الخُلُق الحسن في مواجهة التحدّيات

الخُلُق الحسن في مواجهة التحدّيات


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن شخصية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في سلوكه مع الناس من حوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن عباده الذين نسبهم إليه من خلال صفة الرحمة فيه {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]. وفي آيةٍ أخرى يخاطب الرسول ويخاطب كلّ مؤمن {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. ويقول في آيةٍ أخرى في ما يأمر به رسوله أن يبلغه للناس {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53].

تكثر الآيات الكريمة التي تؤكّد أنّ الإنسان عندما يواجه أيّة مشكلة في الحياة في ما يسيء الناس إليه، أو ما يتنازع فيه مع الناس، أو ما يواجه من مشاكل، إنَّ عليه كمسلم مؤمن أن يملك عقله، وأن يملك مزاجه ومشاعره، ليكون أسلوبه أسلوب الرّفق واللّين لا أسلوب العنف والشدّة ما أمكنه ذلك، باعتبار أنّ الإنسان في ما يواجهه من المشاكل التي تتّصل بحياته مع الناس، وبعلاقته معهم، لا بدّ من أن يفكّر عندما يريد أن يحدّد موقفه من الناس الذين أساؤوا إليه، أو مع الناس الذين اختلف معهم، هل هدفه أن يشفي غيظه، أم هدفه أن يحلّ مشكلته؟!

حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ

إنَّ الذين يفكّرون في الحياة على أساس أن يشفوا غيظهم لن يستطيعوا أن يشفوا غيظهم. لماذا؟ لأنّ أيّ تصرّف تتصرّفه لتشفي غيظك بالسباب، أو بالضرب، أو بالوقوف ضدّ مصالح الآخرين، أو بغير ذلك، إنّ أيّ أسلوب من أساليب شفاء الغيظ يخلق لك غيظاً جديداً لأنّه يعقّد المسألة في أغلب الحالات، فأنتَ عندما تسبّ ستُسَب، وعندما تضرب ستُضرَب، وعندما تقف ضدّ مصالح الآخرين فقد يقف الآخرون ضدّ مصالحك. وهكذا إنّ أيّ شفاء للغيظ يجتذب غيظاً جديداً، وإنّ أيّ حلّ للمشكلة في هذا الاتّجاه يخلق مشكلة جديدة، وبذلك ستنتقل من غيظ إلى غيظ، ومن مشكلة إلى مشكلة، وسوف تفقد في نهاية المطاف كثيراً من أمنك، وكثيراً من راحتك، وكثيراً من صفاء مزاجك، وربّما تفقد في نهاية المطاف حياتك.

لقد أراد الإسلام للناس أن يفكِّروا في كلّ ما يحيط بهم ليكون الهدف عندهم هو حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ. إنّك وأنت تعمل من أجل الحقّ في النطاق الاجتماعي، لا في النطاق الذي نواجه فيه التحدّيات الكبيرة ضدّ الأعداء الذين يريدون أن يقمعوا حريّتنا وحياتنا، عندما تواجه مشكلة فعليك أن تفكّر في أن تحلّها بأفضل الطرق، تحلّ مشكلتك مع الإنسان الذي تعايشه ويعايشك، ببرودة أعصابك وتفتِّح عقلك ويقظة إيمانك، حتّى تعينك برودة أعصابك على أن تهدأ في مشاعرك، ولكي يمنحك عقلك فرصة التفكير بهدوء وبموضوعية، ويساعدك إيمانك حتّى تتحرّك على أساس الخطّ المستقيم. ثمّ فكِّر: لماذا أساء إليَّ فلان، وما الظروف المحيطة بإساءته، وما خلفيّاته؟ لماذا أختلف مع فلان؟ ما سرُّ هذا الخلاف؟ ما جذوره؟ مَن الناس الذين يشجِّعون عليه؟ مَن الناس الذين يثيرونه؟ وعند ذلك حاول أن تدرس كلّ الأساليب والوسائل التي تستطيع من خلالها أن تُقنع هذا الإنسان بأنّك على حقّ، وأنّه على باطل، وأنّك على صواب، وأنّه على خطأ، أو تعمل على تجميد عداوته، ريثما تستطيع في مرحلةٍ أخرى أن تحرّك أساليبك في أجواء أفضل يمكن أن تجلب لك صداقته.

أمامك طريقان إمّا أن تحلّ المشكلة، أو أن تُجمِّدها. وعليك أن لا تلجأ أبداً إلى العنف عندما لا يكون العنف حلاَّ للمشكلة بل يكون موجباً لتعقيدها، ولإيجاد مشاكل أخرى أكثر ممّا كان موجوداً. الإسلام يؤكّد هذا المعنى، ويحدّثنا عن أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّما نجح في دعوته لأنّه اتّبع في الدعوة، وفي مواجهة الكلمات السلبية التي واجهه بها الكافرون، اتّبع الرّفق واللّين. وعندما كانت المشاكل تشتدّ في ما بين المؤمنين من خلال حركة المنافقين في داخلهم، كان يعالج مشاكلهم باللّين، ولعلّنا نعتبر أنّ المرحلة التي عاشها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة، بعد أن أرسله الله برسالته، والتي استمرَّت ثلاث عشرة سنة، هذه المرحلة لم يأذن له الله فيها بالقتال، ولم يأذن للمؤمنين بالقتال، ولم يأذن لهم حتّى بأن يصطدموا بالأيدي لكماً وضرباً، وما إلى ذلك. كان يريد أن يفسح في المجال لأساليب الرّفق واللّين حتى يستطيع أن يفتح عقول الناس على دعوته، فلا يشغلهم القتال عن تفهّم الدعوة. كان يربح قلوب الناس بأخلاقه وبأساليبه حتّى استطاع أن يجتذب جمهوراً كبيراً من أهل مكّة لدعوته، واستطاع بعد ذلك أن يجتذب جمهوراً كبيراً من الذين كانوا يتردَّدون على مكّة، ومنهم أهل المدينة وأهل يثرب آنذاك، ولهذا أكَّد الله له هذه الصفة، أكَّد الله شخصيّته الرسالية من خلال تأكيده لأخلاقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4] لم يقل وإنّك لعَلى علمٍ عظيم، أو إنّك لعلى زهدٍ عظيم، أو إنّك لعلى بطولة عظيمة... لم يقلّ ذلك.

صفات الداعية

كن عالماً، كن زاهداً، كن شجاعاً، كن بطلاً.. إنّك مهما امتلكت من هذه الصفات وكنت بدون أخلاق، فستعجز عن أن تفتح الحياة لنفسك، لأنّك تفتح الحياة بمقدار ما تفتح قلوب الناس عليك. المهم أن تربح قلب الإنسان... إنّك قد تربح بالقوّة والعنف موقف الإنسان، ولكنّك إذا لم تربح قلبه، ولم تربح قناعته، فإنّك ستفقده، وسينطلق الآخرون ليتآمروا عليك من خلاله لأنّه يتبعك اتّباع المضغوط على أمره والمقهور في إبداء رأيه، فمهما أمكنك أن تتحرّك في حياتك على أساس الرّفق فلا بدّ لك أن تأخذ به، ولا بدّ لك من أن تكون إنساناً يمارس هذا الأسلوب فتفتح قلبك للنّاس ولا تغلقه عليهم. افتح قلبك للمؤمن وأحبّه حتّى تتعاون معه، وافتح قلبك لغير المؤمن حتّى تستعين بذلك على هدايته إلى الطريق، أو على تجميد عداوته لك، لأنَّ أقرب طريق إلى عقول الناس هو أن تربح قلوبهم. كوِّن صداقة مع الناس، فبالصداقة تستطيع أن تكلِّم عقولهم. إذا كان الناس لا يحبُّونك، وإذا كان أسلوبك جافّاً معهم، وإذا كنت لا تعرف الابتسامة عندما تلتقي بهم، تعاشرهم بوجهٍ عبوس وطبعٍ حادّ ومزاجٍ سيّئ، فكيف يمكن لك أن تطمع بأنَّ الناس سيقتنعون بما تقول، ابتسم قبل أن تتكلَّم مع مَن تريد أن تُقنعه، افتح قلبك له وليكن في عينيك لمعان المحبّة حتّى تستطيع أن تجتذب قلوب الناس، فإذا اجتذبت قلوب الناس بأخلاقك فإنّك تستطيع أن تجتذب عقولهم بمنطقك، ولهذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المبتسم الدائم، كانت بسمته تسبق كلماته، وتشرق في قلوب الناس، وعندما نفذت بسمته إلى قلوبهم نفذت كلمته إلى عقولهم، وإذ الله يقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} بكلامك {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً} في لسانك، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}، في مشاعرك {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] لَما تبعك أحد.

وهكذا أراد الله لرسوله أن يتحرّك في هذا الخطّ، وأنتَ عليك أن تكون الرفيق بالناس حتّى تنطلق معهم في قلبك المفتوح، لتلتقي بهم في عقلك المفتوح، وكلماتك المفتوحة، وقد تتلمذ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مدرسة الله وقال لكلّ إنسان منّا "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". إذا أردت للناس أن يحبّوك فأحبّهم أيضاً، وإذا أردت للناس أن لا يفعلوا الشرّ معك فلا تفكّر بأن تفعل الشرّ معهم، فإنَّ ذلك يمكن أن يؤثّر على طريقتك في الحياة معهم وبذلك تستطيع أن تجتذبهم.

لقد ركَّز القرآن الكريم على الأسلوب الأحسن. فدين الله يمنع المسلم أن تكون لغته لغة السّباب، والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة، إنَّ السّب يجتذب السّب، ولهذا فإنّك إذا سببت الإنسان الذي تختلف معه، سببته في عرضه، أو سببته في أهله، أو سببته في شخصه، أو سببته في مقدّساته، فلن تحلّ المشكلة، بل سوف تكتسب مشكلة جديدة، إنَّ هذا الإنسان سيسب عرضك إذا سببت عرضه، وسيسبّ أهلك إذا سببت أهله، وسيسبّ مقدّساتك إذا سببت مقدّساته، لأنَّ عنصر الإثارة في نفسك يجتذب عنصر الإثارة في نفسه {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. لهذا فالسبّ ليس وسيلة لأن تضغط على قناعة إنسان، لأنّك كلّما سببته أكثر كلّما تعصّب أكثر، وبالتالي فإنّك تدفعه إلى وضع يشبه حالة الدفاع عن النفس، فالإنسان يدافع عن مقدّساته أكثر ممّا يدافع عن نفسه، وعندما يكون الإنسان في حالة الدفاع عن النفس وعن مقدّساته، فإنَّ المسألة عند ذلك لا تكون مسألة قناعة تلتقي بقناعة بل تكون المسألة مسألة عدوان يجتذب عدواناً، وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "لا تسبُّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم"(1)، إنَّ الإنسان الذي يتعوَّد أن يستعمل أسلوب السباب كوسيلة من وسائل إدارة الخلافات في حياته مع الناس، هو إنسان سوف يُكْثِر أعداءه وهو قادر على أن لا يكثرهم، لو سببت من الصباح إلى المساء، فلن تحلّ مشكلة بذلك، لكن استبدل السبّ بكلمة فيها قدر من المنطق، وفيها قدر من المحبّة، وفيها قدر من المرونة، وامزج محبّتك ومرونتك بمنطقك فإنّك تستطيع أن تخفّف عداوة الناس إذا لم تستطع أن تلغيها.

الإنسان يحصد ما يزرعه لسانه

ثمّ نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمنا دائماً أن نختار الكلمة الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي} قل يا محمّد لعبادي الذين أُريد من خلالك أن أجعلهم يعيشون حياتهم في طمأنينة وراحة، وأن يلتقوا على عبادي، ويلتقوا على الإيمان بي، ويلتقوا على بناء الحياة على خطّ الله، قل لعبادي هؤلاء، الذين أحبَّ لهم أن يعيشوا الصواب في حياتهم، قل لهم {يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قل لهم: إنَّ كثيراً من مشاكلكم في ما بينكم ينطلق من مشاكل ألسنتكم، "وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلاّ حصائدُ ألسنتهم"(1). لسانك يزرع ولسانك يحصد.

إنَّ الذي يتكلّم الكلمة كالذي يزرع النبتة، فلو كانت عندك مثلاً قطعة أرض وتريد أن تزرعها، فإمّا تزرع ما تريد أن تأكله أو تزرع ما تريد أن تستمتع بجماله أو برائحته. فإذا كنتَ تملك أرضاً، وحرت في أمرك بين أن تزرع زهرة، أو تزرع شوكة، فهل تختار أن تزرع الشوك أم تفضّل أن تزرع الورد؟ غالباً، نحن نحبّ أن نزرع الورد، وعندما يكون عندنا ورد يشتمل على شوك بسيط نحاول أن نقلع ذلك الشوك من بين أوراق الورد. ألاَ نفعل ذلك؟ لسانك كذلك، عندما تأتي الفكرة في وجدانك لتلقيها إلى لسانك، فأنتَ تزرع في لسانك وردة يرتاح الناس إليها، أو تزرع شوكة يتألَّم الناس منها، وتتألَّم أنت منها، لماذا نحبّ دائماً أن نزرع أشواك الكلمات في ألسنتنا ولا نزرع ورود الكلمات فيها؟ لماذا نستعجل؟ إنَّ علينا أن لا نستعجل إطلاق الكلمة فإنّك إذا لم تقلها الآن، فقد تستطيع أن تقولها غداً، أو بعد غد. الله يقول لك حتّى في مسألة الورود، لا تزرع الورد كيفما كان، اختر أفضل الورود، حاول ما دمت تريد أن تزرع، وأنتَ قادر على أن تزرع الأحسن، عليك أن تختار الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني إذا أردنا أن نستعمل التعبير الشعبي "الشيطان يختبئ ويدخل في عبّ الكلمة"، يدخل حيث المشاعر حادّة، والأعصاب متوتّرة، فتأتي الكلمة حادّة تجرح بعض الناس، إنّك تقول، أريد أن أُثيره، أريد أن أجرحه، لكن ما النتيجة؟ لو فرضنا أنّك قلت كلمة وأدّت بك إلى الموت أو إلى تخريب حياتك فهل حصلت على نتيجة؟ {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني يدخل، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53] لهذا حاول أن تفرغ كلمتك ممّا يحاول الشيطان أن يستغلّه ليخلق لك مشكلة مع الناس، استعمل ذلك في بيتك، كم من البيوت الوادعة المطمئنّة تهدَّمت بفعل كلمة انفعالية قالها زوج، أو بفعل كلمة انفعالية قالتها زوجة، كم من البيوت تهدَّمت ولو أنَّ الزوج حاول أن يعبّر عمّا في نفسه بكلمة أفضل، أو أنّ الزوجة حاولت أن تعبّر عمّا في نفسها بكلمة أفضل لَمَا حدث ما حدث، ولَحَقَّق كلّ منهما ما يريد.



لندرس الكلمة قبل إطلاقها

إنَّ الإمام عليّ (سلام الله عليه) يركّز على أنّ الإنسان يجب أن يدقّق بالكلمات "الكلام في وثاقك" إنّ الكلمة، قبل أن تقولها، هي في قيدك، فأنتَ تستطيع أن تطلق حريّتها وتستطيع أن تتركها مقيّدة "فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"(1) أي كان الكلام في وثاقك، كان في سجنك، ماذا تختار؟ أن تطلق حريّة الكلمة أو لا تطلق حريّتها، "فإذا تكلَّمت به صرت في وثاقه" أصبحت مقيّداً بكلمتك، أنتَ وقعت، أنتَ تكلَّمت، وكلامك شرف، أنتَ حكيت الحكاية، وهذه الحكاية تُدينك في المحكمة، وهكذا صرت مقيّداً بكلمتك، والإنسان إذا أراد أن يقيّد نفسه بشيء في الدنيا أو في الآخرة، فعليه أن يختار القيد الذي لا يحقّق له الهلاك، ولا يمنعه من أن يمارس حريّته في الحياة، يجب أن نفكّر بهذه الطريقة داخل بيوتنا، في مجتمعاتنا وفي كلّ جوانب حياتنا. هناك بعض الناس يخطِّطون لإثارتك كي يدفعوك إلى حالة من الغضب والشتم، والهدف اصطياد ردّة الفعل هذه، وتوظيف كلامك الانفعالي في الفتنة. فقد يأتي إليك هذا الشخص ليسجّل لكَ كلماتك الحادّة سواء في آلة تسجيل أو في ذهنه، يقول فلان يتكلّم عليك، وأنتَ مؤمن ووطني وما شابه ذلك من الكلمات، ويظهر الغيرة عليك، هكذا ينفخ لك شخصيّتك حتّى يدفعك لتقول الكلمة التي ليس من مصلحتك، ولا من مصلحة الناس أن تقولها. في هذه الحال، الله سبحانه وتعالى يقول للنّاس {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63] يعني لا تسبّه، لا تشتمه أو تثره، قل سلامٌ عليك.

كيف نردّ الإساءة؟

مرَّ الإمام السجّاد زين العابدين (سلام الله عليه) يوماً، فسبّه شخص فمضى، قال: إيَّاك عنّي، لقد سببتك وما التفت، ما سببتُ غيرك، بل سببتك أنت، قال إيّاك أعرف وعنك أعرض، وقال له ما قال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. طبعاً هذا هو الجوّ العام، لكن هناك استثناءات، بعض الناس إذا ما تعاملت معهم بهذه الطريقة فإنّهم يزدادون إثماً، يجب أن تدرس دائماً الحالات الاستثنائية، وحتّى عندما تريد أن تردّ الإساءة كما يقول الله سبحانه وتعالى: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...} [البقرة : 194]، حيث يعطينا الله الحقّ بالردّ، لكن عندما تردّ، ردّ برفق وعقل بحيث تقطع الطريق على المعتدي فلا تعطيه الفرصة لتصعيد موقفه. هذه المسألة، حتّى عندما تريد أن تردّ على خصمك، فكِّر في أن تقول الكلمة ردّاً عليه، ولكن بطريقة لطيفة ومرنة ومعقولة، اجعله يفهم القصّة وكأن لم تقل شيئاً. إنَّنا نحتاج إلى الكثير لكي نقتدي برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، قال الله لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] يعني أنتم الآن عندما تسمعون كلمة عن النبيّ محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا بدّ من أن تجعلوا رسول الله قدوتكم، وهذا هو الإسلام، الإسلام أن تلتزم بالله، وأن تلتزم برسول الله، أن تلتزم بقوله وبفعله، لأنَّ الانتماء للإسلام يعني الارتباط بالقيادة الإسلامية، والرسالة النبويّة، أن ترتبط بها فعلياً، ليس مجرّد أن تهتف باسمها، بل أن ترتبط بها ارتباطاً أساسياً، فتجعلها القدوة في كلّ حياتك، وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "إنَّ الله رفيق يحبّ الرّفق"(1) وأنّه يعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، فعندما تكون مخيّراً بين أن تحلّ المشكلة بالرّفق أو بالعنف، فتحلّها بطريق الرّفق واللّين والروية فإنَّ الله يعطيك ثواباً على ذلك أكثر ممّا يعطيك لو حللتها بالعنف.







لنضبط كلماتنا أثناء الأزمات

يجب أن نركِّز حياتنا الاجتماعية على هذا الأساس، نجمّد أعصابنا، ونفتح قلوبنا بها. إذا كنت تدخّن السيجارة، وأردت أن ترميها على الأرض والدنيا وقت الحصاد حيث القشّ أو الحنطة أو الشعير، إذا رميت السيجارة فبعد لحظات يحترق البيدر كلّه.

لنتأمّل كيف يفكّر أعداؤنا في جامعات "إسرائيل" وأميركا، فهناك كليّات أو مواقع في الجامعة أو مؤسّسات موجودة تدرس خلافات الشعوب، خلافاتهم العائلية، خلافاتهم القروية، خلافاتهم الطائفية وخلافاتهم السياسية، كلّ الخلافات يدرسونها، يأتون بعلماء نفس، وعلماء اجتماع، وعلماء أديان، وعلماء سياسة، لدراسة هذه الأوضاع بطريقة المخابرات ثم يعملون على أن ينفذوا إلى داخل المجتمعات الصغيرة أو المجتمعات الكبيرة مركّزين على إثارة عصبيّاتها وتفجير خلافاتها، مستغلّين نقاط ضعفها، سواء على المستوى العائلي، كما كنّا نعيش في أيام الزعامات الإقطاعية، أو على المستوى الحزبي كما نعيش هذه الأيام، أو على المستوى الطائفي وغيره.

لهذا لا تقلّ كلّ ما في نفسك، إذا كنت في المسجد، أو في الشارع، ولو صفَّق لك الناس، لأنّهم يصفّقون لكلّ ما يثير عصبيّاتهم، يجب على الإنسان، بقدر ما يكون مسؤولاً، أن يكون دقيقاً في كلماته، لأنَّ المجتمع كلّه في أوقات الأزمات وفي أوقات الفتن، المجتمع يصبح متقبّلاً لكلّ الحرائق، ليس في لبنان فقط، بل في كلّ المناطق التي تمتلئ بالمشاكل في واقع الناس وفي واقع الشعب. إنَّنا نحتاج أن نكون مسؤولين أمام الله، مسترشدين بالرسول الكريم وأهل بيته. في أحد الأيام رأى الإمام عليّ (عليه السلام) شخصاً يتكلَّم ويأخذ حريّته في الكلام فقال: "يا هذا إنّك تملي على حافظيك كتاباً فانظر ماذا تقول"(1) أنت تتكلَّم الآن، وكلامك واصلٌ إلى الله تعالى. إنّك تقول أيّها المَلَكان الحفظان عليَّ سجِّلا، فلان كذا وكذا، سجِّلا هذه الغيبة، سجِّلا هذه النميمة، ما رأيك عندما تصعد هذه الكلمات إلى الله سبحانه وتعالى، كيف سيكون وجهك يوم القيامة؟ كيف تقف أمام الله سبحانه وتعالى؟ وكيف نقف جميعاً لأنّنا نغزل على المنوال نفسه؟.

الفرق بين العاقل والأحمق

ولقد فرَّق الإمام عليّ (عليه السلام) بين الأحمق والعاقل بقوله: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا يا أمير المؤمنين لا نفهم عليك، اللّسان في مكانه والقلب في مكانه، لا يوجد فرق، هذا لسانه في فمه، وقلبه في صدره، وعقله في رأسه، لا فرق بين الأحمق والعاقل، قال: أنا أريد المعنى، لا القلب المادي واللّسان المادي، لأنَّ العاقل إذا تكلَّم الكلمة تذكّرها، فإنْ رآها خيراً ألقاها إلى لسانه، وإنْ رآها شرّاً أمسكها، وأمّا الأحمق فإنَّ الكلمة عندما تخطر في ذهنه فإنّه يتكلّمها، ثمّ بعد أن يتكلّمها وتفعل فعلها في الواقع، يفكّر فيها، كيف قلت هذا، ليتني لم أقل. إذاً يجب أن نتعلَّم كيف ندير كلماتنا؟ كيف نختار كلماتنا؟ وكيف نبرّد كلماتنا؟ وكيف نحاول أن نركّز كلماتنا على أساس أن تكون خيراً ولا تكون شرّاً، ولاسيّما في أوقات الفتن.

من جهةٍ ثانية، في بعض الحالات قد يأتي أحد ليدخل معك في معركة، يتحرَّش بك حتّى تردّ عليه لتضربه وهو مخطّط لذلك، يريد أن يجعل من ردّك قضية تشعل فتنة في البلد أو في المنطقة، ويأتي هنا دور المخابرات، المخابرات المحليّة، أو مخابرات الأحزاب، أو المخابرات الخارجية، مثلاً في الفتن الطائفية، قد يأتون لسنّي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات الشيعة، أو لشخص مسلم ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسيحيين أو لشخص مسيحي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسلمين، وتقع الفتنة سنيّة ـــ شيعيّة، ومسيحية ـــ إسلامية، وهكذا بالنسبة للأحزاب، يقال لشخص اذهب وسبّ الزعيم الفلاني، وتثور القصّة، وهكذا، فإذا جاءك أحد ويريد أن يثيرك فعليك أن لا تُستثار بل عليك أن تدرس طبيعة الأرض، وطبيعة الظروف، وطبيعة خلفيات هذا الإنسان.

بين الرّفق وردّ العدوان

يجب أن نعالج الأمور التي يراد من خلالها خلق الفتنة وخلق المشكلة على أساس الرّفق وعلى أساس العقل ثمّ التصرّف بعد أن ندرس طبيعة المسألة، وبعد أن ندرس آفاقها ونتائجها، ولهذا علينا أن لا نفكِّر دائماً بمنطق: إذا تكلَّم أحدٌ عليَّ بسوء أو سبّني أو أراد أن يثيرني دون أن أردَّ عليه أكون ذليلاً. لا، ربّما تكون أكثر عزّة إذا لم تردّ عليه، لأنّه قد جاء ليرتّب وضعاً ما، ربّما يطوّقك ويوصلك إلى نتائج سيّئة، ليس أنت فقط، أنت وكثير ممّن معك وكثير من الناس.

نحتاج ـــ أيُّها الإخوة ـــ إلى أن نفكِّر، "إنَّ الرّفق ما وُضِعَ على شيء إلاّ زانه وما رُفِعَ عن شيء إلاّ شانه" الرّفق أن تداري القضايا وتداري الأمور بشكلٍ لا ينطلق في حياتك بطريقة انفعالية، أو بطريقة حماسية، أن تداري الأمور برفق، الرّفق في كلّ شيء، كن رفيقاً في حياتك، عندما يعطيك الله المال، لا تصرفه بطريقه عشوائية، كن رفيقاً في مصرفك، كن رفيقاً في حياتك، قدِّر ظروفك وإمكاناتك، كنْ رفيقاً في تصرّفك وحاجاتك، وحاول أن توفِّق بين ظروفك وحاجاتك وإمكاناتك حتّى تستطيع أن تضبط حساباتك في حياتك. في مجال الصحبة، "ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً عند الله تعالى وأحبَّهما عند الله تعالى أرفقهما بصاحبه"(1)، أنت أرفق لصاحبك يعني أنتَ أكثر أجراً.

الأساس في الإسلام هو أن يعالج الإنسان الأمور بالرّفق وباللّين وبترك عناصر الإثارة، إلاّ إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك بحيث لا يؤدّي استخدام اللّين إلى أيّ نتيجة. وهذا الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) يقول: "وحقُّ مَنْ ساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنَّ العفو يضرّ انتصرت"(2).





الجهاد ليس عدواناً

عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة لم يكن يلجأ إلى العنف، كان يطلب من المسلمين أن لا يلجؤوا إلى العنف لأنَّ المصلحة كانت في ذلك الوقت أن يفتح قلوب الناس على الدعوة، لكن عندما هاجر إلى المدينة ورأى أنَّ قريشاً تستمرّ في استخدام كلّ قوّتها في سبيل إبعاد الناس عن الإسلام وعن النبيّ، وأنّها تقف حاجزاً بين الناس وبين دخولهم إلى الإسلام، مستعينة بقوّتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، عند ذلك رأى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ لا مجال إلاّ أن يدخل معهم في قتال، انطلاقاً من كلام الله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج : 39]، {... وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة : 36]، لأنَّ المشركين لم يكونوا مستعدّين لأن يخفّفوا من ضغطهم على الإسلام وعلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلى المسلمين، فقال لهم رسول الله: يا جماعة أنتم أقربائي وأهلي وعائلتي، اتركوني أنا والعرب، لا تريدون الإيمان بي، كونوا على حياد، فإذا انتصرت بحسب منطقكم أنا منكم وشأني شأن كبير فهذا شيء إيجابي بحسب منطقكم ومنطق العشائر عندكم، وإذا انكسرت فقد كفيتم أمر الناس، لماذا تريدون قتلي.. وهكذا شرَّع الله سبحانه وتعالى الجهاد لهذه الغاية، الجهاد ليس حالة عدوانية، سواء كان الجهاد الابتدائي أو الجهاد الدفاعي، الجهاد يمثّل حالة وقائية، وحالة دفاعية، فعندما لا يسمح بعض الناس لدعوة الإسلام بأن تأخذ حريّتها، فإنَّ الإسلام بعد دراسة الأمور، يرى المصلحة بأن يقف ضدّ هؤلاء حتّى يأخذ حريّته في هذا المجال، هذا إذا هم لم يقفوا ضدّه يحاربونه.

إنَّ الشخص الذي يستعدّ لأن يدمّر حياتك، أو يدمّر اقتصادك، أو عزّتك، وكرامتك، وحرّيتك، وثقافتك على أساس امتلاكه القوّة، ليس من المعقول أن تسلم له أو تعطيه باقة ورد. في هذا المجال عليك أن تقف في وجهه وعليك أن تواجهه كما يواجهك، وعليك أن تحاصره كما يحاصرك، وعليك أن تعمل على أن تضغط على مصالحه كما يضغط على مصالحك، طبعاً بالوسائل التي يمكن أن تؤدّي إلى النتائج لا بالوسائل الانفعالية، لأنّ العدوّ قد يستفيد من انفعالك وأنتَ تهاجمه أكثر ممّا يستفيد من عدم مواجهتك له، لأنَّ الانفعال يُبرز كلّ نقاط ضعفك التي يستطيع العدوّ أن يستفيد من خلالها. فعندما نقاتل الاستعمار أو العدوان الصهيوني أو الظلم الداخلي، يجب أن ندرس بشكل أساس حتّى كلماتنا، لأنّ أعداءنا سيأخذون كلماتنا الانفعالية ليشوِّهوا صورتنا من خلالها، باعتبار أنّ الذهنية الموجودة عندنا تختلف عن الذهنية الموجودة في الغرب، مثلاً يمكن أن تتكلَّم كلمة يعتبرها الوسط السياسي عندنا كلمة جيّدة لكن في مفهوم الرأي العام العالمي، قد تشير هذه الكلمة إلى وحشيّتك، وقد تشوّه صورتك عند الآخرين.

لهذا، نحن في الخطاب السياسي عندما نطلق كلماتنا وخطابنا السياسي لا بدّ من أن يكون خطابنا مدروساً بطريقة لا يستطيع أعداؤنا أو يشوِّهوا صورتنا عند شعوبهم من خلال عدم دقّتنا في عرض كلماتنا، وحتّى الأساليب الأخرى التي نحارب فيها الأعداء لا بدّ من أن تكون أساليب مدروسة من جميع الجهات حتّى تستطيع أن تَضعِف العدوّ ولا تثير أيّ نقطة ضعف كبيرة في حياتنا. فالإسلام إذاً، إنّما يشجّع على العنف بالنسبة إلى الناس الذين لا يخاطبونك إلاّ بلغة العنف ولا يتعاملون معك إلاّ على أساس ما يثيرونه في حياتك من عنف، سواء كان هذا العنف سياسياً، أو عسكرياً، أو أمنياً. إنّك في هذه الصورة لا بدّ لك من أن تواجه العنف بالعنف إذا لم يكن لك سبيل إلى مواجهة العنف باللّين، ولكن بحسب التجربة فإنَّ العنف في القضايا الداخلية لم يستطع أن يحقّق نتائج إيجابية، بل غالباً ما حقَّق النتائج السلبية.

طريقة التعامل مع الفتنة

إنَّ علينا أن نهرب ـــ ما أمكن ـــ من الفتن الداخلية وأن نخفّف من كلّ الأساليب التي تثير الفتن في ما بيننا، وذلك لأنَّ الدائرة الداخلية تختلف عن الدائرة الخارجية. الدائرة الداخلية، دائرة محصورة في حدود معيّنة تحاصرها الأوضاع العائلية، والطائفية، والحزبية، لهذا فإنَّ أيّ نوع من أنواع العنف في الخلافات الداخلية، سوف يلتفّ عليه الآخرون ولاسيّما المخابرات لتخلق منه فتنة تحرق الأخضر واليابس، والله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25]،لأنَّ النار إذا اشتعلت هنا، فإنّها تشتعل في البلد كلّه، يجب أن نتعامل مع الفتن الداخلية تعاملاً دقيقاً، بحيث لا يؤدّي هذا التعامل إلى خلق مشاكل للبلد كلّه وللنّاس كلّهم، لأنَّ هناك كثيراً من الفتن تحرق الجميع، سواء الذين أثاروا الفتنة أو الذين كانوا ضحيّتها، ذلك أنّ العقلية الداخلية المبنية على العصبية هي عقلية مجنونة، وهكذا مرّت على الحرب الداخلية عندنا أربع عشرة سنة تقريباً وما استطاع القتال الداخلي أن يحقِّق نتيجة، لأنَّ الأوضاع اللبنانية أوضاع مقسّمة طائفياً ومذهبياً وسياسياً وشخصياً، ولهذا فإنَّ أيّة شعارات كبيرة عندما تتحرّك تطوّقها الأوضاع الصغيرة، الأمر الذي يدفع إلى القول: إنّ هذا البلد محكوم على أطرافه بالبحث عن وسائل وأساليب معيّنة تستطيع أن تحقّق لهم ولو أقلّ قدر ممكن من التوافق على بعض الأشياء في غياب إمكانات سياسية وغير سياسية لاحتواء واقع البلد كلّه.

إنّنا قد نستطيع في داخل هذا البلد أن نصل من خلال السلم إلى ما لم نستطع أن نصل إليه في الحرب، وهذا لا يمنع من أن نواجه حالات ضاغطة، لكن علينا أن لا نندفع بالعقلية الغريزية المبنية على العصبية، لأنّ كلّ الأجهزة التي ترعى الفتنة في هذا البلد، وترعى الواقع الطائفي فيه، تحاول أن تدخل على خطّ الفتنة عن طريق {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء : 53] تدخل في كلّ هذه الأمور، ولهذا رأينا أنّهم استطاعوا في هذه الفتنة أن يوصلوا الناس إلى نقطة الصفر، من دون أن يحصل الناس على شيء، كما يحصل الآن في مسألة الاستحقاق الدستوري التي نعيشها في هذه الأيام. إنَّ هناك حكومتين، والناس اعتبروا أنّ لبنان انتهى، لكن هذا أيضاً جزء من اللعبة الدولية، وأنا ما زلت على كلامي الذي كنتُ أقوله، وهو أنّ اللعبة مدروسة ومضبوطة، لا يوجد تقسيم في لبنان، يوجد حكومة هنا وحكومة هناك، لكن لا يوجد تقسيم، والذين يديرون لعبة الفتنة في هذا البلد يملكون ضوابط في إدارة المسألة حتّى عند حالات الخلاف، كما يحدث الآن.

اللّعبة الأميركية

إنَّ هناك ضوابط معيّنة تحكم حركة هذا البلد، مع كلّ أسف نقولها دائماً، هذا البلد لم يُحكم من خلال قيادات يفرضها الناس فيه، بل غالباً ما كانت هذه القيادات أو تلك تعين من قِبَل هذه الدولة أو تلك. كان الوضع يسير في هذا الشكل، ولكن كان هناك شيء اسمه حفظ ماء الوجه، يتمّ تعيين الشخص القائد ويتمّ الاتفاق عليه ولكن لا يتكلّمون، ثمّ يأتون للبنانيين ويقولون لهم: أنتم في بلد حرّ ديمقراطي، خذوا حريّتكم في الانتخاب، وهذه المرّة دخلت أميركا على هذا الخطّ بالطريقة المعروفة، فتمَّ الاتفاق على اسمٍ معيّن(1)، وعرضت واشنطن هذا الاسم على أساس إمّا القبول به وإمّا الفوضى، إمّا هذا وإمّا الدمار(2)، إنّ أميركا تلعب على خطّين، والطريقة التي أُثيرت بها المسألة تثير الأعصاب، يعني تدبّروا أمركم، ويجب أن تفعلوا ما نريد.

يجب أن نحذر من الضوء الأخضر الأميركي للمعارضة، لأنّنا من الصعب أن نصدّق أنّ هؤلاء الناس الذين ينطلقون ساعة مع "إسرائيل" وثانية مع بريطانيا وثالثة مع غيرها، وهم عرضوا على واشنطن التدخّل في الحكم، والقوات وغيرها من القوى قد استيقظت فجأة صحوة الضمير عندهم فتمسّكوا بشعارات الاستقلال والحريّة والديمقراطية.

لا تزال اللعبة أميركية، ولا يزال أيضاً هذا الذي عُيّن الآن بطريقة معيّنة هو الولد المدلَّل لأميركا والذي لا يتكلّم بطريقة العنتريات. وقد وصلتنا معلومات دقيقة مفادها أنّ ضبّاطاً إسرائيليّين جاؤوا وطلبوا من بعض القيادات العسكرية الميليشيوية هناك أن ينسّقوا مع الجيش في سبيل إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. إنَّ هذه المسألة مسألة إسرائيلية، ربّما إسرائيلية ـــ أميركية، ولكن مع ذلك هناك إيحاء أميركي الآن للأوضاع السياسية، بأن لا تتفجَّر عسكرياً وأن يسمح للدبلوماسية الخفيّة بأنْ تتحرّك لتضبط الأمور ولو بعد أيّام أو بعد شهر أو شهرين لهذه المسألة، إنَّ المسألة تتحرّك بضوابط سياسية في العمق وإنْ كانت تثير كثيراً من المشاكل في السطح، لأنَّ الطبخة اللبنانية في مستقبل لبنان لا تزال تحتاج إلى كثير من النضوج، إمّا على نار سياسية وهذا ما يحدث الآن، وإمّا على نار أمنية وهذا ما نرجو أن لا يكون، ويؤكّد الكثيرون أنّه لن يكون، باعتبار أنّه لن يفيد أحداً.

إسقاط صيغة الامتيازات

إنَّ التاريخ الذي كان محدَّداً لما يسمّى الاستحقاق الدستوري لم يتّسع لإنهاء المسألة، والمسألة يجب أن تتحرّك في الطريقة التي يراد لها أن تسير فيها، ونحن نريد من خلال ما نواجهه في هذا الظرف العصيب، أن ننبّه إلى أنّها الفرصة التي يفترض أن يفهم فيها اللبنانيون كلّهم، أنّ هذه الصيغة التي لا يزالون يعيشون فيها قد سقطت، وإنَّ علينا في هذا الجوّ أن نُسقِط صيغة الامتيازات، وأن نقول للموارنة، ونقول للمسيحيين إذا ساروا في دائرة الموارنة، نقول لهم: إنَّ الامتيازات التي لا تزالون تعملون وتحرقون الأخضر واليابس حتّى تبقى لكم، لم تستطع أن تبني لكم بلداً، ولم تستطع أن تحقِّق لكم أمناً طائفياً، وأن تثبت الأرض تحت أقدامكم، ولن تستطيع ذلك إذ مهما امتدّت الامتيازات، فسوف يأتي وقت تسقط فيه.

تعالوا إلى وضع تتحرّك فيه دولة الإنسان إذا لم نستطع أن نحرّك دولة الإسلام، فتعالوا لنحرّك دولة الإنسان ليكون الإنسان مواطناً بإنسانيّته، ولتكون إنسانيّته هي الأساس في ما يفرض عليه من حقوق ومن واجبات. لن تكون بديلاً عمّا نعتقده، ولكنّها تكون حلاًّ مرحلياً لذلك، حتّى تكون عندنا ساحة واسعة يستطيع كلّ واحدٍ منّا أن يفتح فيها فكره على عقول الآخرين ليقتنع الناس من خلال ذلك.

في هذا المجال، نحن نريد أن تكون هناك جمهورية جديدة، وأن يكون هناك نظام جديد، لأنَّ الجمهورية القديمة قد تعفَّنت، وقد أصبحت لا تحمي أحداً، ولا تحلّ مشكلة أحد. لينطلق الفراغ الدستوري إلى ما شاء الله، فلن يسقط لبنان، ولكن عندما نريد أن نملأ هذا الفراغ فإن علينا أن لا نملأه بشخص، بل أن نملأه بنظام جديد للبلد كلّه، وللإنسان كلّه؛ نظام يحترم فيه الإنسان حريّته، ويحترم فيه الناس إنسانيّتهم المشتركة في ما بينهم، ويحترم فيه الآخرون إنسانية الإنسان في هذا البلد. علينا أن نصرّ على ذلك. لن يبقى عندنا ما نخسره، فقد ركب هؤلاء رؤوسهم، وقد أصبحوا يتحرّكون من موقع العنصرية التي يعيشونها في حياتهم. لم يقسَّم هذا البلد ولسنا نريد تقسيمه، ولكن علينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة في سبيل أن يتوحَّد الجميع على أساس القضايا التي تكفل حقوق الجميع، وتكفل إنسانية الجميع على جميع المستويات، على أساس أن يعيش المستضعفون الحريّة والعزّة والكرامة في كلّ المجالات، وأن نبقى في حياتنا كلّها نتحرَّك في خطّ مواجهة كلّ القوى الظالمة بحسب ما نملك من طاقة وإمكانات.

حذار من الفتنة

إنَّ علينا في هذه الظروف العصيبة أن نحدِّق جيّداً بالساحة التي تعمل فيها أجهزة المخابرات المحليّة والإقليمية والدولية، التي تعمل على إثارة المشاكل في ساحتنا وتحريك الفتنة العمياء في أرضنا من خلال عمليات الاغتيال وغيرها من العمليات، إنَّنا نشجب هذا الأسلوب لأنّنا نخشى أن تنطلق الساحة على أساس الفتنة التي يريد الآخرون أن يحرِّكوها من جديد، لأنّهم لم يستطيعوا أن يسقطوا هذه الساحة بحسب ما يريدون. إنّهم يحاولون أن يكملوا عملية الإسقاط. لهذا ما أريده من كلّ إخواني وأبنائي في هذه المرحلة الصعبة، أن نكون الواعين في كلّ كلماتنا، وأن نكون الواعين في أعمالنا، أن نكون الواعين في مواقفنا، أن لا نتحرّك بانفعالاتنا ولا نتحرّك بعواطفنا ولا بالشائعات التي تطلق هنا وهناك، لقد بدأت الإذاعات الاستعمارية والصهيونية تحاول أن تثير المسألة على أساس أنّها امتداد لما حدث(1)، وعلينا أن نكون الواعين، لأنَّ القضية أنّه لا مصلحة لأحد في ما حدث، ولكنَّ المصلحة للذين أوقدوا الفتنة في الجنوب من المخابرات المحليّة والدولية، والذين أوقدوا الفتنة في الضاحية من المخابرات المحليّة والدولية.

تعالوا أيُّها الإخوة، هنا وفي الجنوب وفي البقاع وفي كلّ مكان، تعالوا لنعتصم بحبل الله جميعاً، ولنكن الواعين والثابتين، ولنكن الصادقين، ولنكن المتّقين في ما نسمع وفي ما نقول وفي ما نتحرّك، لأنّنا إذا نجحنا في ذلك فسوف ننجح في أكثر من ذلك، وسوف ننجح في وحدة الصف غداً وفي الموقف الجهادي الواحد ضدّ "إسرائيل"، وضدّ الاستكبار، وضدّ الذين يريدون أن يفرضوا علينا الاستعباد في داخل بلدنا.

أيُّها الإخوة، جميعاً، علينا أن نكتشف كيف نتوحَّد وعلينا أن نكتشف أعداءنا مَن هم، ليس بعضنا عدواً لبعض، ولكنّ العدوّ هو الذي يترصّدنا من جميع الجهات ويريد أن يسقطنا ويسقط روح الثورة في نفوسنا ويسقط روح الإسلام في حياتنا ويسقط كلّ الواقع.

إنَّنا ندعو إلى الوعي كلّ الوعي، وإلى اليقظة كلّ اليقظة، وإلى الوحدة كلّ الوحدة، حتّى نستطيع أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة نحميها ونحرسها ونحرّرها، ونواجه كلّ مَن يريد أن يقتلعنا منها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين


خطبة الجمعة التي أُلقيت بتاريخ 23/9/1988.(*)

البحار، ج:72، ص:163، رواية:34، باب:57.(1)

البحار، ج:1، ص:150،رواية:30، باب:4.(1)

البحار، ج:68، ص:286، رواية:41، باب:78.(1)

البحار، ج:72، ص:56، رواية:22، باب:42.(1)

نهج البلاغة، ج:9، باب:140، ص:64.(1)

نهج البلاغة، ج:18، باب:40، ص:159.(1)

البحار، ج:72، ص:54، رواية:19، باب:42.(1)

البحار، ج:71، ص:9، رواية:1، باب:1.(2)

في كل مرة يراد فيها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية تتدخّل الدور الإقليمية والدولية لفرض اسم رئيس معيّن أو للضغط باتجاه آخر وهكذا...(1)

إشارة إلى ما قاله مورفي بعد الاتفاق على اسم ميخائيل الضاهر كرئيس للجمهورية اللبنانية عام 1988 خَلَفاً لأمين الجميل.(2)

إشارة إلى اغتيال فضيلة الشيخ علي كريّم في بئر السلاسل. ودعوة إلى ضبط وتفويت الفرصة على مسعري الفتنة.(1)


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدّثنا عن شخصية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في سلوكه مع الناس من حوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن عباده الذين نسبهم إليه من خلال صفة الرحمة فيه {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63]. وفي آيةٍ أخرى يخاطب الرسول ويخاطب كلّ مؤمن {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. ويقول في آيةٍ أخرى في ما يأمر به رسوله أن يبلغه للناس {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53].

تكثر الآيات الكريمة التي تؤكّد أنّ الإنسان عندما يواجه أيّة مشكلة في الحياة في ما يسيء الناس إليه، أو ما يتنازع فيه مع الناس، أو ما يواجه من مشاكل، إنَّ عليه كمسلم مؤمن أن يملك عقله، وأن يملك مزاجه ومشاعره، ليكون أسلوبه أسلوب الرّفق واللّين لا أسلوب العنف والشدّة ما أمكنه ذلك، باعتبار أنّ الإنسان في ما يواجهه من المشاكل التي تتّصل بحياته مع الناس، وبعلاقته معهم، لا بدّ من أن يفكّر عندما يريد أن يحدّد موقفه من الناس الذين أساؤوا إليه، أو مع الناس الذين اختلف معهم، هل هدفه أن يشفي غيظه، أم هدفه أن يحلّ مشكلته؟!

حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ

إنَّ الذين يفكّرون في الحياة على أساس أن يشفوا غيظهم لن يستطيعوا أن يشفوا غيظهم. لماذا؟ لأنّ أيّ تصرّف تتصرّفه لتشفي غيظك بالسباب، أو بالضرب، أو بالوقوف ضدّ مصالح الآخرين، أو بغير ذلك، إنّ أيّ أسلوب من أساليب شفاء الغيظ يخلق لك غيظاً جديداً لأنّه يعقّد المسألة في أغلب الحالات، فأنتَ عندما تسبّ ستُسَب، وعندما تضرب ستُضرَب، وعندما تقف ضدّ مصالح الآخرين فقد يقف الآخرون ضدّ مصالحك. وهكذا إنّ أيّ شفاء للغيظ يجتذب غيظاً جديداً، وإنّ أيّ حلّ للمشكلة في هذا الاتّجاه يخلق مشكلة جديدة، وبذلك ستنتقل من غيظ إلى غيظ، ومن مشكلة إلى مشكلة، وسوف تفقد في نهاية المطاف كثيراً من أمنك، وكثيراً من راحتك، وكثيراً من صفاء مزاجك، وربّما تفقد في نهاية المطاف حياتك.

لقد أراد الإسلام للناس أن يفكِّروا في كلّ ما يحيط بهم ليكون الهدف عندهم هو حلّ المشكلة لا شفاء الغيظ. إنّك وأنت تعمل من أجل الحقّ في النطاق الاجتماعي، لا في النطاق الذي نواجه فيه التحدّيات الكبيرة ضدّ الأعداء الذين يريدون أن يقمعوا حريّتنا وحياتنا، عندما تواجه مشكلة فعليك أن تفكّر في أن تحلّها بأفضل الطرق، تحلّ مشكلتك مع الإنسان الذي تعايشه ويعايشك، ببرودة أعصابك وتفتِّح عقلك ويقظة إيمانك، حتّى تعينك برودة أعصابك على أن تهدأ في مشاعرك، ولكي يمنحك عقلك فرصة التفكير بهدوء وبموضوعية، ويساعدك إيمانك حتّى تتحرّك على أساس الخطّ المستقيم. ثمّ فكِّر: لماذا أساء إليَّ فلان، وما الظروف المحيطة بإساءته، وما خلفيّاته؟ لماذا أختلف مع فلان؟ ما سرُّ هذا الخلاف؟ ما جذوره؟ مَن الناس الذين يشجِّعون عليه؟ مَن الناس الذين يثيرونه؟ وعند ذلك حاول أن تدرس كلّ الأساليب والوسائل التي تستطيع من خلالها أن تُقنع هذا الإنسان بأنّك على حقّ، وأنّه على باطل، وأنّك على صواب، وأنّه على خطأ، أو تعمل على تجميد عداوته، ريثما تستطيع في مرحلةٍ أخرى أن تحرّك أساليبك في أجواء أفضل يمكن أن تجلب لك صداقته.

أمامك طريقان إمّا أن تحلّ المشكلة، أو أن تُجمِّدها. وعليك أن لا تلجأ أبداً إلى العنف عندما لا يكون العنف حلاَّ للمشكلة بل يكون موجباً لتعقيدها، ولإيجاد مشاكل أخرى أكثر ممّا كان موجوداً. الإسلام يؤكّد هذا المعنى، ويحدّثنا عن أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّما نجح في دعوته لأنّه اتّبع في الدعوة، وفي مواجهة الكلمات السلبية التي واجهه بها الكافرون، اتّبع الرّفق واللّين. وعندما كانت المشاكل تشتدّ في ما بين المؤمنين من خلال حركة المنافقين في داخلهم، كان يعالج مشاكلهم باللّين، ولعلّنا نعتبر أنّ المرحلة التي عاشها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة، بعد أن أرسله الله برسالته، والتي استمرَّت ثلاث عشرة سنة، هذه المرحلة لم يأذن له الله فيها بالقتال، ولم يأذن للمؤمنين بالقتال، ولم يأذن لهم حتّى بأن يصطدموا بالأيدي لكماً وضرباً، وما إلى ذلك. كان يريد أن يفسح في المجال لأساليب الرّفق واللّين حتى يستطيع أن يفتح عقول الناس على دعوته، فلا يشغلهم القتال عن تفهّم الدعوة. كان يربح قلوب الناس بأخلاقه وبأساليبه حتّى استطاع أن يجتذب جمهوراً كبيراً من أهل مكّة لدعوته، واستطاع بعد ذلك أن يجتذب جمهوراً كبيراً من الذين كانوا يتردَّدون على مكّة، ومنهم أهل المدينة وأهل يثرب آنذاك، ولهذا أكَّد الله له هذه الصفة، أكَّد الله شخصيّته الرسالية من خلال تأكيده لأخلاقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4] لم يقل وإنّك لعَلى علمٍ عظيم، أو إنّك لعلى زهدٍ عظيم، أو إنّك لعلى بطولة عظيمة... لم يقلّ ذلك.

صفات الداعية

كن عالماً، كن زاهداً، كن شجاعاً، كن بطلاً.. إنّك مهما امتلكت من هذه الصفات وكنت بدون أخلاق، فستعجز عن أن تفتح الحياة لنفسك، لأنّك تفتح الحياة بمقدار ما تفتح قلوب الناس عليك. المهم أن تربح قلب الإنسان... إنّك قد تربح بالقوّة والعنف موقف الإنسان، ولكنّك إذا لم تربح قلبه، ولم تربح قناعته، فإنّك ستفقده، وسينطلق الآخرون ليتآمروا عليك من خلاله لأنّه يتبعك اتّباع المضغوط على أمره والمقهور في إبداء رأيه، فمهما أمكنك أن تتحرّك في حياتك على أساس الرّفق فلا بدّ لك أن تأخذ به، ولا بدّ لك من أن تكون إنساناً يمارس هذا الأسلوب فتفتح قلبك للنّاس ولا تغلقه عليهم. افتح قلبك للمؤمن وأحبّه حتّى تتعاون معه، وافتح قلبك لغير المؤمن حتّى تستعين بذلك على هدايته إلى الطريق، أو على تجميد عداوته لك، لأنَّ أقرب طريق إلى عقول الناس هو أن تربح قلوبهم. كوِّن صداقة مع الناس، فبالصداقة تستطيع أن تكلِّم عقولهم. إذا كان الناس لا يحبُّونك، وإذا كان أسلوبك جافّاً معهم، وإذا كنت لا تعرف الابتسامة عندما تلتقي بهم، تعاشرهم بوجهٍ عبوس وطبعٍ حادّ ومزاجٍ سيّئ، فكيف يمكن لك أن تطمع بأنَّ الناس سيقتنعون بما تقول، ابتسم قبل أن تتكلَّم مع مَن تريد أن تُقنعه، افتح قلبك له وليكن في عينيك لمعان المحبّة حتّى تستطيع أن تجتذب قلوب الناس، فإذا اجتذبت قلوب الناس بأخلاقك فإنّك تستطيع أن تجتذب عقولهم بمنطقك، ولهذا كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المبتسم الدائم، كانت بسمته تسبق كلماته، وتشرق في قلوب الناس، وعندما نفذت بسمته إلى قلوبهم نفذت كلمته إلى عقولهم، وإذ الله يقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} بكلامك {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً} في لسانك، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}، في مشاعرك {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159] لَما تبعك أحد.

وهكذا أراد الله لرسوله أن يتحرّك في هذا الخطّ، وأنتَ عليك أن تكون الرفيق بالناس حتّى تنطلق معهم في قلبك المفتوح، لتلتقي بهم في عقلك المفتوح، وكلماتك المفتوحة، وقد تتلمذ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مدرسة الله وقال لكلّ إنسان منّا "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". إذا أردت للناس أن يحبّوك فأحبّهم أيضاً، وإذا أردت للناس أن لا يفعلوا الشرّ معك فلا تفكّر بأن تفعل الشرّ معهم، فإنَّ ذلك يمكن أن يؤثّر على طريقتك في الحياة معهم وبذلك تستطيع أن تجتذبهم.

لقد ركَّز القرآن الكريم على الأسلوب الأحسن. فدين الله يمنع المسلم أن تكون لغته لغة السّباب، والقرآن الكريم يؤكّد هذه المسألة، إنَّ السّب يجتذب السّب، ولهذا فإنّك إذا سببت الإنسان الذي تختلف معه، سببته في عرضه، أو سببته في أهله، أو سببته في شخصه، أو سببته في مقدّساته، فلن تحلّ المشكلة، بل سوف تكتسب مشكلة جديدة، إنَّ هذا الإنسان سيسب عرضك إذا سببت عرضه، وسيسبّ أهلك إذا سببت أهله، وسيسبّ مقدّساتك إذا سببت مقدّساته، لأنَّ عنصر الإثارة في نفسك يجتذب عنصر الإثارة في نفسه {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ...} [الأنعام : 108]. لهذا فالسبّ ليس وسيلة لأن تضغط على قناعة إنسان، لأنّك كلّما سببته أكثر كلّما تعصّب أكثر، وبالتالي فإنّك تدفعه إلى وضع يشبه حالة الدفاع عن النفس، فالإنسان يدافع عن مقدّساته أكثر ممّا يدافع عن نفسه، وعندما يكون الإنسان في حالة الدفاع عن النفس وعن مقدّساته، فإنَّ المسألة عند ذلك لا تكون مسألة قناعة تلتقي بقناعة بل تكون المسألة مسألة عدوان يجتذب عدواناً، وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "لا تسبُّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم"(1)، إنَّ الإنسان الذي يتعوَّد أن يستعمل أسلوب السباب كوسيلة من وسائل إدارة الخلافات في حياته مع الناس، هو إنسان سوف يُكْثِر أعداءه وهو قادر على أن لا يكثرهم، لو سببت من الصباح إلى المساء، فلن تحلّ مشكلة بذلك، لكن استبدل السبّ بكلمة فيها قدر من المنطق، وفيها قدر من المحبّة، وفيها قدر من المرونة، وامزج محبّتك ومرونتك بمنطقك فإنّك تستطيع أن تخفّف عداوة الناس إذا لم تستطع أن تلغيها.

الإنسان يحصد ما يزرعه لسانه

ثمّ نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمنا دائماً أن نختار الكلمة الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي} قل يا محمّد لعبادي الذين أُريد من خلالك أن أجعلهم يعيشون حياتهم في طمأنينة وراحة، وأن يلتقوا على عبادي، ويلتقوا على الإيمان بي، ويلتقوا على بناء الحياة على خطّ الله، قل لعبادي هؤلاء، الذين أحبَّ لهم أن يعيشوا الصواب في حياتهم، قل لهم {يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قل لهم: إنَّ كثيراً من مشاكلكم في ما بينكم ينطلق من مشاكل ألسنتكم، "وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلاّ حصائدُ ألسنتهم"(1). لسانك يزرع ولسانك يحصد.

إنَّ الذي يتكلّم الكلمة كالذي يزرع النبتة، فلو كانت عندك مثلاً قطعة أرض وتريد أن تزرعها، فإمّا تزرع ما تريد أن تأكله أو تزرع ما تريد أن تستمتع بجماله أو برائحته. فإذا كنتَ تملك أرضاً، وحرت في أمرك بين أن تزرع زهرة، أو تزرع شوكة، فهل تختار أن تزرع الشوك أم تفضّل أن تزرع الورد؟ غالباً، نحن نحبّ أن نزرع الورد، وعندما يكون عندنا ورد يشتمل على شوك بسيط نحاول أن نقلع ذلك الشوك من بين أوراق الورد. ألاَ نفعل ذلك؟ لسانك كذلك، عندما تأتي الفكرة في وجدانك لتلقيها إلى لسانك، فأنتَ تزرع في لسانك وردة يرتاح الناس إليها، أو تزرع شوكة يتألَّم الناس منها، وتتألَّم أنت منها، لماذا نحبّ دائماً أن نزرع أشواك الكلمات في ألسنتنا ولا نزرع ورود الكلمات فيها؟ لماذا نستعجل؟ إنَّ علينا أن لا نستعجل إطلاق الكلمة فإنّك إذا لم تقلها الآن، فقد تستطيع أن تقولها غداً، أو بعد غد. الله يقول لك حتّى في مسألة الورود، لا تزرع الورد كيفما كان، اختر أفضل الورود، حاول ما دمت تريد أن تزرع، وأنتَ قادر على أن تزرع الأحسن، عليك أن تختار الأحسن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني إذا أردنا أن نستعمل التعبير الشعبي "الشيطان يختبئ ويدخل في عبّ الكلمة"، يدخل حيث المشاعر حادّة، والأعصاب متوتّرة، فتأتي الكلمة حادّة تجرح بعض الناس، إنّك تقول، أريد أن أُثيره، أريد أن أجرحه، لكن ما النتيجة؟ لو فرضنا أنّك قلت كلمة وأدّت بك إلى الموت أو إلى تخريب حياتك فهل حصلت على نتيجة؟ {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يعني يدخل، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء : 53] لهذا حاول أن تفرغ كلمتك ممّا يحاول الشيطان أن يستغلّه ليخلق لك مشكلة مع الناس، استعمل ذلك في بيتك، كم من البيوت الوادعة المطمئنّة تهدَّمت بفعل كلمة انفعالية قالها زوج، أو بفعل كلمة انفعالية قالتها زوجة، كم من البيوت تهدَّمت ولو أنَّ الزوج حاول أن يعبّر عمّا في نفسه بكلمة أفضل، أو أنّ الزوجة حاولت أن تعبّر عمّا في نفسها بكلمة أفضل لَمَا حدث ما حدث، ولَحَقَّق كلّ منهما ما يريد.



لندرس الكلمة قبل إطلاقها

إنَّ الإمام عليّ (سلام الله عليه) يركّز على أنّ الإنسان يجب أن يدقّق بالكلمات "الكلام في وثاقك" إنّ الكلمة، قبل أن تقولها، هي في قيدك، فأنتَ تستطيع أن تطلق حريّتها وتستطيع أن تتركها مقيّدة "فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"(1) أي كان الكلام في وثاقك، كان في سجنك، ماذا تختار؟ أن تطلق حريّة الكلمة أو لا تطلق حريّتها، "فإذا تكلَّمت به صرت في وثاقه" أصبحت مقيّداً بكلمتك، أنتَ وقعت، أنتَ تكلَّمت، وكلامك شرف، أنتَ حكيت الحكاية، وهذه الحكاية تُدينك في المحكمة، وهكذا صرت مقيّداً بكلمتك، والإنسان إذا أراد أن يقيّد نفسه بشيء في الدنيا أو في الآخرة، فعليه أن يختار القيد الذي لا يحقّق له الهلاك، ولا يمنعه من أن يمارس حريّته في الحياة، يجب أن نفكّر بهذه الطريقة داخل بيوتنا، في مجتمعاتنا وفي كلّ جوانب حياتنا. هناك بعض الناس يخطِّطون لإثارتك كي يدفعوك إلى حالة من الغضب والشتم، والهدف اصطياد ردّة الفعل هذه، وتوظيف كلامك الانفعالي في الفتنة. فقد يأتي إليك هذا الشخص ليسجّل لكَ كلماتك الحادّة سواء في آلة تسجيل أو في ذهنه، يقول فلان يتكلّم عليك، وأنتَ مؤمن ووطني وما شابه ذلك من الكلمات، ويظهر الغيرة عليك، هكذا ينفخ لك شخصيّتك حتّى يدفعك لتقول الكلمة التي ليس من مصلحتك، ولا من مصلحة الناس أن تقولها. في هذه الحال، الله سبحانه وتعالى يقول للنّاس {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان : 63] يعني لا تسبّه، لا تشتمه أو تثره، قل سلامٌ عليك.

كيف نردّ الإساءة؟

مرَّ الإمام السجّاد زين العابدين (سلام الله عليه) يوماً، فسبّه شخص فمضى، قال: إيَّاك عنّي، لقد سببتك وما التفت، ما سببتُ غيرك، بل سببتك أنت، قال إيّاك أعرف وعنك أعرض، وقال له ما قال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199]. طبعاً هذا هو الجوّ العام، لكن هناك استثناءات، بعض الناس إذا ما تعاملت معهم بهذه الطريقة فإنّهم يزدادون إثماً، يجب أن تدرس دائماً الحالات الاستثنائية، وحتّى عندما تريد أن تردّ الإساءة كما يقول الله سبحانه وتعالى: {... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...} [البقرة : 194]، حيث يعطينا الله الحقّ بالردّ، لكن عندما تردّ، ردّ برفق وعقل بحيث تقطع الطريق على المعتدي فلا تعطيه الفرصة لتصعيد موقفه. هذه المسألة، حتّى عندما تريد أن تردّ على خصمك، فكِّر في أن تقول الكلمة ردّاً عليه، ولكن بطريقة لطيفة ومرنة ومعقولة، اجعله يفهم القصّة وكأن لم تقل شيئاً. إنَّنا نحتاج إلى الكثير لكي نقتدي برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، قال الله لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21] يعني أنتم الآن عندما تسمعون كلمة عن النبيّ محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا بدّ من أن تجعلوا رسول الله قدوتكم، وهذا هو الإسلام، الإسلام أن تلتزم بالله، وأن تلتزم برسول الله، أن تلتزم بقوله وبفعله، لأنَّ الانتماء للإسلام يعني الارتباط بالقيادة الإسلامية، والرسالة النبويّة، أن ترتبط بها فعلياً، ليس مجرّد أن تهتف باسمها، بل أن ترتبط بها ارتباطاً أساسياً، فتجعلها القدوة في كلّ حياتك، وقد ورد في بعض الأحاديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) "إنَّ الله رفيق يحبّ الرّفق"(1) وأنّه يعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، فعندما تكون مخيّراً بين أن تحلّ المشكلة بالرّفق أو بالعنف، فتحلّها بطريق الرّفق واللّين والروية فإنَّ الله يعطيك ثواباً على ذلك أكثر ممّا يعطيك لو حللتها بالعنف.







لنضبط كلماتنا أثناء الأزمات

يجب أن نركِّز حياتنا الاجتماعية على هذا الأساس، نجمّد أعصابنا، ونفتح قلوبنا بها. إذا كنت تدخّن السيجارة، وأردت أن ترميها على الأرض والدنيا وقت الحصاد حيث القشّ أو الحنطة أو الشعير، إذا رميت السيجارة فبعد لحظات يحترق البيدر كلّه.

لنتأمّل كيف يفكّر أعداؤنا في جامعات "إسرائيل" وأميركا، فهناك كليّات أو مواقع في الجامعة أو مؤسّسات موجودة تدرس خلافات الشعوب، خلافاتهم العائلية، خلافاتهم القروية، خلافاتهم الطائفية وخلافاتهم السياسية، كلّ الخلافات يدرسونها، يأتون بعلماء نفس، وعلماء اجتماع، وعلماء أديان، وعلماء سياسة، لدراسة هذه الأوضاع بطريقة المخابرات ثم يعملون على أن ينفذوا إلى داخل المجتمعات الصغيرة أو المجتمعات الكبيرة مركّزين على إثارة عصبيّاتها وتفجير خلافاتها، مستغلّين نقاط ضعفها، سواء على المستوى العائلي، كما كنّا نعيش في أيام الزعامات الإقطاعية، أو على المستوى الحزبي كما نعيش هذه الأيام، أو على المستوى الطائفي وغيره.

لهذا لا تقلّ كلّ ما في نفسك، إذا كنت في المسجد، أو في الشارع، ولو صفَّق لك الناس، لأنّهم يصفّقون لكلّ ما يثير عصبيّاتهم، يجب على الإنسان، بقدر ما يكون مسؤولاً، أن يكون دقيقاً في كلماته، لأنَّ المجتمع كلّه في أوقات الأزمات وفي أوقات الفتن، المجتمع يصبح متقبّلاً لكلّ الحرائق، ليس في لبنان فقط، بل في كلّ المناطق التي تمتلئ بالمشاكل في واقع الناس وفي واقع الشعب. إنَّنا نحتاج أن نكون مسؤولين أمام الله، مسترشدين بالرسول الكريم وأهل بيته. في أحد الأيام رأى الإمام عليّ (عليه السلام) شخصاً يتكلَّم ويأخذ حريّته في الكلام فقال: "يا هذا إنّك تملي على حافظيك كتاباً فانظر ماذا تقول"(1) أنت تتكلَّم الآن، وكلامك واصلٌ إلى الله تعالى. إنّك تقول أيّها المَلَكان الحفظان عليَّ سجِّلا، فلان كذا وكذا، سجِّلا هذه الغيبة، سجِّلا هذه النميمة، ما رأيك عندما تصعد هذه الكلمات إلى الله سبحانه وتعالى، كيف سيكون وجهك يوم القيامة؟ كيف تقف أمام الله سبحانه وتعالى؟ وكيف نقف جميعاً لأنّنا نغزل على المنوال نفسه؟.

الفرق بين العاقل والأحمق

ولقد فرَّق الإمام عليّ (عليه السلام) بين الأحمق والعاقل بقوله: "لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه"(1) قالوا يا أمير المؤمنين لا نفهم عليك، اللّسان في مكانه والقلب في مكانه، لا يوجد فرق، هذا لسانه في فمه، وقلبه في صدره، وعقله في رأسه، لا فرق بين الأحمق والعاقل، قال: أنا أريد المعنى، لا القلب المادي واللّسان المادي، لأنَّ العاقل إذا تكلَّم الكلمة تذكّرها، فإنْ رآها خيراً ألقاها إلى لسانه، وإنْ رآها شرّاً أمسكها، وأمّا الأحمق فإنَّ الكلمة عندما تخطر في ذهنه فإنّه يتكلّمها، ثمّ بعد أن يتكلّمها وتفعل فعلها في الواقع، يفكّر فيها، كيف قلت هذا، ليتني لم أقل. إذاً يجب أن نتعلَّم كيف ندير كلماتنا؟ كيف نختار كلماتنا؟ وكيف نبرّد كلماتنا؟ وكيف نحاول أن نركّز كلماتنا على أساس أن تكون خيراً ولا تكون شرّاً، ولاسيّما في أوقات الفتن.

من جهةٍ ثانية، في بعض الحالات قد يأتي أحد ليدخل معك في معركة، يتحرَّش بك حتّى تردّ عليه لتضربه وهو مخطّط لذلك، يريد أن يجعل من ردّك قضية تشعل فتنة في البلد أو في المنطقة، ويأتي هنا دور المخابرات، المخابرات المحليّة، أو مخابرات الأحزاب، أو المخابرات الخارجية، مثلاً في الفتن الطائفية، قد يأتون لسنّي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات الشيعة، أو لشخص مسلم ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسيحيين أو لشخص مسيحي ويقولون له: اذهب وسبّ مقدّسات المسلمين، وتقع الفتنة سنيّة ـــ شيعيّة، ومسيحية ـــ إسلامية، وهكذا بالنسبة للأحزاب، يقال لشخص اذهب وسبّ الزعيم الفلاني، وتثور القصّة، وهكذا، فإذا جاءك أحد ويريد أن يثيرك فعليك أن لا تُستثار بل عليك أن تدرس طبيعة الأرض، وطبيعة الظروف، وطبيعة خلفيات هذا الإنسان.

بين الرّفق وردّ العدوان

يجب أن نعالج الأمور التي يراد من خلالها خلق الفتنة وخلق المشكلة على أساس الرّفق وعلى أساس العقل ثمّ التصرّف بعد أن ندرس طبيعة المسألة، وبعد أن ندرس آفاقها ونتائجها، ولهذا علينا أن لا نفكِّر دائماً بمنطق: إذا تكلَّم أحدٌ عليَّ بسوء أو سبّني أو أراد أن يثيرني دون أن أردَّ عليه أكون ذليلاً. لا، ربّما تكون أكثر عزّة إذا لم تردّ عليه، لأنّه قد جاء ليرتّب وضعاً ما، ربّما يطوّقك ويوصلك إلى نتائج سيّئة، ليس أنت فقط، أنت وكثير ممّن معك وكثير من الناس.

نحتاج ـــ أيُّها الإخوة ـــ إلى أن نفكِّر، "إنَّ الرّفق ما وُضِعَ على شيء إلاّ زانه وما رُفِعَ عن شيء إلاّ شانه" الرّفق أن تداري القضايا وتداري الأمور بشكلٍ لا ينطلق في حياتك بطريقة انفعالية، أو بطريقة حماسية، أن تداري الأمور برفق، الرّفق في كلّ شيء، كن رفيقاً في حياتك، عندما يعطيك الله المال، لا تصرفه بطريقه عشوائية، كن رفيقاً في مصرفك، كن رفيقاً في حياتك، قدِّر ظروفك وإمكاناتك، كنْ رفيقاً في تصرّفك وحاجاتك، وحاول أن توفِّق بين ظروفك وحاجاتك وإمكاناتك حتّى تستطيع أن تضبط حساباتك في حياتك. في مجال الصحبة، "ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً عند الله تعالى وأحبَّهما عند الله تعالى أرفقهما بصاحبه"(1)، أنت أرفق لصاحبك يعني أنتَ أكثر أجراً.

الأساس في الإسلام هو أن يعالج الإنسان الأمور بالرّفق وباللّين وبترك عناصر الإثارة، إلاّ إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك بحيث لا يؤدّي استخدام اللّين إلى أيّ نتيجة. وهذا الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) يقول: "وحقُّ مَنْ ساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنَّ العفو يضرّ انتصرت"(2).





الجهاد ليس عدواناً

عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في مكّة لم يكن يلجأ إلى العنف، كان يطلب من المسلمين أن لا يلجؤوا إلى العنف لأنَّ المصلحة كانت في ذلك الوقت أن يفتح قلوب الناس على الدعوة، لكن عندما هاجر إلى المدينة ورأى أنَّ قريشاً تستمرّ في استخدام كلّ قوّتها في سبيل إبعاد الناس عن الإسلام وعن النبيّ، وأنّها تقف حاجزاً بين الناس وبين دخولهم إلى الإسلام، مستعينة بقوّتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، عند ذلك رأى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ لا مجال إلاّ أن يدخل معهم في قتال، انطلاقاً من كلام الله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج : 39]، {... وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة : 36]، لأنَّ المشركين لم يكونوا مستعدّين لأن يخفّفوا من ضغطهم على الإسلام وعلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلى المسلمين، فقال لهم رسول الله: يا جماعة أنتم أقربائي وأهلي وعائلتي، اتركوني أنا والعرب، لا تريدون الإيمان بي، كونوا على حياد، فإذا انتصرت بحسب منطقكم أنا منكم وشأني شأن كبير فهذا شيء إيجابي بحسب منطقكم ومنطق العشائر عندكم، وإذا انكسرت فقد كفيتم أمر الناس، لماذا تريدون قتلي.. وهكذا شرَّع الله سبحانه وتعالى الجهاد لهذه الغاية، الجهاد ليس حالة عدوانية، سواء كان الجهاد الابتدائي أو الجهاد الدفاعي، الجهاد يمثّل حالة وقائية، وحالة دفاعية، فعندما لا يسمح بعض الناس لدعوة الإسلام بأن تأخذ حريّتها، فإنَّ الإسلام بعد دراسة الأمور، يرى المصلحة بأن يقف ضدّ هؤلاء حتّى يأخذ حريّته في هذا المجال، هذا إذا هم لم يقفوا ضدّه يحاربونه.

إنَّ الشخص الذي يستعدّ لأن يدمّر حياتك، أو يدمّر اقتصادك، أو عزّتك، وكرامتك، وحرّيتك، وثقافتك على أساس امتلاكه القوّة، ليس من المعقول أن تسلم له أو تعطيه باقة ورد. في هذا المجال عليك أن تقف في وجهه وعليك أن تواجهه كما يواجهك، وعليك أن تحاصره كما يحاصرك، وعليك أن تعمل على أن تضغط على مصالحه كما يضغط على مصالحك، طبعاً بالوسائل التي يمكن أن تؤدّي إلى النتائج لا بالوسائل الانفعالية، لأنّ العدوّ قد يستفيد من انفعالك وأنتَ تهاجمه أكثر ممّا يستفيد من عدم مواجهتك له، لأنَّ الانفعال يُبرز كلّ نقاط ضعفك التي يستطيع العدوّ أن يستفيد من خلالها. فعندما نقاتل الاستعمار أو العدوان الصهيوني أو الظلم الداخلي، يجب أن ندرس بشكل أساس حتّى كلماتنا، لأنّ أعداءنا سيأخذون كلماتنا الانفعالية ليشوِّهوا صورتنا من خلالها، باعتبار أنّ الذهنية الموجودة عندنا تختلف عن الذهنية الموجودة في الغرب، مثلاً يمكن أن تتكلَّم كلمة يعتبرها الوسط السياسي عندنا كلمة جيّدة لكن في مفهوم الرأي العام العالمي، قد تشير هذه الكلمة إلى وحشيّتك، وقد تشوّه صورتك عند الآخرين.

لهذا، نحن في الخطاب السياسي عندما نطلق كلماتنا وخطابنا السياسي لا بدّ من أن يكون خطابنا مدروساً بطريقة لا يستطيع أعداؤنا أو يشوِّهوا صورتنا عند شعوبهم من خلال عدم دقّتنا في عرض كلماتنا، وحتّى الأساليب الأخرى التي نحارب فيها الأعداء لا بدّ من أن تكون أساليب مدروسة من جميع الجهات حتّى تستطيع أن تَضعِف العدوّ ولا تثير أيّ نقطة ضعف كبيرة في حياتنا. فالإسلام إذاً، إنّما يشجّع على العنف بالنسبة إلى الناس الذين لا يخاطبونك إلاّ بلغة العنف ولا يتعاملون معك إلاّ على أساس ما يثيرونه في حياتك من عنف، سواء كان هذا العنف سياسياً، أو عسكرياً، أو أمنياً. إنّك في هذه الصورة لا بدّ لك من أن تواجه العنف بالعنف إذا لم يكن لك سبيل إلى مواجهة العنف باللّين، ولكن بحسب التجربة فإنَّ العنف في القضايا الداخلية لم يستطع أن يحقّق نتائج إيجابية، بل غالباً ما حقَّق النتائج السلبية.

طريقة التعامل مع الفتنة

إنَّ علينا أن نهرب ـــ ما أمكن ـــ من الفتن الداخلية وأن نخفّف من كلّ الأساليب التي تثير الفتن في ما بيننا، وذلك لأنَّ الدائرة الداخلية تختلف عن الدائرة الخارجية. الدائرة الداخلية، دائرة محصورة في حدود معيّنة تحاصرها الأوضاع العائلية، والطائفية، والحزبية، لهذا فإنَّ أيّ نوع من أنواع العنف في الخلافات الداخلية، سوف يلتفّ عليه الآخرون ولاسيّما المخابرات لتخلق منه فتنة تحرق الأخضر واليابس، والله يقول: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25]،لأنَّ النار إذا اشتعلت هنا، فإنّها تشتعل في البلد كلّه، يجب أن نتعامل مع الفتن الداخلية تعاملاً دقيقاً، بحيث لا يؤدّي هذا التعامل إلى خلق مشاكل للبلد كلّه وللنّاس كلّهم، لأنَّ هناك كثيراً من الفتن تحرق الجميع، سواء الذين أثاروا الفتنة أو الذين كانوا ضحيّتها، ذلك أنّ العقلية الداخلية المبنية على العصبية هي عقلية مجنونة، وهكذا مرّت على الحرب الداخلية عندنا أربع عشرة سنة تقريباً وما استطاع القتال الداخلي أن يحقِّق نتيجة، لأنَّ الأوضاع اللبنانية أوضاع مقسّمة طائفياً ومذهبياً وسياسياً وشخصياً، ولهذا فإنَّ أيّة شعارات كبيرة عندما تتحرّك تطوّقها الأوضاع الصغيرة، الأمر الذي يدفع إلى القول: إنّ هذا البلد محكوم على أطرافه بالبحث عن وسائل وأساليب معيّنة تستطيع أن تحقّق لهم ولو أقلّ قدر ممكن من التوافق على بعض الأشياء في غياب إمكانات سياسية وغير سياسية لاحتواء واقع البلد كلّه.

إنّنا قد نستطيع في داخل هذا البلد أن نصل من خلال السلم إلى ما لم نستطع أن نصل إليه في الحرب، وهذا لا يمنع من أن نواجه حالات ضاغطة، لكن علينا أن لا نندفع بالعقلية الغريزية المبنية على العصبية، لأنّ كلّ الأجهزة التي ترعى الفتنة في هذا البلد، وترعى الواقع الطائفي فيه، تحاول أن تدخل على خطّ الفتنة عن طريق {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء : 53] تدخل في كلّ هذه الأمور، ولهذا رأينا أنّهم استطاعوا في هذه الفتنة أن يوصلوا الناس إلى نقطة الصفر، من دون أن يحصل الناس على شيء، كما يحصل الآن في مسألة الاستحقاق الدستوري التي نعيشها في هذه الأيام. إنَّ هناك حكومتين، والناس اعتبروا أنّ لبنان انتهى، لكن هذا أيضاً جزء من اللعبة الدولية، وأنا ما زلت على كلامي الذي كنتُ أقوله، وهو أنّ اللعبة مدروسة ومضبوطة، لا يوجد تقسيم في لبنان، يوجد حكومة هنا وحكومة هناك، لكن لا يوجد تقسيم، والذين يديرون لعبة الفتنة في هذا البلد يملكون ضوابط في إدارة المسألة حتّى عند حالات الخلاف، كما يحدث الآن.

اللّعبة الأميركية

إنَّ هناك ضوابط معيّنة تحكم حركة هذا البلد، مع كلّ أسف نقولها دائماً، هذا البلد لم يُحكم من خلال قيادات يفرضها الناس فيه، بل غالباً ما كانت هذه القيادات أو تلك تعين من قِبَل هذه الدولة أو تلك. كان الوضع يسير في هذا الشكل، ولكن كان هناك شيء اسمه حفظ ماء الوجه، يتمّ تعيين الشخص القائد ويتمّ الاتفاق عليه ولكن لا يتكلّمون، ثمّ يأتون للبنانيين ويقولون لهم: أنتم في بلد حرّ ديمقراطي، خذوا حريّتكم في الانتخاب، وهذه المرّة دخلت أميركا على هذا الخطّ بالطريقة المعروفة، فتمَّ الاتفاق على اسمٍ معيّن(1)، وعرضت واشنطن هذا الاسم على أساس إمّا القبول به وإمّا الفوضى، إمّا هذا وإمّا الدمار(2)، إنّ أميركا تلعب على خطّين، والطريقة التي أُثيرت بها المسألة تثير الأعصاب، يعني تدبّروا أمركم، ويجب أن تفعلوا ما نريد.

يجب أن نحذر من الضوء الأخضر الأميركي للمعارضة، لأنّنا من الصعب أن نصدّق أنّ هؤلاء الناس الذين ينطلقون ساعة مع "إسرائيل" وثانية مع بريطانيا وثالثة مع غيرها، وهم عرضوا على واشنطن التدخّل في الحكم، والقوات وغيرها من القوى قد استيقظت فجأة صحوة الضمير عندهم فتمسّكوا بشعارات الاستقلال والحريّة والديمقراطية.

لا تزال اللعبة أميركية، ولا يزال أيضاً هذا الذي عُيّن الآن بطريقة معيّنة هو الولد المدلَّل لأميركا والذي لا يتكلّم بطريقة العنتريات. وقد وصلتنا معلومات دقيقة مفادها أنّ ضبّاطاً إسرائيليّين جاؤوا وطلبوا من بعض القيادات العسكرية الميليشيوية هناك أن ينسّقوا مع الجيش في سبيل إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه. إنَّ هذه المسألة مسألة إسرائيلية، ربّما إسرائيلية ـــ أميركية، ولكن مع ذلك هناك إيحاء أميركي الآن للأوضاع السياسية، بأن لا تتفجَّر عسكرياً وأن يسمح للدبلوماسية الخفيّة بأنْ تتحرّك لتضبط الأمور ولو بعد أيّام أو بعد شهر أو شهرين لهذه المسألة، إنَّ المسألة تتحرّك بضوابط سياسية في العمق وإنْ كانت تثير كثيراً من المشاكل في السطح، لأنَّ الطبخة اللبنانية في مستقبل لبنان لا تزال تحتاج إلى كثير من النضوج، إمّا على نار سياسية وهذا ما يحدث الآن، وإمّا على نار أمنية وهذا ما نرجو أن لا يكون، ويؤكّد الكثيرون أنّه لن يكون، باعتبار أنّه لن يفيد أحداً.

إسقاط صيغة الامتيازات

إنَّ التاريخ الذي كان محدَّداً لما يسمّى الاستحقاق الدستوري لم يتّسع لإنهاء المسألة، والمسألة يجب أن تتحرّك في الطريقة التي يراد لها أن تسير فيها، ونحن نريد من خلال ما نواجهه في هذا الظرف العصيب، أن ننبّه إلى أنّها الفرصة التي يفترض أن يفهم فيها اللبنانيون كلّهم، أنّ هذه الصيغة التي لا يزالون يعيشون فيها قد سقطت، وإنَّ علينا في هذا الجوّ أن نُسقِط صيغة الامتيازات، وأن نقول للموارنة، ونقول للمسيحيين إذا ساروا في دائرة الموارنة، نقول لهم: إنَّ الامتيازات التي لا تزالون تعملون وتحرقون الأخضر واليابس حتّى تبقى لكم، لم تستطع أن تبني لكم بلداً، ولم تستطع أن تحقِّق لكم أمناً طائفياً، وأن تثبت الأرض تحت أقدامكم، ولن تستطيع ذلك إذ مهما امتدّت الامتيازات، فسوف يأتي وقت تسقط فيه.

تعالوا إلى وضع تتحرّك فيه دولة الإنسان إذا لم نستطع أن نحرّك دولة الإسلام، فتعالوا لنحرّك دولة الإنسان ليكون الإنسان مواطناً بإنسانيّته، ولتكون إنسانيّته هي الأساس في ما يفرض عليه من حقوق ومن واجبات. لن تكون بديلاً عمّا نعتقده، ولكنّها تكون حلاًّ مرحلياً لذلك، حتّى تكون عندنا ساحة واسعة يستطيع كلّ واحدٍ منّا أن يفتح فيها فكره على عقول الآخرين ليقتنع الناس من خلال ذلك.

في هذا المجال، نحن نريد أن تكون هناك جمهورية جديدة، وأن يكون هناك نظام جديد، لأنَّ الجمهورية القديمة قد تعفَّنت، وقد أصبحت لا تحمي أحداً، ولا تحلّ مشكلة أحد. لينطلق الفراغ الدستوري إلى ما شاء الله، فلن يسقط لبنان، ولكن عندما نريد أن نملأ هذا الفراغ فإن علينا أن لا نملأه بشخص، بل أن نملأه بنظام جديد للبلد كلّه، وللإنسان كلّه؛ نظام يحترم فيه الإنسان حريّته، ويحترم فيه الناس إنسانيّتهم المشتركة في ما بينهم، ويحترم فيه الآخرون إنسانية الإنسان في هذا البلد. علينا أن نصرّ على ذلك. لن يبقى عندنا ما نخسره، فقد ركب هؤلاء رؤوسهم، وقد أصبحوا يتحرّكون من موقع العنصرية التي يعيشونها في حياتهم. لم يقسَّم هذا البلد ولسنا نريد تقسيمه، ولكن علينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة في سبيل أن يتوحَّد الجميع على أساس القضايا التي تكفل حقوق الجميع، وتكفل إنسانية الجميع على جميع المستويات، على أساس أن يعيش المستضعفون الحريّة والعزّة والكرامة في كلّ المجالات، وأن نبقى في حياتنا كلّها نتحرَّك في خطّ مواجهة كلّ القوى الظالمة بحسب ما نملك من طاقة وإمكانات.

حذار من الفتنة

إنَّ علينا في هذه الظروف العصيبة أن نحدِّق جيّداً بالساحة التي تعمل فيها أجهزة المخابرات المحليّة والإقليمية والدولية، التي تعمل على إثارة المشاكل في ساحتنا وتحريك الفتنة العمياء في أرضنا من خلال عمليات الاغتيال وغيرها من العمليات، إنَّنا نشجب هذا الأسلوب لأنّنا نخشى أن تنطلق الساحة على أساس الفتنة التي يريد الآخرون أن يحرِّكوها من جديد، لأنّهم لم يستطيعوا أن يسقطوا هذه الساحة بحسب ما يريدون. إنّهم يحاولون أن يكملوا عملية الإسقاط. لهذا ما أريده من كلّ إخواني وأبنائي في هذه المرحلة الصعبة، أن نكون الواعين في كلّ كلماتنا، وأن نكون الواعين في أعمالنا، أن نكون الواعين في مواقفنا، أن لا نتحرّك بانفعالاتنا ولا نتحرّك بعواطفنا ولا بالشائعات التي تطلق هنا وهناك، لقد بدأت الإذاعات الاستعمارية والصهيونية تحاول أن تثير المسألة على أساس أنّها امتداد لما حدث(1)، وعلينا أن نكون الواعين، لأنَّ القضية أنّه لا مصلحة لأحد في ما حدث، ولكنَّ المصلحة للذين أوقدوا الفتنة في الجنوب من المخابرات المحليّة والدولية، والذين أوقدوا الفتنة في الضاحية من المخابرات المحليّة والدولية.

تعالوا أيُّها الإخوة، هنا وفي الجنوب وفي البقاع وفي كلّ مكان، تعالوا لنعتصم بحبل الله جميعاً، ولنكن الواعين والثابتين، ولنكن الصادقين، ولنكن المتّقين في ما نسمع وفي ما نقول وفي ما نتحرّك، لأنّنا إذا نجحنا في ذلك فسوف ننجح في أكثر من ذلك، وسوف ننجح في وحدة الصف غداً وفي الموقف الجهادي الواحد ضدّ "إسرائيل"، وضدّ الاستكبار، وضدّ الذين يريدون أن يفرضوا علينا الاستعباد في داخل بلدنا.

أيُّها الإخوة، جميعاً، علينا أن نكتشف كيف نتوحَّد وعلينا أن نكتشف أعداءنا مَن هم، ليس بعضنا عدواً لبعض، ولكنّ العدوّ هو الذي يترصّدنا من جميع الجهات ويريد أن يسقطنا ويسقط روح الثورة في نفوسنا ويسقط روح الإسلام في حياتنا ويسقط كلّ الواقع.

إنَّنا ندعو إلى الوعي كلّ الوعي، وإلى اليقظة كلّ اليقظة، وإلى الوحدة كلّ الوحدة، حتّى نستطيع أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة نحميها ونحرسها ونحرّرها، ونواجه كلّ مَن يريد أن يقتلعنا منها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين


خطبة الجمعة التي أُلقيت بتاريخ 23/9/1988.(*)

البحار، ج:72، ص:163، رواية:34، باب:57.(1)

البحار، ج:1، ص:150،رواية:30، باب:4.(1)

البحار، ج:68، ص:286، رواية:41، باب:78.(1)

البحار، ج:72، ص:56، رواية:22، باب:42.(1)

نهج البلاغة، ج:9، باب:140، ص:64.(1)

نهج البلاغة، ج:18، باب:40، ص:159.(1)

البحار، ج:72، ص:54، رواية:19، باب:42.(1)

البحار، ج:71، ص:9، رواية:1، باب:1.(2)

في كل مرة يراد فيها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية تتدخّل الدور الإقليمية والدولية لفرض اسم رئيس معيّن أو للضغط باتجاه آخر وهكذا...(1)

إشارة إلى ما قاله مورفي بعد الاتفاق على اسم ميخائيل الضاهر كرئيس للجمهورية اللبنانية عام 1988 خَلَفاً لأمين الجميل.(2)

إشارة إلى اغتيال فضيلة الشيخ علي كريّم في بئر السلاسل. ودعوة إلى ضبط وتفويت الفرصة على مسعري الفتنة.(1)

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية