الإصلاح في حركة الدعوة(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114].
الإنسان بين حريّة الاختيار والمسؤولية
هذه الآية تريد أن تؤكّد للإنسان كيف يكون إنساناً منفتحاً على الناس من حوله، على أساس أن يكون العنصر الخيِّر الذي إذا فكَّر في خير الناس، وإذا تكلَّم سرّاً أو علناً مع الذين يدير معهم القضايا فإنّه يتكلّم بخير الناس، على أساس أنَّ الله أراد للإنسان في الحياة عندما خلقه، أن يستخدم طاقاته التي أنعم بها عليه في طريق الخير لا في طريق الشرّ، كأنَّ الله يريد أن يقول لكلِّ واحدٍ من عباده إنّ طاقاتكم لم تصنعوها أنتم، أنتَ لم تصنع عقلك، لم تصنع سمعك وبصرك، أنا الذي صنعتُ لك كلّ شيء وأنا ربّك الذي خلقتك ولقد أعطيتك هذه الطاقات التي من الممكن أن تحرِّكها للخير ويمكن أن تحرّكها للشرّ. ولكنّي عندما أعطيك حريّة الإرادة، أردتك أن تتحسَّس مسؤوليّتك أمامي أنا ربّك، لتتحسَّس مسؤوليّتك أمام الحياة وأمام الناس. أُريدُ منك أن توجِّه إرادتك في طريق الخير، وعلى هذا الأساس فإنّي عندما منحتك حريّة الحركة، لم أمنحك حريّة أن تختار الشرّ وأنت تقدر على الخير، فإذا فعلت ذلك فإنّني سأُعاقبك. وإذا حرَّكت الخير في حياتك، وإذا عشت حياتك وأنت تحرِّك فكرك للتخطيط للخير، وأنتَ تطلق لسانك، ليتكلَّم بكلمة خير وأن تحرِّك يديك ورجليك وتسمع بأُذنيك وترى بعينيك، لتجعل ذلك كلّه في خدمة الخير، إذا فعلت ذلك من أجل أن تحصل على مرضاتي؛ فسوف أؤتيك أجراً عظيماً.
عليك أن تفكِّر وأنتَ الآن في الدنيا؛ الله يقول لنا ذلك، فكِّر يا عبد الله وأنتَ تملك في الحياة حريّة الحركة، فالله لم يقيّد يديك حتّى لو فعلت بهما الشرّ، ولم يقيّد رجليك، ولم يطفئ النور في عينيك، ولم يعطّل السمع في أذنيك، ولم يجمّد التفكير في عقلك، ولم يمنعك من النطق بلسانك، لم يفعل ذلك ربّك، لكنّه قال: يا عبد الله، اختر بين أمرين؛ بين أن تُقْبِل إلى الله وأنتَ تحمل الشرّ على ظهرك لتواجه العقوبة في ناره، أو أن تحمل الخير في قلبك وعقلك ولسانك وسمعك وبصرك ويديك ورجليك، ليقول لك الله: مرحباً بعبدي الذي عاش حياته من أجل أن يحصل على رضاي، وتألَّم وتعذَّب وحارَبَ شهوات نفسه، وحارَبَ الذين يريدون أن يضلّوه وابتعد عنهم. مرحباً بعبدي الذي أطاعني سأدخله جنّتي {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
احبس نفسك عن الشرّ
هل تحبّ هذا النداء؟ هذا النداء يحمّلك مسؤولية. فإذا أردت وأنتَ تغمض عينيك للمرة الأخيرة أن يقول ربّك لنفسك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} فلا بدّ أن تتعب، ولا بدّ أن تجاهد نفسك، ولا بدّ أن تتلمَّس مواقع الخير في نفسك. أغلق سمعك عن كلمة شرّ، أغلق عينيك عن كلّ موقع شرّ يراد لك أن تسير فيه، أغلق عقلك عن أن يخطِّط للشرّ، احبس يديك عن أن تستعمل بهما الشرّ، احبس رجليك عن أن تسير بهما إلى مواقع الشرّ، ما رأيك في ذلك؟ هل تحبّ هذا النداء، أم تحبّ النداء الآخر؟ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 30 ـــ 37]. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، وأحكم سفينتك في هذه الأمواج، أمواج الشرّ والضلال التي تتقاذفك ذات اليمين وذات الشمال، فكِّر أن تحكم سفينتك قبل أن تغرقك الأمواج، وأنتَ تقول لنفسك ستركب الأمواج. إنَّ الذين يركبون الأمواج إذا لم يكن ركوبهم لها من موقع ثابت فستقلبهم الأمواج، وتتقاذفهم إلى عمق البحر.
عمى القلب أخطر من عمى العين
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [النساء : 114] كثير من أحاديثهم، التفتوا وأنتم تسمعون الآية، تذكَّروا أحاديثكم في السهرات، وتذكّروا أحاديثكم في اجتماعاتكم الحزبية والحركية والعائلية والبلدية والطائفية وما إلى ذلك، كيف تتحدَّثون؟ ما موضوعات حديثكم؟ ماذا تريدون؟ قد يتحدّث بعض الناس: كيف نقتل بريئاً وكيف نخطف بريئاً أو نسجنه أو نعذّبه أو نأخذ مال هذا بغير حقّ أو نعتدي على عرض هذا. وقد يفكّر الناس بذلك عندما يجتمعون بشكلٍ سرّي والله يحيط بهم ويقول إنَّ أغلب نجواكم، والنجوى عبارة عن الحديث السرّي الذي لا يعرف أحد مضمونه {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} لأنَّ كثيراً من نجواهم تتركَّز على إفساد حياة الناس وإيذائهم وتعطيل مصالحهم وإلقاء الفتنة بينهم، وإثارة الإشاعات الكاذبة والاتّهامات الباطلة التي تثير المشاعر وتوتّر الأعصاب، أو تحرِّك الأنانيات الشخصية أو الأنانيات العائلية أو الأنانيات الحزبية والسياسية أو كلّ ما يثقل حياة الناس.. الله يقول لا خير فيها. وإنْ لم يكن فيها خير فمعنى ذلك أنّكم أضعتم حياتكم سدىً في ما تحدّثتم به، وستواجهون المسؤولية عمّا أضعتم حياتكم فيه. سيقول الله لكم: لقد كان لكم فرصة أن تصنعوا الخير، فلماذا أطعتم غرائزكم وأطعتم كبراءكم والمستكبرين منكم والطّاغين والكافرين والظالمين؛ لماذا أطعتموهم في معصيتي؟ وتقول {... رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ...} [المؤمنون: 99 ـــ 100]، يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ العائلي والعصبية العائلية فأغشت عيني عن الحقيقة. يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ الحزبي والعصبية الحزبية فأغلقت عقلي عن الرؤية الواضحة، كنتُ غارقاً في أجواء العصبيّات الطائفية وغير الطائفية فأفقدتني رؤية الأشياء بطريقة واقعية، وها أنا عرفت ذلك، الآن انكشف عنّي الغطاء كما قلت في كتابك عندما تحدّثت {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ*وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ*وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ*وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ*لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 18 ـــ 22] الآن ترى جيّداً... في البداية أغشت العصبيّات عينيك وقلبك، لأنَّ للإنسان عينين في قلبه، يرى فيهما الأشياء المعنوية كما له عينان في وجهه يرى فيهما الأشياء المادية. وعمى القلب أخطر من عمى العينين، لأنَّ الإنسان إذا كان أعمى البصر في قلبه فلا تفيده عيناه في وجهه {... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46]، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 125 ـــ 126].
كيف نحرِّك كلامنا في طريق الخير
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} معنى ذلك أنّ أكثر كلامكم، ليس فيه خير، ليس له طعم، لا تستفيدون منه، بل يضرّكم، لهذا ناقشوا كلامكم، وحاسِبوا كلامكم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} دلّنا يا ربّنا على الخير، تريد منّا أن يكون كلامنا كلام خير، ونجوانا نجوى خير، دلّنا يا ربّنا على الخير {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} في الحياة حاجات للنّاس الفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل والمحرومين، وللمشاريع التي تخدم الناس في حاجاتهم. وللجهاد في سبيل الله حاجات، وللدعوة في سبيل الله حاجات، ولكلّ ما يرفع مستوى الحياة حاجات. تريد أن تتحدّث، خطِّط مع أصدقائك، مع إخوانك، استنفر جاهك، استنفر علاقاتك، استنفر إمكاناتك، حرِّك فكرك حتّى تهيّئ السبيل للناس، لأنْ يلتقوا على الصدقة يدفعونها. والصدقة هي كلّ مال تدفعه في سبيل الله، وإذا وسَّعنا الصدقة فهي تشمل كلّ علم تنفقه في سبيل الله، كلّ قوّة تنفقها في سبيل الله، كلّ جاه تحرّكه في سبيل الله، كلّه صدقة. الكلمة الطيّبة صدقة.
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء : 114]، وكلمة المعروف تتّسع لكلّ ما شرَّعه الله من أعمال الخير، ممّا أوجبه الله على الناس أو ممّا استحبَّه الله للنّاس. المعروف الذي كان أساس الرسالات فالرسل جاؤوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. والله قال لنا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 104] والحسين (عليه السلام) وضع عنوان ثورته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" والنهي عن المنكر يدخل في المعروف.
إنَّ المعروف الذي يمثّل مواقع محبّة الله ومواقع رضى الله ومواقع البعد عمّا يسخط الله، هذا المعروف يبني لك حياتك، ليعطيك الاطمئنان والاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع، لأنَّ الناس إذا تعاملوا بالمعروف، وعرف كلّ واحدٍ منّا أنّ له حقّاً وعليه واجباً، وأنّ الله لم يخلق الحياة لهذا الشخص، فإنَّ المجتمع يعيش الاستقرار والطمأنينة.
فالحياة لي ولك وللآخرين، ونِعَم الله لي ولك وللآخرين. ليس لي أن أحتقر الآخر، بل لا بدّ لي من أن أعيش على أنّك موجود معي، جداري على جدارك. والطريق لي ولك والساحة العامّة لي ولك، وما خلق الله من ماء وغير ذلك لي ولك، ليس لك أن تستأثر عليَّ بشيء لمصلحتك الذاتية، ولا حقّ في أن أستأثر عليك بشيء لمصلحتي الذاتيّة. الحياة شركة بين عباد الله، ولقد جعل الله لكلّ إنسان دوراً وساحة وحقّاً وإمكانيات، فعليه أن لا يتجاوز حقّه لأنّ تجاوز الحقّ يمثّل تجاوزاً لحدود الله، ومَن يتجاوز حدود الله فإنَّ الله لا يرضى عنه.
إنَّ عليك أن تأمر بالمعروف على المستوى الخاص والعام، وأن تحاول في كلّ مجال من مجالاتك، إذا انحرف الفرد أن تنبّهه، وإذا انحرف المجتمع فحاول أن تنبّهه وإذا انحرف الحاكم فحاول أن تنبّهه، وإذا انحرفت الدولة فحاول أن تنبّهها بالكلمة وبالموقف. والموقف يتنوَّع تبعاً لتنوُّع الظروف التي تفرض الموقف {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} انتبهوا إلى كل الكلمات، إنَّ الله يحدِّثنا، لا تستغرقوا في حديثي، فأنا أحاول أن أفهم كلام الله، وأن أشرح لكم كلمات الله، استغفروا ربّكم، يقول لكم لا خير في كثير من نجواكم، لأنّكم في كثير من الحالات عندما تستمعون إلى عِالم أو واعِظ أو ناصح، لا تنتفعون بكلامه، تسألون: هذا العالِم لمن ينتمي؟ وذاك الواعظ في أيّ دائرة يتحرّك؟ وهذا الناصح من أيّ موقع يتكلّم؟ تستغرقون في شخص القائل، ولا تستغرقون في كلامه، ولهذا لا تنتفعون بكلامه. بعض الناس لا يستمع لأحد إلاّ إذا كان من "جماعته" وإلاّ فإنّه يشوِّش عليه. الصلاة عندنا صارت بحساب، وسماع الكلمات بحساب، "والسلام عليكم وعليكم السلام" بحساب، والمشاعر بحساب... لماذا؟ لأنّنا استغرقنا في الزاوية الضيّقة وأصبحنا جماعة الزواريب. لكنَّ أُفق الله كبير، أُفق الله واسع الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، ربّنا الذي وسعت رحمته كلّ شيء ربّنا الذي يهيمن على كلّ شيء.
الحكمة ضالّة المؤمن
استمع إلى الحكمة أينما وجدتها، ليكن الذي يتحدّث إنساناً ليس من جماعتك، لكن اسمع حديثه وفكِّر في حديثه، فإمّا أن تنقضه أو تقبله. إنّي أدعوكم دائماً للاستغراق في كلمات الله، لأنّك عندما تشعر أنّ حياتك معلَّقة بربّك وأنَّ ربّك يخاطبك، ويا لسعادة الإنسان إذا أعطى نفسه الجوّ الروحي وهو يشعر أنّ الله يعطيه كلماته، كما تساقط نقاط الضوء من الفجر ليُمَتِّع عينيه بالفجر، والله ينزل على روحك كلماته، تماماً كما ينزل قطر المطر على الأرض الميتة ليحييها. هكذا افتح قلبك الجديد لكلمات الله حتّى يحبّك الله، وافتح كلّ حياتك لآيات الله حتّى يشرق فيها نور الله، لأنَّ مشكلتنا جميعاً أنّنا ننسى الله دائماً ونذكر عباده، وأنّنا نغفل عن لقاء الله، ونستغرق في لقاء عباده. لهذا الله يريدنا أن نتذكَّر {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى : 9] لأنَّ بعض الناس لا ينتفعون بالذكرى، لأنّهم يغلقون قلوبهم، مَن الذي يتذكَّر؟ مَن يخشى؟ الذي يخاف الله يظلّ يلاحق الكلمات، لعلّها تفتح له نافذة على الله {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى*وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى*الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى*ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 10 ـــ 13] ومن ثمّ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى*وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 ـــ 15] لكنَّ مشكلتكم {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] "الحياة نقدي والآخرة قرضي" وما عاقل باع الوجود بدين مثلما قال عمر بن سعد {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 ـــ 17] هذا حديث كلّ الأنبياء {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 ـــ 19] هذا الجوّ دائماً أُذَكِّر نفسي وأُذكِّركم به، أن نسمع دائماً كلام الله وأن نفتح قلوبنا، وأن نستغرق في كلمات الله، ونحاول أن تخشع قلوبنا لذكر الله.
متى يكون الصدق حراماً
إنَّ الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إذاً نحن الآن نريد أن نستزيد إيماناً، نريد أن ندخل المسجد وفي قلوبنا نسبة معيّنة من الإيمان... ما رأيكم في أن نحصل على زيادة هذه النسبة، والإيمان العملي، الإيمان المنفتح على الله سبحانه وتعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لنأمر بالصدقة بمعناها العام والخاص، {أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء : 114] أن نعمل على أساس أن نكون المصلحين لا المفسدين، وأن نكون المقرِّبين لا المبعِدين، وأن نكون الموحِّدين لا المفرِّقين والمقسِّمين، على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات وعلى مستوى الأُمّة كلّها. قد يقول بعض الأشخاص أُريد أن أتصدَّق لكن أحوالي ضيّقة، ومنتوجي لا يكفي عائلتي، فهل هناك صدقة غير صدقة المال؟ الله يقول لك من خلال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، في ما يعبّر به عن فهمه لكتاب الله "صدقة يحبّها الله إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"(1) فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لأنْ نأمر بالصدقة بمعناها العام أو الخاص؟ لو حصلت مشاكل بين الناس وصار هناك فساد في العلاقات، فأردت أن تتصدَّق صدقة يتقبّلها الله، فحاول أن تدخل في الصلح بين الناس بقدر ما تستطيع من جهد وبحسب ما تتمكّن في حياتك، ممّا أعطاك الله من إمكانات عملية، فإنَّ تلك صدقة يحبّها الله: "إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا" وإذا اضطررت لأن تكذب في مقام الصلح فإنَّ الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن لسان الأئمّة (عليهم السلام) من خلال ما رووه عن لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإنَّ المصلح ليس بكذَّاب. إذا توقَّف الصلح على أن تقول كلاماً لهذا لم يقله ذاك، أو تقول كلاماً لذاك لم يقله هذا فاكذب. والله يعطيك الأجر على كذبتك، لأنَّ الله حرَّم الكذب؛ لأنّه مفسدة بين الناس في وعيهم للحقيقة، ولكن إذا كان الكذب يشتمل على مسألة تصلح بين الناس وتجمع بينهم حتّى يتحرَّكوا جميعاً مع الحقّ، فإنَّ ذلك يجعل الكذب طاعة ويجعل الصدق معصية، كما هي طريقتنا في الحياة. فإنّك إذا سمعت أحداً يتكلَّم عن شخصٍ آخر تأتي إليه، وتقول له فلان قال عنك كذا وكذا. صحيح أنّك صادق في ما تقول، لكنّه صدق يدخلك النار، صدق يجعلك نمَّاماً، ويجعل فتَّاناً. الله سبحانه وتعالى ذمَّ الهمَّاز المشَّاء بنميمة، ولذلك إذا جئت لفلان وتكلَّمت عنه بصدق، لكنّه كلام يدخلك النار، فعقاب الغيبة النار. البعض يقول أنا لا أغتاب، إنّما تكلَّمت بصدق عن عيب هذا الشخص، إنّك مغتاب إذا ذكرت عيبه الموجود فيه، أمّا إذا ذكرت عيباً ليس موجوداً فيه فهذا يسمّى بهتاناً. إنَّ هناك كثيراً من حالات الصدق تكون حراماً، لأنّها تسيء إلى حياة الناس. لا يجوز لك أن تقول كلّ كلمة صادقة، لأنَّ بعض كلمات الصدق تسيء إلى العلاقات العامّة بين الناس. لو أنّك اطّلعت إلى سرّ عسكري وأمني أو سرّ اقتصادي أو سياسي لأُمّتك وجاءك من يسألك عن هذا السرّ، فهل تقول إنّه يجب أن أتكلَّم الصدق أمام المحقِّق الإسرائيلي، أو المحقّق الأميركي، أو أيّ محقِّق آخر يطلب أن تقول الصدق؟ قل والله العظيم سأقول الصحيح، تستشكل أنت، تقول إنّه يسألني عن فلان أين موجود؟ ماذا يفعل؟ أنا أعرف.. إذا قلت لا أعرف كذبت، فإذاً يجب أن أصدق، هذا منطق غير الواعين. إنَّ المحقّق الإسرائيلي أو أيّ محقّق من هذه المخابرات هو ضدّ الإنسانية، وضدّ الإسلام والمسلمين، لذلك يحرم عليك أنْ تتكلّم إذا كان السرّ يتعلَّق بأخيك أو بأُمّتك، باعتبار أنّه يعرِّض حياته أو حياة أُمّتك للخطر. يجب عليك أن تكذب، فإذا صدقت فأنتَ مأثوم، وإذا كذبت فأنتَ مأجور، احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل، ونجِّ أُمّتك من الهلاك.
الأخلاق في الإسلام نسبيّة. في الإسلام تنطلق الأخلاق من خلال مصلحة الأُمّة، لهذا المصلح ليس بكذّاب.
الأحكام الشرعية لمصلحة الإنسان
وعلى هذا الأساس، الله اهتمَّ بالإصلاح. وقد ورد في آخر وصية للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول فيها وعليكم بإصلاح ذات البين "فإنّي سمعت رسول الله يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(1) يعني إذا دار الأمر بين صلاة مستحبّة أو صيام مستحبّ وبين أن تصلح بين الناس، إذا دار الأمر بين أن تذهب لصلاة اللّيل أو تذهب لتصلح بين زوجين من جيرانك، فإصلاح ذات البين أفضل من صلاة اللّيل. إذا كنت في مكّة وتريد أن تطوف بالبيت أو بدأت الطواف وجاءك شخص، وقال: اثنان من الحجَّاج تخاصما، "وستصل إلى حدّها". اقطع طوافك واذهب وأصلح بينهما فإنَّ ذلك أفضل من الطواف. انتبهوا لهذا الموضوع، لأنَّ الله، حتّى العبادات من الصلاة والصوم والحجّ، جعلها لمصلحة الإنسان، {... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]، يعني كلّها لمصلحة الإنسان. فالإصلاح بين الناس هو أفضل من عامّة الصلاة والصيام. وفي تفسير الإمام الصادق لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة : 224] ليس معنى ذلك أنّك إذا أصلحت مرّة مثلاً بين جماعة وفشلت وتضرَّرت، تقول هذه آخر مرّة أصلح بين الناس، لأنَّ الذي يدخل في صلح هو الذي يبتلي على أمره. ويأتيك الناس بعد حين، يعرضون عليك مشكلة، لتحلّها فترفض وتتذرَّع بأنّك أقسمت أن لا تتدخّل في المشاكل. الله يقول لكم: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} فكأنّك تأتي باسم الله، لتجعله حاجزاً بينك وبين التقوى وبين الصلح وبين الناس. عندما تأتي باسم الله وتحلف به فالتزم التزامات يحبّها الله، ولا تلتزم ما لا يحبّه الله. لو حلفت بالله ألف مرّة على أن لا تصلح بين الناس، وجاءك مَن يطلب منك الإصلاح بين الناس، فاذهب ولا تسأل عن يمينك، لأنَّ اليمين لا يصحّ إلاّ في طاعة الله، وإذا كان اليمين في غير طاعة الله فلا قيمة له أبداً، وليس فيه كفّارة أبداً. فالإمام يقول، إذا دعيت ـــ تعليقاً على هذه الآية ـــ لصلح بين اثنين فلا تقل عليَّ يمين أن لا أفعل، لا تحلف، وإذا حلفت لا تأخذ بحلفانك. أنا أذكّركم بالخطّ الإسلامي، الله أنزل الشريعة كلّها: الحلال والحرام، الواجبات، المستحبّات، كلّها أنزلها لمصلحة الإنسان. الشريعة هي التي تخدم الإنسان وليس الإنسان هو الذي يخدم الشريعة. ولهذا يبقى الحرام حتّى تقع في حَرَجٍ شديد أو في اضطرار. ما من شيء إلاّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه، يبقى الواجب واجباً إلاّ أن تقع في حَرَجٍ فيسقط الواجب، لأنَّ الله يريد أن يخطّط للإنسان بطريقة يستطيع الإنسان من خلالها أن يعيش حياته بشكلٍ جيّد {... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185].
لهذا عندما نتعمَّق في الإسلام من خلال طبيعة حركة الأحكام الشرعية والحلول التي وَضَعَها لمصلحة الإنسان، فإنَّنا نزداد بذلك إيماناً ويقيناً بأنَّ الإسلام وحده هو سرّ الخلاص، ولا نتركه إلى غيره ولا نستهين به، وبعدها لا نقبل أن نجعل أحداً يقف بيننا وبين الإسلام، أو يخذلنا عن الإسلام، أو يبعدنا عن الإسلام. نريد أن نعيش في الدُّنيا كلّها، نعيش بين اليهود والنصارى، وكلّ الملل والطوائف. يجب أن نعيش ونبقى نقول الإسلام هكذا، الله يريد الإسلام بهذه الدرجة.
بين الدين والسياسة
إنَّ المؤمن حسب ما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) أعزَّ من الجبل. كم هو الجبل صلب قوي، ولكنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، لأنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء. المؤمن تأتي المصائب وتأتي كلّ الضغوط وتأتي كلّ التحدّيات ولا تُسقط منه موقفاً، الإمام الصادق يقول: "إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، إنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، وإنَّ المؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء"(1) يجب أن نفهم هذا الحديث جيّداً، لهذا لو أتت الدنيا وقالت لأيّ واحدٍ منّا خفِّف من إسلامك، ابتعد عن إيمانك، حاول أن تسير مع الناس، حاول أن تعبد آلهة الناس سنة وأن يعبدوا آلهتك سنة، دعها لبنانية لا غالب ولا مغلوب، نصف كفر ونصف إيمان، كنْ مؤمناً في الصلاة والصوم والخمس والزكاة لكن كنْ كافراً في السياسة والحكم وكلّ الأوضاع. هناك أُناس يشجِّعون فصل الدين عن الدولة، فصل السياسة عن الدين، ما معنى هذا؟ معناه عندما تريد أن تمشي بالسياسة امش بصفة غير متديِّن واعمل ما تشاء. أنا عندما أمشي بالسياسة بصفتي غير متديِّن فإنّني سأُخَرِّب حياة الناس. الدين الحقيقي ليس شعارات وحدها، وهكذا الدولة إذا فرغت من الدين في قوانينها، ابتعدت عن مصلحة الإنسان. أنا دائماً أُكَرِّر هذه النقطة، البعض قد يصفها بالتطرُّف، ويقول يجب أن "نطرّيها" قليلاً. لا، أتعرفون كيف "نطرِّيها"؟ أن نصبح مسلمين حقيقيّين، وإذا أصبحنا مسلمين حقيقيّين يصبح عندنا قاعدة نعرف فيها كيف نعيش مع الناس الآخرين. يجب أن يكون للنّاس قاعدة يرتكزون عليها في حياتهم. أتعرفون لماذا ليس في لبنان وفاق؟ لأنَّ المسلمين لا ينطلقون من الإسلام، ولا المسيحيون ينطلقون من المسيحية. الإسلام والمسيحية واجهتان. نحن نريد أن ندخل الإسلام إلى العمق بكلّ حكم شرعي، بكلّ عقيدة، شخصيّتنا الإسلام وهذه الشخصية يجب أن نحافظ عليها، نربّي عليها أولادنا، نصرّ على أن لا نترك الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج : 78].
لا مساومة على المبدأ
على هذا الأساس، نريد أن ننطلق بالإسلام بشكلٍ جيّد وندعو له بشكلٍ جيّد ونصر على أن نتحرّك فيه بالروحية، التي وقف فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أمام عمِّه أبي طالب وهو ينقل إليه عرض المشركين: ماذا تريد، إنْ كنتَ تريد ملكاً ملَّكناك علينا وإنْ كنتَ تريد مالاً فهذه أموالنا بين يديك، وإذا كنتَ تريد زوجة أعطيناك أفضل بناتنا، لكن أترك هذه القصّة، لا تخرِّب علينا مجتمعنا، نحن موحّدون على الكفر وعلى الشرك، وكلّنا متّفقون على الأصنام. أنتَ الآن تقول إنَّ هناك إلَهاً واحداً {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صـ : 5] هذا طرح المشركين، كم يوجد طروحات الآن من هذا القبيل؟ يأتون إليك ليقولوا اترك هذا الالتزام ونوظّفك وظيفة، كم يعطونك 10 آلاف؟ نعطيك 100 ألف. إنَّ هذا منطق الكثير من الناس على مستوى المخابرات وغير المخابرات، لكن أجاب النبيّ: "والله لو وضَعَوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شمالي على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته أو أُهْلَكَ دونه"(1). هذه كلمة ولها تتمّة ولكنَّ التتمّة من الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]، قولوا كما يقول، ليكن موقفكم من خلال موقفه، تحرَّكوا كما تحرَّك؛ الله جعله الرسول القائد والرسول القدوة، فانطلقوا في خطّ قيادته، وتحرَّكوا في خطّ الاقتداء به، قولوا لكلّ مَن يقول لكم انحرفوا عن دين الله وعن خطّ الدعوة إلى الله وعن خطّ الجهاد في سبيل الله، ليطمعكم بالمال أو بالشهوات أو بالجاه، إذا كنتم ترجون الله واليوم الآخر، قولوا له: إنَّنا أتباع محمّد، ومحمّد قال للمشركين ذلك، ونحن نقول لكم ذلك. قولوا لهم كلّنا نريد أن نكون محمّداً ولو بنسبة الذرّة إلى الجبل، أو بنسبة القطرة إلى البحر ذلك هو الخطّ.
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه وحدها لا تكفي، فقد تأمر بصدقة حتّى تصبح وجيهاً، تأمر بمعروف ليقال فلان الواعي الواعظ، تأمر بإصلاح بين الناس ليقال هذا من المصلحين. لا، هنا يقول الله ليس لهذه الأعمال عندي حساب، لماذا؟ أنتَ فعلت ليقول الناس عنك ذلك وقد قال الناس ذلك، أخذت حسابك منهم، ما دخلي أنا، دفعت الصدقة على حسابي، أمرتَ بالمعروف على حسابي، أمرتَ بالإصلاح بين الناس ليرضي ذلك الناس، وقد رضي عليك الناس، ماذا تريد منّي؟ أكثر من ذلك، إذا فعلت شيئاً لله ولغير الله، فالله يقول أنا خيرُ شريك، إذا فعلت الشيء لي ولغيري تركتها لغيري، الله يقول أنا لا أحبّ الشراكة {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف : 29] لهذا الله ركَّز {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114] يجب أن تفعل ذلك على أساس مرضاة الله، قربة إلى الله وامتثالاً لأمر الله، وهذا هو سرّ المؤمن وميزته عن غير المؤمن؛ إنَّ المؤمن يعمل لله وللحصول على رضى الله، وغير المؤمن يعمل لغير الله، ولهذا جعل الله على نفسه أن يثيب الذين يعملون له، لا الذين يعملون لغيره، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يرتبط به بقلبه، وأن يرتبط به بعمله في كلّ مجالات الحياة.
كيف نعالج الخلافات في مجتمعنا
وفي آيةٍ أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9] هذه الآية تعالج الخلافات داخل المجتمع الإسلامي، فالمسلمون ليسوا ملائكة، فهناك مشاكل تحدث في ما بينهم، خلافات مالية أو سياسية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك والشيطان يعرف كيف يدخل. الله يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، وقال أيضاً سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 ـــ 91]، معناه أنّ عمل الشيطان أن يحرّك ويثير العصبيّات، ويثير المشاكل حتّى يخلق العداوة والبغضاء بين الناس، وحتّى يقودهم إلى التحاقد والتباغض والتحاسد والتقاتل. إذاً فالمؤمنون يمكن أن يتقاتلوا إنْ على حقّ أو على باطل، المقصود بالمؤمنين هم المسلمون، وفي هذه الحالة ما مسؤولية المجتمع المسلم؟ هل مسؤولية المجتمع المسلم، إذا حدث هناك قتال بين المسلمين، أن يثير العصبية هنا وهناك، ويشعل النار ويكبّر المسألة؟ لا، {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وهنا الاقتتال لا يلغي صفة المسلمين عن الطرفين، لأنَّ الله يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الله وصفهم مع القتال بأنّهم مؤمنون يمكن أنْ يتقاتلوا، والقتال معصية من المعاصي {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يعني تدخلنا بالصلح، لكن فئة تمرَّدت وأرادت أن تقوم بالعدوان على الفئة الأخرى بكلّ أساليب العدوان والبغي، {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} لأنّها سوف تعطّل عملية الصلح ومصلحة المجتمع {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يعني على أساس أن لا تميلوا لفئة على فئةٍ أخرى {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9]. إنَّ هذا المبدأ القرآني يفيد أنَّ الأُمّة المسلمة مأمورة بأن تصلح بين المسلمين، وأهمية الإصلاح بين المؤمنين لا بدّ من أن تخضع للمصلحة الإسلامية العليا.
المصلحة الإسلامية بين السلم والحرب
إنَّنا عندما نتناول موضوع السلم والحرب في حركة التشريع الإسلامي، نرى أنّهما ينطلقان من المصلحة الإسلامية العليا. قد تفرض هذه المصلحة الحرب، وذلك عندما يكون الخلاف بين حقٍّ وباطل، حتّى في داخل المجتمع الإسلامي، حيث لا يكون من مصلحة المجتمع الإسلامي أن تُسالِم الفئة الضالّة كما في حروب الإمام عليّ (عليه السلام). وضمن ظروف معيّنة، تخاض الحرب لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، وذلك في الحالات التي فيها إمكانية أن تقوى كلمة الله؛ عندها لا يجوز للحرب أن تتوقَّف، لأنَّ النتائج التي تحصل من خلال الحرب تفوق الأضرار التي تحصل في الحرب، باعتبار أنَّ النتائج تكون لمصلحة الأُمّة كلّها.
في بعض الحالات ربّما تكون هناك مصلحة للمسلمين في مسألة الصلح، أي السلم، وذلك عندما تتعرَّض كلمة الحقّ للخطر في حالة استمرار الحرب، كما لاحظنا في تجربة الإمام عليّ (عليه السلام) مع معاوية في حرب صفّين. ففي هذه الحرب نجح معاوية في إثارة البلبلة في صفوف جيش الإمام أثناء رفع المصاحف، ولم يكن جيش الإمام (عليه السلام) كلّه عقائدياً، وهذا أدّى إلى تعرُّضه للانقسام. فالإمام عليّ (عليه السلام) لو لم يوافق على التحكيم، لكان من الممكن أن يقاتل جيشه بعضه بعضاً، الأمر الذي يؤدّي إلى انتصار معاوية بدون الدخول في أيّ معركة. وعندما درس الإمام (عليه السلام) هذا الظرف، رأى أنّ الأمر يدور بين أن ينقسم الجيش ويُقاتل بعضه البعض، وبالتالي يهزم في الحرب، وبين أن يقبل بالتحكيم وتقف الحرب بانتظار ظروف أفضل، لأنَّ التحكيم لا يلغي النزاع بل يجمّده، وهكذا كان. إنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان مؤمناً بشرعيّة حربه، وحتّى آخر أيام حياته، لأنّه كان يعتبر أنَّ معاوية يمثّل الخطر على الواقع الإسلامي، وأنّ عدم مواجهته ليس لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولكنّ الظروف لم تساعده.
لقد جمَّد الإمام عليّ (عليه السلام) الحرب على أساس أنّ استمرارها سوف يؤدّي إلى تأثّر موقف الحقّ بمواقع الضعف الطارئة فيسقط الحقّ. الآن، نحن إذا خُيِّرْنا بين أن يفقد الحقّ شيئاً من هويّته أو من هيبته أو من معنوياته وبين أن يزول كليّاً، فليس أمامنا بالطبع إلاّ القبول بخسارة هذا القدر حتّى لا يسقط الحقّ كليّاً.
صلح الحسن يحفظ المعارضة
انطلاقاً من هذه الأجواء، نطلّ على سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) ومسألة صلحه مع معاوية. هناك بعض الناس يقولون إنَّ هناك أسلوباً حسنيّاً وأسلوباً حسينياً. هذا الفهم خاطئ، فهو يصوِّر لنا أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) شخصية مسالمة وشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) شخصية ثائرة، هذا خطأ. إنَّ قصّة الصلح لم تكن منطلقة من أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) مسالِمة وإلاّ لماذا قاتل؟ إذا كانت شخصيّته شخصية مسالِمة فلماذا قاتل من الأساس؟ لقد قاتل لأنّه كان مؤمناً بالقتال، ولقد وافَقَ الإمام الحسين (عليه السلام) على الصلح الذي عقده الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، ولهذا فالحسين (عليه السلام) لم يحارب معاوية، لأنّه وقَّع على الصلح مع أخيه، والتزم بهذا الموقف. لم يعلن الثورة ضدّ الحكم الأموي إلاّ بعد وفاة معاوية، حيث أصبح الإمام الحسين (عليه السلام) في حلٍّ من التزاماته.
إنَّ الصلح الذي قام به الإمام الحسن (عليه السلام) كان ناشئاً من طبيعة الظروف التي وصلت إليها الحرب. فأغلب قادة جيش الإمام (عليه السلام) مالوا إلى معاوية بعد أنْ أغراهم بالمال، بمن فيهم ابن عمّه عبيد الله بن عبّاس، كما استطاع معاوية أن يدسّ جواسيسه في صفوف الإمام الحسن (عليه السلام)، ممّا أدّى إلى حالة من الفوضى داخل جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، وهنا دار أمر الإمام (عليه السلام) بين استمرار الحرب، والتضحية بالبقيّة المؤمنة الملتزمة بخطّ الإسلام، بخطّ عليّ (عليه السلام) وخطّ الحسين (عليه السلام) باعتبار أنّ التوازن بات مفقوداً، وهذا معناه زوال كلمة الحقّ وترسيخ كلمة الباطل في كلّ الواقع الإسلامي؛ وإمّا أن يجمِّد الحرب، وفي تقديره إعطاء الناس فرصة للاستراحة، حتّى يعرفوا طبيعة الحكم الأموي الذي مارَسَ دوراً كبيراً في تضليل الناس، ثم ينتظر ظروفاً أفضل لمتابعة الحرب.
لقد قال الإمام الحسن (عليه السلام) لأصحابه، حينما كانوا يعاتبونه على الصلح، "إنَّما صالحت لأحفظكم". كان المهمّ هو حفظ خطّ المعارضة الأصيل الذي باستمراره يُحفظ الحقّ، ولهذا وقف الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يمثّل روح الثورة إلى جانب أخيه، مدافعاً عنه أمام الذين كانوا يقفون ضدّه.
كربلاء تهزّ الواقع الإسلامي
في الاتجاه نفسه، كيف نفسِّر ثورة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ إنّنا نفهم القضية على أساس أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لو سالَم، لَسَقَطَ آخر حاجز يحجز الناس عن الانهيار. لقد أراد بثورته إحداث صدمة قويّة في الواقع الإسلامي، ولقد برزت الصدمة من خلال الوضع المأساوي الذي لفَّ كربلاء، والفظاعة التي امتدت في كلّ الاتجاهات، والموقف الصّلب الذي أكّده الإمام (عليه السلام)، حيث اهتزّ الجوّ تماماً ما بعد كربلاء فعصفت رياح الثائرين والمعارضين تدكّ مواقع الظلم والانحراف، ويدلّ بيت الشعر الذي ينسب للإمام الحسين (عليه السلام) وهو في الواقع لسان حاله، على الخلفية الحقيقيّة لحركته:
إنْ كانَ دينُ محمَّدٍ لم يستقِمْ إلاّ بقتلي يا سيوفُ خذيني
لو لم تكن كربلاء ولو لم يقاتل الإمام الحسين (عليه السلام) يزيد، لمَا تمخَّض الواقع عن أيّ إمكانية لحدوث ثورة مستقبليّة، ولهذا كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة مستقبليّة بحسب مرحلتها وبحسب الظروف الموجودة، حتى تكون صدمة للواقع الإسلامي.
إيران توقف الحرب لحفظ الثورة
ضمن هذا المنظار، نتطلَّع إلى الثورة الإسلامية في إيران وإلى مسألة قبول الإمام الخميني (قدِّس سرّه) بوقف إطلاق النار، ونضع هذا الموقف ضمن ظرفه، واستجابة لضغوط الواقع السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي الذي أحاط بالثورة الإسلامية. إنَّ العالم كلّه، أميركياً وأوروبياً وسوفياتياً وعربياً، العالَم كلّه أخذ يحاصر إيران، يعني، (بلا قياس وتشبيه) تماثل وضعها مع وضع المانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث تعرَّضت لحصار وحرب شاملين، وضع إيران كان هكذا. القنبلة الذريّة أُلقيت على هيروشيما، صحيح أنَّ القنبلة الذريّة لم تُلْقَ على إيران، ولكنَّ الأسلحة الكيميائية هي بحجم القنبلة الذريّة، باعتبار أن لا وسيلة دفاعية في مواجهتها، وكان منتظراً إطلاق المزيد من الصواريخ الكيميائية على المدنيين كما أطلقت في السابق. وقد تسلَّح هذا الصمت المريب بحجّة، عُمِلَ على تسويقها في العالم ومفادها أنّ إيران لا تقبل السلام وأنّ العراق يريد السلام. وتوحَّد الموقف العالمي على حصار إيران، فَمُنِعَ تصدير النفط بدرجة كبيرة، وتوقّفت البضائع الضرورية عن الوصول، حتّى أصبح من الصعب أن تلبّي حاجات المواطنين لأكثر من شهر أو شهرين، وأُثير كثير من الأوضاع حيث إِنّ إيران لم تستطع تحمُّل ذلك. في الوقت نفسه، راهن الأعداء الإقليميون والدوليون على أنّ الإمام الخميني (قدِّس سرّه) لن يقبل بوقف إطلاق النار، ولهذا كانوا يراهنون على إسقاط الثورة. وجاء الموقف نتيجة دراسة المعطيات دراسة واعية ودقيقة وواقعية، وكان الأمر يدور بين استمرار الحرب وحفظ هذا الوهج المعنوي للثورة، لكنَّ النتيجة ستكون إسقاط الثورة والجمهورية؛ وبين إيقاف الحرب وبقاء الثورة، ومحاولة الانطلاق بالرسالة الإسلامية بأساليب جديدة، بعد أنْ طُوِّقَت وحوصرت الأساليب السابقة. ونحن نفهم أنَّ المسألة انطلقت من مصلحة الإسلام في ظلِّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها إيران الإسلام.
الأنانيّات توقد نار الفتنة
وبالانتقال إلى واقعنا الصّعب في لبنان، وانطلاقاً من رصدنا لمجمل الظواهر، نشعر بأنَّ الصلح بين المسلمين يمثّل مصلحة إسلامية عليا على جميع المستويات، سواء على مستوى الواقع السياسي الداخلي، أو على مستوى الواقع السياسي في العالم، لأنَّ المراهنة على أن تبقى الخلافات في الزوايا الضيّقة، وأن تبقى الأساليب المعقَّدة العدوانية التي تثير العصبيّات وتثير الغرائز وتثير إرادة القتال من جديد. لهذا نشعر بأنّنا في المرحلة التي لا يجوز فيها إطلاقاً بقاء هذا التقاتل والتراشق بالكلمات القاسية وما إلى ذلك من أمور. لأنَّ المسألة هي أنّه لن يستفيد أحد، بل سيسقط الجميع أمام التحدّيات التي تفرض عليهم. ونحن نقول لكلّ الشعب ولكلّ المؤمنين ولكلّ الناس، إنَّ عليهم أن يقفوا ضدّ كلّ من يريد أن يعطِّل الصلح بين المؤمنين وبين المسلمين، نتيجة عُقَد ذاتية أو نتيجة مصالح فئويّة، لأنَّ المسألة أصبحت تتجاوز القيادات، لأنّها تمثّل الخطر على كلّ الأُمّة. وإنَّني تكلَّمت كثيراً في هذا المجال، وأتكلَّم الآن لِأُحَمِّل كلّ الناس المسؤولية في ذلك، لأنَّ الأكثرية الصامتة عندما تنطق وأنا لا أُريد أن تنطق بتكلُّف وتشنُّج وانفعال، ولكن أن تنطق من موقع الإيمان، ومن موقع العقل ومن موقع الدراسة الواعية لكلّ الأوضاع، حتّى نستطيع أن نبصر مواقع أقدامنا وحتّى نستطيع أن نبصر النتائج السلبية أو الإيجابية التي سوف نُقْبِل عليها في المستقبل.
إنَّ الواقع في لبنان لا يزال واقعاً يعيش في مهبّ الرياح والعواصف، ولن تُحترَم فئة على مستوى الطوائف وعلى مستوى المحاور السياسية، إذا لم تملك الوحدة والقوّة في صفوفها. ليتحدَّث كلّ واحد في دائرته الخاصّة، ليتحدّث عن عنترياته هنا وعنترياته هناك، وليضخّم شخصيّته.. ولكن عندما تكون بطولاتنا وأنانيّاتنا وكبرياؤنا واستعراضاتنا في دائرة يحيط بها الأعداء من كلّ جانب، فأيّ معنى لتلك البطولة. عندما تملك أرضك، وتملك قرارك، وتملك حاضرك ومستقبلك، فأنتَ الحرّ وأنتَ القويّ، لكن عندما يكون قرارك بيد غيرك ممّن لا يؤتمن على القرار، وعندما تكون أرضك بيد غيرك حتّى لو أعطاك هذا الغير حريّة معيّنة، إنَّ معنى ذلك أنّك لا تحمل من البطولة شيئاً ولا تحمل من القوّة شيئاً.
لقد حدَّثتكم سابقاً عن ذلك السياسي الجنوبي الذي قال: حينما جرى تقسيم الجنوب إلى دوائر انتخابية، "أنا والجنوب كالكبّة في الصينيّة" فمهما قسّمت الكبّة فإنّها تظلّ لمالِك الصينية، المهمّ مَن يملك صينية الجنوب؟ ومن يملك صينية لبنان؟ إذا كانت "إسرائيل" تملك صينية الجنوب فأيّة قيمة لكلّ مكاتبكم، وأيّة قيمة لكلّ مواقعكم، وأيّة قيمة لكلّ الساحات المحرّرة، أو غير المحرّرة؟ لأنّ "إسرائيل" ما دامت تملك الجوّ والبرّ والبحر فليس هناك مناطق محرّرة.
هناك مناطق قيل لكم تحرَّكوا فيها بحريّة ولكن على أساس أن تنضبطوا لأنّنا نمسك بالأمر كلّه.
إنَّ القصّة تحتاج إلى عقل واسع وإلى صدرٍ واسع، ونحن صدورنا ضيّقة، عقولنا ضيّقة وعفنة، دائماً نحرّكها في الزوايا الصغيرة، وكلٌّ منّا يفكِّر بذاته؛ كيف أُضَخِّم شخصيتي، كيف أجمع الناس حولي، لا أُفكِّر بالناس. وعندما لا أُفكّر بالناس يبقى عقلي معفّناً بسبب أنانيتي. عندما أفكر بالناس يتنفَّس عقلي الهواء الطلق.. صدورنا ضيّقة، لا نتحمّل كلمة، إذا شتمنا الواحد فكأنَّ السماء وقعت على الأرض. لا، النبيّ اتُّهم وبقي صدره واسعاً واستوعب الناس {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128]. إنّنا نحتاج إلى سعة الصدر. ومن يرد أن يصبح زعيماً وقائداً، فعليه معرفة ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام): "آلة الرياسة سعة الصدر"(1). تريد أن تصبح رئيساً، وسِّع صدرك للناس من حولك. أحدٌ سبَّك امسحها "بجنبك"، حاول أن تتعامل معه بواقعية، قل للنّاس الذين يسبُّونك كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهم: "اللّهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"(2) لا تتعقَّد من الناس، أعطهم فرصة يفهموك أكثر، وهذا ما نحتاجه في واقعنا الداخلي.
وبالعودة إلى مسألة الإصلاح، نشعر أنّه ليس فقط علينا أن نصلح داخلنا، نحن نفكِّر أن يكون إصلاح على مستوى الإسلام كلّه. ونحن ندعو المسلمين إلى أن يوحِّدوا علاقاتهم على أساس الوحدة الإسلامية ووحدة العقيدة الإسلامية والخطّ الإسلامي الذي يحفظ التنوُّع، وعلى أساس وحدة المصير الإسلامي ووحدة الآلام الإسلامية، لا نريد أن تنطلق علاقات المسلمين بعضهم ببعض في لبنان من المسائل الطارئة. إنّنا نواجه قضية واحدة تفترض الاجتماع حولها، وبعدها يحلّق كلٌّ في سربه، ويقيم العلاقات مع مَن يريد. يجب أن تتركَّز العلاقات بين المسلمين على أساس قاعدة الوحدة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} [آل عمران : 103]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52].
يجب أن نعيش على هذا الأساس، ثمّ أكثر من هذا، نحن إسلاميون ولكن نحن ندعو إلى الصلح في دائرة جميع اللبنانيين لأنَّ الله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...} [الأنفال : 25]، إنَّ الفتنة حين تثور، فإنَّ كلّ الناس، الظالمون منهم وغير الظالمين، سيكونون وقوداً لها.
نداء إلى المسيحيين
إنَّنا نحرص على أن يكون هناك سلام في لبنان لكلّ اللبنانيين، ولكن على أساس العدل وعلى أساس التوازن وعلى قاعدة الحريّة لكلّ اللبنانيين. وليطرح كلّ اللبنانيين المسلمين والمسيحيين آراءهم، ليقتنع بها الناس أو لا يقتنعوا بها. نحن ندعو لهذا التوجُّه، ونريد أن نقول للمسيحيين وللموارنة بالذّات، إنّكم تعيشون في وهمٍ كبير عندما تعتبرون أنَّ مواقعكم في الدولة اللبنانية تمثّل ضمانات أو امتيازات، إنّكم تتحرّكون بما تسمُّونه ضمانات ونسمّيه امتيازات تحظى بغطاء دولي وإقليمي، لكنّنا نرى أنّ السياسة ليست ثابتة، لا على مستوى محلّي ولا إقليمي ولا دولي.
السياسة تنطلق على مستوى المتغيّرات، ولهذا فإنَّ الذين عرضوا في أثناء الحرب على المسيحيين أن يقدِّموا لهم سفناً لنقلهم إلى استراليا أو غيرها، ليبقى لبنان للمسلمين وللفلسطينيين؛ إنَّ هذا العرض يمكن أن تتبعه عروض أخرى حسب ما تقتضيه مصالح الدول. إنّكم إذا أردتم استقراراً وثباتاً، فعليكم أن تتكاملوا مع مواطنيكم في البلد على أساس قاعدة ثابتة. إنّكم تقولون إنّكم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية. مَن قال إنّنا نريدكم مواطنين من درجة ثانية؟ لكن إذا كنتم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، فلماذا تريدون لمواطنيكم أن يعيشوا في الدرجة الثانية؟ لنكن جميعاً درجة واحدة في هذا المجال، ولنتعاون على بناء لبنان المنفتح على محيطه والمنطلق على أساس القِيَم الإسلامية، التي أكّدها السيّد المسيح في رسالته السماوية. نحن نتكلَّم معكم بصفتنا الإسلامية، نحن لا نتنازل عن صفتنا الإسلامية، لكن نقول إنَّ الإسلام يطلب منّا أن نحاوركم ونتعايش معكم، وأن ننطلق لنقنعكم بما عندنا، وتقنعونا بما عندكم.
في هذا الاتجاه نقول أيضاً: لا تعيشوا في الوهم الكبير، لأنّكم عندما تعيشون في أوهامكم، فلن تستطيعوا أن تعيشوا الحقيقة، إلاّ إذا اعترفتم بالواقع. إنَّ المطلوب أن لا تجعلوا المواطنين درجات، بل اجعلوهم درجة واحدة، تنطلق في الخطّ على أساس إعطاء الحريّة والعدالة للجميع. إنَّ هذا الصوت الذي نطرحه يستهدف تحقيق الإصلاح. وإنَّنا نسأل، لماذا لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية غير ماروني؟ هل إنّكم أفهم من بقيّة الناس، أو أكثر إخلاصاً، أو أوعى، أو أكثر ارتباطاً بالعلاقات الدولية؟ ليس هناك فرق بينك وبين الآخرين، بل ربّما يوجد في الآخرين نماذج أفضل من نماذجكم التي تجعل الناس يعيشون في دائرة محصورة لا يستطيعون الخروج منها.
نوّابنا ينتظرون الوحي الأميركي
وأمام هذه الأجواء والتحليلات الدائرة بين الناس، لا بدّ من كلمة: إنَّ الجميع ينتظرون الضوء الأخضر من خلال اللّقاء السوري الأميركي، أليس الأمر كذلك؟ هل هناك مَن يفكِّر ما رأي هؤلاء؟ وما رأي أولئك؟ وما رأي النوّاب الأكارم؟ ما هي أفكارهم؟ ما هي آراؤهم؟ النوّاب الآن يعيشون في هاجس الخطف، وكلّ واحد توضع عليه حراسة مشدَّدة. أصبحوا محلّ الاهتمام من كلّ اللبنانيّين، لماذا؟ لأنّهم هم الذين سينتخبون للبنان رئيساً. ومعروف أنّه منذ أن تأسَّس لبنان وحتّى الآن، فإنَّ النوّاب اللبنانيين ينتظرون الوحي. ربّما فرضت عليهم الأوضاع مرّة أو مرّتين أن يتمرَّدوا، لكن غالباً كانوا ينتظرون الوحي، الإنكليزي سابقاً، والأميركي حالياً، ثمّ الإسرائيلي بعد ذلك. ليس فقط النوّاب ينتظرون الوحي، بل كلّ المسلمين؛ إذ لا قيمة للشعب في لبنان في حسابات الدول الممسكة بقرار هذا البلد، ولاسيّما الدول الكبرى، لا قيمة للشعب باعتبار أنَّ هؤلاء النواب رسمياً هم الذين يمثّلون الشعب.
إنَّ المسألة تحتاج إلى أن ننطلق، لنعتبر أنّ أيّ انتخاب لأيّ رئيس أو إصدار أيّ قرار من خلال مثل هذا المجلس، لا يمثّل أيّة قيمة على مستوى حاجات الناس وقضاياهم وحقوقهم.. إنَّنا ندعو إلى أن يتسلَّم الشعب قضاياه، وندعو إلى أن يكون القرار، أيّ قرار وفي أيّ موقع وفي أيّة قضية، سواء كان على مستوى الرئاسة، أو غير ذلك، لا بدّ أن يكون للناس، حتّى نبتعد عن كثير من الضغوط التي تريد أن تفرض علينا القرار الذي يريده الآخرون. لا بدّ أن نفكِّر بهذه الطريقة، ولا بدّ أن نفهم أيضاً، أنّ المسألة لا تزال تعيش في إطار الانتظار، ولا تزال القضايا التي تبحث، ليست هي قضايا لبنان، بل هي قضايا المنطقة. وإذا حصل اتّفاق على الرئيس القادم فسيأتي هذا الرئيس مقيّداً بألف سلسلة وسلسلة، أن لا يحارب "إسرائيل"، أن يوافق على الترتيبات الأمنية، أن يصالح "إسرائيل"، وأن يتحرّك ليجعل لبنان يسير في العجلة الأميركية، وأن يبقى كلّ شيء على حاله مع تغيّر في الديكور، لأنَّ المطلوب هو رئيس على أساس التوافق، ورئيس التوافق يجب أن يكون رئيساً لا لون له ولا طعم ولا رائحة، حيث يستقبل الألوان القادمة من هنا وهناك، والروائح التي تحملها الرياح من هنا وهنالك. ولذلك فإنّنا لسنا معنيين بشخصية الرئيس ولسنا متحمّسين للمسألة، لأنّنا نعرف أنّ بقاء لبنان ليس خاضعاً لأنْ ينتخب رئيس أو لا ينتخب، سيبقى لبنان لأنّ الذين صنعوه لا يزالون محتاجين إليه. وقد ينتخب رئيس أو لا ينتخب، بل تكون هناك حكومة تمثّل الرئيس، لكن اعرفوا حقيقة أنّ الفتنة سوف تتعايش مع الرئيس القادم، أو مع الحكومة القادمة، لأنَّ الوفاق الدولي لم يمتد إلى لبنان حتّى الآن، لأنّ "إسرائيل" لا تزال الطفل المدلّل دولياً والتي لا يحبّ الشرق والغرب أن "يزعّلها" وأن يزعجها ويزعج طموحاتها.
الخطّ الجهادي منارة وسط الكلام
سيبقى الجميع يعملون على تطويق الانتفاضة وعلى محاصرتها، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن على تطويق المجاهدين وتطويق خطّ الجهاد في لبنان، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن، على أساس تطويق الحالة الإسلامية في لبنان وفي غير لبنان. وقد قرأنا في ما قرأنا أنّ من الشروط الأميركية لأيّ اتّفاق هو ضرب ما يسمّونه التطرّف الإسلامي والتطرّف الفلسطيني، وشروط الآخرين ضرب التطرّف المسيحي. ونحن نعرف أنّ هناك مَن لا يزال يُدلّل بفعل الحالة الإسرائيلية المتداخلة مع الحالة الأميركية في ظلّ الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. هناك حالة إسرائيلية يعيها الجميع، ويخاف الجميع من أن يحرِّكوا ساكناً فيها إلاّ بحساب، أمّا هنا وهناك فقد أُفْسِحَ في المجال لأنْ يتحرّك الناس، ليقاتل بعضهم بعضاً وليحقد بعضهم على بعض وليتحرّكوا في جوّ الفتنة.
إنّنا كإسلاميين نظلّ نحدّق في السّاحة على أساس أن ندافع عن حريّة المستضعفين، سواء كانوا في لبنان وفي غير لبنان، بالوسائل التي نملكها ممّا يرضاه الله ورسوله. وسنظلّ كإسلاميين مجاهدين، نتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في الضفّة الغربية وغزّة وفي سائر فلسطين، لأنّنا نعتقد أنّ المجاهدين هنا والمجاهدين هناك، هم الضوء الوحيد الذي ينطلق في كلّ هذا الظلام العربي، وفي كلّ هذا الظلام الطائفي.. إنّهم عرفوا طريقهم وانطلقوا في مواقع النور، لأنّهم يعرفون أنّ الحريّة لا يمكن أن تتحقَّق إلاّ بالدماء وإلاّ بصلابة الموقف، وأنّه لا يمكن لنا أن نسترجع حقوقنا إلاّ من خلال القوّة، لأنّ ما أُخِذَ بالقوّة بيد الذين لا يفهمون إلاّ بلغة القوّة، لا بدّ من أن يُسترجع بالقوّة. القوّة المسؤولة، القوّة المؤمنة، القوّة العاقلة، التي تعرف بداية انطلاقها جيّداً ومسارها جيّداً، وغايتها جيّداً {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين
الإصلاح في حركة الدعوة(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114].
الإنسان بين حريّة الاختيار والمسؤولية
هذه الآية تريد أن تؤكّد للإنسان كيف يكون إنساناً منفتحاً على الناس من حوله، على أساس أن يكون العنصر الخيِّر الذي إذا فكَّر في خير الناس، وإذا تكلَّم سرّاً أو علناً مع الذين يدير معهم القضايا فإنّه يتكلّم بخير الناس، على أساس أنَّ الله أراد للإنسان في الحياة عندما خلقه، أن يستخدم طاقاته التي أنعم بها عليه في طريق الخير لا في طريق الشرّ، كأنَّ الله يريد أن يقول لكلِّ واحدٍ من عباده إنّ طاقاتكم لم تصنعوها أنتم، أنتَ لم تصنع عقلك، لم تصنع سمعك وبصرك، أنا الذي صنعتُ لك كلّ شيء وأنا ربّك الذي خلقتك ولقد أعطيتك هذه الطاقات التي من الممكن أن تحرِّكها للخير ويمكن أن تحرّكها للشرّ. ولكنّي عندما أعطيك حريّة الإرادة، أردتك أن تتحسَّس مسؤوليّتك أمامي أنا ربّك، لتتحسَّس مسؤوليّتك أمام الحياة وأمام الناس. أُريدُ منك أن توجِّه إرادتك في طريق الخير، وعلى هذا الأساس فإنّي عندما منحتك حريّة الحركة، لم أمنحك حريّة أن تختار الشرّ وأنت تقدر على الخير، فإذا فعلت ذلك فإنّني سأُعاقبك. وإذا حرَّكت الخير في حياتك، وإذا عشت حياتك وأنت تحرِّك فكرك للتخطيط للخير، وأنتَ تطلق لسانك، ليتكلَّم بكلمة خير وأن تحرِّك يديك ورجليك وتسمع بأُذنيك وترى بعينيك، لتجعل ذلك كلّه في خدمة الخير، إذا فعلت ذلك من أجل أن تحصل على مرضاتي؛ فسوف أؤتيك أجراً عظيماً.
عليك أن تفكِّر وأنتَ الآن في الدنيا؛ الله يقول لنا ذلك، فكِّر يا عبد الله وأنتَ تملك في الحياة حريّة الحركة، فالله لم يقيّد يديك حتّى لو فعلت بهما الشرّ، ولم يقيّد رجليك، ولم يطفئ النور في عينيك، ولم يعطّل السمع في أذنيك، ولم يجمّد التفكير في عقلك، ولم يمنعك من النطق بلسانك، لم يفعل ذلك ربّك، لكنّه قال: يا عبد الله، اختر بين أمرين؛ بين أن تُقْبِل إلى الله وأنتَ تحمل الشرّ على ظهرك لتواجه العقوبة في ناره، أو أن تحمل الخير في قلبك وعقلك ولسانك وسمعك وبصرك ويديك ورجليك، ليقول لك الله: مرحباً بعبدي الذي عاش حياته من أجل أن يحصل على رضاي، وتألَّم وتعذَّب وحارَبَ شهوات نفسه، وحارَبَ الذين يريدون أن يضلّوه وابتعد عنهم. مرحباً بعبدي الذي أطاعني سأدخله جنّتي {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
احبس نفسك عن الشرّ
هل تحبّ هذا النداء؟ هذا النداء يحمّلك مسؤولية. فإذا أردت وأنتَ تغمض عينيك للمرة الأخيرة أن يقول ربّك لنفسك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} فلا بدّ أن تتعب، ولا بدّ أن تجاهد نفسك، ولا بدّ أن تتلمَّس مواقع الخير في نفسك. أغلق سمعك عن كلمة شرّ، أغلق عينيك عن كلّ موقع شرّ يراد لك أن تسير فيه، أغلق عقلك عن أن يخطِّط للشرّ، احبس يديك عن أن تستعمل بهما الشرّ، احبس رجليك عن أن تسير بهما إلى مواقع الشرّ، ما رأيك في ذلك؟ هل تحبّ هذا النداء، أم تحبّ النداء الآخر؟ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 30 ـــ 37]. فكِّر قبل أن لا تستطيع أن تفكِّر، وأحكم سفينتك في هذه الأمواج، أمواج الشرّ والضلال التي تتقاذفك ذات اليمين وذات الشمال، فكِّر أن تحكم سفينتك قبل أن تغرقك الأمواج، وأنتَ تقول لنفسك ستركب الأمواج. إنَّ الذين يركبون الأمواج إذا لم يكن ركوبهم لها من موقع ثابت فستقلبهم الأمواج، وتتقاذفهم إلى عمق البحر.
عمى القلب أخطر من عمى العين
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [النساء : 114] كثير من أحاديثهم، التفتوا وأنتم تسمعون الآية، تذكَّروا أحاديثكم في السهرات، وتذكّروا أحاديثكم في اجتماعاتكم الحزبية والحركية والعائلية والبلدية والطائفية وما إلى ذلك، كيف تتحدَّثون؟ ما موضوعات حديثكم؟ ماذا تريدون؟ قد يتحدّث بعض الناس: كيف نقتل بريئاً وكيف نخطف بريئاً أو نسجنه أو نعذّبه أو نأخذ مال هذا بغير حقّ أو نعتدي على عرض هذا. وقد يفكّر الناس بذلك عندما يجتمعون بشكلٍ سرّي والله يحيط بهم ويقول إنَّ أغلب نجواكم، والنجوى عبارة عن الحديث السرّي الذي لا يعرف أحد مضمونه {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} لأنَّ كثيراً من نجواهم تتركَّز على إفساد حياة الناس وإيذائهم وتعطيل مصالحهم وإلقاء الفتنة بينهم، وإثارة الإشاعات الكاذبة والاتّهامات الباطلة التي تثير المشاعر وتوتّر الأعصاب، أو تحرِّك الأنانيات الشخصية أو الأنانيات العائلية أو الأنانيات الحزبية والسياسية أو كلّ ما يثقل حياة الناس.. الله يقول لا خير فيها. وإنْ لم يكن فيها خير فمعنى ذلك أنّكم أضعتم حياتكم سدىً في ما تحدّثتم به، وستواجهون المسؤولية عمّا أضعتم حياتكم فيه. سيقول الله لكم: لقد كان لكم فرصة أن تصنعوا الخير، فلماذا أطعتم غرائزكم وأطعتم كبراءكم والمستكبرين منكم والطّاغين والكافرين والظالمين؛ لماذا أطعتموهم في معصيتي؟ وتقول {... رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ...} [المؤمنون: 99 ـــ 100]، يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ العائلي والعصبية العائلية فأغشت عيني عن الحقيقة. يا ربّ كنتُ غارقاً في الجوّ الحزبي والعصبية الحزبية فأغلقت عقلي عن الرؤية الواضحة، كنتُ غارقاً في أجواء العصبيّات الطائفية وغير الطائفية فأفقدتني رؤية الأشياء بطريقة واقعية، وها أنا عرفت ذلك، الآن انكشف عنّي الغطاء كما قلت في كتابك عندما تحدّثت {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ*وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ*وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ*وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ*لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 18 ـــ 22] الآن ترى جيّداً... في البداية أغشت العصبيّات عينيك وقلبك، لأنَّ للإنسان عينين في قلبه، يرى فيهما الأشياء المعنوية كما له عينان في وجهه يرى فيهما الأشياء المادية. وعمى القلب أخطر من عمى العينين، لأنَّ الإنسان إذا كان أعمى البصر في قلبه فلا تفيده عيناه في وجهه {... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 46]، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 125 ـــ 126].
كيف نحرِّك كلامنا في طريق الخير
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} معنى ذلك أنّ أكثر كلامكم، ليس فيه خير، ليس له طعم، لا تستفيدون منه، بل يضرّكم، لهذا ناقشوا كلامكم، وحاسِبوا كلامكم {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} دلّنا يا ربّنا على الخير، تريد منّا أن يكون كلامنا كلام خير، ونجوانا نجوى خير، دلّنا يا ربّنا على الخير {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} في الحياة حاجات للنّاس الفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل والمحرومين، وللمشاريع التي تخدم الناس في حاجاتهم. وللجهاد في سبيل الله حاجات، وللدعوة في سبيل الله حاجات، ولكلّ ما يرفع مستوى الحياة حاجات. تريد أن تتحدّث، خطِّط مع أصدقائك، مع إخوانك، استنفر جاهك، استنفر علاقاتك، استنفر إمكاناتك، حرِّك فكرك حتّى تهيّئ السبيل للناس، لأنْ يلتقوا على الصدقة يدفعونها. والصدقة هي كلّ مال تدفعه في سبيل الله، وإذا وسَّعنا الصدقة فهي تشمل كلّ علم تنفقه في سبيل الله، كلّ قوّة تنفقها في سبيل الله، كلّ جاه تحرّكه في سبيل الله، كلّه صدقة. الكلمة الطيّبة صدقة.
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء : 114]، وكلمة المعروف تتّسع لكلّ ما شرَّعه الله من أعمال الخير، ممّا أوجبه الله على الناس أو ممّا استحبَّه الله للنّاس. المعروف الذي كان أساس الرسالات فالرسل جاؤوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. والله قال لنا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران : 104] والحسين (عليه السلام) وضع عنوان ثورته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" والنهي عن المنكر يدخل في المعروف.
إنَّ المعروف الذي يمثّل مواقع محبّة الله ومواقع رضى الله ومواقع البعد عمّا يسخط الله، هذا المعروف يبني لك حياتك، ليعطيك الاطمئنان والاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع، لأنَّ الناس إذا تعاملوا بالمعروف، وعرف كلّ واحدٍ منّا أنّ له حقّاً وعليه واجباً، وأنّ الله لم يخلق الحياة لهذا الشخص، فإنَّ المجتمع يعيش الاستقرار والطمأنينة.
فالحياة لي ولك وللآخرين، ونِعَم الله لي ولك وللآخرين. ليس لي أن أحتقر الآخر، بل لا بدّ لي من أن أعيش على أنّك موجود معي، جداري على جدارك. والطريق لي ولك والساحة العامّة لي ولك، وما خلق الله من ماء وغير ذلك لي ولك، ليس لك أن تستأثر عليَّ بشيء لمصلحتك الذاتية، ولا حقّ في أن أستأثر عليك بشيء لمصلحتي الذاتيّة. الحياة شركة بين عباد الله، ولقد جعل الله لكلّ إنسان دوراً وساحة وحقّاً وإمكانيات، فعليه أن لا يتجاوز حقّه لأنّ تجاوز الحقّ يمثّل تجاوزاً لحدود الله، ومَن يتجاوز حدود الله فإنَّ الله لا يرضى عنه.
إنَّ عليك أن تأمر بالمعروف على المستوى الخاص والعام، وأن تحاول في كلّ مجال من مجالاتك، إذا انحرف الفرد أن تنبّهه، وإذا انحرف المجتمع فحاول أن تنبّهه وإذا انحرف الحاكم فحاول أن تنبّهه، وإذا انحرفت الدولة فحاول أن تنبّهها بالكلمة وبالموقف. والموقف يتنوَّع تبعاً لتنوُّع الظروف التي تفرض الموقف {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} انتبهوا إلى كل الكلمات، إنَّ الله يحدِّثنا، لا تستغرقوا في حديثي، فأنا أحاول أن أفهم كلام الله، وأن أشرح لكم كلمات الله، استغفروا ربّكم، يقول لكم لا خير في كثير من نجواكم، لأنّكم في كثير من الحالات عندما تستمعون إلى عِالم أو واعِظ أو ناصح، لا تنتفعون بكلامه، تسألون: هذا العالِم لمن ينتمي؟ وذاك الواعظ في أيّ دائرة يتحرّك؟ وهذا الناصح من أيّ موقع يتكلّم؟ تستغرقون في شخص القائل، ولا تستغرقون في كلامه، ولهذا لا تنتفعون بكلامه. بعض الناس لا يستمع لأحد إلاّ إذا كان من "جماعته" وإلاّ فإنّه يشوِّش عليه. الصلاة عندنا صارت بحساب، وسماع الكلمات بحساب، "والسلام عليكم وعليكم السلام" بحساب، والمشاعر بحساب... لماذا؟ لأنّنا استغرقنا في الزاوية الضيّقة وأصبحنا جماعة الزواريب. لكنَّ أُفق الله كبير، أُفق الله واسع الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، ربّنا الذي وسعت رحمته كلّ شيء ربّنا الذي يهيمن على كلّ شيء.
الحكمة ضالّة المؤمن
استمع إلى الحكمة أينما وجدتها، ليكن الذي يتحدّث إنساناً ليس من جماعتك، لكن اسمع حديثه وفكِّر في حديثه، فإمّا أن تنقضه أو تقبله. إنّي أدعوكم دائماً للاستغراق في كلمات الله، لأنّك عندما تشعر أنّ حياتك معلَّقة بربّك وأنَّ ربّك يخاطبك، ويا لسعادة الإنسان إذا أعطى نفسه الجوّ الروحي وهو يشعر أنّ الله يعطيه كلماته، كما تساقط نقاط الضوء من الفجر ليُمَتِّع عينيه بالفجر، والله ينزل على روحك كلماته، تماماً كما ينزل قطر المطر على الأرض الميتة ليحييها. هكذا افتح قلبك الجديد لكلمات الله حتّى يحبّك الله، وافتح كلّ حياتك لآيات الله حتّى يشرق فيها نور الله، لأنَّ مشكلتنا جميعاً أنّنا ننسى الله دائماً ونذكر عباده، وأنّنا نغفل عن لقاء الله، ونستغرق في لقاء عباده. لهذا الله يريدنا أن نتذكَّر {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى : 9] لأنَّ بعض الناس لا ينتفعون بالذكرى، لأنّهم يغلقون قلوبهم، مَن الذي يتذكَّر؟ مَن يخشى؟ الذي يخاف الله يظلّ يلاحق الكلمات، لعلّها تفتح له نافذة على الله {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى*وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى*الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى*ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 10 ـــ 13] ومن ثمّ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى*وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 ـــ 15] لكنَّ مشكلتكم {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] "الحياة نقدي والآخرة قرضي" وما عاقل باع الوجود بدين مثلما قال عمر بن سعد {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 ـــ 17] هذا حديث كلّ الأنبياء {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 ـــ 19] هذا الجوّ دائماً أُذَكِّر نفسي وأُذكِّركم به، أن نسمع دائماً كلام الله وأن نفتح قلوبنا، وأن نستغرق في كلمات الله، ونحاول أن تخشع قلوبنا لذكر الله.
متى يكون الصدق حراماً
إنَّ الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إذاً نحن الآن نريد أن نستزيد إيماناً، نريد أن ندخل المسجد وفي قلوبنا نسبة معيّنة من الإيمان... ما رأيكم في أن نحصل على زيادة هذه النسبة، والإيمان العملي، الإيمان المنفتح على الله سبحانه وتعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لنأمر بالصدقة بمعناها العام والخاص، {أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء : 114] أن نعمل على أساس أن نكون المصلحين لا المفسدين، وأن نكون المقرِّبين لا المبعِدين، وأن نكون الموحِّدين لا المفرِّقين والمقسِّمين، على مستوى الأشخاص وعلى مستوى الجماعات وعلى مستوى الأُمّة كلّها. قد يقول بعض الأشخاص أُريد أن أتصدَّق لكن أحوالي ضيّقة، ومنتوجي لا يكفي عائلتي، فهل هناك صدقة غير صدقة المال؟ الله يقول لك من خلال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، في ما يعبّر به عن فهمه لكتاب الله "صدقة يحبّها الله إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"(1) فهل لنا أن نستجيب ونخطِّط لأنْ نأمر بالصدقة بمعناها العام أو الخاص؟ لو حصلت مشاكل بين الناس وصار هناك فساد في العلاقات، فأردت أن تتصدَّق صدقة يتقبّلها الله، فحاول أن تدخل في الصلح بين الناس بقدر ما تستطيع من جهد وبحسب ما تتمكّن في حياتك، ممّا أعطاك الله من إمكانات عملية، فإنَّ تلك صدقة يحبّها الله: "إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسَدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا" وإذا اضطررت لأن تكذب في مقام الصلح فإنَّ الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن لسان الأئمّة (عليهم السلام) من خلال ما رووه عن لسان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإنَّ المصلح ليس بكذَّاب. إذا توقَّف الصلح على أن تقول كلاماً لهذا لم يقله ذاك، أو تقول كلاماً لذاك لم يقله هذا فاكذب. والله يعطيك الأجر على كذبتك، لأنَّ الله حرَّم الكذب؛ لأنّه مفسدة بين الناس في وعيهم للحقيقة، ولكن إذا كان الكذب يشتمل على مسألة تصلح بين الناس وتجمع بينهم حتّى يتحرَّكوا جميعاً مع الحقّ، فإنَّ ذلك يجعل الكذب طاعة ويجعل الصدق معصية، كما هي طريقتنا في الحياة. فإنّك إذا سمعت أحداً يتكلَّم عن شخصٍ آخر تأتي إليه، وتقول له فلان قال عنك كذا وكذا. صحيح أنّك صادق في ما تقول، لكنّه صدق يدخلك النار، صدق يجعلك نمَّاماً، ويجعل فتَّاناً. الله سبحانه وتعالى ذمَّ الهمَّاز المشَّاء بنميمة، ولذلك إذا جئت لفلان وتكلَّمت عنه بصدق، لكنّه كلام يدخلك النار، فعقاب الغيبة النار. البعض يقول أنا لا أغتاب، إنّما تكلَّمت بصدق عن عيب هذا الشخص، إنّك مغتاب إذا ذكرت عيبه الموجود فيه، أمّا إذا ذكرت عيباً ليس موجوداً فيه فهذا يسمّى بهتاناً. إنَّ هناك كثيراً من حالات الصدق تكون حراماً، لأنّها تسيء إلى حياة الناس. لا يجوز لك أن تقول كلّ كلمة صادقة، لأنَّ بعض كلمات الصدق تسيء إلى العلاقات العامّة بين الناس. لو أنّك اطّلعت إلى سرّ عسكري وأمني أو سرّ اقتصادي أو سياسي لأُمّتك وجاءك من يسألك عن هذا السرّ، فهل تقول إنّه يجب أن أتكلَّم الصدق أمام المحقِّق الإسرائيلي، أو المحقّق الأميركي، أو أيّ محقِّق آخر يطلب أن تقول الصدق؟ قل والله العظيم سأقول الصحيح، تستشكل أنت، تقول إنّه يسألني عن فلان أين موجود؟ ماذا يفعل؟ أنا أعرف.. إذا قلت لا أعرف كذبت، فإذاً يجب أن أصدق، هذا منطق غير الواعين. إنَّ المحقّق الإسرائيلي أو أيّ محقّق من هذه المخابرات هو ضدّ الإنسانية، وضدّ الإسلام والمسلمين، لذلك يحرم عليك أنْ تتكلّم إذا كان السرّ يتعلَّق بأخيك أو بأُمّتك، باعتبار أنّه يعرِّض حياته أو حياة أُمّتك للخطر. يجب عليك أن تكذب، فإذا صدقت فأنتَ مأثوم، وإذا كذبت فأنتَ مأجور، احلف بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل، ونجِّ أُمّتك من الهلاك.
الأخلاق في الإسلام نسبيّة. في الإسلام تنطلق الأخلاق من خلال مصلحة الأُمّة، لهذا المصلح ليس بكذّاب.
الأحكام الشرعية لمصلحة الإنسان
وعلى هذا الأساس، الله اهتمَّ بالإصلاح. وقد ورد في آخر وصية للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول فيها وعليكم بإصلاح ذات البين "فإنّي سمعت رسول الله يقول إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(1) يعني إذا دار الأمر بين صلاة مستحبّة أو صيام مستحبّ وبين أن تصلح بين الناس، إذا دار الأمر بين أن تذهب لصلاة اللّيل أو تذهب لتصلح بين زوجين من جيرانك، فإصلاح ذات البين أفضل من صلاة اللّيل. إذا كنت في مكّة وتريد أن تطوف بالبيت أو بدأت الطواف وجاءك شخص، وقال: اثنان من الحجَّاج تخاصما، "وستصل إلى حدّها". اقطع طوافك واذهب وأصلح بينهما فإنَّ ذلك أفضل من الطواف. انتبهوا لهذا الموضوع، لأنَّ الله، حتّى العبادات من الصلاة والصوم والحجّ، جعلها لمصلحة الإنسان، {... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت : 45]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]، يعني كلّها لمصلحة الإنسان. فالإصلاح بين الناس هو أفضل من عامّة الصلاة والصيام. وفي تفسير الإمام الصادق لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة : 224] ليس معنى ذلك أنّك إذا أصلحت مرّة مثلاً بين جماعة وفشلت وتضرَّرت، تقول هذه آخر مرّة أصلح بين الناس، لأنَّ الذي يدخل في صلح هو الذي يبتلي على أمره. ويأتيك الناس بعد حين، يعرضون عليك مشكلة، لتحلّها فترفض وتتذرَّع بأنّك أقسمت أن لا تتدخّل في المشاكل. الله يقول لكم: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} فكأنّك تأتي باسم الله، لتجعله حاجزاً بينك وبين التقوى وبين الصلح وبين الناس. عندما تأتي باسم الله وتحلف به فالتزم التزامات يحبّها الله، ولا تلتزم ما لا يحبّه الله. لو حلفت بالله ألف مرّة على أن لا تصلح بين الناس، وجاءك مَن يطلب منك الإصلاح بين الناس، فاذهب ولا تسأل عن يمينك، لأنَّ اليمين لا يصحّ إلاّ في طاعة الله، وإذا كان اليمين في غير طاعة الله فلا قيمة له أبداً، وليس فيه كفّارة أبداً. فالإمام يقول، إذا دعيت ـــ تعليقاً على هذه الآية ـــ لصلح بين اثنين فلا تقل عليَّ يمين أن لا أفعل، لا تحلف، وإذا حلفت لا تأخذ بحلفانك. أنا أذكّركم بالخطّ الإسلامي، الله أنزل الشريعة كلّها: الحلال والحرام، الواجبات، المستحبّات، كلّها أنزلها لمصلحة الإنسان. الشريعة هي التي تخدم الإنسان وليس الإنسان هو الذي يخدم الشريعة. ولهذا يبقى الحرام حتّى تقع في حَرَجٍ شديد أو في اضطرار. ما من شيء إلاّ وقد أحلَّه الله لمن اضطر إليه، يبقى الواجب واجباً إلاّ أن تقع في حَرَجٍ فيسقط الواجب، لأنَّ الله يريد أن يخطّط للإنسان بطريقة يستطيع الإنسان من خلالها أن يعيش حياته بشكلٍ جيّد {... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185].
لهذا عندما نتعمَّق في الإسلام من خلال طبيعة حركة الأحكام الشرعية والحلول التي وَضَعَها لمصلحة الإنسان، فإنَّنا نزداد بذلك إيماناً ويقيناً بأنَّ الإسلام وحده هو سرّ الخلاص، ولا نتركه إلى غيره ولا نستهين به، وبعدها لا نقبل أن نجعل أحداً يقف بيننا وبين الإسلام، أو يخذلنا عن الإسلام، أو يبعدنا عن الإسلام. نريد أن نعيش في الدُّنيا كلّها، نعيش بين اليهود والنصارى، وكلّ الملل والطوائف. يجب أن نعيش ونبقى نقول الإسلام هكذا، الله يريد الإسلام بهذه الدرجة.
بين الدين والسياسة
إنَّ المؤمن حسب ما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) أعزَّ من الجبل. كم هو الجبل صلب قوي، ولكنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، لأنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء. المؤمن تأتي المصائب وتأتي كلّ الضغوط وتأتي كلّ التحدّيات ولا تُسقط منه موقفاً، الإمام الصادق يقول: "إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل، إنَّ الجبل يُسْتَقَلُّ منه بالمعاول، وإنَّ المؤمن لا يُسْتَقَلّ من دينه شيء"(1) يجب أن نفهم هذا الحديث جيّداً، لهذا لو أتت الدنيا وقالت لأيّ واحدٍ منّا خفِّف من إسلامك، ابتعد عن إيمانك، حاول أن تسير مع الناس، حاول أن تعبد آلهة الناس سنة وأن يعبدوا آلهتك سنة، دعها لبنانية لا غالب ولا مغلوب، نصف كفر ونصف إيمان، كنْ مؤمناً في الصلاة والصوم والخمس والزكاة لكن كنْ كافراً في السياسة والحكم وكلّ الأوضاع. هناك أُناس يشجِّعون فصل الدين عن الدولة، فصل السياسة عن الدين، ما معنى هذا؟ معناه عندما تريد أن تمشي بالسياسة امش بصفة غير متديِّن واعمل ما تشاء. أنا عندما أمشي بالسياسة بصفتي غير متديِّن فإنّني سأُخَرِّب حياة الناس. الدين الحقيقي ليس شعارات وحدها، وهكذا الدولة إذا فرغت من الدين في قوانينها، ابتعدت عن مصلحة الإنسان. أنا دائماً أُكَرِّر هذه النقطة، البعض قد يصفها بالتطرُّف، ويقول يجب أن "نطرّيها" قليلاً. لا، أتعرفون كيف "نطرِّيها"؟ أن نصبح مسلمين حقيقيّين، وإذا أصبحنا مسلمين حقيقيّين يصبح عندنا قاعدة نعرف فيها كيف نعيش مع الناس الآخرين. يجب أن يكون للنّاس قاعدة يرتكزون عليها في حياتهم. أتعرفون لماذا ليس في لبنان وفاق؟ لأنَّ المسلمين لا ينطلقون من الإسلام، ولا المسيحيون ينطلقون من المسيحية. الإسلام والمسيحية واجهتان. نحن نريد أن ندخل الإسلام إلى العمق بكلّ حكم شرعي، بكلّ عقيدة، شخصيّتنا الإسلام وهذه الشخصية يجب أن نحافظ عليها، نربّي عليها أولادنا، نصرّ على أن لا نترك الإسلام {... مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج : 78].
لا مساومة على المبدأ
على هذا الأساس، نريد أن ننطلق بالإسلام بشكلٍ جيّد وندعو له بشكلٍ جيّد ونصر على أن نتحرّك فيه بالروحية، التي وقف فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أمام عمِّه أبي طالب وهو ينقل إليه عرض المشركين: ماذا تريد، إنْ كنتَ تريد ملكاً ملَّكناك علينا وإنْ كنتَ تريد مالاً فهذه أموالنا بين يديك، وإذا كنتَ تريد زوجة أعطيناك أفضل بناتنا، لكن أترك هذه القصّة، لا تخرِّب علينا مجتمعنا، نحن موحّدون على الكفر وعلى الشرك، وكلّنا متّفقون على الأصنام. أنتَ الآن تقول إنَّ هناك إلَهاً واحداً {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صـ : 5] هذا طرح المشركين، كم يوجد طروحات الآن من هذا القبيل؟ يأتون إليك ليقولوا اترك هذا الالتزام ونوظّفك وظيفة، كم يعطونك 10 آلاف؟ نعطيك 100 ألف. إنَّ هذا منطق الكثير من الناس على مستوى المخابرات وغير المخابرات، لكن أجاب النبيّ: "والله لو وضَعَوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شمالي على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته أو أُهْلَكَ دونه"(1). هذه كلمة ولها تتمّة ولكنَّ التتمّة من الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]، قولوا كما يقول، ليكن موقفكم من خلال موقفه، تحرَّكوا كما تحرَّك؛ الله جعله الرسول القائد والرسول القدوة، فانطلقوا في خطّ قيادته، وتحرَّكوا في خطّ الاقتداء به، قولوا لكلّ مَن يقول لكم انحرفوا عن دين الله وعن خطّ الدعوة إلى الله وعن خطّ الجهاد في سبيل الله، ليطمعكم بالمال أو بالشهوات أو بالجاه، إذا كنتم ترجون الله واليوم الآخر، قولوا له: إنَّنا أتباع محمّد، ومحمّد قال للمشركين ذلك، ونحن نقول لكم ذلك. قولوا لهم كلّنا نريد أن نكون محمّداً ولو بنسبة الذرّة إلى الجبل، أو بنسبة القطرة إلى البحر ذلك هو الخطّ.
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه وحدها لا تكفي، فقد تأمر بصدقة حتّى تصبح وجيهاً، تأمر بمعروف ليقال فلان الواعي الواعظ، تأمر بإصلاح بين الناس ليقال هذا من المصلحين. لا، هنا يقول الله ليس لهذه الأعمال عندي حساب، لماذا؟ أنتَ فعلت ليقول الناس عنك ذلك وقد قال الناس ذلك، أخذت حسابك منهم، ما دخلي أنا، دفعت الصدقة على حسابي، أمرتَ بالمعروف على حسابي، أمرتَ بالإصلاح بين الناس ليرضي ذلك الناس، وقد رضي عليك الناس، ماذا تريد منّي؟ أكثر من ذلك، إذا فعلت شيئاً لله ولغير الله، فالله يقول أنا خيرُ شريك، إذا فعلت الشيء لي ولغيري تركتها لغيري، الله يقول أنا لا أحبّ الشراكة {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف : 29] لهذا الله ركَّز {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 114] يجب أن تفعل ذلك على أساس مرضاة الله، قربة إلى الله وامتثالاً لأمر الله، وهذا هو سرّ المؤمن وميزته عن غير المؤمن؛ إنَّ المؤمن يعمل لله وللحصول على رضى الله، وغير المؤمن يعمل لغير الله، ولهذا جعل الله على نفسه أن يثيب الذين يعملون له، لا الذين يعملون لغيره، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يرتبط به بقلبه، وأن يرتبط به بعمله في كلّ مجالات الحياة.
كيف نعالج الخلافات في مجتمعنا
وفي آيةٍ أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9] هذه الآية تعالج الخلافات داخل المجتمع الإسلامي، فالمسلمون ليسوا ملائكة، فهناك مشاكل تحدث في ما بينهم، خلافات مالية أو سياسية أو اجتماعية أو ما إلى ذلك والشيطان يعرف كيف يدخل. الله يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53]، وقال أيضاً سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 ـــ 91]، معناه أنّ عمل الشيطان أن يحرّك ويثير العصبيّات، ويثير المشاكل حتّى يخلق العداوة والبغضاء بين الناس، وحتّى يقودهم إلى التحاقد والتباغض والتحاسد والتقاتل. إذاً فالمؤمنون يمكن أن يتقاتلوا إنْ على حقّ أو على باطل، المقصود بالمؤمنين هم المسلمون، وفي هذه الحالة ما مسؤولية المجتمع المسلم؟ هل مسؤولية المجتمع المسلم، إذا حدث هناك قتال بين المسلمين، أن يثير العصبية هنا وهناك، ويشعل النار ويكبّر المسألة؟ لا، {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وهنا الاقتتال لا يلغي صفة المسلمين عن الطرفين، لأنَّ الله يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الله وصفهم مع القتال بأنّهم مؤمنون يمكن أنْ يتقاتلوا، والقتال معصية من المعاصي {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يعني تدخلنا بالصلح، لكن فئة تمرَّدت وأرادت أن تقوم بالعدوان على الفئة الأخرى بكلّ أساليب العدوان والبغي، {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} لأنّها سوف تعطّل عملية الصلح ومصلحة المجتمع {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يعني على أساس أن لا تميلوا لفئة على فئةٍ أخرى {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9]. إنَّ هذا المبدأ القرآني يفيد أنَّ الأُمّة المسلمة مأمورة بأن تصلح بين المسلمين، وأهمية الإصلاح بين المؤمنين لا بدّ من أن تخضع للمصلحة الإسلامية العليا.
المصلحة الإسلامية بين السلم والحرب
إنَّنا عندما نتناول موضوع السلم والحرب في حركة التشريع الإسلامي، نرى أنّهما ينطلقان من المصلحة الإسلامية العليا. قد تفرض هذه المصلحة الحرب، وذلك عندما يكون الخلاف بين حقٍّ وباطل، حتّى في داخل المجتمع الإسلامي، حيث لا يكون من مصلحة المجتمع الإسلامي أن تُسالِم الفئة الضالّة كما في حروب الإمام عليّ (عليه السلام). وضمن ظروف معيّنة، تخاض الحرب لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، وذلك في الحالات التي فيها إمكانية أن تقوى كلمة الله؛ عندها لا يجوز للحرب أن تتوقَّف، لأنَّ النتائج التي تحصل من خلال الحرب تفوق الأضرار التي تحصل في الحرب، باعتبار أنَّ النتائج تكون لمصلحة الأُمّة كلّها.
في بعض الحالات ربّما تكون هناك مصلحة للمسلمين في مسألة الصلح، أي السلم، وذلك عندما تتعرَّض كلمة الحقّ للخطر في حالة استمرار الحرب، كما لاحظنا في تجربة الإمام عليّ (عليه السلام) مع معاوية في حرب صفّين. ففي هذه الحرب نجح معاوية في إثارة البلبلة في صفوف جيش الإمام أثناء رفع المصاحف، ولم يكن جيش الإمام (عليه السلام) كلّه عقائدياً، وهذا أدّى إلى تعرُّضه للانقسام. فالإمام عليّ (عليه السلام) لو لم يوافق على التحكيم، لكان من الممكن أن يقاتل جيشه بعضه بعضاً، الأمر الذي يؤدّي إلى انتصار معاوية بدون الدخول في أيّ معركة. وعندما درس الإمام (عليه السلام) هذا الظرف، رأى أنّ الأمر يدور بين أن ينقسم الجيش ويُقاتل بعضه البعض، وبالتالي يهزم في الحرب، وبين أن يقبل بالتحكيم وتقف الحرب بانتظار ظروف أفضل، لأنَّ التحكيم لا يلغي النزاع بل يجمّده، وهكذا كان. إنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) كان مؤمناً بشرعيّة حربه، وحتّى آخر أيام حياته، لأنّه كان يعتبر أنَّ معاوية يمثّل الخطر على الواقع الإسلامي، وأنّ عدم مواجهته ليس لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولكنّ الظروف لم تساعده.
لقد جمَّد الإمام عليّ (عليه السلام) الحرب على أساس أنّ استمرارها سوف يؤدّي إلى تأثّر موقف الحقّ بمواقع الضعف الطارئة فيسقط الحقّ. الآن، نحن إذا خُيِّرْنا بين أن يفقد الحقّ شيئاً من هويّته أو من هيبته أو من معنوياته وبين أن يزول كليّاً، فليس أمامنا بالطبع إلاّ القبول بخسارة هذا القدر حتّى لا يسقط الحقّ كليّاً.
صلح الحسن يحفظ المعارضة
انطلاقاً من هذه الأجواء، نطلّ على سيرة الإمام الحسن (عليه السلام) ومسألة صلحه مع معاوية. هناك بعض الناس يقولون إنَّ هناك أسلوباً حسنيّاً وأسلوباً حسينياً. هذا الفهم خاطئ، فهو يصوِّر لنا أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) شخصية مسالمة وشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) شخصية ثائرة، هذا خطأ. إنَّ قصّة الصلح لم تكن منطلقة من أنّ شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) مسالِمة وإلاّ لماذا قاتل؟ إذا كانت شخصيّته شخصية مسالِمة فلماذا قاتل من الأساس؟ لقد قاتل لأنّه كان مؤمناً بالقتال، ولقد وافَقَ الإمام الحسين (عليه السلام) على الصلح الذي عقده الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، ولهذا فالحسين (عليه السلام) لم يحارب معاوية، لأنّه وقَّع على الصلح مع أخيه، والتزم بهذا الموقف. لم يعلن الثورة ضدّ الحكم الأموي إلاّ بعد وفاة معاوية، حيث أصبح الإمام الحسين (عليه السلام) في حلٍّ من التزاماته.
إنَّ الصلح الذي قام به الإمام الحسن (عليه السلام) كان ناشئاً من طبيعة الظروف التي وصلت إليها الحرب. فأغلب قادة جيش الإمام (عليه السلام) مالوا إلى معاوية بعد أنْ أغراهم بالمال، بمن فيهم ابن عمّه عبيد الله بن عبّاس، كما استطاع معاوية أن يدسّ جواسيسه في صفوف الإمام الحسن (عليه السلام)، ممّا أدّى إلى حالة من الفوضى داخل جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، وهنا دار أمر الإمام (عليه السلام) بين استمرار الحرب، والتضحية بالبقيّة المؤمنة الملتزمة بخطّ الإسلام، بخطّ عليّ (عليه السلام) وخطّ الحسين (عليه السلام) باعتبار أنّ التوازن بات مفقوداً، وهذا معناه زوال كلمة الحقّ وترسيخ كلمة الباطل في كلّ الواقع الإسلامي؛ وإمّا أن يجمِّد الحرب، وفي تقديره إعطاء الناس فرصة للاستراحة، حتّى يعرفوا طبيعة الحكم الأموي الذي مارَسَ دوراً كبيراً في تضليل الناس، ثم ينتظر ظروفاً أفضل لمتابعة الحرب.
لقد قال الإمام الحسن (عليه السلام) لأصحابه، حينما كانوا يعاتبونه على الصلح، "إنَّما صالحت لأحفظكم". كان المهمّ هو حفظ خطّ المعارضة الأصيل الذي باستمراره يُحفظ الحقّ، ولهذا وقف الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يمثّل روح الثورة إلى جانب أخيه، مدافعاً عنه أمام الذين كانوا يقفون ضدّه.
كربلاء تهزّ الواقع الإسلامي
في الاتجاه نفسه، كيف نفسِّر ثورة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ إنّنا نفهم القضية على أساس أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لو سالَم، لَسَقَطَ آخر حاجز يحجز الناس عن الانهيار. لقد أراد بثورته إحداث صدمة قويّة في الواقع الإسلامي، ولقد برزت الصدمة من خلال الوضع المأساوي الذي لفَّ كربلاء، والفظاعة التي امتدت في كلّ الاتجاهات، والموقف الصّلب الذي أكّده الإمام (عليه السلام)، حيث اهتزّ الجوّ تماماً ما بعد كربلاء فعصفت رياح الثائرين والمعارضين تدكّ مواقع الظلم والانحراف، ويدلّ بيت الشعر الذي ينسب للإمام الحسين (عليه السلام) وهو في الواقع لسان حاله، على الخلفية الحقيقيّة لحركته:
إنْ كانَ دينُ محمَّدٍ لم يستقِمْ إلاّ بقتلي يا سيوفُ خذيني
لو لم تكن كربلاء ولو لم يقاتل الإمام الحسين (عليه السلام) يزيد، لمَا تمخَّض الواقع عن أيّ إمكانية لحدوث ثورة مستقبليّة، ولهذا كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة مستقبليّة بحسب مرحلتها وبحسب الظروف الموجودة، حتى تكون صدمة للواقع الإسلامي.
إيران توقف الحرب لحفظ الثورة
ضمن هذا المنظار، نتطلَّع إلى الثورة الإسلامية في إيران وإلى مسألة قبول الإمام الخميني (قدِّس سرّه) بوقف إطلاق النار، ونضع هذا الموقف ضمن ظرفه، واستجابة لضغوط الواقع السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي الذي أحاط بالثورة الإسلامية. إنَّ العالم كلّه، أميركياً وأوروبياً وسوفياتياً وعربياً، العالَم كلّه أخذ يحاصر إيران، يعني، (بلا قياس وتشبيه) تماثل وضعها مع وضع المانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث تعرَّضت لحصار وحرب شاملين، وضع إيران كان هكذا. القنبلة الذريّة أُلقيت على هيروشيما، صحيح أنَّ القنبلة الذريّة لم تُلْقَ على إيران، ولكنَّ الأسلحة الكيميائية هي بحجم القنبلة الذريّة، باعتبار أن لا وسيلة دفاعية في مواجهتها، وكان منتظراً إطلاق المزيد من الصواريخ الكيميائية على المدنيين كما أطلقت في السابق. وقد تسلَّح هذا الصمت المريب بحجّة، عُمِلَ على تسويقها في العالم ومفادها أنّ إيران لا تقبل السلام وأنّ العراق يريد السلام. وتوحَّد الموقف العالمي على حصار إيران، فَمُنِعَ تصدير النفط بدرجة كبيرة، وتوقّفت البضائع الضرورية عن الوصول، حتّى أصبح من الصعب أن تلبّي حاجات المواطنين لأكثر من شهر أو شهرين، وأُثير كثير من الأوضاع حيث إِنّ إيران لم تستطع تحمُّل ذلك. في الوقت نفسه، راهن الأعداء الإقليميون والدوليون على أنّ الإمام الخميني (قدِّس سرّه) لن يقبل بوقف إطلاق النار، ولهذا كانوا يراهنون على إسقاط الثورة. وجاء الموقف نتيجة دراسة المعطيات دراسة واعية ودقيقة وواقعية، وكان الأمر يدور بين استمرار الحرب وحفظ هذا الوهج المعنوي للثورة، لكنَّ النتيجة ستكون إسقاط الثورة والجمهورية؛ وبين إيقاف الحرب وبقاء الثورة، ومحاولة الانطلاق بالرسالة الإسلامية بأساليب جديدة، بعد أنْ طُوِّقَت وحوصرت الأساليب السابقة. ونحن نفهم أنَّ المسألة انطلقت من مصلحة الإسلام في ظلِّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها إيران الإسلام.
الأنانيّات توقد نار الفتنة
وبالانتقال إلى واقعنا الصّعب في لبنان، وانطلاقاً من رصدنا لمجمل الظواهر، نشعر بأنَّ الصلح بين المسلمين يمثّل مصلحة إسلامية عليا على جميع المستويات، سواء على مستوى الواقع السياسي الداخلي، أو على مستوى الواقع السياسي في العالم، لأنَّ المراهنة على أن تبقى الخلافات في الزوايا الضيّقة، وأن تبقى الأساليب المعقَّدة العدوانية التي تثير العصبيّات وتثير الغرائز وتثير إرادة القتال من جديد. لهذا نشعر بأنّنا في المرحلة التي لا يجوز فيها إطلاقاً بقاء هذا التقاتل والتراشق بالكلمات القاسية وما إلى ذلك من أمور. لأنَّ المسألة هي أنّه لن يستفيد أحد، بل سيسقط الجميع أمام التحدّيات التي تفرض عليهم. ونحن نقول لكلّ الشعب ولكلّ المؤمنين ولكلّ الناس، إنَّ عليهم أن يقفوا ضدّ كلّ من يريد أن يعطِّل الصلح بين المؤمنين وبين المسلمين، نتيجة عُقَد ذاتية أو نتيجة مصالح فئويّة، لأنَّ المسألة أصبحت تتجاوز القيادات، لأنّها تمثّل الخطر على كلّ الأُمّة. وإنَّني تكلَّمت كثيراً في هذا المجال، وأتكلَّم الآن لِأُحَمِّل كلّ الناس المسؤولية في ذلك، لأنَّ الأكثرية الصامتة عندما تنطق وأنا لا أُريد أن تنطق بتكلُّف وتشنُّج وانفعال، ولكن أن تنطق من موقع الإيمان، ومن موقع العقل ومن موقع الدراسة الواعية لكلّ الأوضاع، حتّى نستطيع أن نبصر مواقع أقدامنا وحتّى نستطيع أن نبصر النتائج السلبية أو الإيجابية التي سوف نُقْبِل عليها في المستقبل.
إنَّ الواقع في لبنان لا يزال واقعاً يعيش في مهبّ الرياح والعواصف، ولن تُحترَم فئة على مستوى الطوائف وعلى مستوى المحاور السياسية، إذا لم تملك الوحدة والقوّة في صفوفها. ليتحدَّث كلّ واحد في دائرته الخاصّة، ليتحدّث عن عنترياته هنا وعنترياته هناك، وليضخّم شخصيّته.. ولكن عندما تكون بطولاتنا وأنانيّاتنا وكبرياؤنا واستعراضاتنا في دائرة يحيط بها الأعداء من كلّ جانب، فأيّ معنى لتلك البطولة. عندما تملك أرضك، وتملك قرارك، وتملك حاضرك ومستقبلك، فأنتَ الحرّ وأنتَ القويّ، لكن عندما يكون قرارك بيد غيرك ممّن لا يؤتمن على القرار، وعندما تكون أرضك بيد غيرك حتّى لو أعطاك هذا الغير حريّة معيّنة، إنَّ معنى ذلك أنّك لا تحمل من البطولة شيئاً ولا تحمل من القوّة شيئاً.
لقد حدَّثتكم سابقاً عن ذلك السياسي الجنوبي الذي قال: حينما جرى تقسيم الجنوب إلى دوائر انتخابية، "أنا والجنوب كالكبّة في الصينيّة" فمهما قسّمت الكبّة فإنّها تظلّ لمالِك الصينية، المهمّ مَن يملك صينية الجنوب؟ ومن يملك صينية لبنان؟ إذا كانت "إسرائيل" تملك صينية الجنوب فأيّة قيمة لكلّ مكاتبكم، وأيّة قيمة لكلّ مواقعكم، وأيّة قيمة لكلّ الساحات المحرّرة، أو غير المحرّرة؟ لأنّ "إسرائيل" ما دامت تملك الجوّ والبرّ والبحر فليس هناك مناطق محرّرة.
هناك مناطق قيل لكم تحرَّكوا فيها بحريّة ولكن على أساس أن تنضبطوا لأنّنا نمسك بالأمر كلّه.
إنَّ القصّة تحتاج إلى عقل واسع وإلى صدرٍ واسع، ونحن صدورنا ضيّقة، عقولنا ضيّقة وعفنة، دائماً نحرّكها في الزوايا الصغيرة، وكلٌّ منّا يفكِّر بذاته؛ كيف أُضَخِّم شخصيتي، كيف أجمع الناس حولي، لا أُفكِّر بالناس. وعندما لا أُفكّر بالناس يبقى عقلي معفّناً بسبب أنانيتي. عندما أفكر بالناس يتنفَّس عقلي الهواء الطلق.. صدورنا ضيّقة، لا نتحمّل كلمة، إذا شتمنا الواحد فكأنَّ السماء وقعت على الأرض. لا، النبيّ اتُّهم وبقي صدره واسعاً واستوعب الناس {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 128]. إنّنا نحتاج إلى سعة الصدر. ومن يرد أن يصبح زعيماً وقائداً، فعليه معرفة ما قاله الإمام عليّ (عليه السلام): "آلة الرياسة سعة الصدر"(1). تريد أن تصبح رئيساً، وسِّع صدرك للناس من حولك. أحدٌ سبَّك امسحها "بجنبك"، حاول أن تتعامل معه بواقعية، قل للنّاس الذين يسبُّونك كما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهم: "اللّهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"(2) لا تتعقَّد من الناس، أعطهم فرصة يفهموك أكثر، وهذا ما نحتاجه في واقعنا الداخلي.
وبالعودة إلى مسألة الإصلاح، نشعر أنّه ليس فقط علينا أن نصلح داخلنا، نحن نفكِّر أن يكون إصلاح على مستوى الإسلام كلّه. ونحن ندعو المسلمين إلى أن يوحِّدوا علاقاتهم على أساس الوحدة الإسلامية ووحدة العقيدة الإسلامية والخطّ الإسلامي الذي يحفظ التنوُّع، وعلى أساس وحدة المصير الإسلامي ووحدة الآلام الإسلامية، لا نريد أن تنطلق علاقات المسلمين بعضهم ببعض في لبنان من المسائل الطارئة. إنّنا نواجه قضية واحدة تفترض الاجتماع حولها، وبعدها يحلّق كلٌّ في سربه، ويقيم العلاقات مع مَن يريد. يجب أن تتركَّز العلاقات بين المسلمين على أساس قاعدة الوحدة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} [آل عمران : 103]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52].
يجب أن نعيش على هذا الأساس، ثمّ أكثر من هذا، نحن إسلاميون ولكن نحن ندعو إلى الصلح في دائرة جميع اللبنانيين لأنَّ الله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...} [الأنفال : 25]، إنَّ الفتنة حين تثور، فإنَّ كلّ الناس، الظالمون منهم وغير الظالمين، سيكونون وقوداً لها.
نداء إلى المسيحيين
إنَّنا نحرص على أن يكون هناك سلام في لبنان لكلّ اللبنانيين، ولكن على أساس العدل وعلى أساس التوازن وعلى قاعدة الحريّة لكلّ اللبنانيين. وليطرح كلّ اللبنانيين المسلمين والمسيحيين آراءهم، ليقتنع بها الناس أو لا يقتنعوا بها. نحن ندعو لهذا التوجُّه، ونريد أن نقول للمسيحيين وللموارنة بالذّات، إنّكم تعيشون في وهمٍ كبير عندما تعتبرون أنَّ مواقعكم في الدولة اللبنانية تمثّل ضمانات أو امتيازات، إنّكم تتحرّكون بما تسمُّونه ضمانات ونسمّيه امتيازات تحظى بغطاء دولي وإقليمي، لكنّنا نرى أنّ السياسة ليست ثابتة، لا على مستوى محلّي ولا إقليمي ولا دولي.
السياسة تنطلق على مستوى المتغيّرات، ولهذا فإنَّ الذين عرضوا في أثناء الحرب على المسيحيين أن يقدِّموا لهم سفناً لنقلهم إلى استراليا أو غيرها، ليبقى لبنان للمسلمين وللفلسطينيين؛ إنَّ هذا العرض يمكن أن تتبعه عروض أخرى حسب ما تقتضيه مصالح الدول. إنّكم إذا أردتم استقراراً وثباتاً، فعليكم أن تتكاملوا مع مواطنيكم في البلد على أساس قاعدة ثابتة. إنّكم تقولون إنّكم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية. مَن قال إنّنا نريدكم مواطنين من درجة ثانية؟ لكن إذا كنتم لا تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، فلماذا تريدون لمواطنيكم أن يعيشوا في الدرجة الثانية؟ لنكن جميعاً درجة واحدة في هذا المجال، ولنتعاون على بناء لبنان المنفتح على محيطه والمنطلق على أساس القِيَم الإسلامية، التي أكّدها السيّد المسيح في رسالته السماوية. نحن نتكلَّم معكم بصفتنا الإسلامية، نحن لا نتنازل عن صفتنا الإسلامية، لكن نقول إنَّ الإسلام يطلب منّا أن نحاوركم ونتعايش معكم، وأن ننطلق لنقنعكم بما عندنا، وتقنعونا بما عندكم.
في هذا الاتجاه نقول أيضاً: لا تعيشوا في الوهم الكبير، لأنّكم عندما تعيشون في أوهامكم، فلن تستطيعوا أن تعيشوا الحقيقة، إلاّ إذا اعترفتم بالواقع. إنَّ المطلوب أن لا تجعلوا المواطنين درجات، بل اجعلوهم درجة واحدة، تنطلق في الخطّ على أساس إعطاء الحريّة والعدالة للجميع. إنَّ هذا الصوت الذي نطرحه يستهدف تحقيق الإصلاح. وإنَّنا نسأل، لماذا لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية غير ماروني؟ هل إنّكم أفهم من بقيّة الناس، أو أكثر إخلاصاً، أو أوعى، أو أكثر ارتباطاً بالعلاقات الدولية؟ ليس هناك فرق بينك وبين الآخرين، بل ربّما يوجد في الآخرين نماذج أفضل من نماذجكم التي تجعل الناس يعيشون في دائرة محصورة لا يستطيعون الخروج منها.
نوّابنا ينتظرون الوحي الأميركي
وأمام هذه الأجواء والتحليلات الدائرة بين الناس، لا بدّ من كلمة: إنَّ الجميع ينتظرون الضوء الأخضر من خلال اللّقاء السوري الأميركي، أليس الأمر كذلك؟ هل هناك مَن يفكِّر ما رأي هؤلاء؟ وما رأي أولئك؟ وما رأي النوّاب الأكارم؟ ما هي أفكارهم؟ ما هي آراؤهم؟ النوّاب الآن يعيشون في هاجس الخطف، وكلّ واحد توضع عليه حراسة مشدَّدة. أصبحوا محلّ الاهتمام من كلّ اللبنانيّين، لماذا؟ لأنّهم هم الذين سينتخبون للبنان رئيساً. ومعروف أنّه منذ أن تأسَّس لبنان وحتّى الآن، فإنَّ النوّاب اللبنانيين ينتظرون الوحي. ربّما فرضت عليهم الأوضاع مرّة أو مرّتين أن يتمرَّدوا، لكن غالباً كانوا ينتظرون الوحي، الإنكليزي سابقاً، والأميركي حالياً، ثمّ الإسرائيلي بعد ذلك. ليس فقط النوّاب ينتظرون الوحي، بل كلّ المسلمين؛ إذ لا قيمة للشعب في لبنان في حسابات الدول الممسكة بقرار هذا البلد، ولاسيّما الدول الكبرى، لا قيمة للشعب باعتبار أنَّ هؤلاء النواب رسمياً هم الذين يمثّلون الشعب.
إنَّ المسألة تحتاج إلى أن ننطلق، لنعتبر أنّ أيّ انتخاب لأيّ رئيس أو إصدار أيّ قرار من خلال مثل هذا المجلس، لا يمثّل أيّة قيمة على مستوى حاجات الناس وقضاياهم وحقوقهم.. إنَّنا ندعو إلى أن يتسلَّم الشعب قضاياه، وندعو إلى أن يكون القرار، أيّ قرار وفي أيّ موقع وفي أيّة قضية، سواء كان على مستوى الرئاسة، أو غير ذلك، لا بدّ أن يكون للناس، حتّى نبتعد عن كثير من الضغوط التي تريد أن تفرض علينا القرار الذي يريده الآخرون. لا بدّ أن نفكِّر بهذه الطريقة، ولا بدّ أن نفهم أيضاً، أنّ المسألة لا تزال تعيش في إطار الانتظار، ولا تزال القضايا التي تبحث، ليست هي قضايا لبنان، بل هي قضايا المنطقة. وإذا حصل اتّفاق على الرئيس القادم فسيأتي هذا الرئيس مقيّداً بألف سلسلة وسلسلة، أن لا يحارب "إسرائيل"، أن يوافق على الترتيبات الأمنية، أن يصالح "إسرائيل"، وأن يتحرّك ليجعل لبنان يسير في العجلة الأميركية، وأن يبقى كلّ شيء على حاله مع تغيّر في الديكور، لأنَّ المطلوب هو رئيس على أساس التوافق، ورئيس التوافق يجب أن يكون رئيساً لا لون له ولا طعم ولا رائحة، حيث يستقبل الألوان القادمة من هنا وهناك، والروائح التي تحملها الرياح من هنا وهنالك. ولذلك فإنّنا لسنا معنيين بشخصية الرئيس ولسنا متحمّسين للمسألة، لأنّنا نعرف أنّ بقاء لبنان ليس خاضعاً لأنْ ينتخب رئيس أو لا ينتخب، سيبقى لبنان لأنّ الذين صنعوه لا يزالون محتاجين إليه. وقد ينتخب رئيس أو لا ينتخب، بل تكون هناك حكومة تمثّل الرئيس، لكن اعرفوا حقيقة أنّ الفتنة سوف تتعايش مع الرئيس القادم، أو مع الحكومة القادمة، لأنَّ الوفاق الدولي لم يمتد إلى لبنان حتّى الآن، لأنّ "إسرائيل" لا تزال الطفل المدلّل دولياً والتي لا يحبّ الشرق والغرب أن "يزعّلها" وأن يزعجها ويزعج طموحاتها.
الخطّ الجهادي منارة وسط الكلام
سيبقى الجميع يعملون على تطويق الانتفاضة وعلى محاصرتها، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن على تطويق المجاهدين وتطويق خطّ الجهاد في لبنان، وسيعمل الجميع كما يعملون الآن، على أساس تطويق الحالة الإسلامية في لبنان وفي غير لبنان. وقد قرأنا في ما قرأنا أنّ من الشروط الأميركية لأيّ اتّفاق هو ضرب ما يسمّونه التطرّف الإسلامي والتطرّف الفلسطيني، وشروط الآخرين ضرب التطرّف المسيحي. ونحن نعرف أنّ هناك مَن لا يزال يُدلّل بفعل الحالة الإسرائيلية المتداخلة مع الحالة الأميركية في ظلّ الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. هناك حالة إسرائيلية يعيها الجميع، ويخاف الجميع من أن يحرِّكوا ساكناً فيها إلاّ بحساب، أمّا هنا وهناك فقد أُفْسِحَ في المجال لأنْ يتحرّك الناس، ليقاتل بعضهم بعضاً وليحقد بعضهم على بعض وليتحرّكوا في جوّ الفتنة.
إنّنا كإسلاميين نظلّ نحدّق في السّاحة على أساس أن ندافع عن حريّة المستضعفين، سواء كانوا في لبنان وفي غير لبنان، بالوسائل التي نملكها ممّا يرضاه الله ورسوله. وسنظلّ كإسلاميين مجاهدين، نتكامل مع الانتفاضة الإسلامية في الضفّة الغربية وغزّة وفي سائر فلسطين، لأنّنا نعتقد أنّ المجاهدين هنا والمجاهدين هناك، هم الضوء الوحيد الذي ينطلق في كلّ هذا الظلام العربي، وفي كلّ هذا الظلام الطائفي.. إنّهم عرفوا طريقهم وانطلقوا في مواقع النور، لأنّهم يعرفون أنّ الحريّة لا يمكن أن تتحقَّق إلاّ بالدماء وإلاّ بصلابة الموقف، وأنّه لا يمكن لنا أن نسترجع حقوقنا إلاّ من خلال القوّة، لأنّ ما أُخِذَ بالقوّة بيد الذين لا يفهمون إلاّ بلغة القوّة، لا بدّ من أن يُسترجع بالقوّة. القوّة المسؤولة، القوّة المؤمنة، القوّة العاقلة، التي تعرف بداية انطلاقها جيّداً ومسارها جيّداً، وغايتها جيّداً {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..} [التوبة : 105].
والحمد لله ربّ العالمين