التوبة في واقع حركة الحياة

التوبة في واقع حركة الحياة

التوبة في واقع حركة الحياة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 ـــ 55].
لماذا تتكرَّر آيات التوبة في القرآن؟
آيات التوبة تتكرَّر في القرآن الكريم بأساليب متعدّدة، متنوّعة، من أجل أن تكون الدعوة الإلهية يومية لكلّ الناس الذين قد تفرض عليهم ظروف تربيتهم أن ينحرفوا عن خطّ العقيدة وعن خطّ الشريعة، وقد تفرض عليهم بعض أوضاعهم الضاغطة على ظروفهم أن ينحرفوا عن الخطّ، وقد تتحرّك الغرائز والشهوات التي تجعل الإنسان يتنازل عن مبادئه من أجل شهواته، لذلك فإنَّ الله يُعَلِّم الإنسان كيف يتحرّك في حياته، لأنّه خلقه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14]. فإنَّ الله يعلم أنّ الإنسان يعيش حياته في كثير من الأوضاع التي تجعله يتحرّك في طريق الخطيئة، ويقع في قبضة الخطأ، ولا يريد الله للإنسان أن يتعقَّد من الخطيئة إذا وقع بها ولا يريد للإنسان أن يسقط أمام الخطأ إذا عاشه في حياته؛ بل يريد الله للإنسان أن يتحرّك من أجل أن يصحِّح الخطأ، ومن أجل أن يتراجع عن الخطيئة، ومن أجل أن ينفتح عليه، ومن أجل أن يغيِّر طريقه على أساس أنّ الله يريد للإنسان أن يعيش معه في مواقع الطهر، وفي مواقع الإخلاص، وفي مواقع الاستقامة في الخطّ، لأنَّ الله يحبّ التوّابين، يحبّ الإنسان الذي يخطئ ثمّ يتراجع عن خطيئته. فإذا أردنا أن ننال محبّة الله سبحانه وتعالى فإنَّ علينا أن نرفع إلى الله في كلّ يوم توبة عن كلّ خطأ نخطئه لتكون توبتنا لله توبةً في جميع المواقع وجميع الظروف، فالمسألة هي أن لا نصرّ على الذنب لأنَّ الكثيرين من الناس يتحرّكون في الخطيئة ويسقطون أمامها، ويعملون على الإصرار على الذنب حتّى يتحجَّر الذنب في حياتهم، وحتّى تتعمَّق الخطيئة في مواقفهم، فيتحرّكون في مواقع الخطأ، ويبرزون إلى الله كأُناس لا يحترمون إيمانهم، ولا يحترمون عقيدتهم.
الفهم الخاطئ للتوبة
لا بدّ أن نعيش مبدأ التوبة في حياتنا على كلّ المستويات، وفي كلّ الأوقات، ولا يحاول أحد أن يخضع لبعض الكلمات التي ربّما يخاطب بها بعض الناس الشباب ليقول لهم: إنَّ الله ما دام يقبل التوبة عن عباده، فلماذا نستعجل التوبة، إذ ما دام أنّ التائب من الذنب لا ذنب له، فسَواء إذا تبت الآن فسيعفو الله عنك وإذا تبت بعد عشرين سنة فالله سيعفو عنك، لماذا لا تستغلّ فرصة الحياة ما دام الباب مفتوحاً دائماً. وعلى هذا الأساس تأخذ من الدنيا شهواتها وتقتنص لذّاتها وتتحرّك في خطّ المطامع مؤيّداً مَن لا يريد الله منك أن تؤيّده، رافضاً مَن لا يريد الله أن ترفضه، ثمّ بعد ذلك عندما تبلغ الخمسين أو الستين تأتي إلى الله بعد أن تكون جمعت الدنيا والآخرة.
بعض الناس قد يفكّر بهذا المنطق وبعض الكبار قد يتحدّثون مع الصغار بهذه اللّغة، ومن المفردات التي باتت مستعملة، أنَّ من حقّ الشاب أو الشابة أن يأخذ من الحياة كلّ شهواته ولذّاته، ثمّ تكون التوبة لكبار السن. هذه النقطة لا بدّ أن نعتبرها نوعاً من الوسوسة الشيطانية، وأن نستعيذ بالله منها، كما علَّمنا الله أن نستعيذ من الوسواس الخنَّاس الذي يوسوس في صدور النار من الجِنَّةِ والناس، فالوسواس الخنَّاس ليس في الجنّة فحسب، ولكنَّ الوسواس الخَنَّاس قد يكون أباك، وقد تكون أُمّك، وقد يكون أخاك، وقد يكون زميلك عندما يوسوس لك المعصية فتعصي، ويوسوس لك تأخير التوبة فتؤخّرها. ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ هذه الآية عندما نزلت {... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود : 114]، جَمَعَ إبليس جنوده وقال لهم: ماذا نصنع لهذه الآية؟ كيف نستطيع أن نلتف عليها؟ هذه الآية تخرّب كلّ شغلنا لأنَّ هدفنا أن نجعل الناس يعصون الله ويبتعدون عنه سبحانه وتعالى، حتّى يبتعدوا عن مواقع رحمته وعن نعيم جنّته لنقودهم إلى عذاب النار وبئس المصير {... إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]، {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 ـــ 17]. هذا هو الهدف، هذه الآية تقول: إنَّ الإنسان إذا فعل سيّئة ثمّ بدَّلها بالحسنة، يعني بالتوبة، أو بفعل خير، يمثّل الندم عما أسلف، فإنَّ الله يغفر له. وقال إبليس: ما اقتراحاتكم في الالتفاف على هذه الآية؟ قام شخص من هنا وشخص من هناك ولم يتقبَّل إبليس حلَّهما، فقام الوسواس الخنَّاس كما تقول الرواية، فقال له: هات ما عندك، فأجاب: الحلّ في أن نظلّ نغريهم بالمعصية، فإذا وقعوا فيها سوَّفنا لهم التوبة، إذا أراد أن يتوب اليوم نقول له: لماذا أنتَ مستعجل؟ تب غداً، وهكذا ننسيهم التوبة بفعل هذا التسويف. قال إبليس للوسواس: أنتَ لها، لأنَّ هذا الحلّ هو الذي يمكن أن يجعل المخطئين والخاطئين ممتدين في هذا الاتجاه. هذا ما نريد أن نثيره في أنفسنا بالجوّ العام.
حقّ الله على النّاس
وإذا أردنا أن ندقِّق في هذه المسألة، فإنَّ علينا أن نفكِّر أنَّ من حقّ الله علينا، وهو الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنا ويرعانا في كلّ شيء، من حقّ الله علينا أن نطيعه، وأن لا نعصيه، فإذا عصيناه فقد أسأنا إلى حقّه علينا، وإذا أسأتَ إلى مَنْ أنعم عليك بكلّ النِّعَم التي تحيط بك، فإنَّ من الطبيعي إذا كنتَ واعياً لمعنى النِّعمة، وواعياً لعظمة الله، أن تبادر إلى طلب المسامحة منه، وأن تستغفره، وأن تعلن الندم على ما أسلفت في مواجهته وفي الإساءة إليه، ألاَ تفعلون ذلك أمام الناس الذين لا قيمة لهم مع الله؟ ألاَ تفعلون ذلك عندما تخطئون مع الذين ترغبون في ثوابهم وتخافون من عقابهم؟ ألاَ تعمدون إلى أن تعلنوا لهم الاعتذار والندم؟ فلماذا لا نفعل مع الله ما نفعله مع عباد الله، لماذا لا نفوّت التوبة مع الذين نخطئ معهم من الذين يملكون بعض القوّة في الحياة، ولماذا نسوّف التوبة مع الله؟.
القلب المنكوس
لا بدّ من أن نفكّر في المسألة من موقع علاقتنا بربّنا، ومن موقعنا كعباد الله أمام الله سبحانه وتعالى، ثم أنتَ تفكّر، إنّي أتوب بعد عشرين سنة، فلنناقش المسألة: مَن يضمن لكَ أنّك تعيش بعد عشرين سنة، ثمّ مَن يضمن لك عندما تعيش عشرين سنة، أن تبقى عندك عقلية التوبة بعد ذاك، إنَّ الإنسان عندما تعيش الخطيئة في شخصيّته، وعندما تتعمَّق الأخطاء في ذاته، فإنّه لن يتوب بعد ذلك، إنَّ القلب ينتكس. الأحاديث الشريفة تقول: إنَّ الإنسان إذا أذنب ذنباً نقطت في قلبه نقطة سوداء، فإذا تاب زالت تلك النقطة، ثمّ إذا أخطأ تتوسَّع تلك النقطة، وبتتابع الخطايا تتوسّع النقطة السوداء في قلبه، حتّى يسودّ القلب وينتكس حتّى يصبح أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فيرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسَناً.
إنّك عندما تمتد في الخطايا، فإنّها تترك تأثيراً في عقليّتك، وتترك تأثيراً في روحيّتك، وتترك تأثيراً في إرادتك، فتكون عقليّتك عقلية الضلال، وروحيّتك روحية الانحراف، وتكون إرادتك إرادة المعصية لله سبحانه وتعالى، لهذا ليس هناك من طمأنينة في هذا المجال. والمطلوب أن نلتفت جيّداً إلى أنفسنا لنحافظ على سلامة الخطّ الإلهي المستقيم في شخصيّتنا، وذلك بأن ننفصل دائماً عن الأجواء التي نعيش فيها.
إنَّنا مشدودون إلى الحياة الاجتماعية من حولنا، وإلى أهلنا، وإلى أصدقائنا وإلى الأجواء السياسيّة والأمنية والاقتصادية من حولنا، ومن خلال هذا الإنشداد إلى كلّ هذه الأجواء، نحن نعيش الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ونعيش الغفلة عن ذكر الآخرة. إنَّنا نستغرق في الجوّ الاجتماعي، نستغرق في أجواء أهلنا وأولادنا وأزواجنا، نستغرق في أجواء العائلة، فنتعصَّب للأجواء العائلية تعصُّباً نستسيغ فيه حتّى قتل النفس التي حرَّم الله، وهكذا نستغرق في أجواء العصبية السياسية في ما ننتمي إليه من محاور حزبية سياسية حتّى نندفع بالعصبية إلى الدرجة التي نبرِّر لأنفسنا كلّ خطيئة وكلّ معصية، ونكون الظالمين بعد أن كنّا الثورة على الظالمين. هذا الاستغراق في الأجواء التي يخيَّل للإنسان فيها من خلال بعده عن الله، وغفلته عن ذكر الله، وعدم حسبان اليوم الآخر، يجعلنا نرى سيّئات أعمالنا حسنات {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً...} [فاطر : 8]. هذا الجوّ يحتاج منّا إلى مراقبة وتدقيق لأعمالنا "لا يغرَّنَّكَ سوادُ الناس من نفسك"، ربّما توحي لك نفسك أيّها الخاطئ بكلمات تزيّن لكَ أنّك مصيب، ربّما تكون في وضع اجتماعي أو سياسي يوحي إليك بأنّك المحسن، فيما أنتَ في الواقع مسيء. وبهذا تمتدّ في إساءتك، وتمتد في معصيتك، وترى دائماً أنّكَ لستَ مخطئاً. ولأنَّ الناس يصفِّقون لك، ويمدحونك، ويقدِّسون أخطاءك، ويباركون سيّئاتك، فإنّك تشعر بأنّك سائر على الخطّ في الوقت الذي تعيش فيه الانحراف الكبير عن الخطّ المستقيم.
التوبة تحمي الشخصية من الانحراف
إنَّ إثارة التوبة في حياتنا تتّصل بحماية شخصيّاتنا من أن تمتد في الانحراف، وفي الخطأ قبل فوات الأوان، أن نحميها من ذلك حتّى نلتفت إلى أنفسنا دائماً، والله من خلال ذلك يريد أن يعطيك المحبّة، يقول لك لقد أخطأت، ليست مشكلة "كلّ بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوابون" لقد أخطأت، ولكنَّ ربّك الله لا يلاحق الإنسان ليحاسبه على خطئه فيعذّبه. إنَّ الله يلاحق الإنسان الذي لا يخطئ وإذا أخطأ وتاب يرحمه، وهكذا فتح باب التوبة بأوسع من السماوات والأرض {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53] وهكذا يقول لك إنّي أقبل التوبة {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى : 25] ألاَ تحبّ أن تكون محبوباً عند الله، أخطأت صباحاً بكلمة مع زوجتك، شتمت زوجتك وأنتَ لا يحقّ لك أن تشتمها، لأنّها إنسان كما أنتَ إنسان، لم يجعل الله الزواج مبرّراً لأن يسبّ الإنسان زوجته، أو تسبّ المرأة زوجها، ليس مبرّراً ذلك؛ رأساً تَسامَحْ منها وتب إلى الله من ذلك، إذا أكلت حراماً استغفر الله بعد أن تنتهي، وقبل أن تنتهي من ذلك، وهكذا في كلّ المجالات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201] ليست الخطيئة سوى حالة طارئة، يطوف الشيطان بك، فيحاول أن يضلّك عن معرفة الحقيقة، ولكنّك عندما تكون تقيّاً فإنّك تنتبه رأساً، فتنفتح لك الحقيقة من خلال انتباهك، لا تكن الغافل دائماً تذكَّر أنّ الله ربّك يراقبك، وأنّ هناك ملكين يحاسبانك، وأنّ هناك جوارح تسجّل عليك، وأنّ موقفك في الآخرة ما بعد الموت ينتظرك، تذكَّر ذلك وبادِرْ إلى التوبة بعد لحظة ودقيقة.
حقوق الله وحقوق الناس
والمعاصي نوعان: فهناك معاصٍ تتعلّق بك في علاقتك مع ربّك، وهناك معاص تتعلّق بك بعلاقتك بربّك وعلاقتك بالناس. أي هناك معاصٍ لها حقٌّ عام ومعاصٍ لها حقٌّ عام وحقٌّ خاص. ولكلّ معصية من هذه المعاصي طريقتها في التوبة؛ مثلاً لقد حرَّم الله عليك أن تشرب الخمر، وأن تزني، وأن تكذب، ولله حقٌّ عليك أن لا تعصيه في هذا المجال. إذا شربت الخمر نتيجة جهل أو نتيجة ظرف معيّن أو ما إلى ذلك، قل يا ربّي إنّي نادم، وإنّي تائب، يتب الله عليك، ليست هناك مشكلة. إذا كذبت في شيء لا يمسّ حياة الناس في ضرر، قل يا ربّ إنّي تائبٌ وسأكون الصادق في المستقبل، لا مشكلة. عندما تزني وتنتبه إلى نفسك وتقول: يا ربّي لن أعود إلى ذلك أبداً، تب إلى ربّك يتب الله عليك. لكن إذا شتمت إنساناً بغير حقّ، فإنّك بذلك أسأت إلى ربّك لأنَّ الله قال لكَ لا تشتم، أسأت إلى ربّك وخالفت أمر الله، عليك أن تستغفر الله على مخالفتك له. ثمّ عليكَ حقٌّ خاص، إنّك أسأت إلى كرامة هذا الإنسان عندما شتمته، سواء كان هذا الإنسان شخصاً أو جماعة، فلا بدّ أن تتسامح منه ليتوب الله عليك، إذا لم يُسقِط صاحب الحقّ الخاص حقّه، فمن الصعب أن تنال مغفرة الله، وأنتَ قادر على أن تعطيه حقّه. وهكذا عندما تسرق الناس، وثورة الناس هذه هي ثورة اللّصوص، لأنَّ اللّصوص يمثّلون حلفاً غير مقدّس بين لصوص الشرقية ولصوص الغربية، بين لصوص المسيحية وبين لصوص الإسلام، بين لصوص السُنّة والشيعة وبين لصوص الموارنة والأرثوذكس، هناك جماعة يعيشون الوحدة اللبنانية في مسألة اللّصوصية، يسرق بعض الناس السيارات من هنا ويرسلونها إلى الشرقية حتّى تباع هناك، ويسرق بعض الناس هناك بضاعة لكي تباع هنا. سرقت ولديك غطاء من حربك ومن حركتك ثم انتبهت ورأيتَ نفسك مخطئاً، بعد ذلك ماذا تفعل؟ هل يكفي أن تقول: اللّهم إنّي تائب، إنّ الله يقول لك: أين أموال الناس التي سرقت، أرجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، فإذا لم ترجع عين المال أرجع قيمته، وإذا لم تكن عندك قيمته إجمعها حتّى ترجعها إليه، وإذا خفت على نفسك أن يعرفك أرجعها إليه بدون أن يعرف بذلك، أو تتسامح منه في هذا المجال. لن يتوب الله عليك إذا لم ترجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، لأنَّ الله لم يحلّ لكَ أموال الناس. إنّ بعض الناس يتصوّرون أنّ الذي يمنعهم عن أكل أموال الناس هو وجود نظام رسمي، فإذا لم يكن هناك نظام، فالحلال هو ما أَحَلَّت اليد، والحرام هو ما لا أستطيع أن أبلغه، المسألة ليست كذلك، لأنَّ هناك يوماً جعله الله تعالى ليرجع كلّ حق إلى صاحبه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ...} [غافر : 17]. ما شعار يوم القيامة؟ ليس شعاراً سياسياً، الحديث الشريف يقول: "يؤتى يوم القيامة برجل، وإذا أعماله مثل الجبال لديه" أعمال خيريّة ومستوصفات، يساعد الفقراء فيحسده الناس على ذلك، ويأتي أصحاب الحقوق، وتنكشف الحقيقة، فثروته التي تصدَّق بقسمٍ منها وزكّى قسماً آخر، هذه الثروة جاء بعضها من السرقة، وأتى بالبعض الآخر من الاحتيال على الناس، وعندها لن تنفعه أعماله الخيرية، وتذوب حسناته حتّى لا يبقى منها شيء، لأنَّ أصحاب الحقوق هم أوْلى بها، وهكذا إذا لم يرد الإنسان لأصحاب الحقوق حقوقهم في الدنيا ويتسامح منهم، فإنّه سيلقى جهنَّم حتّى لو ملأت مشاريعه الخيرية الآفاق.
إنَّ أغلب الناس من مؤمنين وغير مؤمنين يعتبر أنّ الزواج يعطيه الحقّ في أن يكون ديكتاتوراً في البيت، يضرب امرأته بحجّة أنّه ليس لأحد علاقة بما يفعل، يضرب، يشتم، يتصرّف في أموالها، يضغط عليها في مهرها، يعمل حسب مزاجه، يضربها إذا رأى أنّ البيت ليس نظيفاً، وفي هذا المجال لا أحد تحت الغربال. تصوَّر أنّك تعصي الله في اليوم مئة معصية، في علاقتك مع زوجتك، لأنَّ الله قال: {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] يوجد فرق بينك وبينها درجة واحدة فقط وحتّى هذه الدرجة مقيّدة بضوابط معيّنة.
وعندما تظلم زوجتك باعتدائك على حقوقها، فالمسألة صعبة. في مجتمعاتنا يتصرّف الرجل مع زوجته على أساس أنّ له مطلق الحريّة؛ لا، ليس لكَ مطلق الحريّة، هي إنسان وأنتَ إنسان، لا يجوز لك أنْ تشتم زوجتك كما لا يجوز لك أن تشتم زوجات الجيران، لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال زوجتك كما لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال الجيران، لا يوجد فرق أبداً: الزوجية تعطيك حقوقاً ضيّقة جداً، فهي لا تلغي إنسانية المرأة في الإسلام أبداً، حتّى مع أولادنا هناك بعض الناس يتعامل مع ابنه كما يتعامل مع كرسيّه أو حذائه، فكما إذا أراد أن يكسر كرسيه أو يقذف حذاءه، فإنّه يتعاطى مع ابنه بالأسلوب نفسه، وحجّته أنّ هذا ابني يعني هو ملكي.. هذا الأمر ليس صحيحاً، الله جعل الولد أمانة عندك، لتبني له جسمه، وتبني له عقله، وتبني له إيمانه، فإذا خنت الأمانة واتّخذت ولدك مجرّد أداة لتنفيس الضغط الذي تتعرّض له، كما هي الحال عندما تختلف مع صاحبك فتتضايق ثمّ تجد ولدك أمامك فتضربه لكي تنفِّس عن غضبك، هذا أمر لا يجوز، إذ لا يوجد فرق بين أن تضرب ولدك أو أن تضرب ابن الجيران، لأنَّ ابنك إنسان وليس مثلما تدَّعي أنّك أنتَ كنتَ سبباً في وجوده، الله جعلك سبباً في وجوده، ولكنّ ابنك إنسان مستقلّ عنك مئة في المئة. وجعل الله لكَ حقوقاً عليه وجعل له حقوقاً عليك كما جعل لك حقوقاً على الناس الآخرين. لا يوجد فرق، لا تتصوَّر المسألة سهلة، إنَّ ولدك سيقاضيك يوم القيامة إذا ظلمته، فأنتَ لست مسلَّطاً على ولدك أبداً، ابنك يمثّل شخصية قانونية شرعية مستقلّة كما أنتَ لكَ شخصيّتك.
لقد ذكرتُ لكم في مرّة سابقة الحديث النبويّ الشريف الذي يحدِّد شخصية المؤمن: "إنَّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل" يعني إذا أحببت لا أعطي الذي أحببته ما لا يستحقّه، المحبّة شيء والحقّ شيءٌ آخر، "إنَّما المؤمن"، يعني غير هذا ليس مؤمناً، الذي يحبّ ويعطي الذي يحبّه أكثر ممّا يستحق هذا ليس مؤمناً. إنّ المؤمن يبقى مع الحقّ حتّى مع مَن يحبّ، "إذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحقّ"(1)، تخاصمت أنا وأنت وأصبح بيني وبينك مشاكل، أستطيع أن أتكلَّم عمّا أراه حقّي في حدود شرعية معيّنة، ولكن لا يجوز لي إذا كنتُ مختلفاً معك أن أتكلَّم عليك بكلام لا حقّ لي فيه. الاختلاف مسألة والحقّ مسألة أخرى.
ويقول الله في كتابه: {... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8] اعدلوا حتّى مع أعدائكم، أعطوا أعداءكم العدل، أعطوا خصومكم العدل، قولوا الكلمات الجيّدة كما تقولون الكلمات الرديئة، هذا هو الإسلام، ثمّ قال: "وإذا قَدِرَ لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ"، إذا صار صاحب قدرة وصاحب سلطة، فلا يتعاطى ما ليس له بحق، وإذا أخطأ بحقّ أحد، فلا بدّ من أن يتسامح منه، وإذا لم يسامحه هذا المظلوم فيجب عليه أن يحاول بكلّ طريقة وإذا لم يستطع، عندها يرفع أمره إلى الله. إنّي أقرأ دائماً يوم الاثنين وأُكرِّره عليكم: "اللّهم وأيّما عبدٍ من عبيدك أو أَمَةٍ من إمائك كانت له قِبَلي مَظْلِمَةً ظَلَمْتُها إيّاه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده، أو غيبةٍ اغْتَبْتُهُ بها أو تحامُلٍ عليه بميلٍ أو هوى أو أَنَفَةٍ أو حَمِيّة أو رياء أو عصبيّة، غائباً كان أو شاهداً، حيّاً كان أو ميتاً، فَقَصُرَتْ يدي وضاقَ وُسْعي عن ردّها إليه والتحلُّل منه، فأسألُكَ يا مَن يملِكُ الحاجاتِ وهي مستجيبةٌ لمشيئته ومُسْرِعَةٌ إلى أرادته، أن تصلّي على محمَّدٍ وآل محمّد وأن ترضيه عنّي بما شئت" إذا لم تكن قادراً على أن ترجع لهذا الإنسان حقّه، وعرف الله منك صدق النيّة فسوف يتدخَّل الله ويرضي هذا الإنسان عنك.
منفّذ الجريمة ليس وحده المسؤول
وبالانتقال إلى الجوانب التي لها مدلول أمني وسياسي، نرى أنّ بعض الناس ليس مستعدّاً لأنْ يتعب نفسه بالجهد والعمل. ماذا يفعل؟ يعمل في المخابرات باعتبارها ـــ بنظره ـــ أسهل الأعمال، يبقى مرتدياً لباسه وربطة عنقه حتّى يسمع الأخبار من الناس، يسمع فلاناً ماذا يتكلَّم عن الدولة وماذا يتكلّم عن هذا الحزب، ويدفعون له معاشاً شهرياً، ويقولون له: نحن مستعدون لكلّ التكاليف، نشتري لك ما تريد، والمخابرات التي يلجأ إليها هذا الشخص إمّا مخابرات حزبية أو مخابرات رسمية أو أميركية أو فرنسية أو إسرائيلية.
إنَّ هذا الشخص الذي يقدّم المعلومات للأعداء، عن أوضاع بعض الناس الذين يتعرّضون للأذى الشديد بسبب ذلك، قتلاً أو سجناً، لقاء المال، وفي رأيه أنّه إذا زكَّى هذا المال وذهب إلى الحجّ، فإنَّ القضية تنتهي. هذا التصوُّر غير صحيح، ففي يوم القيامة يؤتى لهذا الرجل بقارورة تمتلئ دماً. ويُقال له: هذا نصيبك من دم فلان، ويرفض هذا الرجل الاتّهام باعتبار أنّه لم يقتل ولم يحمل سلاحاً في حياته، ويأتي الجواب، لقد سمعت كلمة عن فلان فنقلتها إلى جبّار فقتله، فأنتَ قاتل ولو بشكلٍ غير مباشر وهذا نصيبك من دمه. وهكذا يكون نصيبك من تعذيب فلان، ونصيبك من سجن فلان، هذه من المعاصي التي لا يغفرها الله حتّى يغفرها صاحبها لأنّها معصية عامّة، كذلك فإذا كنت عنصراً مخابراتياً وطُلِبَ منك أن تضع هذه السيارة المفخَّخة لتفجيرها في مكان يتجمَّع فيه الناس أو في مسجد، إنّ كلّ الذين يُقتَلون، أنتَ مسؤولٌ عن قتلهم شرعاً، وهكذا إذا طلب منك أن تفتن بين الناس وأن تزرع الإشاعات هنا وهنالك من أجل خلق وضع سياسي معيّن، أو وضع أمني معيّن على أساس أن يتقاتل الناس في ما بينهم أيضاً، في هذه الحالة كلّ قتيل يسقط أنتَ مسؤولٌ عنه.

لمن تعطي صوتك الانتخابي؟
وإذا انتقلنا إلى المجال الانتخابي، أنتَ ناخب تؤيّد فلاناً من دون أن تدرس شخصيّته، تؤيّده على أساس طائفي، أو على أساس أنّ عائلتك تؤيّد هذا الإنسان، أو يعطيك مالاً، ربّما صوتك يُنجح هذا الإنسان. هنا إذا شاركت في نجاح إنسان ظالم، فمعنى ذلك أنّك ستتحمَّل ـــ بنسبة صوتك وبنسبة دورك في نجاحه ـــ مسؤولية كلّ ما يقوم به من نتائج سلبية على مستوى الناس كلّهم. وتكرّ السبحة إذا انتخب هذا النائب رئيس جمهورية معيّناً أو أعطى الثقة لحكومة لا شرعية لها، أو صوَّت على مشروع فرض ضرائب على الناس، أنتَ وفي قبرك تتحمّل المسؤولية، هناك خطّ بريدي متّصل من المجلس النيابي إلى القبر، يقول أنتَ شاركت في مشروع ظالم. إنَّ الورقة التي تضعها في صندوق الانتخابات قد تغيّر واقعاً وترفع مشروعاً. فإذا كنّا معنيّين برضى الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفكِّر كثيراً قبل أن نحدِّد موقفنا.
بعض الناس يقولون لا علاقة للدين بالسياسة. ولكن في كلّ مسألة حلالاً وحراماً، شرب الخمر خطيئة، لكنّ انتخاب ظالم خطيئة أكبر من كلّ الخطايا الصغيرة، إنَّ شرب الخمر أخف، والزنى أخف من أن تؤيّد مَن لا يستحقّ التأييد. بعض الناس ينتخبون بعض السياسيين، ويقولون فلان السياسي يصلّي، فلان ذهب إلى الحجّ، لا يا جماعة، ليست هذه حجّة مقبولة، إذا كان هذا يصلّي فهو يؤدّي تكليفه، يذهب إلى الحجّ ليؤدّي تكليفه، المهمّ أن يصلّي لله ولا يصلّي للاستعمار، المهمّ أن يحجّ لله ولرضى الله لا أن يحجّ إلى بيوت المستعمرين والمستكبرين، هناك أُناس يذهبون إلى مكّة للحجّ ثمّ ينطلقون مباشرة إلى لندن وإلى واشنطن. لو ذهب لكي يتنزَّه فنحن نعذره، ولكنّه يذهب لكي يضيّق على شعبه، ويضيّق على أُمّته، يذهب فيزرع الأفخاخ لمستقبل أُمّته ومستقبل شعبه من خلال مصالحه التي يريد أن يضعها في خدمة الاستعمار.
عندما نعود إلى واقعنا وندرس حركة الفتنة التي نعيشها، في كلّ ما حدث من دمار وقصف وتشريد وقتل وإسقاط لكلّ القضايا التي تتحرّك في حياتنا، نلاحظ أنّ ما حدث كان نتيجة مواقف أُناس طيّبين عاشوا سذاجة الفهم السياسي، وعاشوا سذاجة الفهم الديني، وعاشوا سذاجة فهم الناس، فأعطوا تأييدهم لمن لا يستحقّ التأييد، ورفضوا مَن لا يستحقّ الرفض، "علامة الإيمان أن تُوالي أولياء الله وأن تُعادي أعداء الله"، "أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله"، "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً إلى قلبك، فإذا كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك؛ والمرء مع مَن أحبّ"(1). الموقف السياسي يمثّل في العمق الموقف الديني. إنَّ ديننا سياستنا وسياستنا ديننا.
الحبّ والبغض في الله
جاء في بعض الأحاديث: إنّ الناس يجتمعون يوم القيامة، فينادى: أين أهل الفضل؟ فيقوم جماعة من الناس ويقولون: نحن أهل الفضل، فيقال لهم: ماذا كنتم تفعلون في الدُّنيا؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله، عندما نحبّ أحداً نحبّه على أساس قربه من الله، وعندما نبغض أحداً نبغضه على أساس بُعده عن الله. على هذا الأساس كنّا نعيش، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب. القصّة صعبة أن تتمرّد على عصبيّتك الذاتية وعصبيّتك العائلية والسياسية والطائفية، التمرّد على العصبية عمل صعب لكنَّ النتيجة عظيمة "ادخلوا الجنّة بغير حساب" أن تحبّ في الله وتبغض في الله، تلك هي المسألة التي يجب أن تربّي نفسك على أساسها، ألاَ يكون هناك فاصل بينك وبين الله. هل يعجبكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ أنا أشكّ. لماذا؟ لأنّ الحديث يقول: "إنَّ عليّاً مع الحقّ والحقّ معه يدور كيفما دار"(2)، لم يقف عليّ (عليه السلام) موقف باطل في حياته، بل كان هو والحقّ صنوين في القضايا الكبيرة والصغيرة، حتّى قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(3)، فيما نحن نترك مواقع الحقّ التي هي مواقع رضى الله.
كيف نتحوّل إلى منافقين
إنَّ هناك كثيراً من الناس لهم علاقات مع الاستكبار فيما الله يقول: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل : 23]. إنّ المطلوب هو أن لا تنحني للمستكبرين وأن لا تكون أداة في خطّ استكبارهم بمقدار ما تقوّي في بلدك الخطّ الاستكباري الأميركي أو الأوروبي أو الروسي أو أيّ خطّ استكباري؛ فأنتَ تتحمّل مسؤولية كلّ النتائج بحجم تقويتك لهذا الخطّ، ولاسيّما أولئك الذين يتعاطفون مع "إسرائيل" بأيّ نوع من التعاطف، فإنّهم يتحمّلون كلّ ما تفعله "إسرائيل" في لبنان أو في المنطقة، كلّ شخص بحسب حجمه في هذا المجال.
أليسَ الله يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً*وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ...} [النساء: 138 ـــ 140] هذا بالنسبة للذي يجلس معهم، فكيف بالذي يتعاون {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} إنّ الله سوف يسألني ويسألكم غداً عن هذا الكلام، فهو ليس كلام خطابة، فكِّروا فيه، إنَّ الله يقول: {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} إنّك إذا جلستَ قرب شخصٍ يهاجم الإسلام والمسلمين ويهاجم المجاهدين ولم تستنكر، الله يقول: إنّك إذاً مثلهم، فكيف إذا شاركت وأصبحت جزءاً من الخطّة؟ لا أحد ينفعنا غداً، لا آباؤنا، ولا أمّهاتنا، ولا مسؤولونا، لا أحد أبداً، كلّ واحد يفكّر في نفسه.

الدين والمسألة السياسية
إنَّ هذه المسألة سياسية تتّصل بالمسألة الدينية، لأنَّ الشخص الذي لا يكون خطّه السياسي متحرّكاً مع ما يريده الله من عزّة وعدالة وخير للمؤمنين والمستضعفين، فلا دين له. ليست القضية أن لا أمانة له بل لا دين له، فكيف بالذي يسير مع الظالمين. إنَّ المسألة الدينية ليست في الصلاة والصوم فقط إنّما نعتقد أنّ عمق المسألة الدينية هو في قضايا العدالة والحريّة، أليسَ مفهوم التوحيد أساس الدين، ما معنى "لا إله إلاّ الله"؟ أن تكفر بكلّ سلطة غير الله، وتعبد الله وحده، أنتَ حرّ أمام الكون كلّه، وعبد أمام الله فقط، غاية الدين هي تركيز العدالة، الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} [الحديد : 25]. كلّ الرسالات تستهدف تحقيق العدل. إنَّ جوهر الدين، وعمق المعنى الديني إنّما هو إقامة العدل والحريّة. فكيف يريدوننا أن نفصل بين الدين وبين السياسة، أنتَ لن تكون متديِّناً إذا كنتَ ظالماً، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ عبداً لغيرك، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ مشاركاً للظالمين في مشاريعهم الظالمة.
وقف الحرب ومصلحة الثورة الإسلامية
وعلى هذا الأساس يجب أن نراقب الوضع كلّه. الله سبحانه وتعالى أعطانا الخطّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن عندما رأينا الخطّ الإسلامي المتمثّل بقيادة الإمام الخميني صادقاً مع نفسه وصادقاً مع ربّه، وصادقاً مع أُمّته، يجاهد نفسه حتّى في ما يكره لمصلحة الأُمّة، وقفنا معه، لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، ولهذا نحن عندما نتحرّك من موقع التأييد لقراراته السياسية المدروسة على أساس إسلامي، فإنّنا ننطلق من فهم كتاب الله وسُنّة رسول الله وسيرة الأئمّة والصالحين، لهذا أيّدناه. نحن في هذا المجال لا نفكّر بأن يكون التأييد على أساس أنّ أيَّ قرار يصدر من هناك معصوم، كما أنّ القيادة الإسلامية هناك لا تدّعي لنفسها العصمة، بل تملك الاعتراف لنفسها بالخطأ إذا كان هناك خطأ، وتقول للعالَم كلّه: إنَّنا أخطأنا في هذا الخطّ السياسي، نحن قلنا دائماً: إنّ على القاعدة أن تفكّر مع القيادة حتّى تتكامل القاعدة مع القيادة، في الوعي الفكري للمسألة السياسية، وفي هذا المجال نحن نفكّر وهم يفكّرون، وعندما فكّرنا في ما حدث، فإنّنا فهمنا الظروف التي يراد من خلالها محاصرة الثورة الإسلامية والعمل على أساس عزلها عالمياً، ومحاصرتها اقتصادياً والضغط عليها عسكرياً على مستوى الوضع العالمي، حتّى تُستنزَف استنزافاً يسقط الثورة في المستقبل فتفرغ من كلّ قوّة.
إنَّ الموافقة على القرار الدولي "598" القاضي بوقف الحرب بين العراق وإيران، تشكّل عملية التفاف على الخطّة المدروسة التي كانت تراهن على أنّ إيران لن ترضى بوقف إطلاق النار، ممّا يؤدّي إلى مواصلة العالم المستكبر محاصرتها من كلّ جهة وإسقاطها تحت حجّة أنّها هي التي لا تريد وقف إطلاق النار، وهي التي تريد الحرب وهي التي لا تريد أن تعالج القضايا بالطرق السلمية، لهذا كان هذا القرار مربكاً لأكثر من جهة دولية وإقليمية، وإذا كان المؤمنون قد شعروا بوجود بعض الضغط النفسي من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالقرار في ما سبقه أو في ما يعيشه الآن، فإنَّ عليهم أن يتذكَّروا قول الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104].
إنَّ الإعلام يتحدّث في هذه الأيام بطريقة معيّنة، وكأنّه يوحي بأنّ قرار وقف إطلاق النار يعني تنازل الثورة عن كلّ شعاراتها، وتنازل الثورة عن استراتيجيّتها في تحريك الإسلام ليكون معادلة سياسية في العالم، وإنّ الإسلاميين من خلال هذا الضغط سوف يتراجعون عن قضاياهم، وسوف يتنازلون أمام التحدّيات.
إنَّ مَن يقرأ خطاب الإمام الخميني في هذه المسألة يشعر بأنّه ليس هناك أيّ تغيير في الاستراتيجية والحركة السياسية التي تواجه الاستكبار كلّه، ولكن قد تتعدَّل الأساليب والوسائل ربّما لتسلك أسلوباً تعتقد أنّه يمكن أن يكون موضع نتيجة إيجابية، حيث تجعل الأوضاع الضاغطة من هذا الأسلوب أسلوباً غير عملي، فتنتقل إلى أسلوبٍ آخر وإلى أسلوب ثالث، ولكن يبقى الهدف وتبقى الغاية، إنَّ الإسلاميين في كلّ العالم، سواء كانوا في إيران الإسلام، أو كانوا في المنطقة العربية وغير المنطقة العربية، وأعني بالإسلاميين الذين يؤمنون بالإسلام المقاومة والإسلام المجاهد الذي انطلق في خطّ رسول الله ليجاهد وليقاوم الاستكبار والاستعمار والصهيونية والظلم لا الإسلام الذي يعمل في دائرة الاستخبارات الأميركية أو في دائرة الاستخبارات الأوروبية أو غيرها من الاستخبارات في العالم، إنَّ الإسلاميين الذين يتحرّكون من خلال وعيهم للإسلام كخطّ للعقيدة وللحياة، ووعيهم للإسلام كخطّ للحركة في خطّ الجهاد السياسي والعسكري والأمني، سوف يتابعون الدرب وسوف يكونون الواعين لكلّ الظروف ولكلّ المعطيات، فلا يسقطون أمام ضغط بل يعملون على أساس أن يتعاملوا مع الضغط بشكلٍ واقعي، ليتخفَّفوا من هذا الضغط أو ذاك، وتظلّ شعاراتهم شعارات استراتيجية ولكنّها تتحرّك بطريقة واقعية، إنَّ الإسلاميين ليسوا مثاليّين يمارسون الحركة السياسية في الهواء ولكنّهم يغيِّرون الواقع بأدوات الواقع، وينطلقون من خلال المرونة العملية الحكيمة التي انطلق بها رسول الله، ومن خلال الأساليب العملية التي تحرَّك بها الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ ما واجهه من أحداث، وإنّ الإسلاميّين لا يدعون لأنفسهم العصمة بل يعترفون بأنّهم قد يخطئون وقد يسيؤون ولكن لديهم الشجاعة بأنْ يعترفوا بالخطأ، وكيف يصحِّحون هذا الخطأ، وفي الندم على الخطأ، وفي التوبة أمام الله وأمام الناس من كلّ هذا الخطأ، ليس معنى أن تكون إسلامياً أن تقدِّس أخطاءك، بل عليك أن تعترف بأخطائك، وأن تصحِّحها بكلّ شجاعة.
حركة الشعوب والوفاق الدولي
إنّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مسألة الوفاق الدولي، ويعتبر أنّ الوفاق الدولي هو المسؤول عن هذا الموقف الذي اتّخذه الإمام (حفظه الله) في وقف إطلاق النار، ويتحدّثون عن مسألة الوفاق الدولي كما لو كان قضاءً وقدراً، ويقولون: إنّ الوفاق الدولي سوف يرتّب العالم على طريقته، وسوف يحلّ كلّ المشاكل، وعلينا أن نخضع لقرار الوفاق الدولي في المسألة الخليجية، وفي المسألة الفلسطينية، وفي المسألة اللبنانية، وفي غيرها من المسائل. نحن نؤكّد أنّ الوفاق الدولي قد يكون حلاًّ، وقد يكون مشكلةً، قد يكون حلاًّ إذا توفَّر على رعاية مصلحة الشعوب، وقد يكون مشكلة إذا كان للضغط على رعاية مصلحة الشعوب، ونحن نعتقد أنّ الوفاق الدولي يملك إمكانية الضغط على كثير من الشعوب، وعلى كثير من القضايا. ولكن نريد أن نقول لنؤكّد حقيقة تاريخيّة وإنسانية، إنّ القوى الكبرى عندما تتّفق قد تربك الواقع، وقد تضغط عليه كثيراً، ولكن تبقى للشعوب إمكانية أن تمارس ضغوطاً في أكثر من موقع، وتبقى للشعوب إمكانية أن تجد أيّة ثغرة في هذا الموقع أو ذاك. المسألة أنّ الشعوب تستطيع أن تربك كثيراً من مواقع الخلاف ومن مواقع الوفاق.
المسألة هي أن تملك الشعوب إرادة الحريّة والعزّة في إرادتها، وإرادة الإيمان في مواقفها، ولهذا هيّأ الاستعمار في كلّ مواقع العالم الإسلامي وفي كلّ مواقع العالم الثالث أنظمة تمنع شعوبها من أن تتنفَّس، وتمنع شعوبها من أن تفكّر، وتمنع شعوبها من أن تتحرّك، حتّى ينطلق الخطّ السياسي الدولي هنا وهناك من دون معارضة.
إنَّ الاستكبار يتحدّث بكثير من كلمات الإرهاب والتطرّف في وجه كلّ الذين يريدون أن يقاوموا أو يبحثوا عن الحريّة، إنّنا نريد أن نقول كما تعلّمنا دائماً، كما علَّمنا الله في القرآن، أن ننظر إلى الأقوياء في نقاط ضعفهم وأن نتعامل معهم على هذا الأساس.
إنَّ هناك وضعاً جديداً في المنطقة وغيرها جاء بعد قمّة موسكو، ولكن علينا أن نواجه القضايا بدراسة كلّ المشاريع التي يرسمها الوفاق الدولي، لنختار منها ما يتوافق مع استراتيجيّتنا، ونرفض منها ما لا يتناسب. قد لا نستطيع أن نتكلّم بلغة عنترية، ولا بلغة حماسية، قد لا نستطيع أن نضغط فوق العادة، ولكنّنا نستطيع أن نضغط بنسبة عشرة في المئة ويأتي جيل يضغط بنسبة عشرة في المئة أخرى، وهكذا حتّى تتكامل الضغوط، فكِّروا دائماً أنّ القوى الكبرى لا تمثّل القضاء والقدر، فكّروا دائماً بوعيكم الإسلامي الذي نريده أنْ يتحوّل إلى وعي سياسي، عندما تقولون إنَّ هناك دولة كبيرة وقوّة كبيرة، تذكَّروا أنّكم في مآذنكم في كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، وفي صلاتكم كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، قولوا "الله أكبر" حتّى تفكّروا أنّه ليس هناك كبير إلاّ والله أكبر منه، وأنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إذا عرف الذين آمنوا أن يدافعوا عن أنفسهم، أو أن يدافعوا عن المؤمنين، وعن رسالات الله.
لا قيمة للعروبة بدون الإسلام
إنَّ علينا أن نفكِّر بهذه الطريقة حتّى لا نسقط أمام الإعلام الذي يخوض ضدّ الإسلاميين المقاومين وضدّ كلّ الذين يحملون لواء الحريّة، حرباً نفسية تسقطهم قبل الدخول في أيّ معركة. لا بدّ أن نفكّر بهذه الطريقة وأن نختزن إيماننا حتّى نوظّفه في خطّ حركتنا السياسية من أجل أن يكون الدين كلّه لله، ومن أجل أن تكون الحريّة والعدالة في طريق الله. ثمّ نريد أن نقول من خلال هذا الجوّ الجديد الذي تحرّك من خلال قرار وقف إطلاق النار، لكلّ المنطقة العربية التي عملت لأنْ يتّخذ الصراع ما بين إيران وما بين النظام العراقي طابع الصراع العربي ـــ الفارسي، إنّنا نريد أن نقول لهم لا تفكِّروا بهذه الطريقة، إنّكم تقولون: إنّكم مسلمون، عليكم أن تعرفوا أنّ الإسلام لا يعادي العروبة، لكنّه يتعادى مع حركة بعض العروبيّين الذين يريدون أن يوظِّفوا العروبة في خدمة الاستعمار، ويريدون أن تكون العروبة شيئاً مواجهاً للإسلام. إنَّ قرآننا عربي وإنّ الإسلام انطلق في ساحة العروبة، وإنّنا نقول: لا قيمة للعروبة من دون الإسلام، ولا خطّ للعروبة إلاّ خطّ الإسلام، وبهذا سيتكامل الإسلام مع العروبة، وتتكامل العروبة مع الإسلام وينفتح الإسلام على العالم كلّه. المهمّ أن ينفتح العرب على العالم من موقع الإسلام كما انفتحوا على العالم ومثَّلوا قوّة ذات شأن من خلال الإسلام، إنّنا نريد أن نقول لكم إنّنا نعرف القيادة الإسلامية في إيران جيّداً ولاسيّما المتمثّلة بالإمام (حفظه الله) الذي لا يفرِّق بين إنسانٍ وآخر، لكنّه يرفض الظلم مهما كانت طبيعته القومية.
حماية الخليج مهمّة دول
لقد طالبت إيران بتحديد المعتدي، فلماذا تهرّب الجميع من ذلك؟ إنّها طالبت بتحديد المعتدي بعقلٍ بارد فإذا كانت هي المعتدية كونوا ضدّها جميعاً وإذا كان الآخرون هم المعتدون فكونوا ضدّهم جميعاً، لأنَّ الله لا يريد منكم أن تكونوا مع المعتدي. إنَّنا نريد لهم أن يتفهَّموا القضية باعتبار أنّها تتّصل بحريّة المنطقة كلّها. إنّ إيران أعطت الفرصة الآن لحلّ هذا الواقع بطريقة سلمية، ونقول لدول الخليج بالذّات في هذه المرحلة، لقد شعرتم بكثير من الارتباك والقلق والخوف نتيجة الضغوط التي مورست عليكم من أكثر من جهة، إنَّ إيران دعت منذ البداية ألاّ يكون هناك في الخليج وفي مياه الخليج أساطيل أجنبية أميركية أو أوروبية أو سوفياتية تريد السيطرة على المنطقة بحجّة حماية حريّة الملاحة في الخليج وحماية دول الخليج، وقد دعت إيران الإسلام منذ البداية إلى أن تكون مسألة حماية أمن الخليج من خلال توافق دول الخليج وفي مقدّمتها إيران حتّى لا تكون هناك أيّة سيطرة على أيّ دولة وأيّ شعب، ونحن نعتقد أنّ الفرصة سانحة الآن للتكامل مع إيران الإسلام. وحيث إنّكم تتحدّثون باسم الإسلام، فإنَّ من الممكن أن يكون هناك تكامل على أساس أن تقفوا جميعاً مع إيران الإسلام التي أعلنت أنّها لا تريد بأحد شرّاً، ولكنّها لا تريد أن يصنع الشرّ ضدّها أيّ أحد، إنَّ من الممكن الآن أن تتكاملوا لتفرضوا على الأساطيل الأوروبية والأميركية الانسحاب من مياه الخليج لتكون هناك خطّة أمنية لحفظ الخليج بالشكل الذي لا يسمح لأيّ جهة دولية بأنْ تعمل ضدّ مصلحة أحد. إنَّنا نعتقد أنّ الفرصة سانحة لأكثر من موقف في هذا الاتجاه ممّا يحقّق كثيراً من الأوضاع السياسية المنفتحة وممّا يكون في مصلحة الجميع.

لبنان موضع شدّ وجذب
في ختام الحديث نؤكّد أنّ المسألة عندنا هنا في لبنان لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات؛ فليست هناك أيّة ضمانة في أيّ وضع يمكن أن يحقّق نتيجة، لا على مستوى الاستحقاق الدستوري الذي هوَّلوا به ولا على مستوى قضايا الإصلاح. إنَّ المسألة لا تزال موضع شدّ وجذب بين العوامل المحليّة والإقليمية والدولية في طبيعة كلّ ما يراد صنعه في هذا البلد، ولهذا فإنَّ علينا أن نعرف أنّنا نتحرّك في ساحة مفتوحة على كلّ الرياح التي تتصادم، وعلينا أن نعرف شيئاً أساسياً، وهو أنّ مسألة الإصلاح في لبنان ليست من المسائل المهمّة لكلّ دول القرار المحلي والإقليمي والدولي، لأنّنا وصلنا إلى نقطة أصبح الحديث فيها عن الإصلاح حديثاً، ليس بذي موضوع، لقد أصبح الحديث: هل إنَّ الرئيس القادم(1) يمكن أن يوقِّع على ورقة الإصلاح أو يتعهَّد بأنّه سيقوم بالإصلاح، أم أنّ البيان الوزاري القادم يمكن أن يختزن ذلك أو لا يختزن؟ هذه الدولة الكبرى تطرح شيئاً، وتلك الدولة الصغرى تطرح شيئاً آخر. والناس هنا في لبنان، هؤلاء الذين أعطوا أدواراً أن يصرِّحوا وأعطوا أدواراً أن يهدِّدوا وأعطوا أدواراً أن يسالموا وأعطوا أدواراً شكلية تحفظ مكانتهم عند شيعتهم، ولكن لم يعطوا أدواراً أن يصنعوا أدوارهم بأنفسهم، لأنّهم لم يعطوا صلاحية لذلك.
إنّنا لا نريد أن نوجّه اتّهاماً لأحد. الواقع هو الذي يوجّه الاتهام، ولكنّنا نريد أن نوجّه للشعب الذي عانى والذي دمّرت كلّ مصالحه، والذي قُتِلَ خيرة أبنائه، نريد أن نقول لهم ليست هناك ضمانات بأن يتغيَّر الوضع الطائفي في البلد، وليست هناك ضمانات بأن يكون هناك إصلاح في البلد، ربّما كانت هناك مشاريع دولية وإقليمية تنتظر أوضاعاً معيّنة في الداخل والخارج، ولكن ماذا هناك؟ ليست هناك ضمانات فعلية، فحتّى لو تعهَّد هذا الرئيس ووقَّع، أو حتّى لو فرضنا أنّ البيان الوزاري صَدَر لأنّنا تعوَّدنا في هذا الشرق، كلّه، أن يلحس الموقّعون شهاداتهم أو أن يحذف الكثيرون بياناتهم. إنّ المسألة ليست مَن يحمل رسالة لإنقاذ البلد، بل مَن هو الذي يحمل طموحات أن يحكم البلد ولو على حساب الناس.
وفي نهاية المطاف ألفت انتباهكم إلى نقطة: هناك كثير من الأسماء تتداول بين المعارضة وبين الحكم، أتعرفون ما هي بعض الطروحات؟ إنَّ هناك أكثر من مليار دولار يُقال إنّ الحكم سرقها وهو يريد أن يأتي رئيس لا يفتح الدفاتر، لا يفتح دفاتر مصرف لبنان، ولا يفتح دفاتر أخرى، المهم أن يأتي رئيس يعفو عمّا فعله الناس بعضهم ببعض، ويعفو عن الحكم بما فعله بالناس، أن يأتي هذا الرئيس بالرئيس الذي يريده حتّى يغفر له كلّ سرقاته، وهكذا نحن بقرة حلوب لكلّ الرؤساء والمترئسين والمستوزرين، هؤلاء الذين أعطاهم الاستعمار حريّة أن يسرقوا الناس وأن يظلموهم وأن يضيِّعوهم في كلّ متاهات المشاريع السياسية، وكلّ عهدٍ وأنتم بخير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
29/7/1988

التوبة في واقع حركة الحياة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ*وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 ـــ 55].
لماذا تتكرَّر آيات التوبة في القرآن؟
آيات التوبة تتكرَّر في القرآن الكريم بأساليب متعدّدة، متنوّعة، من أجل أن تكون الدعوة الإلهية يومية لكلّ الناس الذين قد تفرض عليهم ظروف تربيتهم أن ينحرفوا عن خطّ العقيدة وعن خطّ الشريعة، وقد تفرض عليهم بعض أوضاعهم الضاغطة على ظروفهم أن ينحرفوا عن الخطّ، وقد تتحرّك الغرائز والشهوات التي تجعل الإنسان يتنازل عن مبادئه من أجل شهواته، لذلك فإنَّ الله يُعَلِّم الإنسان كيف يتحرّك في حياته، لأنّه خلقه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14]. فإنَّ الله يعلم أنّ الإنسان يعيش حياته في كثير من الأوضاع التي تجعله يتحرّك في طريق الخطيئة، ويقع في قبضة الخطأ، ولا يريد الله للإنسان أن يتعقَّد من الخطيئة إذا وقع بها ولا يريد للإنسان أن يسقط أمام الخطأ إذا عاشه في حياته؛ بل يريد الله للإنسان أن يتحرّك من أجل أن يصحِّح الخطأ، ومن أجل أن يتراجع عن الخطيئة، ومن أجل أن ينفتح عليه، ومن أجل أن يغيِّر طريقه على أساس أنّ الله يريد للإنسان أن يعيش معه في مواقع الطهر، وفي مواقع الإخلاص، وفي مواقع الاستقامة في الخطّ، لأنَّ الله يحبّ التوّابين، يحبّ الإنسان الذي يخطئ ثمّ يتراجع عن خطيئته. فإذا أردنا أن ننال محبّة الله سبحانه وتعالى فإنَّ علينا أن نرفع إلى الله في كلّ يوم توبة عن كلّ خطأ نخطئه لتكون توبتنا لله توبةً في جميع المواقع وجميع الظروف، فالمسألة هي أن لا نصرّ على الذنب لأنَّ الكثيرين من الناس يتحرّكون في الخطيئة ويسقطون أمامها، ويعملون على الإصرار على الذنب حتّى يتحجَّر الذنب في حياتهم، وحتّى تتعمَّق الخطيئة في مواقفهم، فيتحرّكون في مواقع الخطأ، ويبرزون إلى الله كأُناس لا يحترمون إيمانهم، ولا يحترمون عقيدتهم.
الفهم الخاطئ للتوبة
لا بدّ أن نعيش مبدأ التوبة في حياتنا على كلّ المستويات، وفي كلّ الأوقات، ولا يحاول أحد أن يخضع لبعض الكلمات التي ربّما يخاطب بها بعض الناس الشباب ليقول لهم: إنَّ الله ما دام يقبل التوبة عن عباده، فلماذا نستعجل التوبة، إذ ما دام أنّ التائب من الذنب لا ذنب له، فسَواء إذا تبت الآن فسيعفو الله عنك وإذا تبت بعد عشرين سنة فالله سيعفو عنك، لماذا لا تستغلّ فرصة الحياة ما دام الباب مفتوحاً دائماً. وعلى هذا الأساس تأخذ من الدنيا شهواتها وتقتنص لذّاتها وتتحرّك في خطّ المطامع مؤيّداً مَن لا يريد الله منك أن تؤيّده، رافضاً مَن لا يريد الله أن ترفضه، ثمّ بعد ذلك عندما تبلغ الخمسين أو الستين تأتي إلى الله بعد أن تكون جمعت الدنيا والآخرة.
بعض الناس قد يفكّر بهذا المنطق وبعض الكبار قد يتحدّثون مع الصغار بهذه اللّغة، ومن المفردات التي باتت مستعملة، أنَّ من حقّ الشاب أو الشابة أن يأخذ من الحياة كلّ شهواته ولذّاته، ثمّ تكون التوبة لكبار السن. هذه النقطة لا بدّ أن نعتبرها نوعاً من الوسوسة الشيطانية، وأن نستعيذ بالله منها، كما علَّمنا الله أن نستعيذ من الوسواس الخنَّاس الذي يوسوس في صدور النار من الجِنَّةِ والناس، فالوسواس الخنَّاس ليس في الجنّة فحسب، ولكنَّ الوسواس الخَنَّاس قد يكون أباك، وقد تكون أُمّك، وقد يكون أخاك، وقد يكون زميلك عندما يوسوس لك المعصية فتعصي، ويوسوس لك تأخير التوبة فتؤخّرها. ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ هذه الآية عندما نزلت {... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود : 114]، جَمَعَ إبليس جنوده وقال لهم: ماذا نصنع لهذه الآية؟ كيف نستطيع أن نلتف عليها؟ هذه الآية تخرّب كلّ شغلنا لأنَّ هدفنا أن نجعل الناس يعصون الله ويبتعدون عنه سبحانه وتعالى، حتّى يبتعدوا عن مواقع رحمته وعن نعيم جنّته لنقودهم إلى عذاب النار وبئس المصير {... إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]، {... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 ـــ 17]. هذا هو الهدف، هذه الآية تقول: إنَّ الإنسان إذا فعل سيّئة ثمّ بدَّلها بالحسنة، يعني بالتوبة، أو بفعل خير، يمثّل الندم عما أسلف، فإنَّ الله يغفر له. وقال إبليس: ما اقتراحاتكم في الالتفاف على هذه الآية؟ قام شخص من هنا وشخص من هناك ولم يتقبَّل إبليس حلَّهما، فقام الوسواس الخنَّاس كما تقول الرواية، فقال له: هات ما عندك، فأجاب: الحلّ في أن نظلّ نغريهم بالمعصية، فإذا وقعوا فيها سوَّفنا لهم التوبة، إذا أراد أن يتوب اليوم نقول له: لماذا أنتَ مستعجل؟ تب غداً، وهكذا ننسيهم التوبة بفعل هذا التسويف. قال إبليس للوسواس: أنتَ لها، لأنَّ هذا الحلّ هو الذي يمكن أن يجعل المخطئين والخاطئين ممتدين في هذا الاتجاه. هذا ما نريد أن نثيره في أنفسنا بالجوّ العام.
حقّ الله على النّاس
وإذا أردنا أن ندقِّق في هذه المسألة، فإنَّ علينا أن نفكِّر أنَّ من حقّ الله علينا، وهو الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنا ويرعانا في كلّ شيء، من حقّ الله علينا أن نطيعه، وأن لا نعصيه، فإذا عصيناه فقد أسأنا إلى حقّه علينا، وإذا أسأتَ إلى مَنْ أنعم عليك بكلّ النِّعَم التي تحيط بك، فإنَّ من الطبيعي إذا كنتَ واعياً لمعنى النِّعمة، وواعياً لعظمة الله، أن تبادر إلى طلب المسامحة منه، وأن تستغفره، وأن تعلن الندم على ما أسلفت في مواجهته وفي الإساءة إليه، ألاَ تفعلون ذلك أمام الناس الذين لا قيمة لهم مع الله؟ ألاَ تفعلون ذلك عندما تخطئون مع الذين ترغبون في ثوابهم وتخافون من عقابهم؟ ألاَ تعمدون إلى أن تعلنوا لهم الاعتذار والندم؟ فلماذا لا نفعل مع الله ما نفعله مع عباد الله، لماذا لا نفوّت التوبة مع الذين نخطئ معهم من الذين يملكون بعض القوّة في الحياة، ولماذا نسوّف التوبة مع الله؟.
القلب المنكوس
لا بدّ من أن نفكّر في المسألة من موقع علاقتنا بربّنا، ومن موقعنا كعباد الله أمام الله سبحانه وتعالى، ثم أنتَ تفكّر، إنّي أتوب بعد عشرين سنة، فلنناقش المسألة: مَن يضمن لكَ أنّك تعيش بعد عشرين سنة، ثمّ مَن يضمن لك عندما تعيش عشرين سنة، أن تبقى عندك عقلية التوبة بعد ذاك، إنَّ الإنسان عندما تعيش الخطيئة في شخصيّته، وعندما تتعمَّق الأخطاء في ذاته، فإنّه لن يتوب بعد ذلك، إنَّ القلب ينتكس. الأحاديث الشريفة تقول: إنَّ الإنسان إذا أذنب ذنباً نقطت في قلبه نقطة سوداء، فإذا تاب زالت تلك النقطة، ثمّ إذا أخطأ تتوسَّع تلك النقطة، وبتتابع الخطايا تتوسّع النقطة السوداء في قلبه، حتّى يسودّ القلب وينتكس حتّى يصبح أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فيرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسَناً.
إنّك عندما تمتد في الخطايا، فإنّها تترك تأثيراً في عقليّتك، وتترك تأثيراً في روحيّتك، وتترك تأثيراً في إرادتك، فتكون عقليّتك عقلية الضلال، وروحيّتك روحية الانحراف، وتكون إرادتك إرادة المعصية لله سبحانه وتعالى، لهذا ليس هناك من طمأنينة في هذا المجال. والمطلوب أن نلتفت جيّداً إلى أنفسنا لنحافظ على سلامة الخطّ الإلهي المستقيم في شخصيّتنا، وذلك بأن ننفصل دائماً عن الأجواء التي نعيش فيها.
إنَّنا مشدودون إلى الحياة الاجتماعية من حولنا، وإلى أهلنا، وإلى أصدقائنا وإلى الأجواء السياسيّة والأمنية والاقتصادية من حولنا، ومن خلال هذا الإنشداد إلى كلّ هذه الأجواء، نحن نعيش الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ونعيش الغفلة عن ذكر الآخرة. إنَّنا نستغرق في الجوّ الاجتماعي، نستغرق في أجواء أهلنا وأولادنا وأزواجنا، نستغرق في أجواء العائلة، فنتعصَّب للأجواء العائلية تعصُّباً نستسيغ فيه حتّى قتل النفس التي حرَّم الله، وهكذا نستغرق في أجواء العصبية السياسية في ما ننتمي إليه من محاور حزبية سياسية حتّى نندفع بالعصبية إلى الدرجة التي نبرِّر لأنفسنا كلّ خطيئة وكلّ معصية، ونكون الظالمين بعد أن كنّا الثورة على الظالمين. هذا الاستغراق في الأجواء التي يخيَّل للإنسان فيها من خلال بعده عن الله، وغفلته عن ذكر الله، وعدم حسبان اليوم الآخر، يجعلنا نرى سيّئات أعمالنا حسنات {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً...} [فاطر : 8]. هذا الجوّ يحتاج منّا إلى مراقبة وتدقيق لأعمالنا "لا يغرَّنَّكَ سوادُ الناس من نفسك"، ربّما توحي لك نفسك أيّها الخاطئ بكلمات تزيّن لكَ أنّك مصيب، ربّما تكون في وضع اجتماعي أو سياسي يوحي إليك بأنّك المحسن، فيما أنتَ في الواقع مسيء. وبهذا تمتدّ في إساءتك، وتمتد في معصيتك، وترى دائماً أنّكَ لستَ مخطئاً. ولأنَّ الناس يصفِّقون لك، ويمدحونك، ويقدِّسون أخطاءك، ويباركون سيّئاتك، فإنّك تشعر بأنّك سائر على الخطّ في الوقت الذي تعيش فيه الانحراف الكبير عن الخطّ المستقيم.
التوبة تحمي الشخصية من الانحراف
إنَّ إثارة التوبة في حياتنا تتّصل بحماية شخصيّاتنا من أن تمتد في الانحراف، وفي الخطأ قبل فوات الأوان، أن نحميها من ذلك حتّى نلتفت إلى أنفسنا دائماً، والله من خلال ذلك يريد أن يعطيك المحبّة، يقول لك لقد أخطأت، ليست مشكلة "كلّ بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوابون" لقد أخطأت، ولكنَّ ربّك الله لا يلاحق الإنسان ليحاسبه على خطئه فيعذّبه. إنَّ الله يلاحق الإنسان الذي لا يخطئ وإذا أخطأ وتاب يرحمه، وهكذا فتح باب التوبة بأوسع من السماوات والأرض {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53] وهكذا يقول لك إنّي أقبل التوبة {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى : 25] ألاَ تحبّ أن تكون محبوباً عند الله، أخطأت صباحاً بكلمة مع زوجتك، شتمت زوجتك وأنتَ لا يحقّ لك أن تشتمها، لأنّها إنسان كما أنتَ إنسان، لم يجعل الله الزواج مبرّراً لأن يسبّ الإنسان زوجته، أو تسبّ المرأة زوجها، ليس مبرّراً ذلك؛ رأساً تَسامَحْ منها وتب إلى الله من ذلك، إذا أكلت حراماً استغفر الله بعد أن تنتهي، وقبل أن تنتهي من ذلك، وهكذا في كلّ المجالات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف : 201] ليست الخطيئة سوى حالة طارئة، يطوف الشيطان بك، فيحاول أن يضلّك عن معرفة الحقيقة، ولكنّك عندما تكون تقيّاً فإنّك تنتبه رأساً، فتنفتح لك الحقيقة من خلال انتباهك، لا تكن الغافل دائماً تذكَّر أنّ الله ربّك يراقبك، وأنّ هناك ملكين يحاسبانك، وأنّ هناك جوارح تسجّل عليك، وأنّ موقفك في الآخرة ما بعد الموت ينتظرك، تذكَّر ذلك وبادِرْ إلى التوبة بعد لحظة ودقيقة.
حقوق الله وحقوق الناس
والمعاصي نوعان: فهناك معاصٍ تتعلّق بك في علاقتك مع ربّك، وهناك معاص تتعلّق بك بعلاقتك بربّك وعلاقتك بالناس. أي هناك معاصٍ لها حقٌّ عام ومعاصٍ لها حقٌّ عام وحقٌّ خاص. ولكلّ معصية من هذه المعاصي طريقتها في التوبة؛ مثلاً لقد حرَّم الله عليك أن تشرب الخمر، وأن تزني، وأن تكذب، ولله حقٌّ عليك أن لا تعصيه في هذا المجال. إذا شربت الخمر نتيجة جهل أو نتيجة ظرف معيّن أو ما إلى ذلك، قل يا ربّي إنّي نادم، وإنّي تائب، يتب الله عليك، ليست هناك مشكلة. إذا كذبت في شيء لا يمسّ حياة الناس في ضرر، قل يا ربّ إنّي تائبٌ وسأكون الصادق في المستقبل، لا مشكلة. عندما تزني وتنتبه إلى نفسك وتقول: يا ربّي لن أعود إلى ذلك أبداً، تب إلى ربّك يتب الله عليك. لكن إذا شتمت إنساناً بغير حقّ، فإنّك بذلك أسأت إلى ربّك لأنَّ الله قال لكَ لا تشتم، أسأت إلى ربّك وخالفت أمر الله، عليك أن تستغفر الله على مخالفتك له. ثمّ عليكَ حقٌّ خاص، إنّك أسأت إلى كرامة هذا الإنسان عندما شتمته، سواء كان هذا الإنسان شخصاً أو جماعة، فلا بدّ أن تتسامح منه ليتوب الله عليك، إذا لم يُسقِط صاحب الحقّ الخاص حقّه، فمن الصعب أن تنال مغفرة الله، وأنتَ قادر على أن تعطيه حقّه. وهكذا عندما تسرق الناس، وثورة الناس هذه هي ثورة اللّصوص، لأنَّ اللّصوص يمثّلون حلفاً غير مقدّس بين لصوص الشرقية ولصوص الغربية، بين لصوص المسيحية وبين لصوص الإسلام، بين لصوص السُنّة والشيعة وبين لصوص الموارنة والأرثوذكس، هناك جماعة يعيشون الوحدة اللبنانية في مسألة اللّصوصية، يسرق بعض الناس السيارات من هنا ويرسلونها إلى الشرقية حتّى تباع هناك، ويسرق بعض الناس هناك بضاعة لكي تباع هنا. سرقت ولديك غطاء من حربك ومن حركتك ثم انتبهت ورأيتَ نفسك مخطئاً، بعد ذلك ماذا تفعل؟ هل يكفي أن تقول: اللّهم إنّي تائب، إنّ الله يقول لك: أين أموال الناس التي سرقت، أرجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، فإذا لم ترجع عين المال أرجع قيمته، وإذا لم تكن عندك قيمته إجمعها حتّى ترجعها إليه، وإذا خفت على نفسك أن يعرفك أرجعها إليه بدون أن يعرف بذلك، أو تتسامح منه في هذا المجال. لن يتوب الله عليك إذا لم ترجع كلّ مال سرقته إلى صاحبه، لأنَّ الله لم يحلّ لكَ أموال الناس. إنّ بعض الناس يتصوّرون أنّ الذي يمنعهم عن أكل أموال الناس هو وجود نظام رسمي، فإذا لم يكن هناك نظام، فالحلال هو ما أَحَلَّت اليد، والحرام هو ما لا أستطيع أن أبلغه، المسألة ليست كذلك، لأنَّ هناك يوماً جعله الله تعالى ليرجع كلّ حق إلى صاحبه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ...} [غافر : 17]. ما شعار يوم القيامة؟ ليس شعاراً سياسياً، الحديث الشريف يقول: "يؤتى يوم القيامة برجل، وإذا أعماله مثل الجبال لديه" أعمال خيريّة ومستوصفات، يساعد الفقراء فيحسده الناس على ذلك، ويأتي أصحاب الحقوق، وتنكشف الحقيقة، فثروته التي تصدَّق بقسمٍ منها وزكّى قسماً آخر، هذه الثروة جاء بعضها من السرقة، وأتى بالبعض الآخر من الاحتيال على الناس، وعندها لن تنفعه أعماله الخيرية، وتذوب حسناته حتّى لا يبقى منها شيء، لأنَّ أصحاب الحقوق هم أوْلى بها، وهكذا إذا لم يرد الإنسان لأصحاب الحقوق حقوقهم في الدنيا ويتسامح منهم، فإنّه سيلقى جهنَّم حتّى لو ملأت مشاريعه الخيرية الآفاق.
إنَّ أغلب الناس من مؤمنين وغير مؤمنين يعتبر أنّ الزواج يعطيه الحقّ في أن يكون ديكتاتوراً في البيت، يضرب امرأته بحجّة أنّه ليس لأحد علاقة بما يفعل، يضرب، يشتم، يتصرّف في أموالها، يضغط عليها في مهرها، يعمل حسب مزاجه، يضربها إذا رأى أنّ البيت ليس نظيفاً، وفي هذا المجال لا أحد تحت الغربال. تصوَّر أنّك تعصي الله في اليوم مئة معصية، في علاقتك مع زوجتك، لأنَّ الله قال: {... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة : 228] يوجد فرق بينك وبينها درجة واحدة فقط وحتّى هذه الدرجة مقيّدة بضوابط معيّنة.
وعندما تظلم زوجتك باعتدائك على حقوقها، فالمسألة صعبة. في مجتمعاتنا يتصرّف الرجل مع زوجته على أساس أنّ له مطلق الحريّة؛ لا، ليس لكَ مطلق الحريّة، هي إنسان وأنتَ إنسان، لا يجوز لك أنْ تشتم زوجتك كما لا يجوز لك أن تشتم زوجات الجيران، لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال زوجتك كما لا يجوز لك أن تأكل فلساً من مال الجيران، لا يوجد فرق أبداً: الزوجية تعطيك حقوقاً ضيّقة جداً، فهي لا تلغي إنسانية المرأة في الإسلام أبداً، حتّى مع أولادنا هناك بعض الناس يتعامل مع ابنه كما يتعامل مع كرسيّه أو حذائه، فكما إذا أراد أن يكسر كرسيه أو يقذف حذاءه، فإنّه يتعاطى مع ابنه بالأسلوب نفسه، وحجّته أنّ هذا ابني يعني هو ملكي.. هذا الأمر ليس صحيحاً، الله جعل الولد أمانة عندك، لتبني له جسمه، وتبني له عقله، وتبني له إيمانه، فإذا خنت الأمانة واتّخذت ولدك مجرّد أداة لتنفيس الضغط الذي تتعرّض له، كما هي الحال عندما تختلف مع صاحبك فتتضايق ثمّ تجد ولدك أمامك فتضربه لكي تنفِّس عن غضبك، هذا أمر لا يجوز، إذ لا يوجد فرق بين أن تضرب ولدك أو أن تضرب ابن الجيران، لأنَّ ابنك إنسان وليس مثلما تدَّعي أنّك أنتَ كنتَ سبباً في وجوده، الله جعلك سبباً في وجوده، ولكنّ ابنك إنسان مستقلّ عنك مئة في المئة. وجعل الله لكَ حقوقاً عليه وجعل له حقوقاً عليك كما جعل لك حقوقاً على الناس الآخرين. لا يوجد فرق، لا تتصوَّر المسألة سهلة، إنَّ ولدك سيقاضيك يوم القيامة إذا ظلمته، فأنتَ لست مسلَّطاً على ولدك أبداً، ابنك يمثّل شخصية قانونية شرعية مستقلّة كما أنتَ لكَ شخصيّتك.
لقد ذكرتُ لكم في مرّة سابقة الحديث النبويّ الشريف الذي يحدِّد شخصية المؤمن: "إنَّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا في باطل" يعني إذا أحببت لا أعطي الذي أحببته ما لا يستحقّه، المحبّة شيء والحقّ شيءٌ آخر، "إنَّما المؤمن"، يعني غير هذا ليس مؤمناً، الذي يحبّ ويعطي الذي يحبّه أكثر ممّا يستحق هذا ليس مؤمناً. إنّ المؤمن يبقى مع الحقّ حتّى مع مَن يحبّ، "إذا سخط لم يخرجه سخطه عن قول الحقّ"(1)، تخاصمت أنا وأنت وأصبح بيني وبينك مشاكل، أستطيع أن أتكلَّم عمّا أراه حقّي في حدود شرعية معيّنة، ولكن لا يجوز لي إذا كنتُ مختلفاً معك أن أتكلَّم عليك بكلام لا حقّ لي فيه. الاختلاف مسألة والحقّ مسألة أخرى.
ويقول الله في كتابه: {... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة : 8] اعدلوا حتّى مع أعدائكم، أعطوا أعداءكم العدل، أعطوا خصومكم العدل، قولوا الكلمات الجيّدة كما تقولون الكلمات الرديئة، هذا هو الإسلام، ثمّ قال: "وإذا قَدِرَ لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ"، إذا صار صاحب قدرة وصاحب سلطة، فلا يتعاطى ما ليس له بحق، وإذا أخطأ بحقّ أحد، فلا بدّ من أن يتسامح منه، وإذا لم يسامحه هذا المظلوم فيجب عليه أن يحاول بكلّ طريقة وإذا لم يستطع، عندها يرفع أمره إلى الله. إنّي أقرأ دائماً يوم الاثنين وأُكرِّره عليكم: "اللّهم وأيّما عبدٍ من عبيدك أو أَمَةٍ من إمائك كانت له قِبَلي مَظْلِمَةً ظَلَمْتُها إيّاه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وولده، أو غيبةٍ اغْتَبْتُهُ بها أو تحامُلٍ عليه بميلٍ أو هوى أو أَنَفَةٍ أو حَمِيّة أو رياء أو عصبيّة، غائباً كان أو شاهداً، حيّاً كان أو ميتاً، فَقَصُرَتْ يدي وضاقَ وُسْعي عن ردّها إليه والتحلُّل منه، فأسألُكَ يا مَن يملِكُ الحاجاتِ وهي مستجيبةٌ لمشيئته ومُسْرِعَةٌ إلى أرادته، أن تصلّي على محمَّدٍ وآل محمّد وأن ترضيه عنّي بما شئت" إذا لم تكن قادراً على أن ترجع لهذا الإنسان حقّه، وعرف الله منك صدق النيّة فسوف يتدخَّل الله ويرضي هذا الإنسان عنك.
منفّذ الجريمة ليس وحده المسؤول
وبالانتقال إلى الجوانب التي لها مدلول أمني وسياسي، نرى أنّ بعض الناس ليس مستعدّاً لأنْ يتعب نفسه بالجهد والعمل. ماذا يفعل؟ يعمل في المخابرات باعتبارها ـــ بنظره ـــ أسهل الأعمال، يبقى مرتدياً لباسه وربطة عنقه حتّى يسمع الأخبار من الناس، يسمع فلاناً ماذا يتكلَّم عن الدولة وماذا يتكلّم عن هذا الحزب، ويدفعون له معاشاً شهرياً، ويقولون له: نحن مستعدون لكلّ التكاليف، نشتري لك ما تريد، والمخابرات التي يلجأ إليها هذا الشخص إمّا مخابرات حزبية أو مخابرات رسمية أو أميركية أو فرنسية أو إسرائيلية.
إنَّ هذا الشخص الذي يقدّم المعلومات للأعداء، عن أوضاع بعض الناس الذين يتعرّضون للأذى الشديد بسبب ذلك، قتلاً أو سجناً، لقاء المال، وفي رأيه أنّه إذا زكَّى هذا المال وذهب إلى الحجّ، فإنَّ القضية تنتهي. هذا التصوُّر غير صحيح، ففي يوم القيامة يؤتى لهذا الرجل بقارورة تمتلئ دماً. ويُقال له: هذا نصيبك من دم فلان، ويرفض هذا الرجل الاتّهام باعتبار أنّه لم يقتل ولم يحمل سلاحاً في حياته، ويأتي الجواب، لقد سمعت كلمة عن فلان فنقلتها إلى جبّار فقتله، فأنتَ قاتل ولو بشكلٍ غير مباشر وهذا نصيبك من دمه. وهكذا يكون نصيبك من تعذيب فلان، ونصيبك من سجن فلان، هذه من المعاصي التي لا يغفرها الله حتّى يغفرها صاحبها لأنّها معصية عامّة، كذلك فإذا كنت عنصراً مخابراتياً وطُلِبَ منك أن تضع هذه السيارة المفخَّخة لتفجيرها في مكان يتجمَّع فيه الناس أو في مسجد، إنّ كلّ الذين يُقتَلون، أنتَ مسؤولٌ عن قتلهم شرعاً، وهكذا إذا طلب منك أن تفتن بين الناس وأن تزرع الإشاعات هنا وهنالك من أجل خلق وضع سياسي معيّن، أو وضع أمني معيّن على أساس أن يتقاتل الناس في ما بينهم أيضاً، في هذه الحالة كلّ قتيل يسقط أنتَ مسؤولٌ عنه.

لمن تعطي صوتك الانتخابي؟
وإذا انتقلنا إلى المجال الانتخابي، أنتَ ناخب تؤيّد فلاناً من دون أن تدرس شخصيّته، تؤيّده على أساس طائفي، أو على أساس أنّ عائلتك تؤيّد هذا الإنسان، أو يعطيك مالاً، ربّما صوتك يُنجح هذا الإنسان. هنا إذا شاركت في نجاح إنسان ظالم، فمعنى ذلك أنّك ستتحمَّل ـــ بنسبة صوتك وبنسبة دورك في نجاحه ـــ مسؤولية كلّ ما يقوم به من نتائج سلبية على مستوى الناس كلّهم. وتكرّ السبحة إذا انتخب هذا النائب رئيس جمهورية معيّناً أو أعطى الثقة لحكومة لا شرعية لها، أو صوَّت على مشروع فرض ضرائب على الناس، أنتَ وفي قبرك تتحمّل المسؤولية، هناك خطّ بريدي متّصل من المجلس النيابي إلى القبر، يقول أنتَ شاركت في مشروع ظالم. إنَّ الورقة التي تضعها في صندوق الانتخابات قد تغيّر واقعاً وترفع مشروعاً. فإذا كنّا معنيّين برضى الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفكِّر كثيراً قبل أن نحدِّد موقفنا.
بعض الناس يقولون لا علاقة للدين بالسياسة. ولكن في كلّ مسألة حلالاً وحراماً، شرب الخمر خطيئة، لكنّ انتخاب ظالم خطيئة أكبر من كلّ الخطايا الصغيرة، إنَّ شرب الخمر أخف، والزنى أخف من أن تؤيّد مَن لا يستحقّ التأييد. بعض الناس ينتخبون بعض السياسيين، ويقولون فلان السياسي يصلّي، فلان ذهب إلى الحجّ، لا يا جماعة، ليست هذه حجّة مقبولة، إذا كان هذا يصلّي فهو يؤدّي تكليفه، يذهب إلى الحجّ ليؤدّي تكليفه، المهمّ أن يصلّي لله ولا يصلّي للاستعمار، المهمّ أن يحجّ لله ولرضى الله لا أن يحجّ إلى بيوت المستعمرين والمستكبرين، هناك أُناس يذهبون إلى مكّة للحجّ ثمّ ينطلقون مباشرة إلى لندن وإلى واشنطن. لو ذهب لكي يتنزَّه فنحن نعذره، ولكنّه يذهب لكي يضيّق على شعبه، ويضيّق على أُمّته، يذهب فيزرع الأفخاخ لمستقبل أُمّته ومستقبل شعبه من خلال مصالحه التي يريد أن يضعها في خدمة الاستعمار.
عندما نعود إلى واقعنا وندرس حركة الفتنة التي نعيشها، في كلّ ما حدث من دمار وقصف وتشريد وقتل وإسقاط لكلّ القضايا التي تتحرّك في حياتنا، نلاحظ أنّ ما حدث كان نتيجة مواقف أُناس طيّبين عاشوا سذاجة الفهم السياسي، وعاشوا سذاجة الفهم الديني، وعاشوا سذاجة فهم الناس، فأعطوا تأييدهم لمن لا يستحقّ التأييد، ورفضوا مَن لا يستحقّ الرفض، "علامة الإيمان أن تُوالي أولياء الله وأن تُعادي أعداء الله"، "أن تحبّ في الله وأن تبغض في الله"، "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً إلى قلبك، فإذا كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك؛ والمرء مع مَن أحبّ"(1). الموقف السياسي يمثّل في العمق الموقف الديني. إنَّ ديننا سياستنا وسياستنا ديننا.
الحبّ والبغض في الله
جاء في بعض الأحاديث: إنّ الناس يجتمعون يوم القيامة، فينادى: أين أهل الفضل؟ فيقوم جماعة من الناس ويقولون: نحن أهل الفضل، فيقال لهم: ماذا كنتم تفعلون في الدُّنيا؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله ونبغض في الله، عندما نحبّ أحداً نحبّه على أساس قربه من الله، وعندما نبغض أحداً نبغضه على أساس بُعده عن الله. على هذا الأساس كنّا نعيش، فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب. القصّة صعبة أن تتمرّد على عصبيّتك الذاتية وعصبيّتك العائلية والسياسية والطائفية، التمرّد على العصبية عمل صعب لكنَّ النتيجة عظيمة "ادخلوا الجنّة بغير حساب" أن تحبّ في الله وتبغض في الله، تلك هي المسألة التي يجب أن تربّي نفسك على أساسها، ألاَ يكون هناك فاصل بينك وبين الله. هل يعجبكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ أنا أشكّ. لماذا؟ لأنّ الحديث يقول: "إنَّ عليّاً مع الحقّ والحقّ معه يدور كيفما دار"(2)، لم يقف عليّ (عليه السلام) موقف باطل في حياته، بل كان هو والحقّ صنوين في القضايا الكبيرة والصغيرة، حتّى قال: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(3)، فيما نحن نترك مواقع الحقّ التي هي مواقع رضى الله.
كيف نتحوّل إلى منافقين
إنَّ هناك كثيراً من الناس لهم علاقات مع الاستكبار فيما الله يقول: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل : 23]. إنّ المطلوب هو أن لا تنحني للمستكبرين وأن لا تكون أداة في خطّ استكبارهم بمقدار ما تقوّي في بلدك الخطّ الاستكباري الأميركي أو الأوروبي أو الروسي أو أيّ خطّ استكباري؛ فأنتَ تتحمّل مسؤولية كلّ النتائج بحجم تقويتك لهذا الخطّ، ولاسيّما أولئك الذين يتعاطفون مع "إسرائيل" بأيّ نوع من التعاطف، فإنّهم يتحمّلون كلّ ما تفعله "إسرائيل" في لبنان أو في المنطقة، كلّ شخص بحسب حجمه في هذا المجال.
أليسَ الله يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً*الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً*وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ...} [النساء: 138 ـــ 140] هذا بالنسبة للذي يجلس معهم، فكيف بالذي يتعاون {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} إنّ الله سوف يسألني ويسألكم غداً عن هذا الكلام، فهو ليس كلام خطابة، فكِّروا فيه، إنَّ الله يقول: {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}، {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} إنّك إذا جلستَ قرب شخصٍ يهاجم الإسلام والمسلمين ويهاجم المجاهدين ولم تستنكر، الله يقول: إنّك إذاً مثلهم، فكيف إذا شاركت وأصبحت جزءاً من الخطّة؟ لا أحد ينفعنا غداً، لا آباؤنا، ولا أمّهاتنا، ولا مسؤولونا، لا أحد أبداً، كلّ واحد يفكّر في نفسه.

الدين والمسألة السياسية
إنَّ هذه المسألة سياسية تتّصل بالمسألة الدينية، لأنَّ الشخص الذي لا يكون خطّه السياسي متحرّكاً مع ما يريده الله من عزّة وعدالة وخير للمؤمنين والمستضعفين، فلا دين له. ليست القضية أن لا أمانة له بل لا دين له، فكيف بالذي يسير مع الظالمين. إنَّ المسألة الدينية ليست في الصلاة والصوم فقط إنّما نعتقد أنّ عمق المسألة الدينية هو في قضايا العدالة والحريّة، أليسَ مفهوم التوحيد أساس الدين، ما معنى "لا إله إلاّ الله"؟ أن تكفر بكلّ سلطة غير الله، وتعبد الله وحده، أنتَ حرّ أمام الكون كلّه، وعبد أمام الله فقط، غاية الدين هي تركيز العدالة، الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...} [الحديد : 25]. كلّ الرسالات تستهدف تحقيق العدل. إنَّ جوهر الدين، وعمق المعنى الديني إنّما هو إقامة العدل والحريّة. فكيف يريدوننا أن نفصل بين الدين وبين السياسة، أنتَ لن تكون متديِّناً إذا كنتَ ظالماً، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ عبداً لغيرك، ولن تكون متديّناً إذا كنتَ مشاركاً للظالمين في مشاريعهم الظالمة.
وقف الحرب ومصلحة الثورة الإسلامية
وعلى هذا الأساس يجب أن نراقب الوضع كلّه. الله سبحانه وتعالى أعطانا الخطّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة : 119] ونحن عندما رأينا الخطّ الإسلامي المتمثّل بقيادة الإمام الخميني صادقاً مع نفسه وصادقاً مع ربّه، وصادقاً مع أُمّته، يجاهد نفسه حتّى في ما يكره لمصلحة الأُمّة، وقفنا معه، لأنَّ الله أرادنا أن نكون مع الصادقين، ولهذا نحن عندما نتحرّك من موقع التأييد لقراراته السياسية المدروسة على أساس إسلامي، فإنّنا ننطلق من فهم كتاب الله وسُنّة رسول الله وسيرة الأئمّة والصالحين، لهذا أيّدناه. نحن في هذا المجال لا نفكّر بأن يكون التأييد على أساس أنّ أيَّ قرار يصدر من هناك معصوم، كما أنّ القيادة الإسلامية هناك لا تدّعي لنفسها العصمة، بل تملك الاعتراف لنفسها بالخطأ إذا كان هناك خطأ، وتقول للعالَم كلّه: إنَّنا أخطأنا في هذا الخطّ السياسي، نحن قلنا دائماً: إنّ على القاعدة أن تفكّر مع القيادة حتّى تتكامل القاعدة مع القيادة، في الوعي الفكري للمسألة السياسية، وفي هذا المجال نحن نفكّر وهم يفكّرون، وعندما فكّرنا في ما حدث، فإنّنا فهمنا الظروف التي يراد من خلالها محاصرة الثورة الإسلامية والعمل على أساس عزلها عالمياً، ومحاصرتها اقتصادياً والضغط عليها عسكرياً على مستوى الوضع العالمي، حتّى تُستنزَف استنزافاً يسقط الثورة في المستقبل فتفرغ من كلّ قوّة.
إنَّ الموافقة على القرار الدولي "598" القاضي بوقف الحرب بين العراق وإيران، تشكّل عملية التفاف على الخطّة المدروسة التي كانت تراهن على أنّ إيران لن ترضى بوقف إطلاق النار، ممّا يؤدّي إلى مواصلة العالم المستكبر محاصرتها من كلّ جهة وإسقاطها تحت حجّة أنّها هي التي لا تريد وقف إطلاق النار، وهي التي تريد الحرب وهي التي لا تريد أن تعالج القضايا بالطرق السلمية، لهذا كان هذا القرار مربكاً لأكثر من جهة دولية وإقليمية، وإذا كان المؤمنون قد شعروا بوجود بعض الضغط النفسي من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المحيطة بالقرار في ما سبقه أو في ما يعيشه الآن، فإنَّ عليهم أن يتذكَّروا قول الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139 ـــ 140]، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء : 104].
إنَّ الإعلام يتحدّث في هذه الأيام بطريقة معيّنة، وكأنّه يوحي بأنّ قرار وقف إطلاق النار يعني تنازل الثورة عن كلّ شعاراتها، وتنازل الثورة عن استراتيجيّتها في تحريك الإسلام ليكون معادلة سياسية في العالم، وإنّ الإسلاميين من خلال هذا الضغط سوف يتراجعون عن قضاياهم، وسوف يتنازلون أمام التحدّيات.
إنَّ مَن يقرأ خطاب الإمام الخميني في هذه المسألة يشعر بأنّه ليس هناك أيّ تغيير في الاستراتيجية والحركة السياسية التي تواجه الاستكبار كلّه، ولكن قد تتعدَّل الأساليب والوسائل ربّما لتسلك أسلوباً تعتقد أنّه يمكن أن يكون موضع نتيجة إيجابية، حيث تجعل الأوضاع الضاغطة من هذا الأسلوب أسلوباً غير عملي، فتنتقل إلى أسلوبٍ آخر وإلى أسلوب ثالث، ولكن يبقى الهدف وتبقى الغاية، إنَّ الإسلاميين في كلّ العالم، سواء كانوا في إيران الإسلام، أو كانوا في المنطقة العربية وغير المنطقة العربية، وأعني بالإسلاميين الذين يؤمنون بالإسلام المقاومة والإسلام المجاهد الذي انطلق في خطّ رسول الله ليجاهد وليقاوم الاستكبار والاستعمار والصهيونية والظلم لا الإسلام الذي يعمل في دائرة الاستخبارات الأميركية أو في دائرة الاستخبارات الأوروبية أو غيرها من الاستخبارات في العالم، إنَّ الإسلاميين الذين يتحرّكون من خلال وعيهم للإسلام كخطّ للعقيدة وللحياة، ووعيهم للإسلام كخطّ للحركة في خطّ الجهاد السياسي والعسكري والأمني، سوف يتابعون الدرب وسوف يكونون الواعين لكلّ الظروف ولكلّ المعطيات، فلا يسقطون أمام ضغط بل يعملون على أساس أن يتعاملوا مع الضغط بشكلٍ واقعي، ليتخفَّفوا من هذا الضغط أو ذاك، وتظلّ شعاراتهم شعارات استراتيجية ولكنّها تتحرّك بطريقة واقعية، إنَّ الإسلاميين ليسوا مثاليّين يمارسون الحركة السياسية في الهواء ولكنّهم يغيِّرون الواقع بأدوات الواقع، وينطلقون من خلال المرونة العملية الحكيمة التي انطلق بها رسول الله، ومن خلال الأساليب العملية التي تحرَّك بها الإمام عليّ (عليه السلام) في كلّ ما واجهه من أحداث، وإنّ الإسلاميّين لا يدعون لأنفسهم العصمة بل يعترفون بأنّهم قد يخطئون وقد يسيؤون ولكن لديهم الشجاعة بأنْ يعترفوا بالخطأ، وكيف يصحِّحون هذا الخطأ، وفي الندم على الخطأ، وفي التوبة أمام الله وأمام الناس من كلّ هذا الخطأ، ليس معنى أن تكون إسلامياً أن تقدِّس أخطاءك، بل عليك أن تعترف بأخطائك، وأن تصحِّحها بكلّ شجاعة.
حركة الشعوب والوفاق الدولي
إنّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مسألة الوفاق الدولي، ويعتبر أنّ الوفاق الدولي هو المسؤول عن هذا الموقف الذي اتّخذه الإمام (حفظه الله) في وقف إطلاق النار، ويتحدّثون عن مسألة الوفاق الدولي كما لو كان قضاءً وقدراً، ويقولون: إنّ الوفاق الدولي سوف يرتّب العالم على طريقته، وسوف يحلّ كلّ المشاكل، وعلينا أن نخضع لقرار الوفاق الدولي في المسألة الخليجية، وفي المسألة الفلسطينية، وفي المسألة اللبنانية، وفي غيرها من المسائل. نحن نؤكّد أنّ الوفاق الدولي قد يكون حلاًّ، وقد يكون مشكلةً، قد يكون حلاًّ إذا توفَّر على رعاية مصلحة الشعوب، وقد يكون مشكلة إذا كان للضغط على رعاية مصلحة الشعوب، ونحن نعتقد أنّ الوفاق الدولي يملك إمكانية الضغط على كثير من الشعوب، وعلى كثير من القضايا. ولكن نريد أن نقول لنؤكّد حقيقة تاريخيّة وإنسانية، إنّ القوى الكبرى عندما تتّفق قد تربك الواقع، وقد تضغط عليه كثيراً، ولكن تبقى للشعوب إمكانية أن تمارس ضغوطاً في أكثر من موقع، وتبقى للشعوب إمكانية أن تجد أيّة ثغرة في هذا الموقع أو ذاك. المسألة أنّ الشعوب تستطيع أن تربك كثيراً من مواقع الخلاف ومن مواقع الوفاق.
المسألة هي أن تملك الشعوب إرادة الحريّة والعزّة في إرادتها، وإرادة الإيمان في مواقفها، ولهذا هيّأ الاستعمار في كلّ مواقع العالم الإسلامي وفي كلّ مواقع العالم الثالث أنظمة تمنع شعوبها من أن تتنفَّس، وتمنع شعوبها من أن تفكّر، وتمنع شعوبها من أن تتحرّك، حتّى ينطلق الخطّ السياسي الدولي هنا وهناك من دون معارضة.
إنَّ الاستكبار يتحدّث بكثير من كلمات الإرهاب والتطرّف في وجه كلّ الذين يريدون أن يقاوموا أو يبحثوا عن الحريّة، إنّنا نريد أن نقول كما تعلّمنا دائماً، كما علَّمنا الله في القرآن، أن ننظر إلى الأقوياء في نقاط ضعفهم وأن نتعامل معهم على هذا الأساس.
إنَّ هناك وضعاً جديداً في المنطقة وغيرها جاء بعد قمّة موسكو، ولكن علينا أن نواجه القضايا بدراسة كلّ المشاريع التي يرسمها الوفاق الدولي، لنختار منها ما يتوافق مع استراتيجيّتنا، ونرفض منها ما لا يتناسب. قد لا نستطيع أن نتكلّم بلغة عنترية، ولا بلغة حماسية، قد لا نستطيع أن نضغط فوق العادة، ولكنّنا نستطيع أن نضغط بنسبة عشرة في المئة ويأتي جيل يضغط بنسبة عشرة في المئة أخرى، وهكذا حتّى تتكامل الضغوط، فكِّروا دائماً أنّ القوى الكبرى لا تمثّل القضاء والقدر، فكّروا دائماً بوعيكم الإسلامي الذي نريده أنْ يتحوّل إلى وعي سياسي، عندما تقولون إنَّ هناك دولة كبيرة وقوّة كبيرة، تذكَّروا أنّكم في مآذنكم في كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، وفي صلاتكم كلّ يوم تقولون الله أكبر عدّة مرّات، قولوا "الله أكبر" حتّى تفكّروا أنّه ليس هناك كبير إلاّ والله أكبر منه، وأنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إذا عرف الذين آمنوا أن يدافعوا عن أنفسهم، أو أن يدافعوا عن المؤمنين، وعن رسالات الله.
لا قيمة للعروبة بدون الإسلام
إنَّ علينا أن نفكِّر بهذه الطريقة حتّى لا نسقط أمام الإعلام الذي يخوض ضدّ الإسلاميين المقاومين وضدّ كلّ الذين يحملون لواء الحريّة، حرباً نفسية تسقطهم قبل الدخول في أيّ معركة. لا بدّ أن نفكّر بهذه الطريقة وأن نختزن إيماننا حتّى نوظّفه في خطّ حركتنا السياسية من أجل أن يكون الدين كلّه لله، ومن أجل أن تكون الحريّة والعدالة في طريق الله. ثمّ نريد أن نقول من خلال هذا الجوّ الجديد الذي تحرّك من خلال قرار وقف إطلاق النار، لكلّ المنطقة العربية التي عملت لأنْ يتّخذ الصراع ما بين إيران وما بين النظام العراقي طابع الصراع العربي ـــ الفارسي، إنّنا نريد أن نقول لهم لا تفكِّروا بهذه الطريقة، إنّكم تقولون: إنّكم مسلمون، عليكم أن تعرفوا أنّ الإسلام لا يعادي العروبة، لكنّه يتعادى مع حركة بعض العروبيّين الذين يريدون أن يوظِّفوا العروبة في خدمة الاستعمار، ويريدون أن تكون العروبة شيئاً مواجهاً للإسلام. إنَّ قرآننا عربي وإنّ الإسلام انطلق في ساحة العروبة، وإنّنا نقول: لا قيمة للعروبة من دون الإسلام، ولا خطّ للعروبة إلاّ خطّ الإسلام، وبهذا سيتكامل الإسلام مع العروبة، وتتكامل العروبة مع الإسلام وينفتح الإسلام على العالم كلّه. المهمّ أن ينفتح العرب على العالم من موقع الإسلام كما انفتحوا على العالم ومثَّلوا قوّة ذات شأن من خلال الإسلام، إنّنا نريد أن نقول لكم إنّنا نعرف القيادة الإسلامية في إيران جيّداً ولاسيّما المتمثّلة بالإمام (حفظه الله) الذي لا يفرِّق بين إنسانٍ وآخر، لكنّه يرفض الظلم مهما كانت طبيعته القومية.
حماية الخليج مهمّة دول
لقد طالبت إيران بتحديد المعتدي، فلماذا تهرّب الجميع من ذلك؟ إنّها طالبت بتحديد المعتدي بعقلٍ بارد فإذا كانت هي المعتدية كونوا ضدّها جميعاً وإذا كان الآخرون هم المعتدون فكونوا ضدّهم جميعاً، لأنَّ الله لا يريد منكم أن تكونوا مع المعتدي. إنَّنا نريد لهم أن يتفهَّموا القضية باعتبار أنّها تتّصل بحريّة المنطقة كلّها. إنّ إيران أعطت الفرصة الآن لحلّ هذا الواقع بطريقة سلمية، ونقول لدول الخليج بالذّات في هذه المرحلة، لقد شعرتم بكثير من الارتباك والقلق والخوف نتيجة الضغوط التي مورست عليكم من أكثر من جهة، إنَّ إيران دعت منذ البداية ألاّ يكون هناك في الخليج وفي مياه الخليج أساطيل أجنبية أميركية أو أوروبية أو سوفياتية تريد السيطرة على المنطقة بحجّة حماية حريّة الملاحة في الخليج وحماية دول الخليج، وقد دعت إيران الإسلام منذ البداية إلى أن تكون مسألة حماية أمن الخليج من خلال توافق دول الخليج وفي مقدّمتها إيران حتّى لا تكون هناك أيّة سيطرة على أيّ دولة وأيّ شعب، ونحن نعتقد أنّ الفرصة سانحة الآن للتكامل مع إيران الإسلام. وحيث إنّكم تتحدّثون باسم الإسلام، فإنَّ من الممكن أن يكون هناك تكامل على أساس أن تقفوا جميعاً مع إيران الإسلام التي أعلنت أنّها لا تريد بأحد شرّاً، ولكنّها لا تريد أن يصنع الشرّ ضدّها أيّ أحد، إنَّ من الممكن الآن أن تتكاملوا لتفرضوا على الأساطيل الأوروبية والأميركية الانسحاب من مياه الخليج لتكون هناك خطّة أمنية لحفظ الخليج بالشكل الذي لا يسمح لأيّ جهة دولية بأنْ تعمل ضدّ مصلحة أحد. إنَّنا نعتقد أنّ الفرصة سانحة لأكثر من موقف في هذا الاتجاه ممّا يحقّق كثيراً من الأوضاع السياسية المنفتحة وممّا يكون في مصلحة الجميع.

لبنان موضع شدّ وجذب
في ختام الحديث نؤكّد أنّ المسألة عندنا هنا في لبنان لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات؛ فليست هناك أيّة ضمانة في أيّ وضع يمكن أن يحقّق نتيجة، لا على مستوى الاستحقاق الدستوري الذي هوَّلوا به ولا على مستوى قضايا الإصلاح. إنَّ المسألة لا تزال موضع شدّ وجذب بين العوامل المحليّة والإقليمية والدولية في طبيعة كلّ ما يراد صنعه في هذا البلد، ولهذا فإنَّ علينا أن نعرف أنّنا نتحرّك في ساحة مفتوحة على كلّ الرياح التي تتصادم، وعلينا أن نعرف شيئاً أساسياً، وهو أنّ مسألة الإصلاح في لبنان ليست من المسائل المهمّة لكلّ دول القرار المحلي والإقليمي والدولي، لأنّنا وصلنا إلى نقطة أصبح الحديث فيها عن الإصلاح حديثاً، ليس بذي موضوع، لقد أصبح الحديث: هل إنَّ الرئيس القادم(1) يمكن أن يوقِّع على ورقة الإصلاح أو يتعهَّد بأنّه سيقوم بالإصلاح، أم أنّ البيان الوزاري القادم يمكن أن يختزن ذلك أو لا يختزن؟ هذه الدولة الكبرى تطرح شيئاً، وتلك الدولة الصغرى تطرح شيئاً آخر. والناس هنا في لبنان، هؤلاء الذين أعطوا أدواراً أن يصرِّحوا وأعطوا أدواراً أن يهدِّدوا وأعطوا أدواراً أن يسالموا وأعطوا أدواراً شكلية تحفظ مكانتهم عند شيعتهم، ولكن لم يعطوا أدواراً أن يصنعوا أدوارهم بأنفسهم، لأنّهم لم يعطوا صلاحية لذلك.
إنّنا لا نريد أن نوجّه اتّهاماً لأحد. الواقع هو الذي يوجّه الاتهام، ولكنّنا نريد أن نوجّه للشعب الذي عانى والذي دمّرت كلّ مصالحه، والذي قُتِلَ خيرة أبنائه، نريد أن نقول لهم ليست هناك ضمانات بأن يتغيَّر الوضع الطائفي في البلد، وليست هناك ضمانات بأن يكون هناك إصلاح في البلد، ربّما كانت هناك مشاريع دولية وإقليمية تنتظر أوضاعاً معيّنة في الداخل والخارج، ولكن ماذا هناك؟ ليست هناك ضمانات فعلية، فحتّى لو تعهَّد هذا الرئيس ووقَّع، أو حتّى لو فرضنا أنّ البيان الوزاري صَدَر لأنّنا تعوَّدنا في هذا الشرق، كلّه، أن يلحس الموقّعون شهاداتهم أو أن يحذف الكثيرون بياناتهم. إنّ المسألة ليست مَن يحمل رسالة لإنقاذ البلد، بل مَن هو الذي يحمل طموحات أن يحكم البلد ولو على حساب الناس.
وفي نهاية المطاف ألفت انتباهكم إلى نقطة: هناك كثير من الأسماء تتداول بين المعارضة وبين الحكم، أتعرفون ما هي بعض الطروحات؟ إنَّ هناك أكثر من مليار دولار يُقال إنّ الحكم سرقها وهو يريد أن يأتي رئيس لا يفتح الدفاتر، لا يفتح دفاتر مصرف لبنان، ولا يفتح دفاتر أخرى، المهم أن يأتي رئيس يعفو عمّا فعله الناس بعضهم ببعض، ويعفو عن الحكم بما فعله بالناس، أن يأتي هذا الرئيس بالرئيس الذي يريده حتّى يغفر له كلّ سرقاته، وهكذا نحن بقرة حلوب لكلّ الرؤساء والمترئسين والمستوزرين، هؤلاء الذين أعطاهم الاستعمار حريّة أن يسرقوا الناس وأن يظلموهم وأن يضيِّعوهم في كلّ متاهات المشاريع السياسية، وكلّ عهدٍ وأنتم بخير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
29/7/1988

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية