بالوعي والتخطيط نواجه المؤامرات(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ*وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ*حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 26 ـــ 32].
ضمن هذه الأجواء التي نعيشها، نطلّ على هذه الفريضة الإسلامية العبادية التي أراد الله أن تكون الفريضة العبادية التي تجمع الناس كلّهم، في بيت الله ليطوفوا به، وليقوموا متعبّدين له، ويركعوا ويسجدوا بين يديه، ليدلّلوا على أنّ عبوديّتهم له جزء من ذاتهم، فلا ينحرفون عنها ليقدّموا فرائض العبودية لغيره.
نداء الحج
هذا النداء الإلهيّ انطلق منذ انطلقت الرسالات في دورها الاجتماعي، لأنَّ الرسالات قبل النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، في الفترة الواقعة بينه وبين النبيّ نوح كانت تركّز على الخطوط العامّة في حركة الإيمان بالله وعبادته. ولهذا لم نجد أنّ القرآن يركّز كثيراً على مرحلة ما قبل إبراهيم، بل كان إبراهيم هو العنوان للمرحلة الجديدة، وكان العنوان لكلّ ما جاء بعده من الرسالات، باعتبار أَنّه يمثّل التخطيط للمجتمع الرسالي الذي يلتقي بعضه مع بعض بعيداً عن أيّة حالة محليّة أو إقليمية، ولهذا أراد الله للنّاس أن يجتمعوا في بيته العالمي، بعد أنْ كان لله بيتٌ في كلّ محلّة يعيش فيها المؤمنون به وبرسالاته، أو في كلّ بلدٍ يوجدون فيه، فأراد الله من إبراهيم أن يبني بيتاً لكلّ الناس، بيتاً لله يدعو الناس كلّهم، أبيضهم وأسودهم، من يتكلّم بهذه اللّغة ويتكلّم بتلك اللّغة، يدعوهم ليعيشوا إنسانيّتهم التي توحّدهم بين يدي الله، ليشعروا بأنفسهم أنّهم مهما اختلفت جنسيّاتهم، ومهما اختلفت أعراقهم، ومهما اختلفت لغاتهم، ومهما اختلفت بلدانهم، فإنَّهم يلتقون طائفين، ساجدين، راكعين، قائمين، موحّدين لله سبحانه وتعالى، وعندها يتوحّد الناس من خلال الإيمان بالله وعبادة الله، ويتوحّدون بالانطلاق في كلّ مواقع المسؤولية في حياتهم من خلال أوامر الله ونهيه.
تلك كانت المسألة، ولهذا جاء النداء من الله لإبراهيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} حدَّدنا له المكان الذي يبني فيه البيت {أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ابنِ بيتاً يرتكز على الوحدانية لله، ابنِ بيتاً لا مكان فيه للمشركين، ولا لأيّة جهة غير الله، اجعله طاهراً من كلّ رجس الوثنية ومن كلّ أدناس الجاهلية {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج : 26] اجعله في طهارته الروحية بحيث يستقبل الطائفين به على أساس التوجّه إلى الله، والقائمين ليقوموا بين يديّ الله، والركَّع السجود ليركعوا لله وحده وليسجدوا لله وحده، لا يركعون إلاّ لله، ولا يسجدون لأيّة قوّة، اجعل بيتي طاهراً لهؤلاء، ثمّ بعد أن تكمل بناء البيت وترسي قواعده وتطهّر أجواءه، عند ذلك {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، ارفع الأذان ـــ كناية عن النداء ـــ ارفع الصوت العالي، قد لا يسمعك إلاّ الذين هم حولك، لأنَّ صوتك لا يبلغ مدىً واسعاً، ولكن عندما يكون صوتك هو صوت الله وصوت الرسالة، فإنّه سيتحرّك ليدخل في أصلاب الرجال، وفي أرحام النساء، فينقله كلّ جيل إلى الجيل الذي بعده، لأنّه ليس صوت إبراهيم كشخص، ولكنّه صوت إبراهيم كرسول لله، فإذاً هو صوتُ الله، وسيوصل الله صوت رسالته إلى كلّ الأجيال التي ستأتي من بعده، حتّى لو لم تسمع صوته.
منافع الحجّ
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أدعهم إلى الحجّ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين على أقدامهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} على الإبل {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج : 27] لماذا تؤذّن للناس في الحج، ما السبب، ما الغرض؟ يستطيع كلّ إنسان أن يعبد الله في بيته، ويستطيع كلّ إنسان أن يطيع الله في محلّته، لماذا تكلّف الناس من كلّ مناطق الأرض؟ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} لأنَّ هناك منافع يحصلون عليها من خلال اجتماعهم في هذا البيت، منافع الروح التي تجعلهم يجتمعون باسم الله، وعلى كلمة الله، فيتناصحون على وحدتهم من خلال روحيّتهم، ومن خلال عبادتهم لله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} ولا تحدّد يا إبراهيم لهم المنافع، لأنَّ المنافع تتطوّر حسب تطوّر الزمان، الإطار هو إطار الإيمان والتوحيد والعبادة لله والإخلاص لله وقد تكون هناك منافع اجتماعية، وقد تكون هناك منافع اقتصادية، وقد تكون هناك منافع جهادية لأنّهم إذا اجتمعوا وتقاربوا وتعارفوا وتوحّدوا، فإنَّ من الممكن أن يشكوَ كلّ واحد للآخر همّه، وأن ينقل كلّ واحد للآخر تجربته، وأن يحدثَ كلّ واحد الآخرين عن مشاكله وعن قضاياه والتحدّيات التي تواجهه، وعن الضعف الروحي، والضعف السياسي، والضعف الديني، والضعف الاجتماعي الذي يكون في بلده، فيطلب منه أن يعاونه، وهو ما يؤدّي إلى أن تتعاون الشعوب في ما بينها من خلال الذين يمثّلونها هناك، وتتعاون الأمم من خلال المواقف التي يتّخذها قادتها هناك، ويعرف الناس من خلال ذلك ما جهلوه من دينهم، إذ ينقل الأئمّة والعلماء والصلحاء لهم ما يعرفونه من شريعة الله، ومن دين الله ومن شريعة الحياة كلّها.
الكعبة بيت الله الأوّل
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هذه التي أراد الله لهم أن يذبحوها، لتكون قرباناً لهم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأكلوا منها، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ليغتسلوا، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، النذر الذي عقدوه حال الإحرام، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج : 28 ـــ 29] وهو الكعبة، البيت الحرام، وسمّيت البيت العتيق لأنّه أوّل بيت وُضِعَ للناس، وهذا ما نفهم منه أنّه لم يكن غير الكعبة بيت لله في العالم، بل كان الناس يعبدون الله في بيوتهم، أو في أماكن خاصّة في صوامعهم، ولم يكن هناك أبداً بيت للنّاس يعبدون الله فيه عبادة جماعية، ويلتقون فيه لعبادة الله، إنّ الله يقول لنا {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران : 96] معنى ذلك أنّه البيت الأوّل، لا بيت قبله، {حُنَفَاء لِلَّهِ} مخلصين له لا يميلون عن دينه، بل يميلون عن غير دينه {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ثمّ يقول الله للنّاس الذين يطوفون بالبيت ويقومون بالبيت ويسجدون بالبيت أتعرفون معنى أن تشركوا بالله، أتريدون صورة المشرك بالله، خذوا الصورة: تصوَّر نفسك أنّك في السماء، ثمّ انطلقت لتسقط من السماء إلى الأرض، وأنتَ في سقوطك قد تلتقي بك جوارح الطير وسباع الطير فتخطفك من أجل أن تأكلك وليمة دسمة، شهيّة، أو تأتي الرياح وأنتَ تسقط من السماء لتهوي بك في مكانٍ سحيق عميق، لا يعرف بك أحد {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31].
إقامة الشعائر وتقوى القلوب
لماذا يريدكم الله أن تأتوا إلى بيته، وأن تقوموا به، وأن تطوفوا هناك {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ...}، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ...} [البقرة : 158] وإنّ الكعبة من شعائر الله، وإنّ مقام إبراهيم من شعائر الله، وإنّ المسجد الحرام من شعائر الله، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32] والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك قبل أن يكون شعارها في جبهتك، والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك وعقلك وشعورك حتّى تتمثّل حركةً في عملك وفي واقعك في كلّ مجالات الحياة.
نحن في اليوم الثامن من ذي الحجّة، وهذا يوم التروية حيث ينطلق الناس ليحرموا للحجّ من مكّة وينطلقوا إلى عرفات، ليقفوا غداً في موقف عرفات، فكيف نفهم الإحرام؟ ثمّ كيف نفهم الطواف؟ وكيف نفهم السعي؟ مَن حجَّ فعليه أن يستعيد معلوماته ليعمّق مفهوم الحجّ في نفسه، ومَن لم يحجّ فليختزن هذه المعاني في نفسه، حتّى إذا وفَّقه الله للحجّ يقدم على الحجّ وهو واعٍ.
حكم الرافض لدعوة الله
لقد ناداها إبراهيم (عليه السلام) يا أيّها الناس تعالوا إلى بيت الله، فإنَّ الله يدعوكم إلى بيته، وقد ركَّز الله لنا الحجّ كشريعة مفروضة علينا {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ثمّ يحذّرنا الله سبحانه وتعالى {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97] وفي تفسير هذه الآية أنّه من كفر، أي مَن لم يحجّ وهو مستطيع "فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً" لأنّه رفض دعوة الله، الله يقول لك أيّها الإنسان الذي رزقتك وأكرمتك وأنعمت عليك، إنّي أدعوك إلى بيتي، لتأتي إليَّ لتطلب منّي ما تريد، لتعرض عليَّ مشاكلك، إذا لم تكن مستطيعاً فأنتَ معذور، ولكن إذا كنت مستطيعاً فلست معذوراً، تعال إليَّ يا عبدي لأرحمك، تعالَ إليَّ يا عبدي لأقضي لكَ حاجاتك، تعالَ إليّ يا عبدي لأغفر لكَ ذنوبك، تعالَ إليّ ولا تبتعد عنّي {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] وعندما تكون مستطيعاً ولا تحجّ، فكأنّك تقول لله أنا لا أريد يا ربّ أنْ آتي إليك، إنَّ الملك يدعوني فأقبّل أعتابه، والرئيس يدعوني فأمرغ وجهي في بابه وباب الأغنياء والوجهاء وأصحاب الشهوات، ولكن أنتَ يا ربّي لن أجيبك.. إنّك تقول ذلك بمنطق عقلك وإن لم تقله بلسانك. عندما يدعوك الله وأنت ترفض دعوته فيما تتقبّل دعوة كلّ مَن هو غير الله، هل تكون مسلماً؟ إنَّ الحديث يقول انطلاقاً من الآية {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ} [آل عمران : 97] من لم يحجّ فهو بمثابة الكافر عملياً، وإنْ لم يكن كافراً رسمياً سيعامل معاملة الكافر، وجاء الحديث ليؤكّد المسألة "من استطاع الحجّ ولم يحجّ فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً"(1).
كيف نلبّي نداء الله
في هذا الجوّ، نحن انطلقنا في دعوة الله، فكيف نبدأ حجّنا، لقد علَّمنا الإسلام أن نعلن لله أنّنا استجبنا له وأنّنا سمعنا دعوته وأنّنا قادمون إليه لنلبّي الدعوة بالقول "لبّيك اللّهم لبيك" يا ربّ دعوتني إليك وها أنا قادم إليك إجابةً بعد إجابة "لبيك لا شريك لك" سأُلبّيك يا ربّي في ما دعوتني إليه إلى الحجّ، وسأقوم بكلّ فرائضه ونوافله، وإذا كنتُ أجيبك بما دعوتني إليه من الحجّ، فإنّي أجيبك في صلاتي وصومي وخمسي وزكاتي وجهادي، وسأُجيبك بترك كلّ محرَّم، وبفعل كلّ واجب "لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك" فكِّر جيّداً، أيُّها المسلم، عندما تقول لله "لبيك"، فهذا القول معناه أنّك تعطي ربّك عهداً، بأنْ لا تلبّي غيره، لأنّه لا شريك له، وعندما تلبّي دعوة غير الله في غير ما يرضي الله، وعندما تستجيب لنداء الله في معصية الله، فقد أشركت بالله غيرَه، أعطيك العهد يا ربّي وأنا في بداية الحجّ بأنّي لن أُلبّي نداء غيرك، قلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج : 1] وسنتّقي الله قلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] وسوف نفعل ما نقول، سوف نستجيب لكلّ نداء أطلقته. ثمّ إنّني أُريد يا ربّي أن أُكَبِّرَ لك لأنّي أتصوَّر عظمة ألوهيّتك، فأنا لستُ العبد الذي يعبدك من دون وعي، ومن دون معنى. إنّي أتأمّل الناس في ما يحمد بعضهم بعضاً فأجد أنّ إنساناً يحمده الناس لأنّه عالم وأُفكِّر من أعطاه العلم، ومَن ألهمه وأمَّنَ له وسائله، فأعرف أنّك أنتَ الذي أعطيته العلم، ويحمد الناس إنساناً لأنّه شجاع يقتحم المواقف الصلبة، وأُفكّر بمن أعطاه القوّة التي مَلَكَ بها شجاعة الموقف، وأعرف يا ربّ أنّك أنتَ الذي أعطيته القوّة لأنّك أعطيته كلّ الأجهزة التي تعينه على امتلاكها، وهكذا أجد الناس يحمدون فلاناً لكرمه وفلاناً لحلمه وفلاناً لذكائه، وأُفكّر أنّ فلاناً مخلوق لله وأنَّ فلاناً عبدٌ لله، وأنّ الله أعطى كلّ أولئك الذين نمدحهم كلّ الوجود، وأعطاهم كلّ الصفات التي يُمتدحون بها.
إنَّ الحمد لكلّ الناس مُسْتَمَدٌ من حمدك، إنَّ الحمد لك، كلّ حمد يرجع إليك، لأنَّ كلّ مَن يحمده الناس فإنّما أخذ عناصر حمده من عندك. وعندما أتصوَّر كلّ هذه النِعَم الموجودة في الحياة، ما أعيش به وما يعيش الناس به من حولي، وما تعيش به الحيوانات من حولي، وما يعيشه الكون من حولي؛ مَن الذي أنعم؟ إنَّ الذي أنعم هو الذي أوجد النعمة {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] ثمّ الناس يملكون الأرض والمال، ولكن مَن الذي أعطاهم الأرض التي يسكنون، ومَن الذي أعطاهم الماء الذي يشربون، ومَن الذي أعطاهم المال الذي يتداولون، مَن أعطاهم وجودهم، مَن هو المالك الحقيقي؟ إنّ ملك كلّ واحدٍ منّا هو ملك اعتباري، قد يسجّل اسمك قانونياً في ملكية أرض ولكنّك تفارق الأرض ويسجّل اسمٌ آخر بعد ذلك. قد يسجّل اسمك لملكية مال، ولكن يفارقك المال أو أنتَ تفارقه.
ولكن عندما تنطلق في الحياة لتربطها بالله، فهل يزول ملك الله عن أيّ شيء، هو المالك الحقيقي لأنّه ملك ما خلق، لم تكن الأشياء فكانت بإذن الله، ولم توجد الأشياء فكانت بإرادة الله {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] على هذا الأساس أنا قادمٌ إليك أَجيبك ولا أجيب غيرك، أُلبّيك ولا أُلبّي غيرك، أُكَبِّرك ولا أُكَبِّر غيرك.. لماذا؟ لأنَّ غيرك ممّن يحمده الناس يستمدّ حمده من حمدك، ولأنّ غيرك ممّن يرغب الناس في نعمه يستمدّ نعمته من نعمك، ولأنَّ غيرك ممّن يملك المال والأرض والجاه يستمدّ ملكه من ملكك، فهل أقف على باب مَن يحتاج إليك؟ وهل ألهث وراء مَن هو مفتقر إليك، أم أقف على بابك لأحصل على الحمد منك، والنعمة منك، ولأحصل على الملك منك.
"إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" هذه الكلمات عندما نقولها بحقّها وبعمقها وانفتاحها بسعة الأُفق الذي يمتد إلى الله ويرتبط به، فإنَّ عقولنا تنفتح على الله وتنفتح مشاعرنا على محبّة الله، وتنفتح كلّ أوضاعنا العملية على السير في دروب الله، فإذا كنت تلبّي حقيقة التلبية فكيف تقول بعد ذلك لأيّ إنسان "لبيك" لتكون جزءاً من مشروع كفر، أو لتكون جزءاً من مشروع ضلال أو لتكون جزءاً من مشروع ظلم وطغيان، أتفهم معنى أن تكون حاجّاً لله، الحجّ لله يعني أن تقول يا ربّ تركتُ كلّ أولادي وكلّ أموالي وكلّ أصدقائي وكلّ بلادي، وها أنا أُلبّي ما دعوتني إليه. يُقال إنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان إذا أراد التلبية ارتعدت فرائصه وارتجفت أعضاؤه، فيُسأل لِمَ يا بن رسول الله يحدث لكَ ذلك، قال لهم: "إنّي أقول الآن لله لبيك وأخشى أن يقولَ لي لا لبيك ولا سعديك"(1) لأنّه قد يطّلع على نفسي فيرى أنّني غير صادق بالتلبية، فأنا أقول له بلساني لبيك وأقول للشيطان بقلبي لبيك والله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] فأخشى أن يكون في صدري ما لا يوافق ما في لساني. إذا كان الإمام يقول ذلك فهل نستسهل التلبية وهل نعتبرها تقليداً نتحيَّر كيف نلفظ الكلمة أمام المعرِّف؟ وكيف نطلقها ولكن لا نتحيَّر كيف نطلق الكلمة من أعماقنا، ككثيرين مّنا يتوسوسون بالطهارة والنجاسة ويتوسوسون في ما يقرؤون في الصلاة وكيف يقنتون في الصلاة، ولكنّهم لا يفتحون قلوبهم لله أثناء الصلاة فيرتبطون بالشكل، ويبتعدون عن المضمون.
دورة تربوية لتهذيب النفس
أحرمنا لله، لبّينا ولبسنا ثوب الإحرام، ونزعنا كلّ ثيابنا، ونزعنا عنّا كلّ عطورنا، وبعدنا كثيراً عن كلّ زينتنا وتخفّفنا من كلّ شهواتنا، فأنتَ صائم الآن أثناء الإحرام، لكن صائم من نوعٍ آخر، صائم عن اللّذات الجنسية، وصائم عن الحالات التي تعطي فيها جسدك راحة، صائم عن السبّ وعن الشتم وعن الكذب وعن كلمات الفحش وعن كلّ ما يحرم على الحاج. أنتَ تصوم عن هذه الأمور حسب زمن الإحرام، فليكن صومك هناك مقدّمة إلى الصوم الكبير، أن تصوم عن غرائزك المحلّلة لكي تصوم عن حركة غرائزك المحرّمة، وعن حركة زينتك المحرَّمة، وعن حركة عطرك المحرَّم، وعن حركة الكذب والسبّ والفحش والجدال. إنّها دورة تدريبية، دورة تربوية تنطلق فيها لتركّز أخلاقك على أساسها.
معنى العبودية لله
وعندما تصل إلى مكّة؛ البيت بيتك، والحرم حرمك، والعبد عبدك، إنّك تدخل الحرم بهذه الروح، تشعر بأنّه بيت الله الذي دعا إليه كلّ عباده وهو الذي {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ...} [الحج : 25] والحرم حرمك هو حرم الله الذي لا يجوز فيه لأحد أن يعتدي على إنسان أو حيوان أو نبات، ولا يجوز له أن يقتل فيه إنساناً لأنَّ الله جعل الجميع في أمنه، ولأنَّ الله جعل الجميع في حرمه آمنين {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...} [العنكبوت : 67] ولكنَّ هذا الحرم هو حرم آمن للنّاس كافّة، وفي هذا الجوّ قل أنا عبدك يا ربّ بكلّ وجودي، عبدك بكلّ حركة وجودي، عبد بقلبي وعقلي ومشاعري وخطواتي، عبدٌ لا أملك أيّ شيء أمامك، لا كلمة لي أمام كلمتك، ولا عمل لي أمام عملك، ولا شريعة لي أمام شريعتك ولا علاقة لي بأحد إلاّ من خلالك، أحبّ من أحببت وأبغض مَن أبغضت، وأُوالي مَن واليت وأُعادي مَن عاديت، هذا هو معنى أن تكون عبداً خالِصاً لله. وتأتي إلى البيت، والبيت ليس إلاّ أحجاراً سوداء ليس فيه شيء من الذهب، وإن جعلوا الذهب في بابه وهو يرفض الذهب على بابه، لأنّه لا يراد للناس أن يحدقوا بحجارته، ولكن يراد للنّاس أن ينطلقوا في أجوائه، أن تطوف بالبيت لا على أساس شكله؛ بل على أساس أنّه منتسب إلى الله، بيت الله الذي تطوف به سبعة أشواط، تطوف بهذا البيت وأنتَ تقرأ {... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201] وتُكَبِّر الله وتتحرّك باسم الله وتدعو ما شاء لك أن تدعو.
الطواف المقبول عند الله
أن تطوف في البيت هو أن يطوف قلبك بالبيت عندما يطوف جسدك به، أن تطوف روحك بالله عندما تطوف ببيت الله، أنْ يتحرّك عقلك طائفاً بكلّ الحقائق التي يرضاها الله، أن يكون طوافك بأنْ تقول "الله أكبر بسم الله وبالله والله أكبر" وتنطلق لتُشهد الله على عبوديّتك، أتعرف ما معنى أن تطوف بالبيت؟ إنَّ بعضكم يحاول أن يحدق بالمنارتين هناك ويفكّر الكثيرون كيف يهندسون المسافة بين كتفهم الأيسر وبين البيت، كيف يتحرّكون كي لا يدفعهم أحد فينحرفوا عن الاتجاه، هذا جيّد، لكن عليك عندما تطوف بالبيت أن تفكّر: هذا بيت الله، وهناك بيوت أخرى يطوف بها الناس. هذا بيت الله الذي دعاني الله إلى أن أطوف به وأنا مخلص له وأنا موحّد له، لا أُشرِك به أحداً.
إنَّ الطواف بالبيت يحمّلك مسؤولية أن لا تطوف ببيتٍ غيره إلاّ إذا كان بيت غيره هو فرع من بيته، إنَّ الطواف ببيوت الأنبياء هو طواف ببيت الله، لأنَّ الطواف ببيوت الأنبياء يقودك إلى بيت الله.. كذلك الطواف ببيوت أولياء الله، والعلماء الأمناء على دين الله الذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، هؤلاء يدلّونك على الله، لكن هناك بيوتاً تضجّ بالشهوات المحرّمة والفسق والفجور، وهناك بيوت الكافرين والطاغين والظالمين، وهي بيوت كثيرة، وكلٌّ يدعوك إلى بيته، فكِّرْ عندما تطوف ببيت الله، وفي بلدك أكثر من بيت للشيطان تتحرّك فيه الأعمال المحرّمة والألعاب المحرّمة والسياسات المحرّمة والشرائع المحرّمة وأصحاب هذه البيوت قد يملكون المال والسلطان؛ فهل تطوف ببيوتهم؟ فكِّر بأنّك إذا طفت ببيت الله وفي عزمك أن تطوف ببيوت غير الله، فإنَّ طوافك سيكون باطلاً في روحيّته وإنْ كان صحيحاً في شكليّته. هذا يعني أن تقول يا ربّي إنّي لن أطوف إلاّ ببيتك وعندما أرجع إلى بلدي سأعمل مع المؤمنين لأعمر مساجدك بالعبادة، ولن أتركها، سيكون بيتك هو المقصد الذي أقصده، والسّاحة التي أتربّى فيها والمكان الذي أعبدك فيه والمكان الذي أنطلق منه لأجاهد في سبيلك ضدّ أعداء الله.
أيُّها الطائفون، إذا أردتم أن تحافظوا على طوافكم ببيت الله، فحاولوا أن لا تطوفوا ببيوت أعداء الله، وحاولوا أن تدقِّقوا في كلّ البيوت، لأنّه قد يكون هناك بيت مكتوب عليه اسم الله في واجهته ومكتوب عليه اسم الشيطان في عمقه وفي وضعه. لا تغرّكم الواجهة، لأنَّ الواجهات قد تنطلق بغير الحقيقة، لا تغرّكم الأسماء، فقد تنطلق الأسماء بكم لغير ما يرضى الله، حدِّقوا بالأسماء في عمقها ولا تحدِّقوا بها في سطحها، لأنَّ أعداء الله يغرّونكم وينطلقون ليعطوكم لافتات لا معنى في داخلها وشعارات لا حقيقة لها، لهذا حاولوا أن لا تلتقوا بالكلمات ولكن التقوا بالمواقف.
مشكلتنا أيّها الناس أنّنا لا نتعلَّم من القرآن. كم من عملٍ قمنا به ومن ثمّ وقعنا على رؤوسنا. كم نلهث وراء الناس الذين يقولون الكلمات المعسولة والخطابات، والقرآن يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. بعض الناس يتكلَّم ويعظ ويمكن أن أكون أنا منهم فالله وحده يعلم ما بداخلي، قد يعجبك قول بعض الناس في الحياة الدنيا {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الله وكيل، الله شهيد، الله الشاهد، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} كلّ خصوماته غير شرعية مليء بالعُقَد والحقد على الناس. ذاك قال كلمة وحملناه على ظهورنا ووضعناه على الكرسي الذي كان يريد أن يصل إليه من خلال الخطابات، ونحن قوم نضعف أمام الخطابات، وإذا تولّى وصار زعيماً أو رئيساً أو ملكاً {... سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} ليمارس جميع أنواع الفساد الروحي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} في ما يشنّه من حروب {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ} أين وعودك، أين شعاراتك، أين مواقفك؟ {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} هل أنتم تعظونني، أنا أعظ الناس، أنا أُعَلِّم الناس ولا أحد يعلّمني، أنا الذي أقود الناس ولا أحد يقودني، ألاَ يوجد في مجتمعنا أشخاص من هذا الطراز؟ {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] إنَّ المطلوب أيُّها الإخوة أن تبحثوا عن المواقف ولا تبحثوا عن الكلمات. القرآن يثقّفنا ويعلّمنا أن نكون واعين، لكن نبقى نحن البسطاء "على البركة" كما يقول المثل الشعبي، نؤخذ إلى النهر ونعود عطاشى لأنّنا ساذجون لا نبحث عمّا وراء الكلمات، ولكنّنا نسقط أمام الكلمات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على حرف أو على كلمة غير مدروسة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} حين لا تكون هناك رياح عاصفة {اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] لهذا دقِّقوا في البيوت التي تطوفون حولها، دقِّقوا في الساحات التي تتحرّكون فيها، دقِّقوا في المواقع والمواقف التي تنتمون إليها، لأنَّ الأمر جد لا هزل، لأنَّ القضية هي قضية أن تختار مصيرك عندما تحدّد قيادتك، وأنْ تختار نوع آخرتك عندما تختار مواقعك ومواقفك، المسألة هي أنّك عندما تختار الآخرة فلا بدّ من التدقيق فيها.. الحُرّ قال: "إنّي والله أُخَيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعتُ أو أُحْرِقت"(1).
إيحاءات شعائر الحجّ
ويمتد الحجّ في سعيه {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...} [البقرة : 158] أن تسعى بينهما قربة إلى الله لتقول يا ربّ كما أسعى الآن بين الصفا والمروة قربةً إليك، فسيكون سعيي في كلّ حياتي في الدنيا قربةً إليك، فلن أسعى في موقف يدنيني من معصيتك، ولن أتقرَّب إلى ظالم يقود الناس إلى خطّ الظلم على أساس معصيتك، ثمّ تنطلق إلى عرفات والحجّ عرفة والموقف عرفة، مَن لم يدرك عرفة لم يدرك الحجّ، وتقف هناك لا لكي تقول لربّك إنّي أقف هذه السويعات في هذه الصحراء القاحلة التي لا شيء فيها، أقف هنا والشمس تطهّرني، أقف هنا والحرّ يأكل كلّ جسمي، أقف هنا وأنا في وضع لا أرتاح فيه قربة إليك، لأنّك أمرتني أن أكون هنا، فكنتُ هنا امتثالاً لأمرك، ومعنى ذلك أنّك تفكّر بأنّ الله إن أرادك في أيِّ مكان فعليك أن تكون في ذلك المكان فلا تعترض، كما أنّك لا تعترض على الله حين تقف في عرفات في أيام الحرّ فعليك أن لا تعترض إذا أراد الله أن تقف في أيِّ مكانٍ فيه مشاكل لحياتك الشخصية أو العامّة، وهكذا تعيش هذه الأجواء عندما تذهب إلى المشعر أو المزدلفة ويوم تقف فيه من أجل أن تدعو الله، وهكذا تنطلق إلى منى لترجم الشيطان الأكبر في جمرة العقبة ولتتعلَّم هناك أن ترجم كلّ الشياطين على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، ثمّ تقرّب قربانك وتنطلق إلى بيت الله لتطوف وتسعى ثم ترجع إلى مِنى لتبيت فيها وتسترجع كلّ حسابات هذه الرحلة، لأنّك بعد هذه الليلة سوف ترجع إلى بيتك، فكِّر في الليلة الأولى في مِنى، ليلة الحادي عشر، فكِّر ماذا فعلت، ماذا أبقيت من إحرامك، وماذا أبقيت من طوافك وماذا أبقيت من سعيك، ومن وقفتك هنا وهناك، وماذا أبقيت من قربانك؟
وبعد هذا تقف لترجم الشياطين؛ ثلاثة هم، رمز لدرجات الشياطين في حياتك، ثمّ بعد ذلك في الليلة الثانية تحسب حسابك وثمّ في اليوم الثاني عشر تنطلق من بيت الله لتنطلق من جديد في حياتك، لتحدّد لنفسك هل أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الله أم أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الشيطان، الحجّ يبدأ من اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة. الحجّ لا ينتهي بمِنى ولكنّه يبدأ من مِنى، لأنَّ الله يريدك أن تبدأ بالحجّ هناك، لتبدأ رحلة الحجّ هنا، فتعرف كيف تحجّ إلى الله في بيتك، وتحجّ إلى الله في عملك وتحجّ إلى الله في مواقعك السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنَّ كلّ ذلك هو الحجّ إلى الله، الرحلة إلى الله والله يقول لكم: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6] هذا هو الطريق الذي يجب أن نعمل به ونستمرّ به حسب ما تستمرّ أعمارنا، فعلينا أن نفكّر في أن نحصل على الطمأنينة، أن نحصل على رضى الله عنّا وعن رضانا بالله، حتّى إذا جاءنا نداء الله في الحياة فعلينا أن نغمض أعيننا مستغرقين في أحلام الجنّة وفي أحلام الآخرة لنسمع {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30] الحجّ يتّجه هذا الاتجاه، فإذا أردتم أن تحجُّوا فعليكم أن تنطلقوا من الحجّ لتحصلوا على هذا الهدف.
وقفة مع مجزرة الحجّ
وفي جانبٍ آخر، نحن نعيش الذكرى الأولى لمجزرة الحج(1) وفي استعادة المناسبة نتوقّف عند القيامة الإسلامية التي تطلّ على الإسلام كلّه في الكون كلّه، وتعمل على أساس أن لا يضيع جهد المسلمين هباءً وعلى أن لا يعبث المشركون والمستكبرون بقضايا المسلمين وبواقعهم، قالت للحجّاج إذا ذهبتم إلى مكّة حجّوا كأفضل ما يكون الحجّ، طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة، وقفوا بعرفة وبالمزدلفة وتوجّهوا إلى مِنى ثمّ ارجعوا إلى البيت، تعبدوا الله، اخشعوا، اخضعوا بين يديه لتنزل دموع الخشية من الله من أعينكم، كونوا البكّائين، كونوا السجّادين، كونوا الداعين الخاضعين، ولكن كونوا المنفتحين على الله من خلال المسائل التي يحبّها الله؛ إنَّ الله دعاكم لتشهدوا منافع لكم في غير أوقات العبادة.
إنَّ عليكم القيام بهذا الواجب وأنتم المسلمين متفرّقون مذاهب وأحزاباً وشِيَعاً وقوميّات، فتعالوا لنجتمع في المدينة عند رسول الله، وتعالوا لنجتمع في مكّة قريباً من بيت الله، لنقول لكلّ المسلمين في العالم، باعتبار أنّنا المسلمون الذين نمثّل كلّ الإسلام والمسلمين في العالم "يا أيُّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا" لأنَّ أعداء الله يريدون أن يفرّقوكم، ولأنَّ أعداء الله يريدون أن يهزموكم من خلال إثارة الخلافات في ما بينكم، حتّى ينطلق شعار الوحدة من كلّ الأصوات التي تنطلق بالوحدة عند بيت الله، أشْهِدوا الله أنّكم تريدون أن تتوحّدوا، استرجعوا تاريخ سورة براءة، فقد كان رسول الله في المدينة، وكان والمشركون لا يزالون يعبثون بالناس في الجزيرة، وكان هناك من بقي في مكّة من المشركين، لهذا أرسل رسول الله بعد أن أنزل عليه الله سورة براءة من دون أن تبدأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، لتكون إنذاراً للمشركين، أرسل عليّاً (عليه السلام)، بعد أن أرسل شخصاً آخر ليقرأ سورة براءة، وليعلن باسم الله وباسم رسوله "براءة من المشركين"، وليبدأ عهد جديد بدون المشركين.
غطاء "إسلامي" للأميركيين
وفي أجواء هذا النهج، هتف المسلمون بطريقتهم الخاصّة بالبراءة من المشركين، وأريد للمسلمين أن يهتفوا بالبراءة من المشركين سواء كان هذا الشرك متمثّلاً بالشرك الشرقي أو الشرك الغربي، لأنَّ هناك شركاً سياسياً وشركاً اقتصادياً وشركاً اجتماعياً إلى جانب الشرك العقيدي والديني، لكنّ الجماعة لم يعجبهم ذلك، لأنَّ أميركا جاءت إلى الخليج وكانت تبحث عن غطاء لوجودها باعتبار أنّ مجيئها لاقى معارضة من شعبها، وأرادت الحصول على غطاء إسلامي، وأرادت أن تشوّه صورة إيران الإسلامية، بعد أن كانت قد عملت على تلميع صورة إيران الشاه، شاهية الامبراطورية، وهي الآن تعمل على أن لا تكون إيران دولة تتحرّك من خلال الإسلام لتنشر الإسلام في العالم، وقيل لهم رتِّبوا أمركم على أساس أن تقمعوا التظاهرة، وكانت التظاهرة سلمية بكلّ معنى الكلمة، وانطلقوا بعد ذلك بكلّ الوسائل التي يملكونها، وكانت المجزرة الوحشية.
ماذا حدث؟ ما حدث أنّ الملوك أصحاب السيادة والرؤساء أصحاب السموّ، كانوا قد قالوا صباحاً لكلّ سكّانهم حضروا البرقيات، إنَّنا نستنكر هؤلاء الحجّاج الذين أساؤوا إلى بيت الله الحرام، وينشرون الشغب والفوضى، وإنّنا نؤكّد المملكة ونؤيّد كلّ ما قامت به من قتل للحجّاج الذين أرادوا أن يتبرَّؤوا من المشركين الذين نعيش معهم ونعبدهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من دون الله، كيف يتجرَّؤون على أصنامنا.. وهكذا انطلق العالَم الإسلامي الرسمي، وانطلقت الإذاعات الرسمية وانطلقت كلّ الصحف التي يدفع لها بالعملة الصعبة في سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليكون المجرم ضحيّة وتكون الضحيّة هي المجرم.
بماذا عَلَّقَ العلماء أتباع السلاطين، والسياسيون الذين يتحرّكون من مواقع الكفر بشكلٍ مباشر وغير مباشر، هؤلاء قالوا إنّ الحجّ موقع عبادة، وكيف تريدون أن تفرضوا السياسة في مواقع الحجّ، إنّنا يمكن أن نقول إنَّ الحجّ عبادة لكن كيف يمكن هناك أن نأكل ونطبخ ونشرب ونغسل وما إلى ذلك. إنَّ للعبادة وقتها، ثمّ بعد ذلك في ساحات مكّة التي جعلها الله للناس كافّة ولم يجعلها لجماعة خاصّة، ولم يأخذ هؤلاء أيَّ إذن من الله للسيطرة عليها، للنّاس هنا حقّ في أن يكونوا آمنين على كلّ طروحاتهم، إذا لم تنطلق المواقف لتنبّه المسلمين إلى خطورة النفوذ الشرقي والنفوذ الغربي وإلى خطورة "إسرائيل" وإلى خطورة الظلم الذي يتحرّك في بلاد الإسلام، فكيف يمكن أن يلتقوا على هذه الشعارات، ولكنّهم كانوا يريدون أن يعطوا أميركا غطاءً، وكانوا يريدون أن يحاصروا حركة الإسلام في حركة الثورة الإسلامية من أجل الإسلام، ونحن نلاحظ في هذا المجال أنّه لم يعقد أيّ اجتماع على مستوى سياسي أو على مستوى ديني مِن قِبَل هؤلاء الذين يتحدّثون عن المؤتمر الإسلامي ليناقش مشكلة ما حدث في مكّة ليحدِّدوا مَن هو المسؤول، لم يفتح ملف ذلك أبداً، بل كان الناس يستمعون إلى الصيغة الرسمية ولم يناقشوها أبداً.
الهدف محاصرة الجمهورية الإسلامية
المفروض عندما يكون هناك مدَّعٍ ومنكر وخصم أن يُستَمع إلى هذا ويستمع إلى ذاك وأن تدرس المسألة من ناحية واقعية.. هذا أمر انطلق في خطّ محاصرة الجمهورية الإسلامية من ناحية معنوية وروحية وسياسية، من أجل أن يبعدوا المسلمين في سائر أنحاء العالم عن الالتزام بالخطّ الإسلامي الثوري في الجمهورية الإسلامية. لهذا فإنَّنا عندما نستذكر ذلك، نستذكر هذه اللّعبة الجديدة وهي تقليل عدد الحجّاج ليؤخذ من كلّ ألف واحد، لماذا من كلّ ألف واحد؟ لماذا لا يكون من كلّ ألف خمسة؟ مَن الذي حدَّد هذا العدد، أنا لا أفهم المسألة، هل المسألة هي أنّ هناك مشاريع معيّنة للحجّاج؟ لقد حجَّ الناس في العام الماضي ولم يكن هناك مشاكل، المؤتمر الإسلامي هو الذي صوَّت على هذا، لكنَّ المؤتمر الإسلامي مَن يحضره، يحضره الكثيرون من الذين وظَّفهم الاستعمار الأميركي، وغير الأميركي من أجل أن يمنعوا المسلمين من أن يأخذوا استقلالهم وعزَّتهم وكرامتهم، هؤلاء ليس صوت الإسلام صوتهم، هؤلاء صوتهم صوت أميركا و"إسرائيل" وأوروبا وروسيا، لأنَّهم ينتهجون نهج هؤلاء في هذا الخطّ. ولهذا فإنَّ المأساة التي عاشها الحجَّاج سواء هنا في لبنان أو غير لبنان في مسألة إبعادهم عن الحجّ ومنعهم عن سبيل الله أنّه يجعلهم في موقع الصّادين عن سبيل الله، وعن البيت الحرام {... وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج : 25].
الحجّ والتخطيط المخابراتي
هذا هو الخطّ، وعلينا أن نحدِّد الموقف على هذا الأساس، نحن لا نريد أن نثير المسألة على أساس عاطفي، ونحن قلنا من الأساس إنَّنا نحتاج إلى تحقيق دقيق في هذا المجال، حتى يعرف مَن هو المسؤول. وأمّا بالنسبة إلينا، لقد كنتُ في السنة الماضية هناك وقمت بالتحقيق في المسألة كمحقِّق قضائي، لا كإنسان متعاطف مع الذين قاموا بالمسيرة. القيادة والمتظاهرون لم يسيؤوا إلى الأمن ولا بمقدار واحد في المئة، بل كانوا ضحيّة لكلّ تلك المؤامرة التي قامت بها السلطات هناك، وكان هذا الحصار في إبعاد المسلمين عن الحجّ، وفي جعل مكّة ساحة تتجمَّع فيها كلّ المخابرات العربية وغير العربية التي تمتد إلى المخابرات الأميركية، من أجل أن تمنع الحجّاج أن يمارسوا حريّة الحركة في لقاء بعضهم ببعض، والقيام بدورهم الذي أرادهم الله أن يقوموا به. إنَّ المشكلة أنّ المدينة المنوّرة الآن أصبحت جزءاً من التخطيط الأمني للسلطة هناك، لم تعد مكاناً للمسلمين جميعاً بل أصبحت تخضع للمصالح الأمنية السلطوية المرتبطة بالمصالح الأميركية، ولا ندري كيف يمكن للحجّاج في ظلّ تحويل مكّة إلى ساحة مخابراتية يرصد فيه كلّ بلد حجَّاج بلده، حتّى إذا رجعوا إلى بلدهم يعاقبونهم علماً بأنَّ أغلب المخابرات الموجودة في البلاد العربية متّصلة بأجهزة المخابرات الأميركية. هذه مشكلة سنواجهها في المستقبل، ولا بدّ من إيجاد حلٍّ لها على مستوى كلّ العالم الإسلامي، إذ لا تملك أيّ دولة إسلامية الحقّ في أن تتحرّك في هذا الاتجاه على أن تخطّط للجانب الأمني أو السياسي أو العبادي كما يحلو لها.
المجزرة في سياق المشروع الاستكباري
إنّهم يريدون أن يواجهوا الثورة الإسلاميّة لأنّهم يخافون من الإسلام المجاهد والإسلام المقاوم والإسلام الحركي، ونحن نعرف أنّه منذ مجزرة مكّة التي أفسحت في المجال أمام الأسطول الأميركي في الخليج لأن يأخذ حريّته منذ ذلك الوقت، لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة سابقاً، استهدف هؤلاء انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي كانت كلّ مهمّته أن يعتبر أنّ القضية الإيرانية هي الخطر الأول، وأنَّ المسألة الإسرائيلية تمثّل الخطر الثاني أو الثالث، حيث أصبحت إيران الإسلام تمثّل ساحة الصراع وأصبحت مسألة "إسرائيل" مسألة نزاع، والنزاع يمكن أن يحلّ بطريقة سلمية، ثمّ بعد ذلك انطلقت الأوضاع السياسية لتزيد المسألة عمقاً؛ فقد تركت قضية فلسطين بعد مؤتمر عمان وراء ظهور العرب، لتكون مسألة إيران هي التي توحّد الأُمّة العربية على أساس مواجهة إيران. وبدأت حركة الالتفاف، ثمّ جاء المؤتمر الإسلامي ليدعم هذا التوجّه، ثمّ بعد ذلك انطلقت قمّة موسكو لتخطّط لهذا التوجّه، ثمّ أعطي العراق كلّ حريّته في استعمال كلّ الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملها بكلّ غزارة وكثافة لم تألفها الحروب السابقة، ولعلّ هذه الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملت في الجبهات في المدّة الأخيرة جربّت لأوّل مرّة ضدّ إيران، ولم يحتجَّ العالَم المستكبر على استعمال الأسلحة الكيميائية المحرّمة، ففي حلبجة(1) قتل خمسة آلاف عراقي من النساء والأطفال بالأسلحة الكيميائية ولم يقف العالم ويحتجَّ على استعمالها، وهكذا استعملت في الفاو وفي أماكن أخرى، حيث أصبحت مسألة الحرب لا تخضع لميزان معتبر، ثمّ كان هناك تخطيط لأن يقصف الشعب الإيراني في العمق بالأسلحة الكيميائية، إضافة إلى صواريخ المدن. كانت الخطّة هي هذه، وكانت أميركا في الخليج تمنع إيران من الضغط على العراق، بما كانت تستخدمه من الضغط على الدول الخليجية التي تساند العراق في مسألة النفط، ثمّ جاءت أميركا والتزمت بحماية الناقلات الكويتية أوّلاً، ثمّ التزمت بعد ذلك بحماية كلّ الناقلات، وقادت إيران إلى المواجهة في معركة غير متكافئة. وشكَّلت قضية الطائرة المدنية الإيرانية التي أسقطتها أميركا قمّة التحدّي الذي قامت به أميركا لتوحي أنّها سوف تعطّل الملاحة الجوية فوق الخليج، ثمّ بدأت حملة عالمية لعزل إيران عن العالَم كلّه بالإيحاء بأنّ إيران لا تريد السلم، وأنّ العراق هو الذي يريد السلم، لأنّ إيران لم تقبل بوقف إطلاق النار والعراق قَبِلَ بوقف إطلاق النار، المسألة كانت أنّ إيران قبلت بوقف إطلاق النار لكنّها وضعت شرطاً مفاده أنّ المطلوب تحديد المعتدي، وعلى أساس تحديد المعتدي نتصرَّف ونتّخذ قراراتنا. الأمم المتحدة لم توافق على ذلك، لأنّ الدول الكبرى لم توافق على ذلك، باعتبار أنّه عندما يتمّ تحديد المعتدي ستتحمّل الدول الكبرى المسؤولية عن كلّ الدعم في المجالات السياسية والتسليحية الذي قدَّم للعراق، الطرف المعتدي.
لقد وصلت الحرب إلى مستوى الاستنزاف السياسي والاقتصادي والعسكري لإيران في حرب يقف فيها النظام المستكبر كلّه وراء النظام العراقي لمواجهة إيران بالمستوى الذي يمكن أن يؤدّي في المستقبل ـــ ولاسيّما في ظلّ هذه العزلة العالمية والحصار العالمي ـــ إلى إرهاق الشعب الإيراني المسلم ودفعه للتمرُّد على خطّ الثورة، ولذلك كانت المسألة الآن ليست أنّ إيران لا تملك أن تقاتل، أو أنّها ضعفت عن ذلك، بل كانت المسألة أنّ القيادة الإسلامية في إيران درست الواقع دراسة واقعية ورأت أنّ عليها أن تختار إمّا أن تبقى تتحرّك في الجبهة ولكن على حساب ضعف القاعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية على المستوى الشعبي، وإمّا أن توقف ملف الجبهة مؤقّتاً وتطرح المسألة أمام العالم لترمي الكرة في ملعب العراق أو في ملعب أميركا، ثمّ تنطلق لتدير المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية مع استراتيجيّتها في رعاية حركة الإسلام في العالم، واستراتيجيّتها لمواجهة كلّ الاستكبار العالمي بما فيه أميركا ولكن بطريق أخرى مخطَّط لها، كما سمعنا في الخطاب التاريخي الذي تحدَّث فيه الإمام الخميني(1)، ولذلك فإنَّ علينا أن لا ندرس هذا القرار في دائرة الانفعالات أو التمنّيات، ولكن علينا أن ندرسه في الدائرة الواقعية في ما هي المسؤولية عن حركة استمرار الثورة الإسلامية، واستمرار الجمهورية الإسلامية في خطٍّ جديد، وفي وضعٍ جديد.
التعلُّم من التجربة
وكما أنّنا في الوقت الذي نتفهَّم فيه هذا القرار ونعتبره قراراً حكيماً وشجاعاً وواقعياً، وأنّه انطلق من خلال دراسة دقيقة واقعية وعملية على مستوى القيادة الإسلامية، فإنَّ علينا أن نتفهَّم من خلال كلّ هذه الظروف والأوضاع كيف يمكن للإسلاميين في خارج إيران سواء في لبنان أو في مصر أو في غير ذلك، كيف يمكن أن يواجهوا الخطط الاستعمارية على المستويات العسكرية والأمنية والسياسية، التي تستهدف محاصرتهم عبر استفادتها من أوضاع الانفعال التي يتحرّك فيها الكثيرون في الساحة الإسلامية وفي أوضاع البعد عن التخطيط في دراسة الظروف الموضوعية. إنَّ علينا أن نعتبر ما حدث تجربة كبيرة مهمّة، تُعَرِّفنا كيف يمكن أن ننطلق من أجل تحريك الثورة الإسلامية من ناحية سياسية وأمنية وعسكرية من خلال الظروف التي تسمح انطلاقاً من موقع دراستنا لكلّ الخلفيات السياسية والأمنية للاستكبار العالمي وعملائه. المهمّ أن نثق بربّنا ونثق بأنفسنا، وأن لا نسقط أمام كثير من التهويلات التي يحاول الاستكبار أن يهيمن بها علينا ولاسيّما بعد قرار وقف النار.
سنبقى في خطّ المواجهة
إنّ هناك خطّة الآن ترسم على مستوى المخابرات الدولية المعادية للإسلام والمسلمين للقيام بحملة لإضعاف الروح المعنوية التي يملكها المسلمون في مواجهة كلّ قضاياهم المصيرية. إنَّ علينا أن نرجع إلى الله وأن نلتزم بما يريدنا الله أن نثق به {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {... إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104]. لا يزال الإسلام خطراً على كلّ القوى الاستكبارية، وما زالت الكلمات التي تنطلق من "إسرائيل" ومن غير "إسرائيل" والتي تتحدّث عن خطورة ما يسمّونه الأصولية الإسلامية في مواجهتها لكلّ قوى الظلم والاستكبار في العالم، لنعمل على أن نقوّي مواقعنا، وأن نقوّي وحدتنا، وأنْ نقوّي تخطيطنا في مواجهة كلّ النقاط المضادّة، أن نبقى الأقوياء لأنّ الله يريدنا أن نكون الأقوياء، ونبقى الأحرار لأنّ الله يريدنا أن نبقى الأحرار، ونبقى الأعزّاء لأنَّ الله يحبّنا أن نكون أعزّاء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 ـــ 175].
إنَّنا نقول من موقعنا الإسلامي هنا وباسم كلّ الجماهير الإسلامية الملتزمة بالإسلام الحركي المقاوم والمجاهد، إنّنا نقول للإمام الخميني حفظه الله، سر ونحن معك، وكلّ المسلمين الملتزمين معك، إنّنا نقول للشعب الإيراني المسلم الذي عانى، سر ونحن معك ولن نضعف ولن نسمح للآخرين بأن يضعفوك، نحن معك كما في مواجهة "إسرائيل"، معاً لمقاتلة كلّ الظلم الداخلي وكلّ الرجعية العربية، معاً في أن ندعو إلى الإسلام وأن نركِّز قوى الإسلام وأن تكون كلمة الإسلام هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، معاً مع المسلمين في إيران ومع المسلمين في أفغانستان، مع المسلمين في مصر والمغرب وفلسطين، ومع كلّ المسلمين في كلّ البلاد التي يتحرّك فيها المسلمون الملتزمون، حتّى ينطلق المسلمون كلّهم من أجل مواجهة كلّ القضايا المصيرية، ومع المستضعفين الذي يقهرهم المستكبرون حتى لو كانوا مسلمين، المهم أن نعرف كيف نفكّر وأن نعرف كيف نخطِّط، وأن نعرف كيف نكون الواعين وكيف نكون الأتقياء سياسياً واجتماعياً وإيمانياً، أن نكون المنفتحين على الله. لن تسقطنا أيّ نكسة، لن تهزمنا أيّة مشكلة، سنواجه الواقع كلّه والمستقبل كلّه، ونحن نعلم أنّ هناك مشاكل كثيرة في الطريق، وأنّ هناك عقبات كثيرة في الطريق وأنّ هناك نكسات كثيرة في الطريق.. على هدي رسول الله كانت بدر وكانت أُحُد، واستطاع المسلمون أن ينتصروا بعد أُحُد ثمّ كانت حُنين واستطاع المسلمون أن ينهضوا بعد ما حدث فيها، وهكذا كانت الجَمَل وكانت صفّين، وكانت كلّ المسيرة الإسلامية لا تسقط أمام نكسة ولا تسقط أمام أيّ حالة ضعف بل تحوّل النكسة انتصاراً، وتحوّل نقاط الضعف نقاط قوّة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
بالوعي والتخطيط نواجه المؤامرات(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ*وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ*حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 26 ـــ 32].
ضمن هذه الأجواء التي نعيشها، نطلّ على هذه الفريضة الإسلامية العبادية التي أراد الله أن تكون الفريضة العبادية التي تجمع الناس كلّهم، في بيت الله ليطوفوا به، وليقوموا متعبّدين له، ويركعوا ويسجدوا بين يديه، ليدلّلوا على أنّ عبوديّتهم له جزء من ذاتهم، فلا ينحرفون عنها ليقدّموا فرائض العبودية لغيره.
نداء الحج
هذا النداء الإلهيّ انطلق منذ انطلقت الرسالات في دورها الاجتماعي، لأنَّ الرسالات قبل النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، في الفترة الواقعة بينه وبين النبيّ نوح كانت تركّز على الخطوط العامّة في حركة الإيمان بالله وعبادته. ولهذا لم نجد أنّ القرآن يركّز كثيراً على مرحلة ما قبل إبراهيم، بل كان إبراهيم هو العنوان للمرحلة الجديدة، وكان العنوان لكلّ ما جاء بعده من الرسالات، باعتبار أَنّه يمثّل التخطيط للمجتمع الرسالي الذي يلتقي بعضه مع بعض بعيداً عن أيّة حالة محليّة أو إقليمية، ولهذا أراد الله للنّاس أن يجتمعوا في بيته العالمي، بعد أنْ كان لله بيتٌ في كلّ محلّة يعيش فيها المؤمنون به وبرسالاته، أو في كلّ بلدٍ يوجدون فيه، فأراد الله من إبراهيم أن يبني بيتاً لكلّ الناس، بيتاً لله يدعو الناس كلّهم، أبيضهم وأسودهم، من يتكلّم بهذه اللّغة ويتكلّم بتلك اللّغة، يدعوهم ليعيشوا إنسانيّتهم التي توحّدهم بين يدي الله، ليشعروا بأنفسهم أنّهم مهما اختلفت جنسيّاتهم، ومهما اختلفت أعراقهم، ومهما اختلفت لغاتهم، ومهما اختلفت بلدانهم، فإنَّهم يلتقون طائفين، ساجدين، راكعين، قائمين، موحّدين لله سبحانه وتعالى، وعندها يتوحّد الناس من خلال الإيمان بالله وعبادة الله، ويتوحّدون بالانطلاق في كلّ مواقع المسؤولية في حياتهم من خلال أوامر الله ونهيه.
تلك كانت المسألة، ولهذا جاء النداء من الله لإبراهيم {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} حدَّدنا له المكان الذي يبني فيه البيت {أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ابنِ بيتاً يرتكز على الوحدانية لله، ابنِ بيتاً لا مكان فيه للمشركين، ولا لأيّة جهة غير الله، اجعله طاهراً من كلّ رجس الوثنية ومن كلّ أدناس الجاهلية {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج : 26] اجعله في طهارته الروحية بحيث يستقبل الطائفين به على أساس التوجّه إلى الله، والقائمين ليقوموا بين يديّ الله، والركَّع السجود ليركعوا لله وحده وليسجدوا لله وحده، لا يركعون إلاّ لله، ولا يسجدون لأيّة قوّة، اجعل بيتي طاهراً لهؤلاء، ثمّ بعد أن تكمل بناء البيت وترسي قواعده وتطهّر أجواءه، عند ذلك {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، ارفع الأذان ـــ كناية عن النداء ـــ ارفع الصوت العالي، قد لا يسمعك إلاّ الذين هم حولك، لأنَّ صوتك لا يبلغ مدىً واسعاً، ولكن عندما يكون صوتك هو صوت الله وصوت الرسالة، فإنّه سيتحرّك ليدخل في أصلاب الرجال، وفي أرحام النساء، فينقله كلّ جيل إلى الجيل الذي بعده، لأنّه ليس صوت إبراهيم كشخص، ولكنّه صوت إبراهيم كرسول لله، فإذاً هو صوتُ الله، وسيوصل الله صوت رسالته إلى كلّ الأجيال التي ستأتي من بعده، حتّى لو لم تسمع صوته.
منافع الحجّ
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أدعهم إلى الحجّ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين على أقدامهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} على الإبل {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج : 27] لماذا تؤذّن للناس في الحج، ما السبب، ما الغرض؟ يستطيع كلّ إنسان أن يعبد الله في بيته، ويستطيع كلّ إنسان أن يطيع الله في محلّته، لماذا تكلّف الناس من كلّ مناطق الأرض؟ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} لأنَّ هناك منافع يحصلون عليها من خلال اجتماعهم في هذا البيت، منافع الروح التي تجعلهم يجتمعون باسم الله، وعلى كلمة الله، فيتناصحون على وحدتهم من خلال روحيّتهم، ومن خلال عبادتهم لله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} ولا تحدّد يا إبراهيم لهم المنافع، لأنَّ المنافع تتطوّر حسب تطوّر الزمان، الإطار هو إطار الإيمان والتوحيد والعبادة لله والإخلاص لله وقد تكون هناك منافع اجتماعية، وقد تكون هناك منافع اقتصادية، وقد تكون هناك منافع جهادية لأنّهم إذا اجتمعوا وتقاربوا وتعارفوا وتوحّدوا، فإنَّ من الممكن أن يشكوَ كلّ واحد للآخر همّه، وأن ينقل كلّ واحد للآخر تجربته، وأن يحدثَ كلّ واحد الآخرين عن مشاكله وعن قضاياه والتحدّيات التي تواجهه، وعن الضعف الروحي، والضعف السياسي، والضعف الديني، والضعف الاجتماعي الذي يكون في بلده، فيطلب منه أن يعاونه، وهو ما يؤدّي إلى أن تتعاون الشعوب في ما بينها من خلال الذين يمثّلونها هناك، وتتعاون الأمم من خلال المواقف التي يتّخذها قادتها هناك، ويعرف الناس من خلال ذلك ما جهلوه من دينهم، إذ ينقل الأئمّة والعلماء والصلحاء لهم ما يعرفونه من شريعة الله، ومن دين الله ومن شريعة الحياة كلّها.
الكعبة بيت الله الأوّل
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هذه التي أراد الله لهم أن يذبحوها، لتكون قرباناً لهم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأكلوا منها، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ليغتسلوا، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، النذر الذي عقدوه حال الإحرام، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج : 28 ـــ 29] وهو الكعبة، البيت الحرام، وسمّيت البيت العتيق لأنّه أوّل بيت وُضِعَ للناس، وهذا ما نفهم منه أنّه لم يكن غير الكعبة بيت لله في العالم، بل كان الناس يعبدون الله في بيوتهم، أو في أماكن خاصّة في صوامعهم، ولم يكن هناك أبداً بيت للنّاس يعبدون الله فيه عبادة جماعية، ويلتقون فيه لعبادة الله، إنّ الله يقول لنا {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران : 96] معنى ذلك أنّه البيت الأوّل، لا بيت قبله، {حُنَفَاء لِلَّهِ} مخلصين له لا يميلون عن دينه، بل يميلون عن غير دينه {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ثمّ يقول الله للنّاس الذين يطوفون بالبيت ويقومون بالبيت ويسجدون بالبيت أتعرفون معنى أن تشركوا بالله، أتريدون صورة المشرك بالله، خذوا الصورة: تصوَّر نفسك أنّك في السماء، ثمّ انطلقت لتسقط من السماء إلى الأرض، وأنتَ في سقوطك قد تلتقي بك جوارح الطير وسباع الطير فتخطفك من أجل أن تأكلك وليمة دسمة، شهيّة، أو تأتي الرياح وأنتَ تسقط من السماء لتهوي بك في مكانٍ سحيق عميق، لا يعرف بك أحد {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج : 31].
إقامة الشعائر وتقوى القلوب
لماذا يريدكم الله أن تأتوا إلى بيته، وأن تقوموا به، وأن تطوفوا هناك {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ...}، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ...} [البقرة : 158] وإنّ الكعبة من شعائر الله، وإنّ مقام إبراهيم من شعائر الله، وإنّ المسجد الحرام من شعائر الله، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32] والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك قبل أن يكون شعارها في جبهتك، والتقوى لا بدّ من أن تكون في قلبك وعقلك وشعورك حتّى تتمثّل حركةً في عملك وفي واقعك في كلّ مجالات الحياة.
نحن في اليوم الثامن من ذي الحجّة، وهذا يوم التروية حيث ينطلق الناس ليحرموا للحجّ من مكّة وينطلقوا إلى عرفات، ليقفوا غداً في موقف عرفات، فكيف نفهم الإحرام؟ ثمّ كيف نفهم الطواف؟ وكيف نفهم السعي؟ مَن حجَّ فعليه أن يستعيد معلوماته ليعمّق مفهوم الحجّ في نفسه، ومَن لم يحجّ فليختزن هذه المعاني في نفسه، حتّى إذا وفَّقه الله للحجّ يقدم على الحجّ وهو واعٍ.
حكم الرافض لدعوة الله
لقد ناداها إبراهيم (عليه السلام) يا أيّها الناس تعالوا إلى بيت الله، فإنَّ الله يدعوكم إلى بيته، وقد ركَّز الله لنا الحجّ كشريعة مفروضة علينا {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ثمّ يحذّرنا الله سبحانه وتعالى {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97] وفي تفسير هذه الآية أنّه من كفر، أي مَن لم يحجّ وهو مستطيع "فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً" لأنّه رفض دعوة الله، الله يقول لك أيّها الإنسان الذي رزقتك وأكرمتك وأنعمت عليك، إنّي أدعوك إلى بيتي، لتأتي إليَّ لتطلب منّي ما تريد، لتعرض عليَّ مشاكلك، إذا لم تكن مستطيعاً فأنتَ معذور، ولكن إذا كنت مستطيعاً فلست معذوراً، تعال إليَّ يا عبدي لأرحمك، تعالَ إليَّ يا عبدي لأقضي لكَ حاجاتك، تعالَ إليّ يا عبدي لأغفر لكَ ذنوبك، تعالَ إليّ ولا تبتعد عنّي {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] وعندما تكون مستطيعاً ولا تحجّ، فكأنّك تقول لله أنا لا أريد يا ربّ أنْ آتي إليك، إنَّ الملك يدعوني فأقبّل أعتابه، والرئيس يدعوني فأمرغ وجهي في بابه وباب الأغنياء والوجهاء وأصحاب الشهوات، ولكن أنتَ يا ربّي لن أجيبك.. إنّك تقول ذلك بمنطق عقلك وإن لم تقله بلسانك. عندما يدعوك الله وأنت ترفض دعوته فيما تتقبّل دعوة كلّ مَن هو غير الله، هل تكون مسلماً؟ إنَّ الحديث يقول انطلاقاً من الآية {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ} [آل عمران : 97] من لم يحجّ فهو بمثابة الكافر عملياً، وإنْ لم يكن كافراً رسمياً سيعامل معاملة الكافر، وجاء الحديث ليؤكّد المسألة "من استطاع الحجّ ولم يحجّ فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً"(1).
كيف نلبّي نداء الله
في هذا الجوّ، نحن انطلقنا في دعوة الله، فكيف نبدأ حجّنا، لقد علَّمنا الإسلام أن نعلن لله أنّنا استجبنا له وأنّنا سمعنا دعوته وأنّنا قادمون إليه لنلبّي الدعوة بالقول "لبّيك اللّهم لبيك" يا ربّ دعوتني إليك وها أنا قادم إليك إجابةً بعد إجابة "لبيك لا شريك لك" سأُلبّيك يا ربّي في ما دعوتني إليه إلى الحجّ، وسأقوم بكلّ فرائضه ونوافله، وإذا كنتُ أجيبك بما دعوتني إليه من الحجّ، فإنّي أجيبك في صلاتي وصومي وخمسي وزكاتي وجهادي، وسأُجيبك بترك كلّ محرَّم، وبفعل كلّ واجب "لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك" فكِّر جيّداً، أيُّها المسلم، عندما تقول لله "لبيك"، فهذا القول معناه أنّك تعطي ربّك عهداً، بأنْ لا تلبّي غيره، لأنّه لا شريك له، وعندما تلبّي دعوة غير الله في غير ما يرضي الله، وعندما تستجيب لنداء الله في معصية الله، فقد أشركت بالله غيرَه، أعطيك العهد يا ربّي وأنا في بداية الحجّ بأنّي لن أُلبّي نداء غيرك، قلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج : 1] وسنتّقي الله قلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـــ 3] وسوف نفعل ما نقول، سوف نستجيب لكلّ نداء أطلقته. ثمّ إنّني أُريد يا ربّي أن أُكَبِّرَ لك لأنّي أتصوَّر عظمة ألوهيّتك، فأنا لستُ العبد الذي يعبدك من دون وعي، ومن دون معنى. إنّي أتأمّل الناس في ما يحمد بعضهم بعضاً فأجد أنّ إنساناً يحمده الناس لأنّه عالم وأُفكِّر من أعطاه العلم، ومَن ألهمه وأمَّنَ له وسائله، فأعرف أنّك أنتَ الذي أعطيته العلم، ويحمد الناس إنساناً لأنّه شجاع يقتحم المواقف الصلبة، وأُفكّر بمن أعطاه القوّة التي مَلَكَ بها شجاعة الموقف، وأعرف يا ربّ أنّك أنتَ الذي أعطيته القوّة لأنّك أعطيته كلّ الأجهزة التي تعينه على امتلاكها، وهكذا أجد الناس يحمدون فلاناً لكرمه وفلاناً لحلمه وفلاناً لذكائه، وأُفكّر أنّ فلاناً مخلوق لله وأنَّ فلاناً عبدٌ لله، وأنّ الله أعطى كلّ أولئك الذين نمدحهم كلّ الوجود، وأعطاهم كلّ الصفات التي يُمتدحون بها.
إنَّ الحمد لكلّ الناس مُسْتَمَدٌ من حمدك، إنَّ الحمد لك، كلّ حمد يرجع إليك، لأنَّ كلّ مَن يحمده الناس فإنّما أخذ عناصر حمده من عندك. وعندما أتصوَّر كلّ هذه النِعَم الموجودة في الحياة، ما أعيش به وما يعيش الناس به من حولي، وما تعيش به الحيوانات من حولي، وما يعيشه الكون من حولي؛ مَن الذي أنعم؟ إنَّ الذي أنعم هو الذي أوجد النعمة {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل : 53] ثمّ الناس يملكون الأرض والمال، ولكن مَن الذي أعطاهم الأرض التي يسكنون، ومَن الذي أعطاهم الماء الذي يشربون، ومَن الذي أعطاهم المال الذي يتداولون، مَن أعطاهم وجودهم، مَن هو المالك الحقيقي؟ إنّ ملك كلّ واحدٍ منّا هو ملك اعتباري، قد يسجّل اسمك قانونياً في ملكية أرض ولكنّك تفارق الأرض ويسجّل اسمٌ آخر بعد ذلك. قد يسجّل اسمك لملكية مال، ولكن يفارقك المال أو أنتَ تفارقه.
ولكن عندما تنطلق في الحياة لتربطها بالله، فهل يزول ملك الله عن أيّ شيء، هو المالك الحقيقي لأنّه ملك ما خلق، لم تكن الأشياء فكانت بإذن الله، ولم توجد الأشياء فكانت بإرادة الله {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 26] على هذا الأساس أنا قادمٌ إليك أَجيبك ولا أجيب غيرك، أُلبّيك ولا أُلبّي غيرك، أُكَبِّرك ولا أُكَبِّر غيرك.. لماذا؟ لأنَّ غيرك ممّن يحمده الناس يستمدّ حمده من حمدك، ولأنّ غيرك ممّن يرغب الناس في نعمه يستمدّ نعمته من نعمك، ولأنَّ غيرك ممّن يملك المال والأرض والجاه يستمدّ ملكه من ملكك، فهل أقف على باب مَن يحتاج إليك؟ وهل ألهث وراء مَن هو مفتقر إليك، أم أقف على بابك لأحصل على الحمد منك، والنعمة منك، ولأحصل على الملك منك.
"إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" هذه الكلمات عندما نقولها بحقّها وبعمقها وانفتاحها بسعة الأُفق الذي يمتد إلى الله ويرتبط به، فإنَّ عقولنا تنفتح على الله وتنفتح مشاعرنا على محبّة الله، وتنفتح كلّ أوضاعنا العملية على السير في دروب الله، فإذا كنت تلبّي حقيقة التلبية فكيف تقول بعد ذلك لأيّ إنسان "لبيك" لتكون جزءاً من مشروع كفر، أو لتكون جزءاً من مشروع ضلال أو لتكون جزءاً من مشروع ظلم وطغيان، أتفهم معنى أن تكون حاجّاً لله، الحجّ لله يعني أن تقول يا ربّ تركتُ كلّ أولادي وكلّ أموالي وكلّ أصدقائي وكلّ بلادي، وها أنا أُلبّي ما دعوتني إليه. يُقال إنّ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كان إذا أراد التلبية ارتعدت فرائصه وارتجفت أعضاؤه، فيُسأل لِمَ يا بن رسول الله يحدث لكَ ذلك، قال لهم: "إنّي أقول الآن لله لبيك وأخشى أن يقولَ لي لا لبيك ولا سعديك"(1) لأنّه قد يطّلع على نفسي فيرى أنّني غير صادق بالتلبية، فأنا أقول له بلساني لبيك وأقول للشيطان بقلبي لبيك والله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] فأخشى أن يكون في صدري ما لا يوافق ما في لساني. إذا كان الإمام يقول ذلك فهل نستسهل التلبية وهل نعتبرها تقليداً نتحيَّر كيف نلفظ الكلمة أمام المعرِّف؟ وكيف نطلقها ولكن لا نتحيَّر كيف نطلق الكلمة من أعماقنا، ككثيرين مّنا يتوسوسون بالطهارة والنجاسة ويتوسوسون في ما يقرؤون في الصلاة وكيف يقنتون في الصلاة، ولكنّهم لا يفتحون قلوبهم لله أثناء الصلاة فيرتبطون بالشكل، ويبتعدون عن المضمون.
دورة تربوية لتهذيب النفس
أحرمنا لله، لبّينا ولبسنا ثوب الإحرام، ونزعنا كلّ ثيابنا، ونزعنا عنّا كلّ عطورنا، وبعدنا كثيراً عن كلّ زينتنا وتخفّفنا من كلّ شهواتنا، فأنتَ صائم الآن أثناء الإحرام، لكن صائم من نوعٍ آخر، صائم عن اللّذات الجنسية، وصائم عن الحالات التي تعطي فيها جسدك راحة، صائم عن السبّ وعن الشتم وعن الكذب وعن كلمات الفحش وعن كلّ ما يحرم على الحاج. أنتَ تصوم عن هذه الأمور حسب زمن الإحرام، فليكن صومك هناك مقدّمة إلى الصوم الكبير، أن تصوم عن غرائزك المحلّلة لكي تصوم عن حركة غرائزك المحرّمة، وعن حركة زينتك المحرَّمة، وعن حركة عطرك المحرَّم، وعن حركة الكذب والسبّ والفحش والجدال. إنّها دورة تدريبية، دورة تربوية تنطلق فيها لتركّز أخلاقك على أساسها.
معنى العبودية لله
وعندما تصل إلى مكّة؛ البيت بيتك، والحرم حرمك، والعبد عبدك، إنّك تدخل الحرم بهذه الروح، تشعر بأنّه بيت الله الذي دعا إليه كلّ عباده وهو الذي {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ...} [الحج : 25] والحرم حرمك هو حرم الله الذي لا يجوز فيه لأحد أن يعتدي على إنسان أو حيوان أو نبات، ولا يجوز له أن يقتل فيه إنساناً لأنَّ الله جعل الجميع في أمنه، ولأنَّ الله جعل الجميع في حرمه آمنين {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...} [العنكبوت : 67] ولكنَّ هذا الحرم هو حرم آمن للنّاس كافّة، وفي هذا الجوّ قل أنا عبدك يا ربّ بكلّ وجودي، عبدك بكلّ حركة وجودي، عبد بقلبي وعقلي ومشاعري وخطواتي، عبدٌ لا أملك أيّ شيء أمامك، لا كلمة لي أمام كلمتك، ولا عمل لي أمام عملك، ولا شريعة لي أمام شريعتك ولا علاقة لي بأحد إلاّ من خلالك، أحبّ من أحببت وأبغض مَن أبغضت، وأُوالي مَن واليت وأُعادي مَن عاديت، هذا هو معنى أن تكون عبداً خالِصاً لله. وتأتي إلى البيت، والبيت ليس إلاّ أحجاراً سوداء ليس فيه شيء من الذهب، وإن جعلوا الذهب في بابه وهو يرفض الذهب على بابه، لأنّه لا يراد للناس أن يحدقوا بحجارته، ولكن يراد للنّاس أن ينطلقوا في أجوائه، أن تطوف بالبيت لا على أساس شكله؛ بل على أساس أنّه منتسب إلى الله، بيت الله الذي تطوف به سبعة أشواط، تطوف بهذا البيت وأنتَ تقرأ {... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201] وتُكَبِّر الله وتتحرّك باسم الله وتدعو ما شاء لك أن تدعو.
الطواف المقبول عند الله
أن تطوف في البيت هو أن يطوف قلبك بالبيت عندما يطوف جسدك به، أن تطوف روحك بالله عندما تطوف ببيت الله، أنْ يتحرّك عقلك طائفاً بكلّ الحقائق التي يرضاها الله، أن يكون طوافك بأنْ تقول "الله أكبر بسم الله وبالله والله أكبر" وتنطلق لتُشهد الله على عبوديّتك، أتعرف ما معنى أن تطوف بالبيت؟ إنَّ بعضكم يحاول أن يحدق بالمنارتين هناك ويفكّر الكثيرون كيف يهندسون المسافة بين كتفهم الأيسر وبين البيت، كيف يتحرّكون كي لا يدفعهم أحد فينحرفوا عن الاتجاه، هذا جيّد، لكن عليك عندما تطوف بالبيت أن تفكّر: هذا بيت الله، وهناك بيوت أخرى يطوف بها الناس. هذا بيت الله الذي دعاني الله إلى أن أطوف به وأنا مخلص له وأنا موحّد له، لا أُشرِك به أحداً.
إنَّ الطواف بالبيت يحمّلك مسؤولية أن لا تطوف ببيتٍ غيره إلاّ إذا كان بيت غيره هو فرع من بيته، إنَّ الطواف ببيوت الأنبياء هو طواف ببيت الله، لأنَّ الطواف ببيوت الأنبياء يقودك إلى بيت الله.. كذلك الطواف ببيوت أولياء الله، والعلماء الأمناء على دين الله الذين لا يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، هؤلاء يدلّونك على الله، لكن هناك بيوتاً تضجّ بالشهوات المحرّمة والفسق والفجور، وهناك بيوت الكافرين والطاغين والظالمين، وهي بيوت كثيرة، وكلٌّ يدعوك إلى بيته، فكِّرْ عندما تطوف ببيت الله، وفي بلدك أكثر من بيت للشيطان تتحرّك فيه الأعمال المحرّمة والألعاب المحرّمة والسياسات المحرّمة والشرائع المحرّمة وأصحاب هذه البيوت قد يملكون المال والسلطان؛ فهل تطوف ببيوتهم؟ فكِّر بأنّك إذا طفت ببيت الله وفي عزمك أن تطوف ببيوت غير الله، فإنَّ طوافك سيكون باطلاً في روحيّته وإنْ كان صحيحاً في شكليّته. هذا يعني أن تقول يا ربّي إنّي لن أطوف إلاّ ببيتك وعندما أرجع إلى بلدي سأعمل مع المؤمنين لأعمر مساجدك بالعبادة، ولن أتركها، سيكون بيتك هو المقصد الذي أقصده، والسّاحة التي أتربّى فيها والمكان الذي أعبدك فيه والمكان الذي أنطلق منه لأجاهد في سبيلك ضدّ أعداء الله.
أيُّها الطائفون، إذا أردتم أن تحافظوا على طوافكم ببيت الله، فحاولوا أن لا تطوفوا ببيوت أعداء الله، وحاولوا أن تدقِّقوا في كلّ البيوت، لأنّه قد يكون هناك بيت مكتوب عليه اسم الله في واجهته ومكتوب عليه اسم الشيطان في عمقه وفي وضعه. لا تغرّكم الواجهة، لأنَّ الواجهات قد تنطلق بغير الحقيقة، لا تغرّكم الأسماء، فقد تنطلق الأسماء بكم لغير ما يرضى الله، حدِّقوا بالأسماء في عمقها ولا تحدِّقوا بها في سطحها، لأنَّ أعداء الله يغرّونكم وينطلقون ليعطوكم لافتات لا معنى في داخلها وشعارات لا حقيقة لها، لهذا حاولوا أن لا تلتقوا بالكلمات ولكن التقوا بالمواقف.
مشكلتنا أيّها الناس أنّنا لا نتعلَّم من القرآن. كم من عملٍ قمنا به ومن ثمّ وقعنا على رؤوسنا. كم نلهث وراء الناس الذين يقولون الكلمات المعسولة والخطابات، والقرآن يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. بعض الناس يتكلَّم ويعظ ويمكن أن أكون أنا منهم فالله وحده يعلم ما بداخلي، قد يعجبك قول بعض الناس في الحياة الدنيا {وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الله وكيل، الله شهيد، الله الشاهد، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} كلّ خصوماته غير شرعية مليء بالعُقَد والحقد على الناس. ذاك قال كلمة وحملناه على ظهورنا ووضعناه على الكرسي الذي كان يريد أن يصل إليه من خلال الخطابات، ونحن قوم نضعف أمام الخطابات، وإذا تولّى وصار زعيماً أو رئيساً أو ملكاً {... سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} ليمارس جميع أنواع الفساد الروحي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} في ما يشنّه من حروب {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ} أين وعودك، أين شعاراتك، أين مواقفك؟ {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} هل أنتم تعظونني، أنا أعظ الناس، أنا أُعَلِّم الناس ولا أحد يعلّمني، أنا الذي أقود الناس ولا أحد يقودني، ألاَ يوجد في مجتمعنا أشخاص من هذا الطراز؟ {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] إنَّ المطلوب أيُّها الإخوة أن تبحثوا عن المواقف ولا تبحثوا عن الكلمات. القرآن يثقّفنا ويعلّمنا أن نكون واعين، لكن نبقى نحن البسطاء "على البركة" كما يقول المثل الشعبي، نؤخذ إلى النهر ونعود عطاشى لأنّنا ساذجون لا نبحث عمّا وراء الكلمات، ولكنّنا نسقط أمام الكلمات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على حرف أو على كلمة غير مدروسة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} حين لا تكون هناك رياح عاصفة {اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج : 11] لهذا دقِّقوا في البيوت التي تطوفون حولها، دقِّقوا في الساحات التي تتحرّكون فيها، دقِّقوا في المواقع والمواقف التي تنتمون إليها، لأنَّ الأمر جد لا هزل، لأنَّ القضية هي قضية أن تختار مصيرك عندما تحدّد قيادتك، وأنْ تختار نوع آخرتك عندما تختار مواقعك ومواقفك، المسألة هي أنّك عندما تختار الآخرة فلا بدّ من التدقيق فيها.. الحُرّ قال: "إنّي والله أُخَيِّرُ نفسي بين الجنّة والنار فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعتُ أو أُحْرِقت"(1).
إيحاءات شعائر الحجّ
ويمتد الحجّ في سعيه {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...} [البقرة : 158] أن تسعى بينهما قربة إلى الله لتقول يا ربّ كما أسعى الآن بين الصفا والمروة قربةً إليك، فسيكون سعيي في كلّ حياتي في الدنيا قربةً إليك، فلن أسعى في موقف يدنيني من معصيتك، ولن أتقرَّب إلى ظالم يقود الناس إلى خطّ الظلم على أساس معصيتك، ثمّ تنطلق إلى عرفات والحجّ عرفة والموقف عرفة، مَن لم يدرك عرفة لم يدرك الحجّ، وتقف هناك لا لكي تقول لربّك إنّي أقف هذه السويعات في هذه الصحراء القاحلة التي لا شيء فيها، أقف هنا والشمس تطهّرني، أقف هنا والحرّ يأكل كلّ جسمي، أقف هنا وأنا في وضع لا أرتاح فيه قربة إليك، لأنّك أمرتني أن أكون هنا، فكنتُ هنا امتثالاً لأمرك، ومعنى ذلك أنّك تفكّر بأنّ الله إن أرادك في أيِّ مكان فعليك أن تكون في ذلك المكان فلا تعترض، كما أنّك لا تعترض على الله حين تقف في عرفات في أيام الحرّ فعليك أن لا تعترض إذا أراد الله أن تقف في أيِّ مكانٍ فيه مشاكل لحياتك الشخصية أو العامّة، وهكذا تعيش هذه الأجواء عندما تذهب إلى المشعر أو المزدلفة ويوم تقف فيه من أجل أن تدعو الله، وهكذا تنطلق إلى منى لترجم الشيطان الأكبر في جمرة العقبة ولتتعلَّم هناك أن ترجم كلّ الشياطين على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، ثمّ تقرّب قربانك وتنطلق إلى بيت الله لتطوف وتسعى ثم ترجع إلى مِنى لتبيت فيها وتسترجع كلّ حسابات هذه الرحلة، لأنّك بعد هذه الليلة سوف ترجع إلى بيتك، فكِّر في الليلة الأولى في مِنى، ليلة الحادي عشر، فكِّر ماذا فعلت، ماذا أبقيت من إحرامك، وماذا أبقيت من طوافك وماذا أبقيت من سعيك، ومن وقفتك هنا وهناك، وماذا أبقيت من قربانك؟
وبعد هذا تقف لترجم الشياطين؛ ثلاثة هم، رمز لدرجات الشياطين في حياتك، ثمّ بعد ذلك في الليلة الثانية تحسب حسابك وثمّ في اليوم الثاني عشر تنطلق من بيت الله لتنطلق من جديد في حياتك، لتحدّد لنفسك هل أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الله أم أنتَ راجع من بيت الله إلى بيت الشيطان، الحجّ يبدأ من اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة. الحجّ لا ينتهي بمِنى ولكنّه يبدأ من مِنى، لأنَّ الله يريدك أن تبدأ بالحجّ هناك، لتبدأ رحلة الحجّ هنا، فتعرف كيف تحجّ إلى الله في بيتك، وتحجّ إلى الله في عملك وتحجّ إلى الله في مواقعك السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنَّ كلّ ذلك هو الحجّ إلى الله، الرحلة إلى الله والله يقول لكم: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق : 6] هذا هو الطريق الذي يجب أن نعمل به ونستمرّ به حسب ما تستمرّ أعمارنا، فعلينا أن نفكّر في أن نحصل على الطمأنينة، أن نحصل على رضى الله عنّا وعن رضانا بالله، حتّى إذا جاءنا نداء الله في الحياة فعلينا أن نغمض أعيننا مستغرقين في أحلام الجنّة وفي أحلام الآخرة لنسمع {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30] الحجّ يتّجه هذا الاتجاه، فإذا أردتم أن تحجُّوا فعليكم أن تنطلقوا من الحجّ لتحصلوا على هذا الهدف.
وقفة مع مجزرة الحجّ
وفي جانبٍ آخر، نحن نعيش الذكرى الأولى لمجزرة الحج(1) وفي استعادة المناسبة نتوقّف عند القيامة الإسلامية التي تطلّ على الإسلام كلّه في الكون كلّه، وتعمل على أساس أن لا يضيع جهد المسلمين هباءً وعلى أن لا يعبث المشركون والمستكبرون بقضايا المسلمين وبواقعهم، قالت للحجّاج إذا ذهبتم إلى مكّة حجّوا كأفضل ما يكون الحجّ، طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة، وقفوا بعرفة وبالمزدلفة وتوجّهوا إلى مِنى ثمّ ارجعوا إلى البيت، تعبدوا الله، اخشعوا، اخضعوا بين يديه لتنزل دموع الخشية من الله من أعينكم، كونوا البكّائين، كونوا السجّادين، كونوا الداعين الخاضعين، ولكن كونوا المنفتحين على الله من خلال المسائل التي يحبّها الله؛ إنَّ الله دعاكم لتشهدوا منافع لكم في غير أوقات العبادة.
إنَّ عليكم القيام بهذا الواجب وأنتم المسلمين متفرّقون مذاهب وأحزاباً وشِيَعاً وقوميّات، فتعالوا لنجتمع في المدينة عند رسول الله، وتعالوا لنجتمع في مكّة قريباً من بيت الله، لنقول لكلّ المسلمين في العالم، باعتبار أنّنا المسلمون الذين نمثّل كلّ الإسلام والمسلمين في العالم "يا أيُّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا" لأنَّ أعداء الله يريدون أن يفرّقوكم، ولأنَّ أعداء الله يريدون أن يهزموكم من خلال إثارة الخلافات في ما بينكم، حتّى ينطلق شعار الوحدة من كلّ الأصوات التي تنطلق بالوحدة عند بيت الله، أشْهِدوا الله أنّكم تريدون أن تتوحّدوا، استرجعوا تاريخ سورة براءة، فقد كان رسول الله في المدينة، وكان والمشركون لا يزالون يعبثون بالناس في الجزيرة، وكان هناك من بقي في مكّة من المشركين، لهذا أرسل رسول الله بعد أن أنزل عليه الله سورة براءة من دون أن تبدأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، لتكون إنذاراً للمشركين، أرسل عليّاً (عليه السلام)، بعد أن أرسل شخصاً آخر ليقرأ سورة براءة، وليعلن باسم الله وباسم رسوله "براءة من المشركين"، وليبدأ عهد جديد بدون المشركين.
غطاء "إسلامي" للأميركيين
وفي أجواء هذا النهج، هتف المسلمون بطريقتهم الخاصّة بالبراءة من المشركين، وأريد للمسلمين أن يهتفوا بالبراءة من المشركين سواء كان هذا الشرك متمثّلاً بالشرك الشرقي أو الشرك الغربي، لأنَّ هناك شركاً سياسياً وشركاً اقتصادياً وشركاً اجتماعياً إلى جانب الشرك العقيدي والديني، لكنّ الجماعة لم يعجبهم ذلك، لأنَّ أميركا جاءت إلى الخليج وكانت تبحث عن غطاء لوجودها باعتبار أنّ مجيئها لاقى معارضة من شعبها، وأرادت الحصول على غطاء إسلامي، وأرادت أن تشوّه صورة إيران الإسلامية، بعد أن كانت قد عملت على تلميع صورة إيران الشاه، شاهية الامبراطورية، وهي الآن تعمل على أن لا تكون إيران دولة تتحرّك من خلال الإسلام لتنشر الإسلام في العالم، وقيل لهم رتِّبوا أمركم على أساس أن تقمعوا التظاهرة، وكانت التظاهرة سلمية بكلّ معنى الكلمة، وانطلقوا بعد ذلك بكلّ الوسائل التي يملكونها، وكانت المجزرة الوحشية.
ماذا حدث؟ ما حدث أنّ الملوك أصحاب السيادة والرؤساء أصحاب السموّ، كانوا قد قالوا صباحاً لكلّ سكّانهم حضروا البرقيات، إنَّنا نستنكر هؤلاء الحجّاج الذين أساؤوا إلى بيت الله الحرام، وينشرون الشغب والفوضى، وإنّنا نؤكّد المملكة ونؤيّد كلّ ما قامت به من قتل للحجّاج الذين أرادوا أن يتبرَّؤوا من المشركين الذين نعيش معهم ونعبدهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من دون الله، كيف يتجرَّؤون على أصنامنا.. وهكذا انطلق العالَم الإسلامي الرسمي، وانطلقت الإذاعات الرسمية وانطلقت كلّ الصحف التي يدفع لها بالعملة الصعبة في سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليكون المجرم ضحيّة وتكون الضحيّة هي المجرم.
بماذا عَلَّقَ العلماء أتباع السلاطين، والسياسيون الذين يتحرّكون من مواقع الكفر بشكلٍ مباشر وغير مباشر، هؤلاء قالوا إنّ الحجّ موقع عبادة، وكيف تريدون أن تفرضوا السياسة في مواقع الحجّ، إنّنا يمكن أن نقول إنَّ الحجّ عبادة لكن كيف يمكن هناك أن نأكل ونطبخ ونشرب ونغسل وما إلى ذلك. إنَّ للعبادة وقتها، ثمّ بعد ذلك في ساحات مكّة التي جعلها الله للناس كافّة ولم يجعلها لجماعة خاصّة، ولم يأخذ هؤلاء أيَّ إذن من الله للسيطرة عليها، للنّاس هنا حقّ في أن يكونوا آمنين على كلّ طروحاتهم، إذا لم تنطلق المواقف لتنبّه المسلمين إلى خطورة النفوذ الشرقي والنفوذ الغربي وإلى خطورة "إسرائيل" وإلى خطورة الظلم الذي يتحرّك في بلاد الإسلام، فكيف يمكن أن يلتقوا على هذه الشعارات، ولكنّهم كانوا يريدون أن يعطوا أميركا غطاءً، وكانوا يريدون أن يحاصروا حركة الإسلام في حركة الثورة الإسلامية من أجل الإسلام، ونحن نلاحظ في هذا المجال أنّه لم يعقد أيّ اجتماع على مستوى سياسي أو على مستوى ديني مِن قِبَل هؤلاء الذين يتحدّثون عن المؤتمر الإسلامي ليناقش مشكلة ما حدث في مكّة ليحدِّدوا مَن هو المسؤول، لم يفتح ملف ذلك أبداً، بل كان الناس يستمعون إلى الصيغة الرسمية ولم يناقشوها أبداً.
الهدف محاصرة الجمهورية الإسلامية
المفروض عندما يكون هناك مدَّعٍ ومنكر وخصم أن يُستَمع إلى هذا ويستمع إلى ذاك وأن تدرس المسألة من ناحية واقعية.. هذا أمر انطلق في خطّ محاصرة الجمهورية الإسلامية من ناحية معنوية وروحية وسياسية، من أجل أن يبعدوا المسلمين في سائر أنحاء العالم عن الالتزام بالخطّ الإسلامي الثوري في الجمهورية الإسلامية. لهذا فإنَّنا عندما نستذكر ذلك، نستذكر هذه اللّعبة الجديدة وهي تقليل عدد الحجّاج ليؤخذ من كلّ ألف واحد، لماذا من كلّ ألف واحد؟ لماذا لا يكون من كلّ ألف خمسة؟ مَن الذي حدَّد هذا العدد، أنا لا أفهم المسألة، هل المسألة هي أنّ هناك مشاريع معيّنة للحجّاج؟ لقد حجَّ الناس في العام الماضي ولم يكن هناك مشاكل، المؤتمر الإسلامي هو الذي صوَّت على هذا، لكنَّ المؤتمر الإسلامي مَن يحضره، يحضره الكثيرون من الذين وظَّفهم الاستعمار الأميركي، وغير الأميركي من أجل أن يمنعوا المسلمين من أن يأخذوا استقلالهم وعزَّتهم وكرامتهم، هؤلاء ليس صوت الإسلام صوتهم، هؤلاء صوتهم صوت أميركا و"إسرائيل" وأوروبا وروسيا، لأنَّهم ينتهجون نهج هؤلاء في هذا الخطّ. ولهذا فإنَّ المأساة التي عاشها الحجَّاج سواء هنا في لبنان أو غير لبنان في مسألة إبعادهم عن الحجّ ومنعهم عن سبيل الله أنّه يجعلهم في موقع الصّادين عن سبيل الله، وعن البيت الحرام {... وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج : 25].
الحجّ والتخطيط المخابراتي
هذا هو الخطّ، وعلينا أن نحدِّد الموقف على هذا الأساس، نحن لا نريد أن نثير المسألة على أساس عاطفي، ونحن قلنا من الأساس إنَّنا نحتاج إلى تحقيق دقيق في هذا المجال، حتى يعرف مَن هو المسؤول. وأمّا بالنسبة إلينا، لقد كنتُ في السنة الماضية هناك وقمت بالتحقيق في المسألة كمحقِّق قضائي، لا كإنسان متعاطف مع الذين قاموا بالمسيرة. القيادة والمتظاهرون لم يسيؤوا إلى الأمن ولا بمقدار واحد في المئة، بل كانوا ضحيّة لكلّ تلك المؤامرة التي قامت بها السلطات هناك، وكان هذا الحصار في إبعاد المسلمين عن الحجّ، وفي جعل مكّة ساحة تتجمَّع فيها كلّ المخابرات العربية وغير العربية التي تمتد إلى المخابرات الأميركية، من أجل أن تمنع الحجّاج أن يمارسوا حريّة الحركة في لقاء بعضهم ببعض، والقيام بدورهم الذي أرادهم الله أن يقوموا به. إنَّ المشكلة أنّ المدينة المنوّرة الآن أصبحت جزءاً من التخطيط الأمني للسلطة هناك، لم تعد مكاناً للمسلمين جميعاً بل أصبحت تخضع للمصالح الأمنية السلطوية المرتبطة بالمصالح الأميركية، ولا ندري كيف يمكن للحجّاج في ظلّ تحويل مكّة إلى ساحة مخابراتية يرصد فيه كلّ بلد حجَّاج بلده، حتّى إذا رجعوا إلى بلدهم يعاقبونهم علماً بأنَّ أغلب المخابرات الموجودة في البلاد العربية متّصلة بأجهزة المخابرات الأميركية. هذه مشكلة سنواجهها في المستقبل، ولا بدّ من إيجاد حلٍّ لها على مستوى كلّ العالم الإسلامي، إذ لا تملك أيّ دولة إسلامية الحقّ في أن تتحرّك في هذا الاتجاه على أن تخطّط للجانب الأمني أو السياسي أو العبادي كما يحلو لها.
المجزرة في سياق المشروع الاستكباري
إنّهم يريدون أن يواجهوا الثورة الإسلاميّة لأنّهم يخافون من الإسلام المجاهد والإسلام المقاوم والإسلام الحركي، ونحن نعرف أنّه منذ مجزرة مكّة التي أفسحت في المجال أمام الأسطول الأميركي في الخليج لأن يأخذ حريّته منذ ذلك الوقت، لمحاصرة الجمهورية الإسلامية بطريقة تختلف عن الطرق المعروفة سابقاً، استهدف هؤلاء انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي كانت كلّ مهمّته أن يعتبر أنّ القضية الإيرانية هي الخطر الأول، وأنَّ المسألة الإسرائيلية تمثّل الخطر الثاني أو الثالث، حيث أصبحت إيران الإسلام تمثّل ساحة الصراع وأصبحت مسألة "إسرائيل" مسألة نزاع، والنزاع يمكن أن يحلّ بطريقة سلمية، ثمّ بعد ذلك انطلقت الأوضاع السياسية لتزيد المسألة عمقاً؛ فقد تركت قضية فلسطين بعد مؤتمر عمان وراء ظهور العرب، لتكون مسألة إيران هي التي توحّد الأُمّة العربية على أساس مواجهة إيران. وبدأت حركة الالتفاف، ثمّ جاء المؤتمر الإسلامي ليدعم هذا التوجّه، ثمّ بعد ذلك انطلقت قمّة موسكو لتخطّط لهذا التوجّه، ثمّ أعطي العراق كلّ حريّته في استعمال كلّ الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملها بكلّ غزارة وكثافة لم تألفها الحروب السابقة، ولعلّ هذه الأسلحة الكيميائية المتطوّرة التي استعملت في الجبهات في المدّة الأخيرة جربّت لأوّل مرّة ضدّ إيران، ولم يحتجَّ العالَم المستكبر على استعمال الأسلحة الكيميائية المحرّمة، ففي حلبجة(1) قتل خمسة آلاف عراقي من النساء والأطفال بالأسلحة الكيميائية ولم يقف العالم ويحتجَّ على استعمالها، وهكذا استعملت في الفاو وفي أماكن أخرى، حيث أصبحت مسألة الحرب لا تخضع لميزان معتبر، ثمّ كان هناك تخطيط لأن يقصف الشعب الإيراني في العمق بالأسلحة الكيميائية، إضافة إلى صواريخ المدن. كانت الخطّة هي هذه، وكانت أميركا في الخليج تمنع إيران من الضغط على العراق، بما كانت تستخدمه من الضغط على الدول الخليجية التي تساند العراق في مسألة النفط، ثمّ جاءت أميركا والتزمت بحماية الناقلات الكويتية أوّلاً، ثمّ التزمت بعد ذلك بحماية كلّ الناقلات، وقادت إيران إلى المواجهة في معركة غير متكافئة. وشكَّلت قضية الطائرة المدنية الإيرانية التي أسقطتها أميركا قمّة التحدّي الذي قامت به أميركا لتوحي أنّها سوف تعطّل الملاحة الجوية فوق الخليج، ثمّ بدأت حملة عالمية لعزل إيران عن العالَم كلّه بالإيحاء بأنّ إيران لا تريد السلم، وأنّ العراق هو الذي يريد السلم، لأنّ إيران لم تقبل بوقف إطلاق النار والعراق قَبِلَ بوقف إطلاق النار، المسألة كانت أنّ إيران قبلت بوقف إطلاق النار لكنّها وضعت شرطاً مفاده أنّ المطلوب تحديد المعتدي، وعلى أساس تحديد المعتدي نتصرَّف ونتّخذ قراراتنا. الأمم المتحدة لم توافق على ذلك، لأنّ الدول الكبرى لم توافق على ذلك، باعتبار أنّه عندما يتمّ تحديد المعتدي ستتحمّل الدول الكبرى المسؤولية عن كلّ الدعم في المجالات السياسية والتسليحية الذي قدَّم للعراق، الطرف المعتدي.
لقد وصلت الحرب إلى مستوى الاستنزاف السياسي والاقتصادي والعسكري لإيران في حرب يقف فيها النظام المستكبر كلّه وراء النظام العراقي لمواجهة إيران بالمستوى الذي يمكن أن يؤدّي في المستقبل ـــ ولاسيّما في ظلّ هذه العزلة العالمية والحصار العالمي ـــ إلى إرهاق الشعب الإيراني المسلم ودفعه للتمرُّد على خطّ الثورة، ولذلك كانت المسألة الآن ليست أنّ إيران لا تملك أن تقاتل، أو أنّها ضعفت عن ذلك، بل كانت المسألة أنّ القيادة الإسلامية في إيران درست الواقع دراسة واقعية ورأت أنّ عليها أن تختار إمّا أن تبقى تتحرّك في الجبهة ولكن على حساب ضعف القاعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية على المستوى الشعبي، وإمّا أن توقف ملف الجبهة مؤقّتاً وتطرح المسألة أمام العالم لترمي الكرة في ملعب العراق أو في ملعب أميركا، ثمّ تنطلق لتدير المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية مع استراتيجيّتها في رعاية حركة الإسلام في العالم، واستراتيجيّتها لمواجهة كلّ الاستكبار العالمي بما فيه أميركا ولكن بطريق أخرى مخطَّط لها، كما سمعنا في الخطاب التاريخي الذي تحدَّث فيه الإمام الخميني(1)، ولذلك فإنَّ علينا أن لا ندرس هذا القرار في دائرة الانفعالات أو التمنّيات، ولكن علينا أن ندرسه في الدائرة الواقعية في ما هي المسؤولية عن حركة استمرار الثورة الإسلامية، واستمرار الجمهورية الإسلامية في خطٍّ جديد، وفي وضعٍ جديد.
التعلُّم من التجربة
وكما أنّنا في الوقت الذي نتفهَّم فيه هذا القرار ونعتبره قراراً حكيماً وشجاعاً وواقعياً، وأنّه انطلق من خلال دراسة دقيقة واقعية وعملية على مستوى القيادة الإسلامية، فإنَّ علينا أن نتفهَّم من خلال كلّ هذه الظروف والأوضاع كيف يمكن للإسلاميين في خارج إيران سواء في لبنان أو في مصر أو في غير ذلك، كيف يمكن أن يواجهوا الخطط الاستعمارية على المستويات العسكرية والأمنية والسياسية، التي تستهدف محاصرتهم عبر استفادتها من أوضاع الانفعال التي يتحرّك فيها الكثيرون في الساحة الإسلامية وفي أوضاع البعد عن التخطيط في دراسة الظروف الموضوعية. إنَّ علينا أن نعتبر ما حدث تجربة كبيرة مهمّة، تُعَرِّفنا كيف يمكن أن ننطلق من أجل تحريك الثورة الإسلامية من ناحية سياسية وأمنية وعسكرية من خلال الظروف التي تسمح انطلاقاً من موقع دراستنا لكلّ الخلفيات السياسية والأمنية للاستكبار العالمي وعملائه. المهمّ أن نثق بربّنا ونثق بأنفسنا، وأن لا نسقط أمام كثير من التهويلات التي يحاول الاستكبار أن يهيمن بها علينا ولاسيّما بعد قرار وقف النار.
سنبقى في خطّ المواجهة
إنّ هناك خطّة الآن ترسم على مستوى المخابرات الدولية المعادية للإسلام والمسلمين للقيام بحملة لإضعاف الروح المعنوية التي يملكها المسلمون في مواجهة كلّ قضاياهم المصيرية. إنَّ علينا أن نرجع إلى الله وأن نلتزم بما يريدنا الله أن نثق به {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {... إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104]. لا يزال الإسلام خطراً على كلّ القوى الاستكبارية، وما زالت الكلمات التي تنطلق من "إسرائيل" ومن غير "إسرائيل" والتي تتحدّث عن خطورة ما يسمّونه الأصولية الإسلامية في مواجهتها لكلّ قوى الظلم والاستكبار في العالم، لنعمل على أن نقوّي مواقعنا، وأن نقوّي وحدتنا، وأنْ نقوّي تخطيطنا في مواجهة كلّ النقاط المضادّة، أن نبقى الأقوياء لأنّ الله يريدنا أن نكون الأقوياء، ونبقى الأحرار لأنّ الله يريدنا أن نبقى الأحرار، ونبقى الأعزّاء لأنَّ الله يحبّنا أن نكون أعزّاء {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173 ـــ 175].
إنَّنا نقول من موقعنا الإسلامي هنا وباسم كلّ الجماهير الإسلامية الملتزمة بالإسلام الحركي المقاوم والمجاهد، إنّنا نقول للإمام الخميني حفظه الله، سر ونحن معك، وكلّ المسلمين الملتزمين معك، إنّنا نقول للشعب الإيراني المسلم الذي عانى، سر ونحن معك ولن نضعف ولن نسمح للآخرين بأن يضعفوك، نحن معك كما في مواجهة "إسرائيل"، معاً لمقاتلة كلّ الظلم الداخلي وكلّ الرجعية العربية، معاً في أن ندعو إلى الإسلام وأن نركِّز قوى الإسلام وأن تكون كلمة الإسلام هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، معاً مع المسلمين في إيران ومع المسلمين في أفغانستان، مع المسلمين في مصر والمغرب وفلسطين، ومع كلّ المسلمين في كلّ البلاد التي يتحرّك فيها المسلمون الملتزمون، حتّى ينطلق المسلمون كلّهم من أجل مواجهة كلّ القضايا المصيرية، ومع المستضعفين الذي يقهرهم المستكبرون حتى لو كانوا مسلمين، المهم أن نعرف كيف نفكّر وأن نعرف كيف نخطِّط، وأن نعرف كيف نكون الواعين وكيف نكون الأتقياء سياسياً واجتماعياً وإيمانياً، أن نكون المنفتحين على الله. لن تسقطنا أيّ نكسة، لن تهزمنا أيّة مشكلة، سنواجه الواقع كلّه والمستقبل كلّه، ونحن نعلم أنّ هناك مشاكل كثيرة في الطريق، وأنّ هناك عقبات كثيرة في الطريق وأنّ هناك نكسات كثيرة في الطريق.. على هدي رسول الله كانت بدر وكانت أُحُد، واستطاع المسلمون أن ينتصروا بعد أُحُد ثمّ كانت حُنين واستطاع المسلمون أن ينهضوا بعد ما حدث فيها، وهكذا كانت الجَمَل وكانت صفّين، وكانت كلّ المسيرة الإسلامية لا تسقط أمام نكسة ولا تسقط أمام أيّ حالة ضعف بل تحوّل النكسة انتصاراً، وتحوّل نقاط الضعف نقاط قوّة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...} [التوبة : 105].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين