الكلمة الطيّبة والكلمة الخبيثة(*)
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ*يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 24 ـــ 27] في هذه الآيات يريد الله سبحانه وتعالى أن يقدّم الفكرة، في ما نعيشه في الحياة من سلوك ومن خطوط ومن مناهج ومن علاقات، بطريقة ضرب المثل حتى نفهم الجانب المعنوي من الأشياء من خلال الجانب الحسّي، لأنَّ الإنسان عادة يفهم القضايا الفكرية من خلال القضايا الحسيّة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نتمثّل هذه الصورة في ما نشاهده في الأرض، فنتصوَّر شجرة طيّبة تضرب جذورها في أعماق الأرض وتمتدّ فروعها في آفاق السماء، وهي تُنتج في كلّ وقت، ليس لها موسم معيّن، وليس لها وقت معيّن، بل إنّها تعطي ثمرها كلّ حين بما جعله الله لها من حيويّة الإنتاج ومن ديمومته. نتصوَّر هذه الشجرة ثمّ نتصوّر شجرة أخرى؛ شجرة خبيثة لأنّها ليست ممتدة في جذورها تحت الأرض، وإنَّما تنبت في السطح ولا تمتد في الأعماق. ومن الطبيعي عندما لا تنفذ إلى الأعماق فإنّها لا ترتفع إلى الفضاء، لأنّها لا تملك قوّة الامتداد في الفضاء وهي لا تملك ثمراً إلاّ الثمر الخبيث. إنَّنا نتصوَّر هذه الشجرة وتلك، ثم بعد ذلك نتصوّر الفكر من خلال ذلك.
الشجرة الطيّبة
إنَّ الله سبحانه وتعالى ـــ يقدّم لنا الكلمة الطيّبة لنفهمها من خلال الشجرة الطيّبة، ليقول لنا إنّ الكلمة الطيّبة تمثّل الكلمة التي تمتد جذورها في أعماق مصلحة الإنسان وحياته، وتنطلق من خلال عمق الحقّ الثابت في الحياة. فلها ثبات من خلال أنّها تمتدّ في أعماق حياة الإنسان، وفي أعماق الحياة كلّها في ما تمثّله من الارتباط بعمق الحقّ. ثمّ هذه الكلمة الطيّبة، تماماً كما هي الشجرة الطيّبة ترتفع في السماء، لأنّها تعطي للإنسان وللحياة من نتاجها على مستوى الفكر، وعلى مستوى حركة الحياة وغذائها وعلى مستوى العلاقات الإنسانية، فهي تؤتي ثمارها ونتائجها في كلّ وقت. إذ ليس للحقّ موسم معيّن، وليس للخير زمان معيّن وليس للصلاح وقت معيّن. فنحن نحتاج إلى الخير في كلّ وقت ليغذّي حياتنا، ونحتاج إلى الصلاح في كلّ وقت ليقوّمها، وفي كلّ موسم نحتاج إلى الحقّ ليركّز حياتنا في كلّ المجالات.
الشجرة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فلا جذور لها، لأنّها لا تنطلق من مواقع الحقّ في الفكر، بل هي حالة انفعال. فحين تشتهي شيئاً تدفعك شهوتك إلى الكلمة، وحين تغضب يدفعك غضبك إلى الكلمة، وحين تعادي أو تحبّ يدفعك عداؤك أو محبّتك إلى الكلمة.. فهي كلمة تنطلق من الحالات الطارئة في شخصيّتك ولا تنطلق من الحالات الثابتة فيها. ولهذا فإنّها سرعان ما تتبخَّر وتنتهي ولا يبقى منها شيء.
مصداق الكلمة الطيّبة
إنَّ الله يريدنا أن نتذكَّر حياتنا جيّداً من خلال هذا المثل. فكيف نفهم الكلمة الطيّبة في ما أراده الله منها؟ وكيف نفهم الكلمة الخبيثة في ما أراده الله منها؟
إنَّ أوّل مصداق للكلمة الطيّبة هو كلمة التوحيد، أي الإيمان بالله والإيمان بوحدانيّته، فهو وحده الإله، وحده المعبود، وحده المطاع، وهو وحده الذي تتوجّه إليه الأفكار والقلوب.
والكلمة الطيّبة ثابتة، لأنّ ثباتها ينطلق من أزليّة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فهو الأول وهو الآخر. الأوّل لا من عدم، والآخر الذي لا ينتهي إلى عدم. فهو الأزلي وهو المطلق الذي شملت قدرته كلّ شيء، واتّسع علمه لكلّ شيء، وتدخل تدبيره في كلّ شيء. وهو الذي أعطى كلّ شيء وجوده وحركته، وغذاءه. ومن هنا فالإيمان بالله هو الكلمة الطيّبة التي تمتدّ جذورها في أعماق الحياة، لأنَّ الله وحده الحقّ، وحده الثابت وكلّ ما عداه زائل، وحده الباقي وكلّ ما عداه فان، وهو وحده الحيّ وكلّ ما عداه ميّت. فهو الله الذي لا إله إلا هو. وهذه هي الكلمة الطيّبة.
مصداق الكلمة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فهي الشرك والإلحاد، لأنَّ الإلحاد لا يستمدّ مواقعه الفكرية من العلم، بل يستمدّها من خلال الجهل. والشرك يستمدّ مواقعه من استغراق الإنسان في قوّة مَنْ حوله، ممّن يملكون قوّة وهمية يخترعها الإنسان من نفسه، أو يملكون قوّة حقيقية لا ثبات لها في الحياة، لأنّها قوّة مستمدّة من خالق القوّة، ولأنّها قوّة مستعارة. فكلّ الأقوياء يملكون قوّة مستعارة، كما أنّ حياتهم مستعارة، وكما أنّ أجسادهم مستعارة، وكما أنّ كلّ شيء عندهم هو مستعار، لأنَّ الله يستردّ رعايته في أيّ وقت يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ...} [الحج : 62]. لنتساءل عن أيّ شخص يراد له أن يُعبَد؛ كم يمكن له أن يعمّر؟! وعن أيّ قوّة يراد لها أن تهيمن كم يمكن لها أن تدوم؟!
إنَّ قوّة الله وحدها التي تدوم، وكلّ قوّة سواها ستزول، وبذلك فكلّ ما يتعلَّق بها سيذهب، وكلّ عبادتها وطاعتها ستذهب وستذهب معها كلّ التهاويل التي تحيط بها ويبقى الله هو الحقيقة.
الشرك هو الكلمة الخبيثة في العقيدة وكذلك الإلحاد، لأنّه لا يملك عمقاً في الوجود، ولا عمقاً في الحقيقة. أمّا الله فهو العمق في كلّ شيء لأنّه هو عمق كلّ شيء، وكلّ شيء يستمدّ عمقه من الله.
الإسلام والكلمة الطيّبة
والإسلام ـــ بعد ذلك ـــ هو الكلمة الطيّبة التي أصلها ثابت، لأنّه يستمدّ كلّ شرعيّته من الله، فهو ليس فكر بشر؛ حتّى لو كان البشر رسول الله، لأنّ الله عندما أوحى إليه برسالته قال له: لا تزد حرفاً ولا تنقص حرفاً في ما أوحيت إليك، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 46] أي لا تزد حرفاً ولا تقل أيّ شيء إلاّ ما أوحى الله به إليك، فلستَ حرّاً في أن تقول للناس ما تنفعل به أو ما تحبّه وتهواه، ولكنّك تتحدّث إلى الناس في ما أوحى الله به إليك: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فإذا كان الإسلام كلمة الله ووحيه، وإذا كانت شريعة الإسلام ـــ في كلّ حلالها وحرامها ـــ هي شريعة الله فعليك أن تسلم لكلّ حلال الله ولكلّ حرامه.
لكَ حريّة في أن تعترض، لأنّك قد تعترض على كلمات مخلوق يمكن أن يخطئ أو يصيب، ولكن كيف تعترض على كلمة ربّك بعد أن تؤمن بأنّها كلمته: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. ليست لك الحريّة في ذلك، بل حريّتك أمام الناس أن ترفض هذا إذا لم تقتنع به، وتلتزم بذاك إذا اقتنعت به. ولكن طأطئ الرأس لكلمات ربّك. وإذا فهمتها فاحمد الله على الفهم الذي يتحوّل إلى طاعة، وإذا لم تفهمها فقل: الله أعلم بأسرار أحكامه وآياته: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
قول الله هو الثابت، وكلّ شيء غير قوله فهو إلى زوال. قول الله هو الطيّب الذي تحلو ثمرته وهو الذي يتأكّد في حياته. وكلّ شيء لا يتّصل به فهو الخبث كلّه والاهتزاز كلّه. من هنا فحين يقول الله: {... وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم : 25] فإنّه يقول: التزموا الإسلام بكلّ عمقه، لأنَّ الإسلام عميقٌ عمقَ إرادة الله، ولأنّه ممتد في الكون كلّه امتداد قدرة الله، ولأنّه يعطيك الثمر الطيّب في الدنيا وفي الآخرة كما يعطيك الله غذاءه ونعمته في الدنيا والآخرة، فالتزموا كلمة الإسلام ولا تلتزموا كلمة الكفر.
القرب من الله وسكينة النّفس
حاول ألاّ تهتزّ في انتمائك، ولا تستبدل بكلمة الإسلام كلمة، حتّى لو أغراك الناس، ولا تفقد شجاعة الالتزام بالإسلام حتّى لو انصبَّت كلّ اتّهامات الدنيا على رأسك، لأنّك عندما التزمت بالإسلام فإنّك تلتزم بالله، وإذا لم تلتزم بالإسلام فإنّك انفصلت عن الله وعن رحمته، وكذلك إذا انفصلت عن إسلامك فإنّك تفقد الحياة الروحية، التي تبعث الطمأنينة والرضى والأمن في كلّ حياتك. إذ يريد الله لك أن تشعر بأنّك مطمئن في حياتك، تفعل ما تفعل على أساس أنّ في عملك رضى الله، وحينئذٍ تعرف أنّك سائر في طريق الله، فلا تهمّك النتائج لأنَّ هناك نتيجة واحدة تصل إليها وهي الله. وهذا ما عبَّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في ما روي عنه:
ولستُ أُبالي حين أُقْتَل مسلماً على أيِّ جنب كان في الله مصرعي
وعندما تنطلق لتنتهي حياتك في طريق الله، وأنتَ تشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله؛ فإنَّك تموت على ما مات عليه محمّد وتحيا على ما حيي عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
انظروا إلى الفرحة التي كانت تهزّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ودماؤه تسيل من رأسه وهو يعاني كلّ الآلام حين قال: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله فزتُ وربّ الكعبة"(1).
الإسلام وشموليّته
لعلَّ الكثيرين يريدون أن يوجدوا فصلاً بينكم وبين الإسلام، وقد يعملون على أن يفصلوكم عن الإسلام في بعض الجوانب، إذا لم يستطيعوا أن يفصلوكم عنه في كلّ الجوانب. فهم يقولون لكم كونوا مسلمين في الصلاة والصوم، وكونوا كافرين في العادات والتقاليد الاجتماعية.
كونوا مسلمين في دعائكم وابتهالكم وخشوعكم، وكونوا كافرين في اقتصادكم وسياستكم وأوضاعكم. إنّهم يريدون أن يفصلوكم عن الإسلام في الحياة، ليبقى إسلامكم إسلام المسجد الذي يغلق كلّ أبوابه عن الحياة؛ والله يريدكم أن تدخلوا المسجد لتنفتحوا عليه في كلّ رحابه وآفاقه وفي كلّ عظمة أخلاقه، حتّى إذا دخلتم المسجد أخذتم من الله تلك الرحابة وتلك القِيَم الأخلاقية، وانطلقتم من المسجد مُطَهَّرين في أفكاركم وفي مشاعركم وفي حياتكم، ليكون المسجد هو الباب الذي ينفتح على الحياة لا الباب الذي ينغلق دونها.
وعندما تلتزمون الإسلام ككلمة طيّبة في الانتماء والعقيدة، والحركة، والنهج، والحياة، فإنَّ عليكم أن تنفذوا إلى داخله، لتجعلوا حلاله حلالكم وحرامه حرامكم وأخلاقه أخلاقكم.
فإذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. فعليكم أن تبحثوا عن علاقاتكم وعن أنفسكم: هل أنّكم تؤمنون بالصدق في الحياة أم تؤمنون بالكذب؟ وهل تنطلقون من موقع الحقّ عندما تؤيّدون أو ترفضون، أم تنطلقون من موقع الباطل في ذلك؟ وهل تبيعون مواقفكم للظالمين وللمستكبرين، أم تكون مواقفكم كلّها لله لأنّكم بعتم أنفسكم له كما باع عليّ نفسه؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207] فإذا كنتم قد بعتم أنفسكم لله، فليس لكم بعد ذلك أن تحبُّوا إلاّ ما يحبّه الله، أو تخوضوا في عمل إلاّ في ما يرضي الله، لأنَّ كلّ وجودكم هو ملك لله تعالى.
رضى الله هو المعيار
ومن هنا ينبغي أن نجاهد أنفسنا، وننزع من حياتنا فكرة الاهتمام برضى فلان أو فلان، لأنَّ هذا هو المقتل الذي تسقط فيه مبادئنا ومواقفنا وأوضاعنا. ولنكن من الذين يفكّرون برضى الله.
وإذا كنّا نفكّر برضى الناس، فليكن ذلك على أساس ارتباطه برضى الله وانفصاله عنه. وهذا هو الذي يريدنا الله أن نؤكّده في حياتنا بأن يكون الله وحده الذي نهتمّ برضاه وإنْ غضب الناس كلّهم. وهذا ما نتعلَّمه من سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خلال دعوته، فبينما كان يهاجمه الناس ويسبُّونه ويشتمونه ويلقون القذارات عليه، لم يكن يلجأ إلى بعضهم ليدافعوا عنه أو ليخفّفوا عنه الضغط، إنّما كان يلتجئ إلى الله فيحدّثه عن ضعفه طالباً منه القوّة، ويحدّثه عن وحدته التماساً لنصرته، وكان يخاطب الله ـــ تعالى ـــ بعد كلّ ما يلاقيه من كيد الناس وعدائهم قائلاً: "يا ربّ المستضعفين إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي" وتلك هي الروح التي أراد الإسلام أن يجعلها روحنا، وتلك هي الثقة العميقة التي أراد أن يؤكّدها في نفوسنا، ليكون أحدنا الإنسان الذي يواجه العالم، لا من خلال انتفاخ الشخصية، أو عنتريّة القوّة ولكن من خلال الإحساس القويّ بأنَّ الناس لو أرادوا به سوءاً ولم يرد الله ذلك فلن يقدروا على النَيْلِ منه، ولو أنّ الناس أرادوا أن ينصروه ولم يرد الله نصرته فلن تجديه رغبة الناس نفعاً.
من هنا فإنّك تشعر بالقوّة تشمل كلّ كيانك، ما دمت تعرف أنّك على الحقّ، فتقف لتقول لصاحبك لا تحزن إنَّ الله معنا وتلتفت إلى الذين يخوّفونك من الناس لتقول لهم: حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل. لأنّك تعلم أنّ الله هو الكافي، الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء؛ وهو وكيلك، يدبّر أمرك ويرعى حياتك وينظّم لك موقفك وأنتَ تسير في طريقه.
نحن نحتاج أن نعيش روح البدريين الذين ثبتوا، وروح الكربلائيين الذين انطلقوا في خطّ بدر ووقفوا على هذا الأساس، وروح عمّار بن ياسر الذي كان يرى الهزيمة في بعض المواقع وهو مع عليّ (عليه السلام)، والناس يرتابون لأنّهم يُهزَمون.. فقال لهم: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).. ذلك لأنَّ الحقّ لا يتعامل مع الأشياء الطارئة في الحياة، بل يتعامل مع نهايات الحياة وعواقبها.
عدوّ الله ... عدوّنا
يتبيَّن من هذا أنّ الكلمة الطيّبة تعني الروح الطيّبة، التي ترتبط بالله سبحانه وتعالى، فإذا انفصلنا عنها فإنّنا ننفصل عن كلّ ثبات في الحياة {... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31]. هذه هي الكلمة التي نريد أن نعيشها في كلّ حياتنا العامّة والخاصّة وننطلق على هذا الأساس، لنحدِّد في الحياة الكلمة الطيّبة من خلال تحديد المفاهيم التي أرادنا الله أن نعيشها في الحياة حتّى نحدِّد أعداءنا وأصدقاءنا، باعتبار أنّ أعداءنا هم أعداء الله.. أعداؤه في العقيدة وفي الحركة وفي الأخلاق، وفي السياسة، وأعداؤه في كلّ مواقع الحياة الأمنية والاقتصادية والعسكرية. وقد قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وهو يتحدّث عن هؤلاء الناس الذين يريدون أن يتقرَّبوا إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أنّهم شيعتهم.. قال: "والله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع والصدق وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! أيكفي أن يقول الرجل أحبّ عليّاً وأتولاّه ثمّ لا يكون فعّالاً لما عرفه عن عليَّ (عليه السلام)؟ أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول الله ثمّ لا يعمل بسنّته؟!" ثمّ قال لهم خذوا القضية على مستوى العلاقات؛ فليس الشيعي من رفع شعار حبّنا فقط، لأنّنا لم نفتح حساباً مستقلاًّ عن الله، إنّما الشيعي هو من يطيعُ الله ويتّقيه. فمن لم يطعه ولم يتّقه فليس بشيعي، وإن هتف بحبّ أهل البيت، ومن عاش في الخيانة وخان الأُمّة في حياتها وفي كلّ واقعها، وعمل مع الظالمين فليس بشيعي وإنْ كان ينحدر من مئة أب في هذا الاتجاه، إذ ليست المسألة انتماءً أو كلمة أو عاطفة. إنّما تكون شيعياً بقدر ما تكون مسلماً تقيّاً، وتكون شيعياً بقدر ما يسلم الناس من يدك ولسانك لأنّك ـــ حينئذٍ ـــ تكون مسلماً، وليس التشيّع شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو عمق الإسلام في صفائه ونقائه وشريعته. وقد قالها الإمام الباقر: "مَنْ كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَنْ كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله لا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"(1) فليس الولاء لأهل البيت مجرّد عاطفة، إنّما هو التزام وموقف.
وأهل البيت ليس لديهم إلاّ الإسلام، وليس لديهم إلاّ الحقّ. وقد قالها الإمام عليّ (عليه السلام): "ما ترك لي الحقّ من صديق" وقالها الإمام زين العابدين: "أَحِبُّونا حبّ الإسلام لا حبّ الذّات والعاطفة". من خلال ذلك لا بدّ أن نفهم أنّ حبّ أهل البيت هو العبودية لله والالتزام بشريعته، والسير معها بكلّ مجالاتها، فلا تغرَّنا العناوين والاصطلاحات، فمن كان عميلاً للظالمين والخائنين والمستكبرين أو كان مناصراً للمنحرفين فليس بشيعي.
الاستعداد ليوم الحساب
لنفكِّر دائماً كيف يكون موقفنا أمام الله؟ وكيف نجيبه إذا سألنا؟ وكيف نتوجّه إليه إذا خاطبنا؟
ربّما كان بإمكاننا ان نقول لله تعالى: يا ربّنا لقد آمَنَّا بك وبرسولك.. وأطعناك واتّقيناك في حياتنا، ولكن سيطر الشيطان علينا في بعض ذلك، فاغفر لنا، لأنَّنا أحببناك ولأنَّنا أطعناك في مواضع أخرى. أمّا إذا كانت حياتنا كلّها كفراً ونفاقاً وضلالاً ودجلاً ومحاولة للاجتماع بفلان والانتماء إلى فلان والسير في ركاب فلان والابتعاد عن الله وعن أوليائه، فكيف يكون موقفنا أمام الله؟!.
لقد كان زين العابدين (عليه السلام) في بعض ابتهالاته يقول: "ويلي كُلَّمَا طالَ عمري كَثُرَتْ خطاياي ولمْ أتب، أَمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي"(2). لذلك علينا أن نفكّر في الوقوف أمام الله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين : 6]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111].
قد نحتاج أن نبحث عن الكلمة الطيّبة التي نستطيع أن نخاطب الله بها، فالتوبة كلمة طيّبة والندم على ما مضى كلمة طيّبة، والاستعداد لتصحيح الموقف كلمة طيّبة، والسير مع العادلين ومع المتّقين ومع المتّقين ومع المؤمنين كلمة طيّبة أيضاً، ذلك لأنّه يعطيك الأساس في النجاة والثبات في الدنيا والآخرة: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ...} [إبراهيم : 27] لأنَّ الظالمين يتركون الله، ومَنْ ترك الله ضاع.
الدخول في عمق الحياة
لا بدّ أن نستشعر وجود الله في كلّ شيء ونخطِّط لحياتنا من خلال ذلك، لأنَّ الحياة فرصة والفرصة قد لا تعود. ولستُ أدعو ـــ بذلك ـــ إلى الهروب من الدنيا والانهزام من المسؤولية والاختباء في زاوية من زوايا الحياة، إنّما أدعو إلى دخول الحياة بكلّ أعماقها، وتحمّل المسؤولية في كلّ مواقعها، وأقول لكم: كونوا المسؤولين أمام الله عندما تعبدونه وعندما تتحرّكون في حياتكم المادية والعملية، وعندما تتحرّكون في المواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
وحاولوا أن تستحضروا ذكر الله معكم في كلّ موقع من مواقع المسؤولية.. اذكروا الله قبل أن تذكروا الشخص الذي يشرف عليكم واهتموا برضى الله أكثر من رضاه. ولستُ أدعوكم إلى التحرّك في اللامسؤولية، إنّما أدعو إلى عدم طاعة المسؤول إذا كانت أوامره تستدعي معصية الله، فإذا كان خداع المسؤول ممكناً، فخداع الله غير ممكن، لأنَّ الله ـــ تعالى ـــ لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49] في هذا الاتّجاه ينبغي أن نفكِّر ليستقيم مجتمعنا وحياتنا وليستقيم اقتصادنا وسياستنا، ولننطلق في الحياة من خلال قاعدة الإسلام، وقاعدة رضى الله في كلّ أمر من أمورنا، في الحياة العامّة والخاصّة. وعندما نحصل على ذلك وننفتح فيه فسوف نستطيع أن نثبت في المواقف وسوف لا تهزمنا القوى ولا ننحرف عن الطريق.
ثقة المجاهدين بأنفسهم
وهذا ما لاحظناه في التجربة الجهادية التي عاشها المجاهدون في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي وقبل ذلك في بيروت. عندما اكتشف المجاهدون طريق الله في جهادهم، صاروا يُخوِّفون العالم، وعندما تحرَّكوا من موقع يعتمد على أنّ الله هو الذي يجب أن يرضى وأنّه لا مشكلة إذا لم ترضَ أميركا وأوروبا و"إسرائيل"، عند ذلك اكتشفوا مواقع القوّة أمام كلّ هؤلاء، واكتشفوا كثيراً من نقاط الضعف في مراكز هؤلاء ومواقعهم. فأنتَ لا تستطيع أن تكتشف مواقع الضعف في خصمك، عندما تستطيع أن تثبت في موقفك وعندما تعطي نفسك الحريّة في أن تهدأ لتراقب ولترفض ولتخطِّط ولتكتشف. أمّا إذا كنت مبهوراً بخصمك ومهتزّاً في مواقفك، فكيف تستطيع أن تبصر في خصمك مواقع ضعفه؟ إنّك لا تستطيع إلاّ أن تبصر مواطن قوّته ومواطن ضعفك وهذا ما يجب أن نتفاداه. من هنا عندما اكتشف المجاهدون ما اكتشفه البدريّون والأحدويّون وكلّ المسلمين الذين عاشوا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكلّ الذين عاشوا مع الحسين (عليه السلام) عندما اكتشفوا ذلك، ووضح الطريق أمامهم ووضحت القوّة، استطاعوا أن يفعلوا الكثير وأن يحصلوا على الكثير.
قد يسمّيهم العالم متطرّفين، وقد يسمّيهم مجانين، وقد يسمّيهم إرهابيين، وقد يسمّيهم متعصّبين، ولكنّ الله سمّاهم المسلمين المؤمنين. ليس مشكلة أن يسمّيك الناس بأيّ اسم، لأنَّ الناس كلّهم سيفقدون كلّ أسمائهم يوم القيامة ويبقى اسمٌ واحد أنّك عبد الله. وبمقدار ما تتأصَّل عبوديّتك لله في روحك وفي موقفك، يتأصّل انتماؤك إلى الله، لتكون العبد المخلص له يوم القيامة. لهذا ليس مشكلة ما يطلقون من الأسماء فليقولوا ما يشاؤون فإنّنا لا نستعير الثقة بأنفسنا من إعلانهم ولكنّنا نستعير الثقة بأنفسنا والقوّة في موقفنا من إيماننا بالله وحده.
وهكذا رأينا أنّ الانطلاقة الإسلامية تحرَّكت منذ أن تحرَّكت في إيران بقيادة الإسلام، الذي قاده وقاد حركته الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ واستطاع أن يبعث في العالَم روحاً جديدة هي روح الإسلام. إنّه حدَّث الناس عن الإسلام ولم يحدّثهم عن الفرس، أو عن أيّة قضية جغرافية أو محورية. ولكنّه حدَّثهم عن الإسلام وعن أحكامه وروحه وعن عرفانه وتقواه.
وكان في حديثه ينقل الفكرة والتطبيق معاً، لأنّه حرَّك الفكرة من خلال التجربة، ولم يحرِّكها فقط من خلال التنظير.
الجهاد يخلق الانتفاضة
وهكذا لاحظنا أنّ المسألة الفلسطينية لم تُخف "إسرائيل" ولم تُخف الاستكبار العالمي، لأنّها كانت تتحرّك في ملاعب أروقة الأنظمة التقليدية التي صنعها الاستعمار، ولأنّها كانت تستمدّ قوّتها من أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ والسيادة لا من الله، لأنّها تخاف عندما تطلق اسم الله أن يتعقَّد منها من لا يؤمنون بالله، ولهذا كان العنوان أنّ كلمة الله ممنوعة في حركة الجهاد والمقاومة. واكتشف الشعب الذي عاش تحت الاحتلال ولم يعش في المكاتب الفخمة، اكتشف هناك في الضفة الغربية وفي غزّة أنّه لن يحميه شيء من مصادرة إنسانيّته ومن مصادرة حريّته، إلاّ الإسلام. ولهذا انطلق من خلال الإسلام بكلّ بساطة، فتحوَّلت الجامعة في غزّة إلى جامعة إسلامية، والساحة إلى ساحة إسلامية، وانطلقت كلمة الجهاد بعد أن استبدلوها بكلمة الكفاح وكلمة الثورة. ولكن رأى المسلمون أنّ هذه الكلمات قد تكون كلمات معبّرة ولكن كلمة الجهاد تختزن كلّ تاريخ الإسلام، فهي تحمل القرآن في مضمونها، وتحمل محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عنوانها، وتحمل كلّ شهداء الإسلام من بدر حتّى الآن، وهي توحي وتتحرَّك وتعطي وتعمق في الإسلام روحه، فاستبدلوا كلّ الكلمات بكلمة الجهاد، وحدّدوا الجهاد الإسلامي الذي يعرف كيف يبدأ ويعرف خطّ السير ويعرف كيف ينطلق. وهكذا رأينا أنّه عندما انطلق الإسلام في أعماقهم فقدوا الخوف من الموت في مواقفهم. وبهذا كانت الحجارة تواجه دبّابة، وكانت السكّين تواجه البندقية والرشّاش، وكانت العيون الغاضبة تحدّق في كلّ الرصاصات الحاقدة. لقد كانوا يريدون أن يعملوا ليخيفوا العدوّ، حتّى بعيونهم التي ينظرون بها. فبورك الإسلام الذي صنع هذه الانتفاضة، التي لا نريد أن ندخل مع الآخرين في جدل انتمائها، لأنّها فرضت نفسها على كلّ الواقع العالمي. ولهذا استمرّت في هذا الخطّ الذي يتحرّك على أساس أن يصل إلى نهاية كبيرة بكلّ ما عنده من طاقة. ونحن لا نتصوّر أنّهم يملكون قوّة غير واقعية ولكنّهم يعطون كلّ قوّتهم، لأنَّ الإسلام يريد منهم ذلك.
وهذا ما نريد أن نعيشه في كلّ حياتنا، أن نشعر بأنّنا جزء من هذا العمل الإسلامي الكبير، فلا نفكِّر بموقع الجهاد في لبنان منفصلاً عن موقع الجهاد في فلسطين، أو في مصر، أو في تونس، أو في إيران، أو في العراق أو في أيّ بلدٍ آخر. فنحن مسلمون تتكامل مواقعنا في الجهاد، وفي السياسة، وفي كلّ مجال. فكلّ موقع قوّة يعطي للآخر قوّة جديدة وكلّ موقع ضعف ينطلق الجميع من أجل أن يعطوه قوّة جديدة، وهكذا تتكامل الروح الإسلامية.
من هنا نحن نعتقد أنّ علينا ـــ وقد عاد الإسلام إلى فلسطين وعادت الروح الإسلامية من جديد إلى هذه الجماهير المسلمة ـــ أنّ علينا أن نشعر بأنّنا جزء من هذه الجماهير الإسلامية نتعاون معهم، ونتعاطف معهم ونتكامل معهم بكلّ ما عندنا من قوّة. وعندما يعلن الإضراب في هذا اليوم، ونحن نعتبر أنَّ الإضراب هو التعبير البسيط الذي هو أضعف الإيمان، ولكن لا بدّ أن نفكّر أنّ المسألة لن تنتهيَ عندما ينتهي يوم الإضراب، بل علينا أن لا نفهم الإضراب بطريقة استهلاكية، كما يفهمه كثيرٌ من الناس. فالإضراب جزء من موقف، فمن أضرب وترك عمله على أساس تأييد الانتفاضة فإنّه يؤمن بها ويلتزمها، يلتزم فكرها وسياستها وموقعها. ولهذا لا نريد أن يتحوّل الإضراب في أيّ عمل إلى حالة انفعالية أو عاطفية. بل ينبغي أن يكون جزءاً من العمل الكبير، لكي تشعر الأُمّة الإسلامية التي تريد أن تعبّر عن تأييدها بالإضراب بأنَّ المسألة ينبغي أن تتحرّك في اتّجاه دراسة الواقع كلّه، وأنّ الذين يؤيّدون الانتفاضة في فلسطين لا بدّ أن يؤيّدوا الانتفاضة في جبل عامل والبقاع الغربي باعتبار أنّهما تتكاملان، وأنّ تلك كانت من بعض أصداء هذه في حركتها الإسلامية الفاعلة، والكلّ بعض أصداء الثورة الإسلامية الكبيرة التي انطلقت في إيران. من هنا فإنَّ تأييد الانتفاضة هو تأييد للإسلام الذي قاد الانتفاضة، وتأييد للروح التي تتحرّك فيها الانتفاضة.
الازدواجية الأميركية
وعلى هذا الأساس يجب أن نعرف جيّداً أنّ الذين يلتزمون المسألة الفلسطينية في مواجهة المسألة الإسرائيلية، لا يمكن أن يلتزموا السياسة الأميركية، لأنَّ السياسة الأميركية قد انطلقت على أساس أنّها صنعت المشكلة الفلسطينية، عندما صنعت "إسرائيل" وأعطتها كلّ طاقتها العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية، والتزمت العدوان الإسرائيلي فوقفت أمام العالَم كلّه، لتمنع أن تدان "إسرائيل" ولو بالكلام. وآخر شاهد على ذلك هو "الفيتو" الأميركي على القرار، الذي يريد أن يمنع "إسرائيل" من عدوانها اليومي على أطفالنا ونسائنا وشيوخنا ومستشفياتنا وعلى كلّ بلادنا. إنَّ المندوب الأميركي يتكلَّم بكلّ وقاحة، فيقول إنّ القرار غير متوازن، لأنَّ العنف على حدود "إسرائيل" من الجانب اللبناني، هو الذي يجتذب العنف الإسرائيلي. لهذا لا بدّ أن ندين العنف هنا والعنف هناك. ولكن لا أدري هل يستغفلون العالَم أم أنّهم هم المغفَّلون؟ ليسوا مغفّلين، ولكن مَنْ يشعر بقوّته يعتقد أنّه يستطيع أن يضحك على الناس!
كيف نساوي بين مَن يريد أن يحرّر بلده وبين مَن يحتلّ بلد الآخرين؟
كيف نساوي بين هذا العنف وذاك؟
لماذا إذاً تتحدّث أميركا عن أفغانستان، وحرب المجاهدين الأفغانيين ضدّ الاتحاد السوفياتي؟ أليس هو عنفاً متبادلاً؟!
ثمّ هناك مسألة نريد أن نثيرها مع أميركا بهدوء، وهي أنّنا عندما نتحدّث عن العنف فإنّنا نتحدّث عن عنف المقاتلين هنا وعنف المقاتلين هناك، ولكنّ "إسرائيل" لا تضرب المقاتلين فقط، بل هي تلجأ إلى ضرب المدنيين في بيوتهم الآمنة، وتلجأ إلى ضرب سيارات الإسعاف والمستشفيات وما إلى ذلك كلّما ضربها المقاتلون. هل إنَّ المدنيين هم الذين قادوا العنف؟!
موقف الحكّام العرب من الانتفاضة الفلسطينية
المشكلة هي أنّ أميركا تعرف أنّ الدوائر السياسية في المنطقة العربية وفي لبنان ليست مستعدّة لأن تردّ عليها منطقها إلاّ بالكلمات، لأنّهم التزموا السياسة الأميركية بالمطلق، فهذه السياسة الأميركية هي التي تحمي لهم عروشهم ومواقعهم. من هنا لاحظنا أنّ المصريين المسلمين، عندما خرجوا في تظاهرة تأييداً للانتفاضة الفلسطينية، قمعتهم السلطة المصرية بحجّة أنّهم يستغلّون هذه المسألة في أعمال سياسية أخرى أو شعارات سياسية أخرى. ولكنّ الحقيقة أنّهم يخافون من أن يتظاهر الناس، لأنَّ أيّة تظاهرة تخرج في مصر ضدّ "إسرائيل" فهي بطبيعة الحال ـــ حتى لو كانت صامتة ـــ ضدّ النظام المصري الذي تعاون مع "إسرائيل" وتحالَف معها.
وهكذا رأينا بالأمس أنّ تظاهرة خرجت في المغرب وقوبلت بالرصاص، فقتلت شابّة من المتظاهرين من قِبَل رئيس لجنة القدس، الذي يعمل ـــ على زعمهم ـــ على تحرير القدس ولكنّه يضرب الذين يؤيّدون القدس ويثورون وينتفضون لتحريره، لأنّه يعرف أنّ هذه التظاهرة التي وقفت لتأييد الانتفاضة، هي تظاهرة بشكلٍ غير مباشر ضدّ تعاطف ملك المغرب مع المسؤولين الإسرائيليين، وهو لم يستحِ من أن يعقد مؤتمر القدس أخيراً في المكان الذي استقبل فيه شيمون بيريز في المغرب.
الحقيقة أنّهم التزموا السياسة الأميركية، ولهذا فإنّهم لا يوافقون على أيّ موقف يمكن أن يشكّل خطراً على المصالح الأميركية، أو يمكن أن يثير عنفاً في مواجهة السياسة الأميركية، لأنَّ علينا أن نسبِّح ونقدّس بحمد أميركا ولا مانع من أن ننتقدها انتقاداً خفيفاً كي نحفظ ماء وجهنا من قبيل عتب الصديق على الصديق وعتب الحبيب على الحبيب، واعتبار أنّ العتاب صابون القلوب ودليل المحبّة.
إنَّ معنى التزامنا بالمسألة الفلسطينية، من خلال الجماهير الفلسطينية، يعني الالتزام بواجهة السياسة الأميركية في كلّ مجال من المجالات، وبالوقوف مع كلّ الذين يقفون ضدّ الهيمنة الأميركية.
المخيّمات الفلسطينية
والنقطة الأخرى التي نريد أن نثيرها أيضاً ونباركها، هي مسألة إغلاق ملف المخيمات في بيروت.. إنّنا نحبّ أن نؤكّد هذا الموقف الذي دَعَوْنا إليه قبل أسبوعين وطلبنا من الجميع أن ننتهي من هذه الحرب أمام إشراقة هذه الحرب المشروعة ضدّ "إسرائيل". لكن عوَّدتنا الأحداث أن نقلق وأن لا نؤمن بالحلول إلاّ بعد أن تتكامل عناصرها. لقد أغلِقَ ملف حرب المخيمات في شاتيلا وفي برج البراجنة، ويبدو أنّ الأمر سائر بشكلٍ معقول وطبيعي، لكن لا تزال مسألة مخيّمات الجنوب ومحيطها في صور وصيدا من دون حلّ. ونحن نتمنّى أن يشملها الحلّ، وندعو الجميع كلّهم إلى أن ينطلقوا بواقعية ودراسة عميقة، من أجل الوصول إلى حلّ يمنع تجدُّد هذه الحرب، كما ندعوهم إلى أن يغلقوا الملف كليّاً من خلال دراسة متوازنة بين المخيّمات وبين محيطها، على أساس أن لا تكون المسألة مجرّد مسألة أمنية طارئة ومجرّد مسألة عسكرية. إنّنا في الوقت الذي نؤيّد هذا الحدث الذي نتمنَّاه جميعاً وندعو إليه، نريد أن نسرع في إغلاق ملف المخيّمات في الجنوب، وندعو كلّ الفعاليات وكلّ العناصر الطيّبة إلى أن تعمل على ذلك، حتّى لا نصاب بصدمة، أو يصاب الحلّ بانتكاسة. لنكن واقعيّين في فهم المسألة ولا نحاول أن نكون انفعاليّين نبارك ربع الحلول التي يمكن أن تهزمها الثلاثة الأرباع الأخرى.
اغتيال السيّد مهدي الحكيم
وأخيراً لا بدّ لنا من أن نطلّ على مسألة الجريمة البشعة الوحشية، التي قام بها النظام العراقي في اغتياله العلاّمة السيّد محمد مهدي الحكيم (رضوان الله عليه) ـــ نجل المرجع الإسلامي السيّد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) في الخرطوم ـــ مستغلاًّ فقدان الأمن والتآمر مع بعض القوى هناك، حيث كان شهيدنا الذي عاش حياته مشرّداً في سبيل الإسلام وفي سبيل القضية العراقية، قضية الشعب المسلم الذي يعاني ما لا يعانيه شعب في المنطقة.. عاش مشرَّداً مجاهِداً محاضِراً في كثير من المواقع في العالم، حيث كان يتنقّل من مؤتمر في بريطانيا إلى مؤتمر في فرنسا وفي أميركا وكندا والهند وافريقيا، من أجل أن يقوم برسالته ومن أجل أن يواجه الطاغية في سلطته الغاشمة حتّى يُسقطها.
إنّنا نعبِّر عن استنكارنا لهذه الجريمة، التي لم نستغربها من هذا النظام الذي كان ولا يزال الاغتيال هو النهج السياسي الذي يقوم به ضدّ كلّ الناس الذين يعارضون حكمه. وهو لم يغتل السيّد مهدي الحكيم فقط، بل يُمعن في اغتيال الشعب العراقي في هذه الحرب المجنونة المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
إنّنا في الوقت الذي نشجب فيه هذه الجريمة، نتساءل أمام النظام الموجود في السودان، كيف يفسِّر لنا ما حدث، وكيف يمكن أن ينطلق هؤلاء بكلّ اطمئنان وبكلّ عقلٍ بارد وبكلّ هدوء، ليدخلوا إلى هذا الفندق الذي تجتمع فيه كلّ الوفود الرسمية هناك، من دون أن يتحرّك رجل أمنٍ واحد، وقد سمع الرصاص لأنّه لم يُستعمل كاتم صوت؟ كيف لم يحدث هناك أيّ شيء؟!
إنَّنا نتساءل وندعو الحركة الإسلامية في السودان إلى أن تعبّر عن موقفها وأن تتابع ذلك، لأنَّ هذا ليس مجرّد إساءة لشهيدنا، ولكنّه إساءة للإسلام كلّه وللحركة الإسلامية كلّها.. رحمه الله رحمة واسعة وعوَّض الأُمّة عن فقده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الكلمة الطيّبة والكلمة الخبيثة(*)
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ*يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 24 ـــ 27] في هذه الآيات يريد الله سبحانه وتعالى أن يقدّم الفكرة، في ما نعيشه في الحياة من سلوك ومن خطوط ومن مناهج ومن علاقات، بطريقة ضرب المثل حتى نفهم الجانب المعنوي من الأشياء من خلال الجانب الحسّي، لأنَّ الإنسان عادة يفهم القضايا الفكرية من خلال القضايا الحسيّة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نتمثّل هذه الصورة في ما نشاهده في الأرض، فنتصوَّر شجرة طيّبة تضرب جذورها في أعماق الأرض وتمتدّ فروعها في آفاق السماء، وهي تُنتج في كلّ وقت، ليس لها موسم معيّن، وليس لها وقت معيّن، بل إنّها تعطي ثمرها كلّ حين بما جعله الله لها من حيويّة الإنتاج ومن ديمومته. نتصوَّر هذه الشجرة ثمّ نتصوّر شجرة أخرى؛ شجرة خبيثة لأنّها ليست ممتدة في جذورها تحت الأرض، وإنَّما تنبت في السطح ولا تمتد في الأعماق. ومن الطبيعي عندما لا تنفذ إلى الأعماق فإنّها لا ترتفع إلى الفضاء، لأنّها لا تملك قوّة الامتداد في الفضاء وهي لا تملك ثمراً إلاّ الثمر الخبيث. إنَّنا نتصوَّر هذه الشجرة وتلك، ثم بعد ذلك نتصوّر الفكر من خلال ذلك.
الشجرة الطيّبة
إنَّ الله سبحانه وتعالى ـــ يقدّم لنا الكلمة الطيّبة لنفهمها من خلال الشجرة الطيّبة، ليقول لنا إنّ الكلمة الطيّبة تمثّل الكلمة التي تمتد جذورها في أعماق مصلحة الإنسان وحياته، وتنطلق من خلال عمق الحقّ الثابت في الحياة. فلها ثبات من خلال أنّها تمتدّ في أعماق حياة الإنسان، وفي أعماق الحياة كلّها في ما تمثّله من الارتباط بعمق الحقّ. ثمّ هذه الكلمة الطيّبة، تماماً كما هي الشجرة الطيّبة ترتفع في السماء، لأنّها تعطي للإنسان وللحياة من نتاجها على مستوى الفكر، وعلى مستوى حركة الحياة وغذائها وعلى مستوى العلاقات الإنسانية، فهي تؤتي ثمارها ونتائجها في كلّ وقت. إذ ليس للحقّ موسم معيّن، وليس للخير زمان معيّن وليس للصلاح وقت معيّن. فنحن نحتاج إلى الخير في كلّ وقت ليغذّي حياتنا، ونحتاج إلى الصلاح في كلّ وقت ليقوّمها، وفي كلّ موسم نحتاج إلى الحقّ ليركّز حياتنا في كلّ المجالات.
الشجرة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فلا جذور لها، لأنّها لا تنطلق من مواقع الحقّ في الفكر، بل هي حالة انفعال. فحين تشتهي شيئاً تدفعك شهوتك إلى الكلمة، وحين تغضب يدفعك غضبك إلى الكلمة، وحين تعادي أو تحبّ يدفعك عداؤك أو محبّتك إلى الكلمة.. فهي كلمة تنطلق من الحالات الطارئة في شخصيّتك ولا تنطلق من الحالات الثابتة فيها. ولهذا فإنّها سرعان ما تتبخَّر وتنتهي ولا يبقى منها شيء.
مصداق الكلمة الطيّبة
إنَّ الله يريدنا أن نتذكَّر حياتنا جيّداً من خلال هذا المثل. فكيف نفهم الكلمة الطيّبة في ما أراده الله منها؟ وكيف نفهم الكلمة الخبيثة في ما أراده الله منها؟
إنَّ أوّل مصداق للكلمة الطيّبة هو كلمة التوحيد، أي الإيمان بالله والإيمان بوحدانيّته، فهو وحده الإله، وحده المعبود، وحده المطاع، وهو وحده الذي تتوجّه إليه الأفكار والقلوب.
والكلمة الطيّبة ثابتة، لأنّ ثباتها ينطلق من أزليّة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فهو الأول وهو الآخر. الأوّل لا من عدم، والآخر الذي لا ينتهي إلى عدم. فهو الأزلي وهو المطلق الذي شملت قدرته كلّ شيء، واتّسع علمه لكلّ شيء، وتدخل تدبيره في كلّ شيء. وهو الذي أعطى كلّ شيء وجوده وحركته، وغذاءه. ومن هنا فالإيمان بالله هو الكلمة الطيّبة التي تمتدّ جذورها في أعماق الحياة، لأنَّ الله وحده الحقّ، وحده الثابت وكلّ ما عداه زائل، وحده الباقي وكلّ ما عداه فان، وهو وحده الحيّ وكلّ ما عداه ميّت. فهو الله الذي لا إله إلا هو. وهذه هي الكلمة الطيّبة.
مصداق الكلمة الخبيثة
أمّا الكلمة الخبيثة فهي الشرك والإلحاد، لأنَّ الإلحاد لا يستمدّ مواقعه الفكرية من العلم، بل يستمدّها من خلال الجهل. والشرك يستمدّ مواقعه من استغراق الإنسان في قوّة مَنْ حوله، ممّن يملكون قوّة وهمية يخترعها الإنسان من نفسه، أو يملكون قوّة حقيقية لا ثبات لها في الحياة، لأنّها قوّة مستمدّة من خالق القوّة، ولأنّها قوّة مستعارة. فكلّ الأقوياء يملكون قوّة مستعارة، كما أنّ حياتهم مستعارة، وكما أنّ أجسادهم مستعارة، وكما أنّ كلّ شيء عندهم هو مستعار، لأنَّ الله يستردّ رعايته في أيّ وقت يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ...} [الحج : 62]. لنتساءل عن أيّ شخص يراد له أن يُعبَد؛ كم يمكن له أن يعمّر؟! وعن أيّ قوّة يراد لها أن تهيمن كم يمكن لها أن تدوم؟!
إنَّ قوّة الله وحدها التي تدوم، وكلّ قوّة سواها ستزول، وبذلك فكلّ ما يتعلَّق بها سيذهب، وكلّ عبادتها وطاعتها ستذهب وستذهب معها كلّ التهاويل التي تحيط بها ويبقى الله هو الحقيقة.
الشرك هو الكلمة الخبيثة في العقيدة وكذلك الإلحاد، لأنّه لا يملك عمقاً في الوجود، ولا عمقاً في الحقيقة. أمّا الله فهو العمق في كلّ شيء لأنّه هو عمق كلّ شيء، وكلّ شيء يستمدّ عمقه من الله.
الإسلام والكلمة الطيّبة
والإسلام ـــ بعد ذلك ـــ هو الكلمة الطيّبة التي أصلها ثابت، لأنّه يستمدّ كلّ شرعيّته من الله، فهو ليس فكر بشر؛ حتّى لو كان البشر رسول الله، لأنّ الله عندما أوحى إليه برسالته قال له: لا تزد حرفاً ولا تنقص حرفاً في ما أوحيت إليك، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 46] أي لا تزد حرفاً ولا تقل أيّ شيء إلاّ ما أوحى الله به إليك، فلستَ حرّاً في أن تقول للناس ما تنفعل به أو ما تحبّه وتهواه، ولكنّك تتحدّث إلى الناس في ما أوحى الله به إليك: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فإذا كان الإسلام كلمة الله ووحيه، وإذا كانت شريعة الإسلام ـــ في كلّ حلالها وحرامها ـــ هي شريعة الله فعليك أن تسلم لكلّ حلال الله ولكلّ حرامه.
لكَ حريّة في أن تعترض، لأنّك قد تعترض على كلمات مخلوق يمكن أن يخطئ أو يصيب، ولكن كيف تعترض على كلمة ربّك بعد أن تؤمن بأنّها كلمته: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...} [الأحزاب : 36]. ليست لك الحريّة في ذلك، بل حريّتك أمام الناس أن ترفض هذا إذا لم تقتنع به، وتلتزم بذاك إذا اقتنعت به. ولكن طأطئ الرأس لكلمات ربّك. وإذا فهمتها فاحمد الله على الفهم الذي يتحوّل إلى طاعة، وإذا لم تفهمها فقل: الله أعلم بأسرار أحكامه وآياته: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163].
قول الله هو الثابت، وكلّ شيء غير قوله فهو إلى زوال. قول الله هو الطيّب الذي تحلو ثمرته وهو الذي يتأكّد في حياته. وكلّ شيء لا يتّصل به فهو الخبث كلّه والاهتزاز كلّه. من هنا فحين يقول الله: {... وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم : 25] فإنّه يقول: التزموا الإسلام بكلّ عمقه، لأنَّ الإسلام عميقٌ عمقَ إرادة الله، ولأنّه ممتد في الكون كلّه امتداد قدرة الله، ولأنّه يعطيك الثمر الطيّب في الدنيا وفي الآخرة كما يعطيك الله غذاءه ونعمته في الدنيا والآخرة، فالتزموا كلمة الإسلام ولا تلتزموا كلمة الكفر.
القرب من الله وسكينة النّفس
حاول ألاّ تهتزّ في انتمائك، ولا تستبدل بكلمة الإسلام كلمة، حتّى لو أغراك الناس، ولا تفقد شجاعة الالتزام بالإسلام حتّى لو انصبَّت كلّ اتّهامات الدنيا على رأسك، لأنّك عندما التزمت بالإسلام فإنّك تلتزم بالله، وإذا لم تلتزم بالإسلام فإنّك انفصلت عن الله وعن رحمته، وكذلك إذا انفصلت عن إسلامك فإنّك تفقد الحياة الروحية، التي تبعث الطمأنينة والرضى والأمن في كلّ حياتك. إذ يريد الله لك أن تشعر بأنّك مطمئن في حياتك، تفعل ما تفعل على أساس أنّ في عملك رضى الله، وحينئذٍ تعرف أنّك سائر في طريق الله، فلا تهمّك النتائج لأنَّ هناك نتيجة واحدة تصل إليها وهي الله. وهذا ما عبَّر عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في ما روي عنه:
ولستُ أُبالي حين أُقْتَل مسلماً على أيِّ جنب كان في الله مصرعي
وعندما تنطلق لتنتهي حياتك في طريق الله، وأنتَ تشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله؛ فإنَّك تموت على ما مات عليه محمّد وتحيا على ما حيي عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
انظروا إلى الفرحة التي كانت تهزّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ودماؤه تسيل من رأسه وهو يعاني كلّ الآلام حين قال: "بسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله فزتُ وربّ الكعبة"(1).
الإسلام وشموليّته
لعلَّ الكثيرين يريدون أن يوجدوا فصلاً بينكم وبين الإسلام، وقد يعملون على أن يفصلوكم عن الإسلام في بعض الجوانب، إذا لم يستطيعوا أن يفصلوكم عنه في كلّ الجوانب. فهم يقولون لكم كونوا مسلمين في الصلاة والصوم، وكونوا كافرين في العادات والتقاليد الاجتماعية.
كونوا مسلمين في دعائكم وابتهالكم وخشوعكم، وكونوا كافرين في اقتصادكم وسياستكم وأوضاعكم. إنّهم يريدون أن يفصلوكم عن الإسلام في الحياة، ليبقى إسلامكم إسلام المسجد الذي يغلق كلّ أبوابه عن الحياة؛ والله يريدكم أن تدخلوا المسجد لتنفتحوا عليه في كلّ رحابه وآفاقه وفي كلّ عظمة أخلاقه، حتّى إذا دخلتم المسجد أخذتم من الله تلك الرحابة وتلك القِيَم الأخلاقية، وانطلقتم من المسجد مُطَهَّرين في أفكاركم وفي مشاعركم وفي حياتكم، ليكون المسجد هو الباب الذي ينفتح على الحياة لا الباب الذي ينغلق دونها.
وعندما تلتزمون الإسلام ككلمة طيّبة في الانتماء والعقيدة، والحركة، والنهج، والحياة، فإنَّ عليكم أن تنفذوا إلى داخله، لتجعلوا حلاله حلالكم وحرامه حرامكم وأخلاقه أخلاقكم.
فإذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119]. فعليكم أن تبحثوا عن علاقاتكم وعن أنفسكم: هل أنّكم تؤمنون بالصدق في الحياة أم تؤمنون بالكذب؟ وهل تنطلقون من موقع الحقّ عندما تؤيّدون أو ترفضون، أم تنطلقون من موقع الباطل في ذلك؟ وهل تبيعون مواقفكم للظالمين وللمستكبرين، أم تكون مواقفكم كلّها لله لأنّكم بعتم أنفسكم له كما باع عليّ نفسه؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة : 207] فإذا كنتم قد بعتم أنفسكم لله، فليس لكم بعد ذلك أن تحبُّوا إلاّ ما يحبّه الله، أو تخوضوا في عمل إلاّ في ما يرضي الله، لأنَّ كلّ وجودكم هو ملك لله تعالى.
رضى الله هو المعيار
ومن هنا ينبغي أن نجاهد أنفسنا، وننزع من حياتنا فكرة الاهتمام برضى فلان أو فلان، لأنَّ هذا هو المقتل الذي تسقط فيه مبادئنا ومواقفنا وأوضاعنا. ولنكن من الذين يفكّرون برضى الله.
وإذا كنّا نفكّر برضى الناس، فليكن ذلك على أساس ارتباطه برضى الله وانفصاله عنه. وهذا هو الذي يريدنا الله أن نؤكّده في حياتنا بأن يكون الله وحده الذي نهتمّ برضاه وإنْ غضب الناس كلّهم. وهذا ما نتعلَّمه من سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خلال دعوته، فبينما كان يهاجمه الناس ويسبُّونه ويشتمونه ويلقون القذارات عليه، لم يكن يلجأ إلى بعضهم ليدافعوا عنه أو ليخفّفوا عنه الضغط، إنّما كان يلتجئ إلى الله فيحدّثه عن ضعفه طالباً منه القوّة، ويحدّثه عن وحدته التماساً لنصرته، وكان يخاطب الله ـــ تعالى ـــ بعد كلّ ما يلاقيه من كيد الناس وعدائهم قائلاً: "يا ربّ المستضعفين إنْ لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي" وتلك هي الروح التي أراد الإسلام أن يجعلها روحنا، وتلك هي الثقة العميقة التي أراد أن يؤكّدها في نفوسنا، ليكون أحدنا الإنسان الذي يواجه العالم، لا من خلال انتفاخ الشخصية، أو عنتريّة القوّة ولكن من خلال الإحساس القويّ بأنَّ الناس لو أرادوا به سوءاً ولم يرد الله ذلك فلن يقدروا على النَيْلِ منه، ولو أنّ الناس أرادوا أن ينصروه ولم يرد الله نصرته فلن تجديه رغبة الناس نفعاً.
من هنا فإنّك تشعر بالقوّة تشمل كلّ كيانك، ما دمت تعرف أنّك على الحقّ، فتقف لتقول لصاحبك لا تحزن إنَّ الله معنا وتلتفت إلى الذين يخوّفونك من الناس لتقول لهم: حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل. لأنّك تعلم أنّ الله هو الكافي، الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء؛ وهو وكيلك، يدبّر أمرك ويرعى حياتك وينظّم لك موقفك وأنتَ تسير في طريقه.
نحن نحتاج أن نعيش روح البدريين الذين ثبتوا، وروح الكربلائيين الذين انطلقوا في خطّ بدر ووقفوا على هذا الأساس، وروح عمّار بن ياسر الذي كان يرى الهزيمة في بعض المواقع وهو مع عليّ (عليه السلام)، والناس يرتابون لأنّهم يُهزَمون.. فقال لهم: "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).. ذلك لأنَّ الحقّ لا يتعامل مع الأشياء الطارئة في الحياة، بل يتعامل مع نهايات الحياة وعواقبها.
عدوّ الله ... عدوّنا
يتبيَّن من هذا أنّ الكلمة الطيّبة تعني الروح الطيّبة، التي ترتبط بالله سبحانه وتعالى، فإذا انفصلنا عنها فإنّنا ننفصل عن كلّ ثبات في الحياة {... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31]. هذه هي الكلمة التي نريد أن نعيشها في كلّ حياتنا العامّة والخاصّة وننطلق على هذا الأساس، لنحدِّد في الحياة الكلمة الطيّبة من خلال تحديد المفاهيم التي أرادنا الله أن نعيشها في الحياة حتّى نحدِّد أعداءنا وأصدقاءنا، باعتبار أنّ أعداءنا هم أعداء الله.. أعداؤه في العقيدة وفي الحركة وفي الأخلاق، وفي السياسة، وأعداؤه في كلّ مواقع الحياة الأمنية والاقتصادية والعسكرية. وقد قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وهو يتحدّث عن هؤلاء الناس الذين يريدون أن يتقرَّبوا إلى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أنّهم شيعتهم.. قال: "والله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه وكانوا يعرفون بالتواضع والتخشّع والصدق وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء أفيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! أيكفي أن يقول الرجل أحبّ عليّاً وأتولاّه ثمّ لا يكون فعّالاً لما عرفه عن عليَّ (عليه السلام)؟ أفيكفي الرجل أن يقول أحبّ رسول الله ثمّ لا يعمل بسنّته؟!" ثمّ قال لهم خذوا القضية على مستوى العلاقات؛ فليس الشيعي من رفع شعار حبّنا فقط، لأنّنا لم نفتح حساباً مستقلاًّ عن الله، إنّما الشيعي هو من يطيعُ الله ويتّقيه. فمن لم يطعه ولم يتّقه فليس بشيعي، وإن هتف بحبّ أهل البيت، ومن عاش في الخيانة وخان الأُمّة في حياتها وفي كلّ واقعها، وعمل مع الظالمين فليس بشيعي وإنْ كان ينحدر من مئة أب في هذا الاتجاه، إذ ليست المسألة انتماءً أو كلمة أو عاطفة. إنّما تكون شيعياً بقدر ما تكون مسلماً تقيّاً، وتكون شيعياً بقدر ما يسلم الناس من يدك ولسانك لأنّك ـــ حينئذٍ ـــ تكون مسلماً، وليس التشيّع شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو عمق الإسلام في صفائه ونقائه وشريعته. وقد قالها الإمام الباقر: "مَنْ كان وليّاً لله فهو لنا وليّ ومَنْ كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله لا تُنال ولايتنا إلاّ بالورع"(1) فليس الولاء لأهل البيت مجرّد عاطفة، إنّما هو التزام وموقف.
وأهل البيت ليس لديهم إلاّ الإسلام، وليس لديهم إلاّ الحقّ. وقد قالها الإمام عليّ (عليه السلام): "ما ترك لي الحقّ من صديق" وقالها الإمام زين العابدين: "أَحِبُّونا حبّ الإسلام لا حبّ الذّات والعاطفة". من خلال ذلك لا بدّ أن نفهم أنّ حبّ أهل البيت هو العبودية لله والالتزام بشريعته، والسير معها بكلّ مجالاتها، فلا تغرَّنا العناوين والاصطلاحات، فمن كان عميلاً للظالمين والخائنين والمستكبرين أو كان مناصراً للمنحرفين فليس بشيعي.
الاستعداد ليوم الحساب
لنفكِّر دائماً كيف يكون موقفنا أمام الله؟ وكيف نجيبه إذا سألنا؟ وكيف نتوجّه إليه إذا خاطبنا؟
ربّما كان بإمكاننا ان نقول لله تعالى: يا ربّنا لقد آمَنَّا بك وبرسولك.. وأطعناك واتّقيناك في حياتنا، ولكن سيطر الشيطان علينا في بعض ذلك، فاغفر لنا، لأنَّنا أحببناك ولأنَّنا أطعناك في مواضع أخرى. أمّا إذا كانت حياتنا كلّها كفراً ونفاقاً وضلالاً ودجلاً ومحاولة للاجتماع بفلان والانتماء إلى فلان والسير في ركاب فلان والابتعاد عن الله وعن أوليائه، فكيف يكون موقفنا أمام الله؟!.
لقد كان زين العابدين (عليه السلام) في بعض ابتهالاته يقول: "ويلي كُلَّمَا طالَ عمري كَثُرَتْ خطاياي ولمْ أتب، أَمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي"(2). لذلك علينا أن نفكّر في الوقوف أمام الله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين : 6]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار : 19]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111].
قد نحتاج أن نبحث عن الكلمة الطيّبة التي نستطيع أن نخاطب الله بها، فالتوبة كلمة طيّبة والندم على ما مضى كلمة طيّبة، والاستعداد لتصحيح الموقف كلمة طيّبة، والسير مع العادلين ومع المتّقين ومع المتّقين ومع المؤمنين كلمة طيّبة أيضاً، ذلك لأنّه يعطيك الأساس في النجاة والثبات في الدنيا والآخرة: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ...} [إبراهيم : 27] لأنَّ الظالمين يتركون الله، ومَنْ ترك الله ضاع.
الدخول في عمق الحياة
لا بدّ أن نستشعر وجود الله في كلّ شيء ونخطِّط لحياتنا من خلال ذلك، لأنَّ الحياة فرصة والفرصة قد لا تعود. ولستُ أدعو ـــ بذلك ـــ إلى الهروب من الدنيا والانهزام من المسؤولية والاختباء في زاوية من زوايا الحياة، إنّما أدعو إلى دخول الحياة بكلّ أعماقها، وتحمّل المسؤولية في كلّ مواقعها، وأقول لكم: كونوا المسؤولين أمام الله عندما تعبدونه وعندما تتحرّكون في حياتكم المادية والعملية، وعندما تتحرّكون في المواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
وحاولوا أن تستحضروا ذكر الله معكم في كلّ موقع من مواقع المسؤولية.. اذكروا الله قبل أن تذكروا الشخص الذي يشرف عليكم واهتموا برضى الله أكثر من رضاه. ولستُ أدعوكم إلى التحرّك في اللامسؤولية، إنّما أدعو إلى عدم طاعة المسؤول إذا كانت أوامره تستدعي معصية الله، فإذا كان خداع المسؤول ممكناً، فخداع الله غير ممكن، لأنَّ الله ـــ تعالى ـــ لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49] في هذا الاتّجاه ينبغي أن نفكِّر ليستقيم مجتمعنا وحياتنا وليستقيم اقتصادنا وسياستنا، ولننطلق في الحياة من خلال قاعدة الإسلام، وقاعدة رضى الله في كلّ أمر من أمورنا، في الحياة العامّة والخاصّة. وعندما نحصل على ذلك وننفتح فيه فسوف نستطيع أن نثبت في المواقف وسوف لا تهزمنا القوى ولا ننحرف عن الطريق.
ثقة المجاهدين بأنفسهم
وهذا ما لاحظناه في التجربة الجهادية التي عاشها المجاهدون في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي وقبل ذلك في بيروت. عندما اكتشف المجاهدون طريق الله في جهادهم، صاروا يُخوِّفون العالم، وعندما تحرَّكوا من موقع يعتمد على أنّ الله هو الذي يجب أن يرضى وأنّه لا مشكلة إذا لم ترضَ أميركا وأوروبا و"إسرائيل"، عند ذلك اكتشفوا مواقع القوّة أمام كلّ هؤلاء، واكتشفوا كثيراً من نقاط الضعف في مراكز هؤلاء ومواقعهم. فأنتَ لا تستطيع أن تكتشف مواقع الضعف في خصمك، عندما تستطيع أن تثبت في موقفك وعندما تعطي نفسك الحريّة في أن تهدأ لتراقب ولترفض ولتخطِّط ولتكتشف. أمّا إذا كنت مبهوراً بخصمك ومهتزّاً في مواقفك، فكيف تستطيع أن تبصر في خصمك مواقع ضعفه؟ إنّك لا تستطيع إلاّ أن تبصر مواطن قوّته ومواطن ضعفك وهذا ما يجب أن نتفاداه. من هنا عندما اكتشف المجاهدون ما اكتشفه البدريّون والأحدويّون وكلّ المسلمين الذين عاشوا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكلّ الذين عاشوا مع الحسين (عليه السلام) عندما اكتشفوا ذلك، ووضح الطريق أمامهم ووضحت القوّة، استطاعوا أن يفعلوا الكثير وأن يحصلوا على الكثير.
قد يسمّيهم العالم متطرّفين، وقد يسمّيهم مجانين، وقد يسمّيهم إرهابيين، وقد يسمّيهم متعصّبين، ولكنّ الله سمّاهم المسلمين المؤمنين. ليس مشكلة أن يسمّيك الناس بأيّ اسم، لأنَّ الناس كلّهم سيفقدون كلّ أسمائهم يوم القيامة ويبقى اسمٌ واحد أنّك عبد الله. وبمقدار ما تتأصَّل عبوديّتك لله في روحك وفي موقفك، يتأصّل انتماؤك إلى الله، لتكون العبد المخلص له يوم القيامة. لهذا ليس مشكلة ما يطلقون من الأسماء فليقولوا ما يشاؤون فإنّنا لا نستعير الثقة بأنفسنا من إعلانهم ولكنّنا نستعير الثقة بأنفسنا والقوّة في موقفنا من إيماننا بالله وحده.
وهكذا رأينا أنّ الانطلاقة الإسلامية تحرَّكت منذ أن تحرَّكت في إيران بقيادة الإسلام، الذي قاده وقاد حركته الإمام الخميني ـــ حفظه الله ـــ واستطاع أن يبعث في العالَم روحاً جديدة هي روح الإسلام. إنّه حدَّث الناس عن الإسلام ولم يحدّثهم عن الفرس، أو عن أيّة قضية جغرافية أو محورية. ولكنّه حدَّثهم عن الإسلام وعن أحكامه وروحه وعن عرفانه وتقواه.
وكان في حديثه ينقل الفكرة والتطبيق معاً، لأنّه حرَّك الفكرة من خلال التجربة، ولم يحرِّكها فقط من خلال التنظير.
الجهاد يخلق الانتفاضة
وهكذا لاحظنا أنّ المسألة الفلسطينية لم تُخف "إسرائيل" ولم تُخف الاستكبار العالمي، لأنّها كانت تتحرّك في ملاعب أروقة الأنظمة التقليدية التي صنعها الاستعمار، ولأنّها كانت تستمدّ قوّتها من أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ والسيادة لا من الله، لأنّها تخاف عندما تطلق اسم الله أن يتعقَّد منها من لا يؤمنون بالله، ولهذا كان العنوان أنّ كلمة الله ممنوعة في حركة الجهاد والمقاومة. واكتشف الشعب الذي عاش تحت الاحتلال ولم يعش في المكاتب الفخمة، اكتشف هناك في الضفة الغربية وفي غزّة أنّه لن يحميه شيء من مصادرة إنسانيّته ومن مصادرة حريّته، إلاّ الإسلام. ولهذا انطلق من خلال الإسلام بكلّ بساطة، فتحوَّلت الجامعة في غزّة إلى جامعة إسلامية، والساحة إلى ساحة إسلامية، وانطلقت كلمة الجهاد بعد أن استبدلوها بكلمة الكفاح وكلمة الثورة. ولكن رأى المسلمون أنّ هذه الكلمات قد تكون كلمات معبّرة ولكن كلمة الجهاد تختزن كلّ تاريخ الإسلام، فهي تحمل القرآن في مضمونها، وتحمل محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في عنوانها، وتحمل كلّ شهداء الإسلام من بدر حتّى الآن، وهي توحي وتتحرَّك وتعطي وتعمق في الإسلام روحه، فاستبدلوا كلّ الكلمات بكلمة الجهاد، وحدّدوا الجهاد الإسلامي الذي يعرف كيف يبدأ ويعرف خطّ السير ويعرف كيف ينطلق. وهكذا رأينا أنّه عندما انطلق الإسلام في أعماقهم فقدوا الخوف من الموت في مواقفهم. وبهذا كانت الحجارة تواجه دبّابة، وكانت السكّين تواجه البندقية والرشّاش، وكانت العيون الغاضبة تحدّق في كلّ الرصاصات الحاقدة. لقد كانوا يريدون أن يعملوا ليخيفوا العدوّ، حتّى بعيونهم التي ينظرون بها. فبورك الإسلام الذي صنع هذه الانتفاضة، التي لا نريد أن ندخل مع الآخرين في جدل انتمائها، لأنّها فرضت نفسها على كلّ الواقع العالمي. ولهذا استمرّت في هذا الخطّ الذي يتحرّك على أساس أن يصل إلى نهاية كبيرة بكلّ ما عنده من طاقة. ونحن لا نتصوّر أنّهم يملكون قوّة غير واقعية ولكنّهم يعطون كلّ قوّتهم، لأنَّ الإسلام يريد منهم ذلك.
وهذا ما نريد أن نعيشه في كلّ حياتنا، أن نشعر بأنّنا جزء من هذا العمل الإسلامي الكبير، فلا نفكِّر بموقع الجهاد في لبنان منفصلاً عن موقع الجهاد في فلسطين، أو في مصر، أو في تونس، أو في إيران، أو في العراق أو في أيّ بلدٍ آخر. فنحن مسلمون تتكامل مواقعنا في الجهاد، وفي السياسة، وفي كلّ مجال. فكلّ موقع قوّة يعطي للآخر قوّة جديدة وكلّ موقع ضعف ينطلق الجميع من أجل أن يعطوه قوّة جديدة، وهكذا تتكامل الروح الإسلامية.
من هنا نحن نعتقد أنّ علينا ـــ وقد عاد الإسلام إلى فلسطين وعادت الروح الإسلامية من جديد إلى هذه الجماهير المسلمة ـــ أنّ علينا أن نشعر بأنّنا جزء من هذه الجماهير الإسلامية نتعاون معهم، ونتعاطف معهم ونتكامل معهم بكلّ ما عندنا من قوّة. وعندما يعلن الإضراب في هذا اليوم، ونحن نعتبر أنَّ الإضراب هو التعبير البسيط الذي هو أضعف الإيمان، ولكن لا بدّ أن نفكّر أنّ المسألة لن تنتهيَ عندما ينتهي يوم الإضراب، بل علينا أن لا نفهم الإضراب بطريقة استهلاكية، كما يفهمه كثيرٌ من الناس. فالإضراب جزء من موقف، فمن أضرب وترك عمله على أساس تأييد الانتفاضة فإنّه يؤمن بها ويلتزمها، يلتزم فكرها وسياستها وموقعها. ولهذا لا نريد أن يتحوّل الإضراب في أيّ عمل إلى حالة انفعالية أو عاطفية. بل ينبغي أن يكون جزءاً من العمل الكبير، لكي تشعر الأُمّة الإسلامية التي تريد أن تعبّر عن تأييدها بالإضراب بأنَّ المسألة ينبغي أن تتحرّك في اتّجاه دراسة الواقع كلّه، وأنّ الذين يؤيّدون الانتفاضة في فلسطين لا بدّ أن يؤيّدوا الانتفاضة في جبل عامل والبقاع الغربي باعتبار أنّهما تتكاملان، وأنّ تلك كانت من بعض أصداء هذه في حركتها الإسلامية الفاعلة، والكلّ بعض أصداء الثورة الإسلامية الكبيرة التي انطلقت في إيران. من هنا فإنَّ تأييد الانتفاضة هو تأييد للإسلام الذي قاد الانتفاضة، وتأييد للروح التي تتحرّك فيها الانتفاضة.
الازدواجية الأميركية
وعلى هذا الأساس يجب أن نعرف جيّداً أنّ الذين يلتزمون المسألة الفلسطينية في مواجهة المسألة الإسرائيلية، لا يمكن أن يلتزموا السياسة الأميركية، لأنَّ السياسة الأميركية قد انطلقت على أساس أنّها صنعت المشكلة الفلسطينية، عندما صنعت "إسرائيل" وأعطتها كلّ طاقتها العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية، والتزمت العدوان الإسرائيلي فوقفت أمام العالَم كلّه، لتمنع أن تدان "إسرائيل" ولو بالكلام. وآخر شاهد على ذلك هو "الفيتو" الأميركي على القرار، الذي يريد أن يمنع "إسرائيل" من عدوانها اليومي على أطفالنا ونسائنا وشيوخنا ومستشفياتنا وعلى كلّ بلادنا. إنَّ المندوب الأميركي يتكلَّم بكلّ وقاحة، فيقول إنّ القرار غير متوازن، لأنَّ العنف على حدود "إسرائيل" من الجانب اللبناني، هو الذي يجتذب العنف الإسرائيلي. لهذا لا بدّ أن ندين العنف هنا والعنف هناك. ولكن لا أدري هل يستغفلون العالَم أم أنّهم هم المغفَّلون؟ ليسوا مغفّلين، ولكن مَنْ يشعر بقوّته يعتقد أنّه يستطيع أن يضحك على الناس!
كيف نساوي بين مَن يريد أن يحرّر بلده وبين مَن يحتلّ بلد الآخرين؟
كيف نساوي بين هذا العنف وذاك؟
لماذا إذاً تتحدّث أميركا عن أفغانستان، وحرب المجاهدين الأفغانيين ضدّ الاتحاد السوفياتي؟ أليس هو عنفاً متبادلاً؟!
ثمّ هناك مسألة نريد أن نثيرها مع أميركا بهدوء، وهي أنّنا عندما نتحدّث عن العنف فإنّنا نتحدّث عن عنف المقاتلين هنا وعنف المقاتلين هناك، ولكنّ "إسرائيل" لا تضرب المقاتلين فقط، بل هي تلجأ إلى ضرب المدنيين في بيوتهم الآمنة، وتلجأ إلى ضرب سيارات الإسعاف والمستشفيات وما إلى ذلك كلّما ضربها المقاتلون. هل إنَّ المدنيين هم الذين قادوا العنف؟!
موقف الحكّام العرب من الانتفاضة الفلسطينية
المشكلة هي أنّ أميركا تعرف أنّ الدوائر السياسية في المنطقة العربية وفي لبنان ليست مستعدّة لأن تردّ عليها منطقها إلاّ بالكلمات، لأنّهم التزموا السياسة الأميركية بالمطلق، فهذه السياسة الأميركية هي التي تحمي لهم عروشهم ومواقعهم. من هنا لاحظنا أنّ المصريين المسلمين، عندما خرجوا في تظاهرة تأييداً للانتفاضة الفلسطينية، قمعتهم السلطة المصرية بحجّة أنّهم يستغلّون هذه المسألة في أعمال سياسية أخرى أو شعارات سياسية أخرى. ولكنّ الحقيقة أنّهم يخافون من أن يتظاهر الناس، لأنَّ أيّة تظاهرة تخرج في مصر ضدّ "إسرائيل" فهي بطبيعة الحال ـــ حتى لو كانت صامتة ـــ ضدّ النظام المصري الذي تعاون مع "إسرائيل" وتحالَف معها.
وهكذا رأينا بالأمس أنّ تظاهرة خرجت في المغرب وقوبلت بالرصاص، فقتلت شابّة من المتظاهرين من قِبَل رئيس لجنة القدس، الذي يعمل ـــ على زعمهم ـــ على تحرير القدس ولكنّه يضرب الذين يؤيّدون القدس ويثورون وينتفضون لتحريره، لأنّه يعرف أنّ هذه التظاهرة التي وقفت لتأييد الانتفاضة، هي تظاهرة بشكلٍ غير مباشر ضدّ تعاطف ملك المغرب مع المسؤولين الإسرائيليين، وهو لم يستحِ من أن يعقد مؤتمر القدس أخيراً في المكان الذي استقبل فيه شيمون بيريز في المغرب.
الحقيقة أنّهم التزموا السياسة الأميركية، ولهذا فإنّهم لا يوافقون على أيّ موقف يمكن أن يشكّل خطراً على المصالح الأميركية، أو يمكن أن يثير عنفاً في مواجهة السياسة الأميركية، لأنَّ علينا أن نسبِّح ونقدّس بحمد أميركا ولا مانع من أن ننتقدها انتقاداً خفيفاً كي نحفظ ماء وجهنا من قبيل عتب الصديق على الصديق وعتب الحبيب على الحبيب، واعتبار أنّ العتاب صابون القلوب ودليل المحبّة.
إنَّ معنى التزامنا بالمسألة الفلسطينية، من خلال الجماهير الفلسطينية، يعني الالتزام بواجهة السياسة الأميركية في كلّ مجال من المجالات، وبالوقوف مع كلّ الذين يقفون ضدّ الهيمنة الأميركية.
المخيّمات الفلسطينية
والنقطة الأخرى التي نريد أن نثيرها أيضاً ونباركها، هي مسألة إغلاق ملف المخيمات في بيروت.. إنّنا نحبّ أن نؤكّد هذا الموقف الذي دَعَوْنا إليه قبل أسبوعين وطلبنا من الجميع أن ننتهي من هذه الحرب أمام إشراقة هذه الحرب المشروعة ضدّ "إسرائيل". لكن عوَّدتنا الأحداث أن نقلق وأن لا نؤمن بالحلول إلاّ بعد أن تتكامل عناصرها. لقد أغلِقَ ملف حرب المخيمات في شاتيلا وفي برج البراجنة، ويبدو أنّ الأمر سائر بشكلٍ معقول وطبيعي، لكن لا تزال مسألة مخيّمات الجنوب ومحيطها في صور وصيدا من دون حلّ. ونحن نتمنّى أن يشملها الحلّ، وندعو الجميع كلّهم إلى أن ينطلقوا بواقعية ودراسة عميقة، من أجل الوصول إلى حلّ يمنع تجدُّد هذه الحرب، كما ندعوهم إلى أن يغلقوا الملف كليّاً من خلال دراسة متوازنة بين المخيّمات وبين محيطها، على أساس أن لا تكون المسألة مجرّد مسألة أمنية طارئة ومجرّد مسألة عسكرية. إنّنا في الوقت الذي نؤيّد هذا الحدث الذي نتمنَّاه جميعاً وندعو إليه، نريد أن نسرع في إغلاق ملف المخيّمات في الجنوب، وندعو كلّ الفعاليات وكلّ العناصر الطيّبة إلى أن تعمل على ذلك، حتّى لا نصاب بصدمة، أو يصاب الحلّ بانتكاسة. لنكن واقعيّين في فهم المسألة ولا نحاول أن نكون انفعاليّين نبارك ربع الحلول التي يمكن أن تهزمها الثلاثة الأرباع الأخرى.
اغتيال السيّد مهدي الحكيم
وأخيراً لا بدّ لنا من أن نطلّ على مسألة الجريمة البشعة الوحشية، التي قام بها النظام العراقي في اغتياله العلاّمة السيّد محمد مهدي الحكيم (رضوان الله عليه) ـــ نجل المرجع الإسلامي السيّد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) في الخرطوم ـــ مستغلاًّ فقدان الأمن والتآمر مع بعض القوى هناك، حيث كان شهيدنا الذي عاش حياته مشرّداً في سبيل الإسلام وفي سبيل القضية العراقية، قضية الشعب المسلم الذي يعاني ما لا يعانيه شعب في المنطقة.. عاش مشرَّداً مجاهِداً محاضِراً في كثير من المواقع في العالم، حيث كان يتنقّل من مؤتمر في بريطانيا إلى مؤتمر في فرنسا وفي أميركا وكندا والهند وافريقيا، من أجل أن يقوم برسالته ومن أجل أن يواجه الطاغية في سلطته الغاشمة حتّى يُسقطها.
إنّنا نعبِّر عن استنكارنا لهذه الجريمة، التي لم نستغربها من هذا النظام الذي كان ولا يزال الاغتيال هو النهج السياسي الذي يقوم به ضدّ كلّ الناس الذين يعارضون حكمه. وهو لم يغتل السيّد مهدي الحكيم فقط، بل يُمعن في اغتيال الشعب العراقي في هذه الحرب المجنونة المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
إنّنا في الوقت الذي نشجب فيه هذه الجريمة، نتساءل أمام النظام الموجود في السودان، كيف يفسِّر لنا ما حدث، وكيف يمكن أن ينطلق هؤلاء بكلّ اطمئنان وبكلّ عقلٍ بارد وبكلّ هدوء، ليدخلوا إلى هذا الفندق الذي تجتمع فيه كلّ الوفود الرسمية هناك، من دون أن يتحرّك رجل أمنٍ واحد، وقد سمع الرصاص لأنّه لم يُستعمل كاتم صوت؟ كيف لم يحدث هناك أيّ شيء؟!
إنَّنا نتساءل وندعو الحركة الإسلامية في السودان إلى أن تعبّر عن موقفها وأن تتابع ذلك، لأنَّ هذا ليس مجرّد إساءة لشهيدنا، ولكنّه إساءة للإسلام كلّه وللحركة الإسلامية كلّها.. رحمه الله رحمة واسعة وعوَّض الأُمّة عن فقده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين