس عندما ترتبط بالأشياء فإنّها ترتبط بها من خلال غرائزها وانفعالاتها. ولهذا فإنَّ النّفس تتحرّك نحو الشيء من خلال سطحه لا من خلال عمقه.
راقبوا أنفسكم عندما تشتهون شيئاً تأكلونه أو شيئاً تشربونه أو شيئاً تمارسونه في مجال لذّاتكم. راقبوا أنفسكم هل تُقبلون على الشيء لتدرسوا عواقبه، أم أنّ النفس تقبل عليه من بداياته؟
غالباً ما نأكل الأكلة التي نشتهيها، دون أن نفكّر ما هو موقعها في حياة الجسد وفي صحّته. وهكذا عندما نمارس الشهوة التي نشتهيها فإنّنا ندرس أحاسيسنا ولا ندرس النتائج العامّة أو الخاصّة التي تنتهي إليها هذه الشهوة أو هذه اللّذة. أَلَسْنا نرتبط بشهواتنا من هذه الجهة؟ هذا النموذج يرى ذلك، ولذلك فهو يفهم جيداً قول الله سبحانه وتعالى في ما حكاه عن امرأة العزيز، وهو يريد أن يركّز حقيقة إنسانية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف : 53].. لماذا تكون النّفس أمّارةً بالسوء؟.. لأنّ النّفس تتحرّك في كلّ نشاطاتها، من موقع غرائزها ومن موقع سطح الأشياء، لا من موقع عمقها. والإنسان إذا أراد أن يواجه المسألة على السطح، فإنّه لا يواجه إلاّ الغرائز التي تقوده إلى الانحراف، والمعصية، وإلى ما يورّطه في أشياء كثيرة من خلال النتائج. فالله يقدّم لنا هؤلاء على أنّهم لا يخضعون لهوى أنفسهم، بل يدرسون المسألة عندما يشتهون شيئاً يأكلونه.. يدرسون موقعه من تغذية الجسد، ومن سلامته، ومن مسألة الحلال والحرام، وفي سلامة الموقف أمام الله. وبعد أن يدرسوا ذلك ويعرفوا عمقه ويعرفوا نتائج الغذاء، فإنّهم يتناولونه إذا كان صالحاً، ويرفضونه إذا كان فاسداً. وهكذا إذا اشتهت أنفسهم شراباً فإنَّهم يفكّرون في المسألة من ناحية علاقته بجسدهم، وبعقلهم، وبحياتهم، وبإيمانهم.. وفي كلّ المجالات الأخرى. وهكذا ـــ أيضاً ـــ عندما ينطلقون في أيّة شهوة، سواء كانت شهوة جنس أو كانت شهوة جاه أو أيّ نوع من أنواع الشهوات؛ فإنّهم يراقبون نتائجها ولا يراقبون بداياتها فحسب. ولهذا فإنَّ هؤلاء يتحرّكون في الحياة من موقع علم، فيدرسون المسألة ويعلمون طبيعتها، ويعلمون حقيقتها ثمّ يتحرّكون فيها. أمّا أولئك فإنّهم لا يتحرّكون من موقع علم، بل يتحرّكون من موقع جهل، لأنّهم يرتبطون بالأمور الحسيّة ولا يرتبطون بالأمور العقلية والفكرية. ومن هنا فإنَّ الله سبحانه وتعالى عندما عرَّفنا هؤلاء، قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمّد : 14].. أي هل يمكن أن يستوي هذا الإنسان، الذي إذا أراد أن يسير في أيّ طريق، فإنّه يحاول أن يدرس إذا كان عنده بيّنة واضحة من ربّه تبرّر له سلوك هذا الطريق أو تناول هذا الشيء أو ممارسة هذه اللّذة، مع مَن ليس عنده بيّنة واضحة من ربّه على صلاح هذا الأمر، بل ينطلق من خلال انفعالاته وشهواته وأهوائه.
وهكذا يقدّم الله لنا المسألة. وأيضاً عندما يتحدّث الله لنا عن الظالمين، سواء هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وبالمعصية، أو الذين ظلموا الناس بطغيانهم، فإنّه يحدّثنا عنهم بأنَّ مشكلتهم هي: كيف صاروا ظالمين؟ وكيف ظلموا أنفسهم؟ وكيف ظلموا الناس؟ إنّ الله يقول إنّهم اتّبعوا أهواءهم {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم : 29].. اتّبعوا أهواءهم لأنّهم انطلقوا مع أهوائهم ومع انفعالاتهم فكفروا بالله، ليرضى عنهم الناس من حولهم أو لئلا يلتزموا الالتزامات الصعبة في الحياة. وهكذا أيضاً عندما يتحدّث عنهم، يذكر أنّهم طغوا في البلاد حتّى يعوّضوا عن عقدة الضعف التي يعيشونها ضدّ المظلومين، وحتّى يحاولوا أن يحصلوا على بعض اللّذات وبعض المشتهيات.

لنختر أحد السبيلين
هذان نموذجان من الناس؛ لنا أن نختار أحدهما في الحياة. والله يريدنا أن نختار النموذج الذي يتحرّك في الحياة من موقع دراسة ومن موقع فكر ومن موقع وعي، على أساس أن يدرس الإنسان كلّ مسألة وكلّ قضية من موقع علاقتها بحياته، وأن يدرسها على أساس موقعها من ربّه ومن قضية إيمانه وآخرته.
الله يخاطب المؤمنين: إذا كنتم تؤمنون بحياتين، فإنَّ عليكم أن تدرسوا سبل السلامة في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، وأن تناقشوا الأمور على أساس ما يحقّق لكم هذه السلامة هنا، وتلك السلامة هناك، حتّى تستطيعوا أن تعيشوا في صحّة وعافية في الدنيا، وتحصلوا على صحّة وعافية في الآخرة. وهذا ما نلاحظه في بعض الأدعية التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربّه، لا ليسأله عافية الدنيا فحسب، بل ليسأله عافية الدنيا والآخرة؛ العافية في الدنيا من البلاء والعافية في الآخرة من العذاب ومن العقاب.
مراقبة النّفس
لا بدّ للإنسان من أن يدرس كلّ مشتهيات نفسه، فيحدِّث نفسه حديثاً هادئاً، حتّى يستطيع أن يركّز فيها القضايا التي يمكن لها أن تسير فيها على هدى وعلى بيّنة. فالمشكلة في كثيرٍ من الناس أنّهم لا يجلسون مع أنفسهم، بقدر ما يجلسون مع الآخرين.
راقبوا أنفسكم من بداية اليوم إلى نهايته. إنّكم تجلسون مع زوجاتكم ومع أولادكم، وتتحدّثون مع زبائنكم ومع الناس الذين تعملون معهم ومع أصدقائكم. ولكن مَنْ منكم جَلَسَ مع نفسه ساعة، يفكِّر فيها ويتحدّث فيها لنفسه. إنّي أزعم أنّ أكثر الناس لا يطيقون الجلوس مع أنفسهم ولا يطيقون الحديث معها. ولهذا فإنَّ أنفسهم لا تتربّى على أساس إرادتهم، وإنّما تتربّى على أساس البيئة التي تحيط بهم.
من أين نأخذ عقليّاتنا؟ إنّنا نأخذها من البيت الذي نعيش فيه، من أصدقائنا، من أصحابنا ومن أقربائنا. فالبيئة تفرض علينا انفعالات وعصبيّات وشهوات وخطاً نسير فيه. وإذا بنا نشعر أنّنا نلتزم بعض الخطوط السياسية أو الاجتماعية، من دون أن نختارها من خلال عقولنا، ولكن لأنَّ عوائلنا اختارتها، ولأنَّ أصحابنا اختاروها، ولأنَّ أقرباءنا اختاروها. وهكذا فإنّنا عندما نختار طريقاً أو عقلية نتحرّك فيها، فإنّنا نأخذها من الناس من دون اختيار، من خلال أحاديثهم ومن خلال أوضاعهم، ونشعر أنّ عقليّاتنا لم نصنعها نحن باختيارنا ولم نُناقشها مع أنفسنا، وأنَّ انتماءاتنا ـــ عندما ننتمي إلى موقع سياسي أو اجتماعي أو أيّ موقعٍ آخر ـــ لم تكن وليدة قناعاتنا، إنّما هي وليدة قناعات الآخرين ورغباتهم.. وهكذا في كثير من مجالات الحياة.
قد نكتشف أنّنا لم نصنع انتماءنا أو عقليّتنا أو رغباتنا أو أحلامنا، بل تركناها تتحرّك في نفوسنا من خلال تأثّرها بمن حولها. ونحن نقول إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينعزل عن مجتمعه، لأنّه لا يستطيع أن يعيش وحده. لكن لا مانع من أن تستقبل تأثُّرات مجتمعك وتناقشها مع نفسك.. فناقش مع نفسك ما يقوله أبواك، وناقش ما يقوله أصدقاؤك، وناقش عادات وتقاليد مجتمعك، وناقش الأوضاع التي تتحرّك في المجتمع من حولك، في أيّ محور من محاور المجتمع.. ناقش: هل هذا صحيح؟ وكيف أثبت صحّته؟ أم هذا خطأ؟ وكيف أثبت خطأه؟ لا تلتفت إلى رغبات نفسك، ولكن التفت إلى حركات عقلك. التفت إلى العقل وهو يحاكم الأشياء ولا تلتفت إلى المشاعر وهي تشتهي الأشياء، فإنَّ الشهوة إذا لم تُدْرَسْ دراسة حقيقيّة قد تنقلب على صاحبها، لتعطيه آلاماً في المستقبل أكثر ممّا حصل فيه على لذَّات. ولذا يريد الله منّا أن نناقش شهواتنا وأهواءنا، لنبقي الأهواء التي يشرّعها العقل المتحرّك في خطّ الشرع، ونطرد الأهواء التي يقول لنا العقل، ويقول لنا الشرع إنّها أهواء ليست في مصلحتنا. وهذا إنّما لاحظناه في الآية الكريمة: {فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 ـــ 41] إنَّ معنى ذلك ـــ ونحن نريد أن ننفذ القرآن ـــ أنّ الفاصل بين الجنّة والنار، هو اتّباع الهوى أو عدم اتّباعه. فمن اتّبع هواه ولم يوقفه على قاعدة، فانطلق مع الدنيا تبعاً لهواه، فإنَّ الجحيم ستكون مأواه، ومَن خاف مقام ربّه فجعل علاقته بالله ومقام الله منه، هما الأساس في كلّ حياته {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى ذلك أنّنا لا بدّ أن ندرس أهواءنا من خلال أفكارنا، وندرس شهواتنا من خلال شريعة الله ووحيه، لنحدّد ما نفعله وما لا نفعله، ولنحدّد ما نتبعه وما لا نتبعه، لنستطيع أن نحدِّد طريق الجنّة وطريق النار.
عبادة الهوى
لقد اعتبر القرآن الكريم اتّباعَ الهوى عبادةً له. أن تجعل كلّ طموحك في الحياة أن ترضي هوى نفسك، يعني جعلت هواك إلهاً تعبده من دون الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان : 43] اتركه لنفسه، عظه وأرشده وتحدَّث معه، ولكن إذا لم يقبل أن يتبع ربّه وفضَّل أن يتبع هواه، فاتركه لهواه فسيلاقي ثمرة اتّباعه هذا عندما يلاقي إلهه الحقّ، الله الواحد القهَّار.
ثمّ يقول في آيةٍ أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية : 23]. يحدّثنا الله عن نموذج من الناس يفهم الأمر تماماً، يفهم أنّ هذا حرام وأنّ في هذا الشيء ضرراً ومفسدة، ولكنّه لا يملك إرادته ولا يملك أن يثبت وعيه في الموقف الصعب، فينطلق مع شهوات نفسه فتغلبه على حساب خطوات عقله. هذا الإنسان هو الذي يبيّن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أنّه يضلّه. وليس معنى ذلك أن يوقعه في الضلال، ولكنّه عندما اختار الهوى وعندما جعل إلهه هواه ولم يَخَفْ مقام ربّه، فإنَّ نتيجة ذلك أنّه سيضيع، لأنَّ الهوى ليس له خطّ مستقيم، فاليوم يمكن أن يمشي بك إلى الشرق وغداً إلى الغرب وبعد غدٍ إلى طرقٍ أخرى وأخرى. ولذلك فإنَّ الذي يتبع هواه فإنّه يضلّ. وقد يضلّ الإنسان من غير علم وقد يضلّ بعلم عندما لا يستطيع أن يحكِّم إرادته {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} لأنَّ الهوى إذا سيطر على الإنسان، فإنّه يمنعه من أن يسمع فكأنَّ أذنه مغلقة، وإذا سيطر على قلب الإنسان ـــ وقلبه وعقله ـــ فإنّه يمنعه من أن يفكّر ويمنعه من أن يرى الأشياء على حقائقها. ولهذا فإنَّ الله تعالى ـــ يقول: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} لأنَّ الله جعل له سبيل الهدى، فخالفه واتّبع سبيل الهوى. وهكذا فإنَّ نتيجته أن يظلّ سائراً في الضلال، حتّى يلاقي الله غداً وهو ضالّ في حياته.
إنَّ الله يجعلنا نواجه المسألة على هذا الأساس، فيحدّثنا عن بعض الناس الذين كانوا يتبعون أهواءهم، ويذكر شخصاً كان موجوداً في بعض الأزمنة.. شخصاً لديه العلم ويعرف آيات الله ويعرف حقائق الإيمان وحقائق الأشياء، ولكنَّ علمه لم يتحوّل إلى قضية تعيش في ذاته، فكان علمه في عقله، ولكنَّ شهوته هي التي كانت تسيطر عليه فلم يستفد شيئاً. ولهذا لا يكفي العلم، بل لا بدّ من الإيمان ولا بدّ من الإرادة التي تجعل الإنسان يتحرّك في علمه من خلال إيمانه وإرادته. يقول الله لرسوله في ذلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا..} أي لم يرتبط بها وهو يعرفها ويعيها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف : 175]، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} يعني لو شئنا لجعلناه يرتفع إلى الدرجات العليا من آياتنا، ولكنّنا لا نجبر الناس على الهدى إنّما ندلّهم على الطريق، فإذا ساروا فيه فإنّنا نرفعهم {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ..} أي التصق بالأرض ولم ينفتح على السماء، التصق بشهواته ولم ينفتح على ربّه {وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث..} لأنّ هناك مَن إذا تكلَّمت معه لا يستمع إليك وإذا تركته لا يستمع إليك، فحاله كحال الكلب إذا ما وقفت أمامه صار ينبح وإنْ تركته ظلّ ينبح. وهذه هي حال مَن يتبع هواه، لماذا؟ لأنّه ليس لديه عقل؛ إذ تحوَّل الهوى عنده إلى حالة مسعورة في داخل نفسه، تجعله يواجه القضايا من خلال شهواته ومن خلال انفعالاته ومن خلال عصبيّاته. ولذا أصبحت المسألة بمثابة الغريزة، فالنباح هو غريزة الكلاب، وكذلك هذا الإنسان عندما اتّبع هواه صار الضلال غريزة عنده {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الأعراف : 176] كلّ الذين كذَّبوا بآيات الله مَثَلهم هذا المثل، لأنّهم أخلدوا إلى الأرض، واتّبعوا أهواءهم فالله يقول لك: لا تلتصق بالأرض.. لا تلتصق بكلّ شهواتها وبكلّ مشاعرها، بل خذ من الأرض ما يبني لك حياتك على الخطّ الذي يريده الله منك، وانفتح على الله سبحانه وتعالى، لتسموَ نفسك وليكبر عقلك ولتنطلق أحلامك لتشمل الدنيا والآخرة، ولا تقتصر على الدنيا وحدها.
دعوة الحقّ
ثمّ يقول الله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف : 176] يريد الله أن يقصّ علينا ما جاء من قضايا الآخرين أو من الأمثال، حتّى نفكّر وحتّى نجتنب الطريق المنحرف، الذي لا يريدنا الله أن نسير عليه في كلّ حياتنا.
ويريد أن يقول لنا: أيُّها الناس، ستتعرّضون في حياتكم لمشاكل كثيرة من الناس، الذين يريدون منكم أن تنطلقوا بعيداً عن الله، ولكن {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء : 27].
إنَّ الله يناديكم إذا أخطأتم وإذا انحرفتم وإذا ضللتم عن الطريق بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر : 53] يقول الله لكم: يا عبادي إذا ابتعدتم عنّي، فتعالوا إليَّ {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] الله يريد أن يتوب عليكم، ويقول لكم إذا أخطأتم صحِّحوا خطأكم، وإذا انحرفتم فاستقيموا في طريقكم، وإذا أخطأتم فتوبوا إليَّ لأُصحِّح خطأكم. إنّه يريد أن يتوب عليكم لذلك يدعوكم إلى التوبة وإلى الرجوع إليه. أمّا الذين يتبعون الشهوات من زعمائكم وأصدقائكم وأقربائكم وأزواجكم وكلّ الناس من حولكم، فإنّهم يريدون منكم أن تميلوا عن الطريق ميلاً عظيماً.. فماذا تختارون؟ هل تسيرون مع الله، أم مع الذين يَتَّبِعون الشهوات؟
الله يقول لك: إبدأ الطريق المستقيم من جديد، وأولئك يقولون لك: لا تعش وحدك.. إمشِ مع الناس، خض مع الخائضين، واكذب مع الكذّابين، وانحرف مع المنحرفين، واظلم مع الظالمين، وخذ حصّتك مع الذين يأخذون حصصهم من كلّ حرام، ومن كلّ ظلم وما إلى ذلك. الذين يَتَّبِعون الشهوات يتحدّثون بهذه اللّغة ولا يريدون لكم أن تستقيموا. قد يأتي آباؤكم ويقولون لكم إذا رأوا منكم استقامة على طريق الله وهم يخافون عليكم من كثير من أجهزة المخابرات، ومن بعض الحكومات، ومن بعض الأحزاب والحركات والمنظّمات، ومن طغاة قريتكم أو منطقتكم.. يأتي آباؤكم إليكم ليقولوا لكم: اتركوا ما أنتم عليه.. لا تذهبوا إلى المساجد، ولكن اذهبوا إلى الملاهي، لأنَّ الأجهزة إذا رأتكم في الملاهي فسوف لا تحاسبكم، لكنّها إذا رأتكم في المساجد فسوف تراقبكم. يخافون عليكم ذلك لأنّهم يريدون أن يتَّبعوا الشهوات، ويريدون منكم أن تتَّبعوها، والله يريد أن يتوب عليكم ويقول لكم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153] يريدكم الله أن تأتوا إلى المسجد، لا لتنغلقوا فيه عن حركة الحياة، ولكنّه يريد منكم أن تتطهَّروا في المسجد؛ أن تطهِّروا عقولكم من كلّ كفر وشرك، وأن تطهِّروا عواطفكم من كلّ انحراف، وأن تطهِّروا مواقفكم من كلّ زلل.. يريد الله منكم ذلك ويقول لكم: كما أنّكم إذا توسَّخ جسدكم، تذهبون إلى الحمّام لتتطهَّروا، فإذا توسّخت عقولكم وأرواحكم ومشاعركم فتعالوا إليَّ في المسجد، لتتطهَّروا ولتعيشوا طهر الفكر وطهر الشعور وطهر الحركة والحياة.
إنَّنا نجد الكثيرين من الناس لا يكتفون بأن يتَّبعوا الشهوات، بل يحاولون أن يجعلوا أولادهم وأصدقاءهم وأقرباءهم معهم. هؤلاء هم الذين يخسرون: {... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر : 15]. يريد أن يتَّبع الشهوات ويشرب الخمر ويريد من أولاده أن يشربوا الخمر معه، ويتعقَّد من أولاده وزوجته وبناته إذا وقفوا ضدّه في ذلك. ويلعب القمار ويريد منهم أن يلعبوا، وينصر الظالمين ويريد منهم أن ينصروهم.. وهكذا في كلّ المجالات، بل إنَّ بعضهم يقدّم أولاده للشيطان ليموتوا في سبيله حتّى يحصل على مال، كما يفعل الكثير من الناس في المنطقة الحدودية، باعتبار أنّ "إسرائيل" تشترط أنّ الذي يريد أن يعمل في داخل فلسطين، في مزارع "إسرائيل" ومصانعها، لا بدّ أن يكون له ولد أو أخ يحارب أو ما إلى ذلك، فيأتي الآباء ليضغطوا على أبنائهم، ليتجنَّدوا مع الشيطان وليقاتلوا أهلهم وإخوانهم، حتّى يحصلوا على فرصة عمل. يموت ابنه ويذهب إلى النار وبئس القرار ليحصل على مال. لا مانع عندهم أن يقاتل أولاده مع الشيطان وفي سبيل أهدافه، ولكن عنده ألف مانع من أن يقاتل أولاده مع الله وفي سبيله. والناس كما يقول عمر بن سعد ـــ وهم في أغلبهم مع منطق عمر بن سعد:
يقولون إنَّ الله خالق جنّةٍ ونارٍ وتعذيبٍ وغلِّ يدينِ
فإن صدقوا في ما يقولون إنَّني أتوبُ إلى الرحمنِ في سنتينِ
ثمّ يقول آخر الأمر: "وما عاقل باع الوجود بدين".
هذا هو منطق الساحة ومنطق اتّباع الهوى، الذي يجعلك ترتبط بهواك فتبتعد عن الحقّ. ألسنا نتعصَّب على الإنسان الذي ليس معنا حتّى لو كان مع الحقّ؟ ألسنا نقف ضدّه ولا ندرس، هل هو مع الحقّ أم لا؟ قد لا يكون معك، ولكن قد يكون على حقّ، في الوقت الذي تكون فيه أنت في سلوكك على باطل. لماذا لا تناقش الأمور؟ ولماذا لا تعرف موقع رضى الله سبحانه وتعالى؟
الانفتاح منهج إلهي
هناك خطّ إلهي واضح يحدِّده قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} [الحجرات : 10] فاختلاف أحدكم مع أخيه لا يجعله كافراً، ولا يخرجه عن خطّ الإيمان العام. فعلى أيّ أساس تقاتله وهو يقاتلك، وتتعصَّب ضدّه وهو يتعصَّب ضدّك؟ أيّ معنى لذلك؟
إنَّ عصبيّة الشيطان هي من الأهواء والأنانية؛ أنانية الذّات والحزب والطائفة والحركة والمنظّمة والعشيرة. فالأنانية هي التي تسجن الإنسان في داخلها، ولا تسمح له بأنْ يتنفَّس الهواء الذي يتنفَّسه الناس الآخرون.
كن ابن نفسك وابن عشيرتك وابن حزبك وابن حركتك وابن طائفتك، ولكن لا تجعل هذه الأمور سجناً تسجن فيه ذاتك، بل عش في دائرة واترك فيها باباً ينفتح على الناس، حتّى تحاورهم ويحاوروك وحتّى تتفاهم معهم ويتفاهموا معك، لتكتشف خطأك من خلال ذلك، أو يكتشف الناس خطأهم. إنّ اتّباع الهوى لدى المجتمع، هو الذي يمنعه من أن يمارس عملية الانفتاح في ما بين أفراده. والله أرادنا أن نتعلَّم الانفتاح، فنتحاور إذا اختلفنا ونتناقش إذا تنازعنا، ونتحرّك في الحياة من موقع أنّنا عباد الله وأنّ غايتنا أن نكتشف مواقع رضى الله سبحانه وتعالى، سواء كانت مواقعه في المواقع الصعبة أو في المواقع السهلة، لأنَّ المسألة هي أن نكون على بيّنة من ربّنا، وأن نحفظ سلامة الدُّنيا وسلامة الآخرة.
لنغتنم فرصة الحياة
لنفكِّر بهذه الطريقة، فقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن نفكِّر فيه، وقد يأتي علينا وقت لا نستطيع أن ننفِّذ ما نفكِّر به. نحن في هدنة من الموت، سنذهب جميعاً إلى قبورنا وسنحشر جميعاً إلى مواقفنا بين يديّ ربّنا. هل منكم من يشكّ في ذلك؟ هل منكم من يعتقد بأنّه خالد؟ ليس منكم من يعتقد ذلك، وقد قالها الله لرسوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] إذا كنّا جميعاً سنحشر إلى قبورنا وسنقف بين يديّ ربّنا، فلنفكِّر: هل أنّنا نحشر إلى قبورنا مع الحقّ أم مع الباطل؟ هل نقف بين يديّ ربّنا مع إيماننا أم مع شهواتنا؟ وهل تبقى لنا شهوات؟ وهل يدخل في قبورنا شيء ممّا نأكل وممّا نشرب وممّا نستمتع وممّا نجمع من مال أو ما نعيشه من جاه؟ فكِّروا في ذلك بعمق، واسألوا أنفسكم: ما هي أصناف الطعام أو الشراب أو الشهوات التي تقدّم لنا هناك؟ هل يقدّم لنا شيء؟ أم تقدّم لنا فاتورة الحساب: كيف أكلت؟ وكيف شربت؟ وكيف استمتعت؟ وكيف حاربت؟ وكيف سالمت؟.. وفي ذلك يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "وإنّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"(1) وهكذا نجد أنّ علياً (عليه السلام) يقول: "شتَّان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره"(2). ويقول أيضاً: "ما لعليٍّ ولنعيم يفنى، ولذّةٍ لا تبقى!"(3). والله ـــ كما قلنا ـــ لم يحرّم علينا طيّبات الحياة الدنيا واتّباع أهوائنا في ما لا يصطدم مع إيماننا ومع مسؤوليتنا.
الزهد في حقيقته
جاء شخص إلى أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وقال له: ما الزهد في الدنيا؟ هل نترك الطعام.. هل نترك الشراب.. هل نترك اللّباس الجيّد؟ فأجابه الإمام بأنَّ الأمر ليس كذلك، بل اترك الحرام وكل ما تشاء، واشرب ما تشاء، والبس ما تشاء، واسكن ما تشاء، واستمتع بما تشاء، بشرط أن يكون كلّ ذلك حلالاً، لا حقّ لله فيه، ولا حقّ للنّاس فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف : 32].. لا بدّ أن تعيش بهذه الروح؛ فافعل ما تحبّ، ولكن ليكن ذلك بالحلال. فإنَّ الله لم يرخّص لك في الحرام، سواء على مستوى الأمور المادية أو على مستوى الأمور المعنوية. وهذا ما يجعلنا نشعر بالحاجة إلى أن تكون مواقفنا وانتماءاتنا طوعاً لله. فكما أنّ الله لا يريدك أن تشرب خمراً، كذلك لا يريدك أن تؤيّد ظالماً؛ وكما أنّه لا يريد منك أن تلعب قماراً، فإنّه لا يريد منك أن تكون مع الذين يلعبون في مصائر أُمّتك، كما ورد في كتابه الكريم: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود : 113]. وهكذا يريدنا الله أن نواجه أعداءنا الذين قال عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] وقد يكون هوانا أن نكون مع اليهود ومع الذين أشركوا.


التجرُّد عن العصبيّة
يريدنا الله أن لا نعيش العصبية، فقال في كتابه الكريم: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ...} [الفتح : 26] حرَّم الله علينا عصبية الجاهلية وأراد لنا أن نلتزم كلمة التقوى، كما التزمها النبيّ وأصحابه وكانوا أحقّ بها وأهلها. وكما حرَّم علينا اتّباع أهوائنا في مواقفنا السياسية والاجتماعية وفي كلّ مجالاتنا الاقتصادية والأمنية والعسكرية. ولهذا ورد في الحديث الشريف: "لا تحرِّكوا بأيديكم سيوفكم في هوى ألسنتكم" فعندما تمتلك سلاحاً لا تحرّكه من خلال مزاجك، بل حرّكه في خطّ مسؤوليّتك أمام الله. فالسلاح أمانة الله عندك عليك أن تحميَ به نفسك وعيالك، وأن تحميَ به الضعيف ولا تحميَ به هوى نفسك، ولا تحمي به ظالماً أو منحرفاً. إنّه أمانة الله عندك وسيسألك الله عن هذه الأمانة. والمال أمانة عندك فلا تسخِّر مالك في إفساد حياة الناس وفي اجتذاب الناس إلى الباطل، أو تقويته.. إنَّ الله لا يرضى أن تتبرَّع به للمبطلين وتمنعه عن المحقّين أو توظّفه في خدمة الظالمين وتمنعه عن خدمة العادلين. إنّه لا يريد منك ذلك، لأنّ المال أمانة عندك فانظر أين تضع هذه الأمانة؟
وكذلك مواقفك عندما تُحارب أو تُسالم أو تؤيّد وترفض؛ فإنَّ الله لم يطلق حريّتك إلا أن تؤيّد الحقّ وتخذل الباطل، وإلاّ أن تحارب الكفر والظلم وتسالِم الإيمان والعدل في كلّ مجالات الحياة. فقد ورد في الأحاديث الشريفة: "مَن لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1) و"مَن سَمِعَ رجلاً ينادي يا لَلْمُسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"(2) وحتّى اهتماماتك يريد الله منك ألاّ تخضعها لانفعالاتك ولأنانيّتك. فلا بدّ لك من أن تتفاعل نفسياً مع كلّ موقع من المواقع ولا بدّ من أن تحمل في فكر وفي وعيك وفي إحساسك همَّ المسلمين جميعاً وأن تلاحق كلّ قضاياهم، وأن تفكِّر معهم، وتفكّر لهم، وأن تخطِّط في نفسك كيف تستطيع أن تنصرهم بكلّ ما عندك من إمكانات النصر في الحياة. لأنَّ الإنسان المسلم لا بدّ أن يشعر بأنّه جزء من أُمّة، فكلّ ما يصيب الأُمّة يجب أن يعيش اهتماماته.
الأُمّة... جسد واحد
لا بدّ من أن نعرف حقيقة واقعية وهي أنّ المسلمين إذا ضربوا في بعض مناطقهم، فإنَّ مناطقهم الأخرى تضعف بضعفهم. كما إذا ضُرِبَ الجسد في بعض أعضائه، فإنَّ بقية الأعضاء ـــ مهما كانت قويّة ـــ تضعف بضعف هذا العضو. ومن استطاع أن يتسلَّط على جزء من الأُمّة فسيكون تسلّطه على هذا الجزء أساساً لتسلّطه على الجزء الآخر. وبهذا نعتبر أنّ مسألة المسلمين في العالم هي مسألة متكاملة، سواء في مجال قوّتها أو مجال ضعفها. إنَّ أيّة قوّة لأيّ موقع إسلامي في العالم هي قوّة للمسلمين في كلّ مكان، يأخذون منه كلّ بقدرٍ معيّن. كما أنّ ضعف المسلمين في أيّ مكان في العالم، هو ضعف للمسلمين في بقيّة المجالات.
علينا أن ننطلق في هذا المجال، بعيداً عن كلّ الأهواء الوطنية القومية، التي تحاول أن تفصل ـــ في ما فيه مصلحة المسلمين ـــ بين موقعٍ وآخر وبين شخصٍ وآخر أو جهةٍ وأخرى. نعم، من حقّنا أن نهتمَّ ببلدنا وبالناس الذين يعيشون معنا، ولكن أيضاً من حقّ كلّ إخواننا من المسلمين في العالم أن نهتمَّ بهم، كما نطلب منهم أن يهتموا بنا، حتّى نستطيع أن نُضْعِفَ الذي يريد أن يغتنم فرصة ضعف المسلمين في بعض المواقع. وهذا هو الذي يحدِّد لنا مواقفنا مع كلّ الناس ومع كلّ الحكَّام.
إسرائيل والنظام المصري
ثم نعيش الخطر الإسرائيلي في المنطقة، هذا الخطر الذي خطَّطت له المنظّمات اليهودية منذ ما يقارب المئة سنة، والتي تعاونت معها كثير من المنظّمات غير اليهودية، وكثير من الدول الاستعمارية التي لم تستطع أن تسيطر على كلّ العالم الإسلامي، فحاولت أن تربك كلّ مواقعه بطريقةٍ وبأخرى. فجاءت بــ "إسرائيل" وزرعتها في قلب العالم الإسلامي والعالم العربي، من أجل أن تمنعه من أن يتَّحد بعضه مع بعض أو أن يلتقيَ بعضه مع بعض، لتكون "إسرائيل" هي الدولة التي يمكن أن تربك كلّ المنطقة، وتمنعها من أن تعمل على أن تكون قويّة وعلى أن تستفيد من كلّ ثرواتها، في سبيل بناء مستقبلها وبناء قوّتها. لهذا كنّا نقول: إنَّ ما يحدِّد علاقتنا بالناس، هو قربهم من مسألة الجهاد ضدّ "إسرائيل" وبعدهم عنها. ولهذا اتّخذنا الموقف ضدّ النظام المصري، على أساس أنّه عطَّل الحرب مع "إسرائيل" في العالم العربي. وعندما حيَّد مصر عن ساحة الصراع، استطاع أن يحيِّد كلّ العالم العربي ـــ على مستوى الأنظمة ـــ عن ساحة الصراع. ولهذا كنّا نرى أنّها الجريمة الكبيرة، التي لا تمثّل انسحاباً من ساحة الصراع وحسب، ولكنّها تمثّل إيجاد خلل في البنية العسكرية التي تواجه "إسرائيل".
وهكذا رأينا أنّ هذا النظام عمل على أن يكون الجسر، الذي يمكِّن "إسرائيل" من أن تكون جزءاً من المنطقة وأن تفعل ما تريد فيها، لأنّه نظام يرتبط بأميركا التي تكفل لــ "إسرائيل" كلّ قوّتها كفالة مطلقة وتكفل لها كلّ أمنها. إنّه نظام لأميركا، ولهذا فإنّه يسهل لها كلّ ما تريد، حتّى أنّه يجري مناورات معها.. تلك المناورات التي تسمّى "بالنجم الساطع" التي تحاول فيها أميركا أن توجد قوّة من الجنود الأميركيين، الذين يستطيعون أن يقمعوا أيّ حركة تحرّر موجودة في المنطقة، بتسهيل من النظام المصري.
وأخيراً عندما انطلقت تظاهرات من الجامع الأزهر ومن بقيّة الجوامع ومن الجامعات، كان دور هذا النظام هو ضرب التظاهرات، التي كانت تنادي بالموت لــ "إسرائيل" وبالاحتجاج على ما قامت به "إسرائيل" من قتل وتدمير الفلسطينيين في الضفّة الغربية وفي غزّة واعتقالهم بكلّ وحشية. أراد المصريون أن ينطلقوا من صلاة الجمعة ليحتجُّوا في تظاهرة، وصدرت الأوامر بقمع تلك التظاهرات وذكروا أنّ هؤلاء استغلّوا صلاة الجمعة لرفع شعارات لا تتناسب مع الأمن!.
ما هو دور صلاة الجمعة أساساً؟
إنّها الصلاة السياسية التي فرضت، ليبحث فيها المسلمون كلّ قضاياهم السياسية والاجتماعية وليست مجرّد صلاة عادية. لا معنى للقول بأنّهم استغلّوا صلاة الجمعة؛ فدور صلاة الجمعة هو هذا الدور، ولهذا كان الحكّام يعملون على أن يوظِّفوا خطباء جمعة، ويعطوهم الخطبة ليقرؤوها كما يقرأ الطالب ما يعطيه الأستاذ، لأنّهم يخافون من الروح الإسلامية الجماعية التي يجتمع فيها المسلمون في مساجدهم بين يديّ الله... يخافون منها أن تجدّد في المسلمين شعورهم بالحريّة والعزّة والكرامة والاستقلال وبضرورة مواجهة كلّ الذين يريدون أن يصنعوا مشاكلهم. ونحن نواجه الآن في أكثر العالم العربي صلاة جمعة لا روح فيها ولا معنى لها، لأنّها صلاة تعمل على التسبيح بحمد الظالمين والطغاة والكافرين من جهة، وتعمل على تخدير الأُمّة من جهةٍ ثانية، وتعمل على إبعاد الشعب عن الشعور بمشاكله وقضاياه من جهةٍ أخرى. ليست هي الصلاة التي يريدها الله سبحانه وتعالى في يوم الجمعة.
جهاد العلماء
يحدث بين وقتٍ وآخر أن ينطلق علماء مجاهدون لا يكترثون بقرار النظام، بل يحترمون قرار الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في ما حمّلهم من مسؤولية كي يقولوا كلمة الحقّ، حتّى لو كلّفتهم كثيراً من حريّتهم ومن حياتهم. ومن هنا فإنّنا ننظر بإكبار وتقدير واحترام إلى كثير من علماء الضفة الغربية وغزّة، الذين استطاعوا أن يثيروا هذه الانتفاضة من مواقعها الإسلامية، حين قالوا كلمة الحقّ أمام "إسرائيل" وأمام احتلالها وضغطها، حتّى بدأت تخطّط لإبعادهم عن الضفّة الغربية وعن غزّة.


الأنظمة العميلة وأميركا
إنَّ المشكلة هي أنّ حكَّام هذا النظام وبقيّة الأنظمة عملوا على أن يكوِّنوا مع "إسرائيل" قوّة في وجه كلّ الذين يريدون أن يتحرَّر المسلمون من سيطرة الاستعمار، لأنَّ هؤلاء الحكَّام وظَّفهم الاستعمار وهيَّأ لهم وضعاً شعبياً معيّناً، حين جعل الشعب يعيش حالة الغشّ في ما ينطوي عليه أمرهم.
لقد التزم هؤلاء أميركا. فهل تعرفون كيف تتعامل أميركا مع قضايا العرب؟
لقد هلَّل العالم العربي كلّه، لأنَّ أميركا صوَّتت مع قرار مجلس الأمن بإدانة "إسرائيل" لأنّها تريد أن تبعد جماعة من الفلسطينيين، ولم تستعمل حقّ الفيتو. لكن ماذا حدث؟.. حدث أنَّ المسؤولين الأميركيين أرادوا أن يقولوا لكلّ العرب حتّى لجماعتهم: لا تفهموا القضية خطأ، فنحن نلتزم "إسرائيل" التزاماً مطلقاً من جميع الجهات، لأنَّ "إسرائيل" هي الدولة الديمقراطية الوحيدة الموجودة في المنطقة ـــ والكلام لوزير الخارجية الأميركية ـــ وربّما تحدث بيننا خلافات ولكنّ علاقتنا هي من العلاقات، التي لا يمكن أن تهتزّ مهما فعلت "إسرائيل" ولا نقبل أن يسيء إليها أحد. وهم يتحدّثون عن مسألة الضفة الغربية وغزّة على أنّها العنف، والعنف يستدعي العنف. وأكثر من ذلك حينما جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية لفظ الأراضي العربية، عاد واستدرك قائلاً: "نحن لا نقصد بالأراضي الفلسطينية أو الأراضي العربية أنّ السيادة فيها للفلسطينيين أو العرب، إنّما نشير بذلك إلى أكثرية سكّان هذه الأراضي"، معنى ذلك أنّ أميركا غير مستعدّة للاعتراف بسيادة العرب على الضفّة الغربية وغزّة والجولان وجنوب لبنان، وتريد أن يبقى الجوّ متحرِّكاً في خدمة "إسرائيل"، حتّى تستوليَ على ما بيدها من البلاد.
وهذا شامير يقول: نحن لا ننسحب من الضفّة الغربية وغزّة، وإنّما هي أرضنا، هي أرض "إسرائيل" ولا يمكن أن ننسحب من أرض "إسرائيل" ولهذا يأتي ممثّل الأمم المتحدة فلا يسمحون له بأن يدخل الضفّة وغزّة ليطلع على المخيّمات. معنى ذلك أنّ أميركا تلتزم بأمن "إسرائيل" وبسيادتها وبكلّ ما تقوم به. وهي تعرف مقدَّماً أنّ أغلب العالم العربي لن يحرِّك ساكناً، لأنَّ أغلب الحكّام يريدون الستر من أميركا ومن "إسرائيل". وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، حتّى نستطيع أن نربك كلّ الخطط الأميركية ـــ وحتّى الأوروبية ـــ التي تريد أن تضطهد وتصادر حريّته ومستقبله. وقد يتعبنا ذلك كثيراً، وقد يكلّفنا كثيراً، ولكن لا خيار لنا إلاّ أن تكون لنا إرادة الصمود أمام المستقبل، الذي يراد لنا فيه أن نعطيَ بأيدينا إعطاء الذليل ونقرّ إقرار العبيد. والأمور كلّها تسير من هذا الاتجاه.
الأصوليّة الإسلامية
في خطابه السنوي، أمام الدبلوماسيين، لم يجد الرئيس اللبناني مشكلة يثيرها في لبنان سوى الأصولية. إذ ليس في لبنان مشكلة اسمها مشكلة "إسرائيل" ولا مشكلة القوّات اللبنانية، ولا مشكلة الجيش الذي قصف الضاحية ودمّرها. المشكلة في لبنان هي هذه الأصولية، التي تريد أن تقف أمام الحضارة اللبنانية التي هي من أعلى الحضارات في المنطقة. إنَّ المشكلة في لبنان لدى رئيس الجمهورية هي الإسلام والإسلاميون الذين يلتزمون الإسلام بعمق!
ما سبب ذلك؟؟.. السبب في ذلك هو أنّ المسلمين لا يقرُّون الظلم الطائفي الذي تمارسه المارونية السياسية، وهم لا يقرّون الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فضلاً عن جبل عامل والمناطق الأخرى؛ ولأنّهم لا يسمحون بأن يكون لبنان مزرعة أميركية أو إسرائيلية أو أوروبية، بل يريدون أن يكون لبنان لبنيه.. لكلّ بنيه، لأنَّ المسلمين لا يتحرّكون من موقع سياسة اللّف والدوران، وإنّما يريدون للشعب أن يعيش القضايا بوضوح. ولعلَّ السبب في الارتباك العربي بالنسبة إلى انتفاضة الضفّة الغربية وغزّة هو أنّها انتفاضة إسلامية، تريد أن تتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في لبنان، لتتكامل مع الانتفاضة في مصر وفي غيرها. ولهذا فإنَّهم يحاولون أن يحتووها ويدجّنوها ويطلقوا شعارات تريد أن تستلب هذا الوهج، الذي استطاعت أن تأخذه.
إنّهم يحاولون أن يمنعوا أيَّ تواصل إسلامي، لأنَّ التواصل الإسلامي يعمل على أساس أن يواجه المسلمون قضية حريّتهم، كقضية لا مجال للتحدّث فيها؛ ولهذا فإنّهم يعملون الآن على إظهار المسألة في الضفّة الغربية وغزّة على أنّها مجرّد مسألة أمنية داخلية. وتقول مصر: لا بدّ أن تتعاملوا مع هذه الانتفاضة بغير هذه الطريقة. وحتّى مجلس الأمن يتحدّث عن القضية كقضية إسرائيلية داخلية تسيء فيها "إسرائيل" للنّاس هناك، لا على أساس أنّها قضية شعب يريد أن يتحرَّر، وقضية حريّة ضدّ "إسرائيل" وضدّ احتلالها.
وهكذا الأمر في لبنان؛ إذ نرى أنّ محاصرة قرية لبنانية في الجنوب ومنع دخول الأغذية والأدوية إليها لا تشكّل مشكلة بالنسبة إلى الساحة السياسية اللبنانية.
وليس هناك مَن يتحدّث عن قصف "إسرائيل" لإقليم التّفاح في جبل عامل أو قصفها لمناطق من صيدا وقتلها العديد من العوائل فيها؛ ولو أنّ طفلاً إسرائيلياً قتل على الحدود، لاهتزّ العالم وتوالَت برقيات رؤساء الدول مستنكرة وحشية قتل الأطفال!!
نقول في الختام: إنَّ المسألة الفلسطينية طويلة، والمسألة اللبنانية طويلة، ومسألة الخليج طويلة.. هذه مسائل طويلة. وإذا أراد البعض أن يخدّرنا بالقول: إنّ المشكلة ستُحلُّ غداً أو بعد غد، فعلينا أن نعرف أنّ الوقت طويل طويل، وأنّ علينا أن نتعايش مع المشكلة، وأن نقلِّع شوكنا بأظافرنا، وأن نظلّ مع قرار الحسين (عليه السلام) حين قال: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية