الإمام الحسين (عليه السلام)
نموذج الثورة الرائدة(*)
في هذه الأيام، نعيش ذكرى الحسين (عليه السلام) في يوم أربعينه، ونحن عندما نريد أن نستثير ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، فإنّنا نريد دائماً أن نجعل هذه الثورة من خلال روحيّتها، ومن خلال خطّها، ومن خلال مضمونها، ومن خلال طبيعة التحدّي الذي يتمثّل فيها، نريد أن نجعل من هذه الثورة الحسينيّة مرآة لكلّ نشاطاتنا الإسلامية العملية، باعتبار أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام المفترض الطاعة، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، في كلّ ما قاله، وفي كلّ ما فعله، يمثّل الشرعية الإسلامية. فكلّ كلمة قالها هي بالنسبة إلينا تمثّل الحقّ في كلمات الإسلام، وكلّ عمل قام به يمثّل الحقّ في نشاط المسلمين في كلّ أوضاعهم العملية.
مرتكزات الموقف الحسيني
إنّنا عندما نريد أن نستحضر ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) فلا بدّ لنا من أن ندرس كلّ مفرداتها في كلّ ما طرحه الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، الكثيرون من الناس يطرحون المسألة الجهادية فقط عندما يطرحون المسألة الحسينية، فيتحدّثون فقط عن حركة التضحية، وعن حركة الجهاد في هذه الثورة، ولكنّنا عندما نريد أن نتحدّث عن حركة الجهاد في هذه الثورة، فعلينا أن نفهم الأساس الذي ينطلق منه الجهاد وفي أيّ سبيلٍ هو. ليس من مشكلة في حياة الإنسان كمسلم أن يجاهد، ولكن على أيّ أساس تجاهد، وعلى أيّ أساس تُقاتِل؟ إنّ الذي يجعل من جهادك جهاداً في سبيل الله، أو جهاداً في غير سبيل الله هو المضمون الذي تحمله في نفسك عندما تريد أن تحرِّك خطواتك للجهاد، فمن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، فهو المجاهد في سبيل الله. ومن قاتل على أساس عصبيّة شخصيّة أو عائليّة أو عرقيّة أو حزبيّة أو ما إلى ذلك، فقد قتل في سبيل الشيطان؛ ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن هؤلاء الذين يريد الله أن ينصرهم ويريد منّا أن ننصرهم، تحدَّث عنهم من خلال الأهداف التي يستهدفونها ولهذا قال الله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41] أن ينطلق الجهاد على أساس أن يكون هدف المجاهدين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإنَّ معنى أن تكون مُجاهِداً أن تنطلق من روحك الإسلامية كمتزيِّن بالإسلام، وكملتزمٍ بالإسلام وكعاملٍ في خطّ الإسلام، ومن أجل نصرة الإسلام.
كيف نفهم مقولة الصراع الديني
على هذا الأساس، فإنّنا نرفض الكثير من الكلمات التي تقول إنَّ علينا عندما نريد أن نقاتل "إسرائيل"، أن لا نقاتلها على أساس ديني، ولكن لا بدّ من أن نقاتلها على أساس سياسي، أو أنّنا لا نريد أن نقاتل اليهود المعتدين في فلسطين، بل نريد أن نقاتل الصهيونية. بعض الناس يعتبرون أنّ مقولة القتال على أساس أنّ دينك يفرض عليك ذلك تمثّل انحرافاً عن خطّ الكفاح والنضال، لأنّهم يقولون إنّنا لا نريد أن نجعل الصراع دينياً، كأنَّ الدين يمثّل معنى يعيش خارج نطاق الصراع، أو كأنَّ الدين لا يملك روحية الصراع في مواجهة الباطل وفي مواجهة الظلم، وفي مواجهة البغي والعدوان، لكن نريد أن نؤكّد أنَّ صراعنا في كلّ ما نتحرّك فيه، هو صراع ديني لا بمعنى أنّنا نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين لمجرّد اختلافهم معنا، فالله لم يطلب إلينا أن نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين، إلاّ إذا ظلمونا، وإلاّ إذا أخرجونا من ديارنا بغير حقّ، وإلاّ إذا واجهونا بالأساليب التي يحاولون من خلالها أن يتآمروا على مصيرنا وعلى مستقبلنا.
إنَّ صراعنا ديني معناه أنّنا ننطلق من ديننا ومن أحكامنا الشرعية، من إخلاصنا لله في سبيل مواجهة كلّ الذين يعملون لكي يزرعوا في الحياة الظلم، أو يزرعوا في الحياة الانحراف، فنحن عندما نواجه اليهود فإنّنا نواجههم من موقع يهوديّتهم المستعلية ويهوديّتهم الباغية ويهوديّتهم الظالمة، كما أعطانا الله الخطّ، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] نحن نتحرّك على هذا الأساس؛ نقاتل من مواقعنا الإسلامية الجهادية في ما تفرضه الأحكام الشرعية علينا، ليكون حكم الله هو الذي نستهديه عندما نرفض موقفاً، أو عندما نتبنّى آخر، سواء كان الصراع صراعاً على مستوى القتال بالسلاح أو كان الصراع صراعاً على مستوى المواجهة السياسية، أو غير المواجهة السياسية.
في هذا المجال، إنّنا نعتزّ بموقف هذا الشاب المسلم المجاهد الذي اكتشفنا أنّه لا يزال في سجون "إسرائيل"، بعد أن كان الظنّ أنّه استُشهد مع رفاقه، هذا الشاب "البرزاوي" الذي يقف أمام القاضي الإسرائيلي ليقول له: إنّني مسلم أنتمي إلى الإسلام، وأُقاتلكم لأنَّ الإسلام يأمرني بأن أُقاتلكم، ولستُ غاضباً أو نادماً من حكمكم عليّ، حتّى لو حكمتم عليّ بالسجن المؤبّد، فلا أندمُ على ما فعلت، لأنَّ الحكم لله، وليس لمحكمتكم.
إنَّ موقف هذا الشاب المسلم المجاهد وهو يتلقّى الحكم عليه بالسجن الذي يتلخَّص بقوله: ديني يأمرني أنْ أُقاتلكم، إنَّ هذا الموقف يتطلَّب أن نستشعره في أعماقنا أيُّها الإخوة، ألاَّ يخدعَنَكم أحد عن دينكم، ليقول لكم قاتلوا تحت مظلّةٍ غير إسلامية، لأنَّ المظلّة الإسلامية مظلّة طائفية.
الحدود بين الإسلام والطائفية
إنَّ الإسلام ليس حالة طائفية، الطائفيون قد ينتمون إلى الإسلام شكلاً ولكنّهم لا يؤمنون بالإسلام، كثير من المسلمين الذين ينتمون طائفياً للإسلام مُنحلُّون في عقيدتهم، وكثيرون منهم منحرفون في عقيدتهم، المسلم مَن التزم الإسلام في عقله وفي قلبه وفي انتمائه وفي حركته. إذا كان أخوك غير معتقد بالله وبرسوله، فليس بمسلم، حتّى لو كان أبوه مسلماً، الإسلام ليس مجرّد بطاقة وليس مجرّد نَسب، وليس حالة جغرافية، الإسلام حالة عقلية، روحية، عملية تنطلق من خلال ما جعله الله للإنسان في رسالته من عقيدة ومن شريعة. ليكن انتماؤنا الإسلامي هو الأساس في حركتنا وفي صراعنا وفي قتالنا وفي تأييدنا وفي رفضنا، وليس معنى أن نتمسّك بالإسلام، أنّنا نكون منعزلين عن الآخرين بل إنّ معنى أن نلتزم بالإسلام، أن نستهدي الإسلام في أحكامه في ما يفرضه علينا من الانفتاح على الآخرين بحساب، ومن الانغلاق عنهم بحساب، حتّى لا نعيش حالة النفاق في الكلمات، بل نقول كما قال الله سبحانه وتعالى حيث حدَّد مواقع اللّقاء ومواقع الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64] نحن نعيش مع الآخرين لأنَّ الإسلام يريدنا أن نعيش معهم لا على أساس حالة سياسية طارئة، ونتعايش مع الآخرين ونتحاور معهم في إطار هذه القاعدة. لهذا إنَّ شعاراتنا التي نطرحها في المجتمعات المتنوّعة وفي المجتمعات المختلفة، ليست شعارات طارئة نطلقها اليوم لوضع سياسي معيّن، ثمّ نسحبها غداً لوضع سياسي آخر، لأنَّ ديننا هو الذي ركَّز لنا قواعد الانفتاح على الآخرين، واللّقاء معهم.
الحسين (عليه السلام) نموذج الثائر المسلم
من هذا الموقع، نريد أن نفهم أنّنا لا نستطيع أن نتصوَّر الحديث عن الثورة الحسينيّة إلاّ من خلال الحديث عن الثورة الإسلامية، والحركة الإسلامية، والخطّ الإسلامي، لأنَّ الثورة الحسينية هي خطوة جهادية متقدّمة في المسيرة الإسلامية التي بدأها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأرادنا أن نسير عليها حتّى تقوم الساعة، لهذا عندما ترتبطون بالحسين (عليه السلام) لا ترتبطوا به كشخص ولكن ارتبطوا به إماماً، وعندما تنطلقون مع الحسين (عليه السلام) انطلقوا معه كونه ثائراً إسلامياً لا ثائراً في المطلق، لا تقولوا إنَّ الحسين ثائر من أجل الحريّة في المطلق، ولكن قولوا إنّه ثائر من أجل الحريّة التي انطلقت من موقع الإسلام، ومن موقع الحكم الشرعي. ركِّزوا الخصوصية الإسلامية حتى لا تبتعدوا نفسياً وروحياً أمام كلّ هذا الواقع اللاإسلامي، حتّى لا تبتعدوا عن الإسلام، وحتّى لا تخجلوا بالإسلام وحتّى لا تستحوا بالإسلام، لأنَّ القوم في شرق الأرض وغربها يصوِّرون لكم الإسلام حالة دينية، وعليكم أن تنفتحوا لتتحرَّكوا في حالة سياسية، اتركوا الدين في الزوايا وفي المساجد وانطلقوا في الحياة بعيداً عن الدين.
بين القيام بالتكليف وانتظار النتائج
الإسلام يعيش السياسة في قلبه، ويعيش الاجتماع في شريعته، ويعيش الاقتصاد في نظامه، ويعيش الجهاد في حركته. الإسلام هو كلّ الحياة في ما نريد أن نأخذ به من فنون الحياة. الحسين (عليه السلام) كيف طرح نفسه، هل طرح شعارات غائمة؟ طرح الإصلاح "خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّة جدّي" في المسألة الداخلية لا بدّ لك من أن تفكِّر في حركتك في داخل المجتمع الإسلامي، لا بدّ أن تفكِّر في إصلاح الأُمّة الإسلامية في ما انحرفت فيه على مستوى قضايا الحكم، وعلى مستوى قضايا التشريع، وعلى مستوى قضايا الواقع السياسي، وما إلى ذلك من قضايا "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(1) الإصلاح على أساس ما جاء به جدّه، وعلى أساس ما شرَّعه جدّه، "أُريدُ أن آمر بالمعروف" وهو كلّ حكم شرَّعه الله للنّاس ليلتزموه "وأنهى عن المنكر" وهو كلّ حكم شرَّعه الله سبحانه وتعالى للنّاس لأن يجتنبوا ما يتضمّنه، وقال للنّاس، إنّه يطرح المسألة بعيداً عمّا إذا كانت النتائج معه أو لم تكن معه، ليست القضية فقط عندما تريد أن تطرح إسلامك أو تطرح مشاريعك الإصلاحية في الإسلام، أن تكون عندك نتيجة أو لا تكون.. اطرح فكرك وليرفض الناس فكرك، ليست مشكلتك، الأنبياء طرحوا أفكارهم ورفض الناس أفكارهم، ولم يتراجعوا {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح: 5 ـــ 6] لقد طَرَحَ نوح (عليه السلام) الفكرة تسعمئة وخمسين سنة، وكان القوم يرفضونه، لم يؤمن معه إلاّ القليل {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح : 24] قال لله في تقريره النهائي، قال له وقد أضلُّوا كثيراً لم يبقَ معه إلاّ قلّة من الناس، ولكنّه أطلق الفكرة، وهكذا الإمام الحسين (عليه السلام) كان صوتاً لا يملك الكثير من الأصوات التي تتجاوب معه، ولهذا قال لهم "فَمَنْ قَبِلَني بِقَبولِ الحقّ فالله أوْلى بالحقّ ومَن ردّ عليَّ هذا اصبرْ حتّى يقضي الله"(1) إذاً عندما يقبلكم الناس كإسلاميين في ما تطرحونه من فكر الإسلام، وفي ما تحرّكونه من حركة الإسلام، إذا قبلكم الناس بقبول الحقّ فمرحباً بالناس الذين يؤمنون بالحقّ، وإذا ردّ عليكم الناس وشتموكم وقهروكم وعملوا أيّ شيء فقولوا كما قال الحسين (عليه السلام) "نصبر" ولكن لا نصبر صبر المنهزمين، ولكنّنا نصبر صبر الرساليّين الذين لا يتراجعون.
وعندما تحاصر الضغوط الرساليّين، فإنّهم يقفون في انتظار أيّة ثغرة يمكن أن ينفذوا إليها في حياتهم العامّة، وهكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام)، فلم ينهزم نفسياً أمام كلّ الواقع الذي كان يحيط به، بل كان منفتحاً على الإسلام كلّه، وكان منفتحاً على الواقع كلّه، كلّكم تسمعون كلمة الفرزدق عندما التقى به الحسين (عليه السلام) وهو خارج من الكوفة ـــ أي الفرزدق ـــ ولكن تسمعونها فقط، "قلوب الناس معك وسيوفهم عليك" لكن هناك تفصيلاً، نستطيع أن نكوِّن منه فكرة عن روحية الإمام الحسين (عليه السلام) قال له: أخبرني عن الناس من خلفك، فأنتَ قادمٌ من الكوفة فما خبَر الكوفة عندك؟ فقلت: ـــ أي الفرزدق يُحَدِّث ـــ: "الخبير سألت: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء" (كأنَّ الرجل يشعر بالخطر على الحسين عليه السلام)، "والله يفعل ما يشاء" ماذا كان ردّ فعل الإمام الحسين على هذه الكلمات قال: "صدقت، لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإنْ حالَ القضاء دون الرجاء"(1)، (نزل القضاء بما لا نحبّ أو بما لا نرجو) "فلم يبعد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته"(2).
لو لم ننتصر، فلن ننهزم، لن نبعد، لن نسكت، لماذا؟ لأنّنا انطلقنا من موقعنا الإسلامي؛ نيّتنا في جهادنا هي الحقّ، وسيرتنا في حركتنا هي التقوى، ومَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته، فهو لا يبعد، يظلّ مع الله حتى لو لم يأتِ القضاء بما يريد، هذه هي الروح المطمئنة الواثقة بالله.
إنَّ عليك أن تنطلق من موقع أنّك تؤدّي تكليفك الشرعي عندما تدعو الناس، الله كلَّفك بالدعوة إليه، وعندما تصارع الناس يتحدَّد تكليفك بأن تدخل ساحة الصراع وتقاتل الناس الذين يريد الله منك أن تقاتلهم، الله كلَّفك، أنتَ في طريق الله، فإن وصلت إلى ما تحبّ فتلك هي السعادة في الدنيا والآخرة، أمّا إذا لم تصل، فكِّر أنّك إذا لم تصل اليوم فقد أدَّيت واجبك، لكن فكِّر أنّك وصلت إلى بعض الهدف، لماذا؟ أنت جاهدت حتى وصلت إلى مرحلة، وقلت للجيل القادم لقد أوصلتكم إلى هنا، فتابعوا الطريق، ويأتي الجيل الثاني لينطلق إلى مرحلةٍ أخرى، وهكذا حتّى يصل الجيل الذي يريد الله له أن ينتصر وأن يصل إلى مواقع النصر. إذا لم تبلغوا الهدف الكبير، فلا تعتبروا أنفسكم منهزمين، لأنَّ بعض الأهداف يحتاج إلى أجيال، وموقع كلّ جيل هو أن يصل بالهدف إلى مرحلة، ليأتي الجيل الآخر للمرحلة الثانية، هكذا لا بدّ أن نفكِّر، إنَّ الإسلام دين الله الذي يريد الله من أن ننشرَه تبعاً للطاقات التي نملكها حتى يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
نتمسَّك بالحقّ ولا نبالي
على هذا الأساس نأخذ من الحسين (عليه السلام) هذه الفكرة، أنّه "فلم يبعد مَن كانَ الحقّ نيّته"(1) احفظوها في أنفسكم وحاولوا أن تكونوا حسينيّين في هذه الروح، أن يكون الحقّ نيّتكم، الحقّ بكلّ معانيه في ما تعتقدون، وما تفكِّرون، وما تلتزمون، وأن تكون التقوى سيرتكم، أن تكون سيرتكم وسلوككم على أساس التقوى، هذا هو كلام الحسين (عليه السلام) وإذا استطعتم أن تكونوا كذلك، فلا مشكلة إن انتصرتم، أو لم تنتصروا، لأنّ مَن كان مع الحقّ ومَن كان مع التقوى فهو مع الله ومَن كان مع الله فعليه أن لا يبالي أَوَقَعَ على الموت أم وَقَعَ الموت عليه.
إنَّ هذا المنطق هو سرّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، يا مَن تلتزمون خطّ عليّ بن أبي طالب، ذلك هو سرّه عندما كان يردِّد دائماً: "يا رسول الله"، ورسول الله يخبره أنّه سيُقتَل على يد ابن ملجم "أَفي سلامة من ديني" قال: بلى، قال: "إذاً لا أُبالي، أَوَقَعْتُ على الموت، أم وقَعَ الموتُ عليّ"(2). وفي حديثٍ آخر مع أصحابه عندما استبطؤوه في إذنه لأهل الشام وقالوا هل بدأ عليّ يكره الموت، قال: "أمّا قولكم أكلّ ذلك كراهيةً للموت، فوالله ما أُبالي دخلتُ إلى الموت أو خرجَ الموتُ إليّ"(3) لماذا، لأنَّ عليّاً كان يؤمن بأنّه على الحقّ، وعندما كان يؤمن بأنّه على الحقّ كان يؤمن بأنّه مع الله، وعندما آمن بأنّه مع الله، لم يخف من الموت ولم يخف من أيّ شيءٍ آخر. هذا ما يجب أن نعمِّقه في نفوسنا؛ أن يكون الحقّ نيّتنا وأن تكون التقوى سيرتنا.
الوحدة المرفوضة
هناك مفاهيم يجب أن نعيها ونركّزها في نفوسنا.. قد يأتي إليك بعض الناس وأنتَ تطرح برنامجاً إسلامياً والناس عادة يألفون وضعاً معيّناً فهم معتادون على الارتباط بزعماء الضلال، والناس معتادون على أن يسيروا مع خطوط الكفر والضلال والانحراف، في ظلّ هذا الوضع تأتي أنت، وتقول لأهل الباطل، ابتعدوا عن الباطل، وتقول لأهل الضلال ابتعدوا عن الضلال، وتثير في المجتمع مشاكل، تأخذ الولد من أبيه إذا كان أبوه ضالاًّ، وتجعل الولد مهتدياً، فتخلق مشكلة في داخل البيت، تأخذ جماعة ضالّة من مواقع الضلال وتجعلهم مهتدين فتربك وضعهم، وهكذا في المجتمع تأتي إلى المجتمع الذي يسوده السكون لأنّهم عاشوا الانحراف والضلال، واستساغوا الذلّ والعبودية، وغير ذلك، تأتي وتصرخ فيهم صرخة الحريّة، تأتي وتحدّثهم عن الحقّ وعن الإسلام وغير ذلك ويتبعك أُناس هنا، ويحاربك أُناسٌ هناك، وتثور المشاكل من خلال ذلك فماذا يقول الناس؟ كنّا مرتاحين حتى جاء فلان فأتعبنا، كنّا متّفقين وجاءت الجماعة الفلانية ففرَّقتنا، ولهذا فإنّهم يشيرون إلى دعاة الإصلاح بأنّهم المفرّقون، وأنّهم الذين يربكون الساحة، يعزلون الابن عن أبيه، ويعزلون الأخ عن أخيه، هكذا يقولون، قالوا في السابق وهكذا يقولون الآن. من خلال هذا المنطق، الأنبياء هم سادة المفرّقين، الأنبياء يأتون والمجتمع مقيم على الكفر، ويطلقون دعوتهم فيأتي شخص أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وتفيض المشاكل؛ هذا يُنازِع ذاك، وذاك ينتقد ذلك، وهذا يضرب هذا، وتثور المشاكل: من المفرّق؟ رسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المفرّق لكن كيف؟ فرّقهم عن الضلال وأبعدهم عن الباطل، فرّقهم عن الشيطان وأتى بهم إلى الله، إنّها فرقة يحبّها الله.
لقد تعرَّض للحسين (عليه السلام) عندما انطلق بثورته أثناء خروجه من مكّة، تعرّض له جماعة لوالي المدينة، اشتبكوا قليلاً مع أصحابه، ودفعوهم عنهم، قالوا للحسين (عليه السلام) وهم في الأصل جماعة من بني أُميّة، لاحظوا أحدهم يقول للحسين: "ألاَ تتّقي الله" ـــ الخطاب للحسين ـــ "تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة" هذا الشعار موجود في كلّ زمان ومكان، ألاَ يوجد بعض الناس يقولون لكم، عندما تأخذ عشيرتكم منهجاً ضالاًّ، ويخرج بعض الناس عن العشيرة، إنّكم تفرّقون كلمة العشيرة، أو يكون البلد محكوماً من تركيبة باطلة، وأنت تقف في مواجهة هذه التركيبة، ألاَ يقولون لك، إنّك تفرّق نهج البلد، أو أنّك تفرّق الطائفة إذا كانت الطائفة سائرة في ضلال، وأنت تقول هذه الطريق غير صحيحة، يقولون: فلان يفرّق الطائفة. أليس منطقكم هو منطق هذه الجماعة نفسه، "ألاَ تتّقي الله تخرج من الجماعة"، الجماعة المتّفقة على يزيد، وكلّهم بايعوا يزيد، والأمور جيّدة، بكلّ ما في الكلمة من معنى، أنتَ تخرج على يزيد، إنّك تخرج على الجماعة، وتفرّق الأُمّة، الحسين (عليه السلام) عرَفَ أنّ هؤلاء الناس ليسوا من الناس الذين يمكن له أن يحاورَهم، كالذي يأتي إليك إمّا مواجهة، وإمّا غياباً، فقط ليشتمك، أو يتّهمك بتهمة، عندما يشتمك بشتيمة، عندما يواجهك بأيّ أسلوبٍ سيّئ، لا ينتظر أن يحاورك حتّى تدافع عن نفسك أو حتّى تفهمه الحقيقة، رأساً يريد أن يشتم ويريد أن ينسحب، يريد أن يلقي التهمة ويهرب، وهكذا شخص لا تستطيع أن تتكلَّم معه بالمنطق، وأمثاله كثيرون، فكثير من الناس يسبُّون ويشتمون ويكذبون بمختلف الوسائل وعندما تقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111] تراهم يهربون.
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح : 6]، لماذا كان قوم نوح (عليه السلام) يهربون منه؟ لأنَّ نوحاً (عليه السلام) كان يملك الحجّة، وكانوا لا يملكونها، وكانوا يخافون من كلمات نوح (عليه السلام) أن تنفذ إلى عقولهم من دون اختيار، لهذا كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويخافون إذا نظروا إلى نوح ورأوا إشراقة الإيمان في وجهه أن ينجذبوا إليه، ولهذا كانوا يستغشون ثيابهم، يضعون الغطاء حتى لا ينظروا إليه، هكذا كان، والآن هناك من يخاف أن يتكلَّم معك لأنّه يخاف أن تقنعه، يخاف من التكلُّم معك لأنّه يخاف من حجّتك، وهو يريد أن يكون عدواً لك، وهذه مشكلة الإمام الحسين (عليه السلام) مع هؤلاء، بماذا أجابهم عندما رأى من الصعب التفاهم؟ قال: "لي عملي ولكم عملكم"(1)، ماذا تريدون، أنا أُفرِّق الأُمّة، أخرج عن الجماعة أنا مقتنع بالموضوع، "لي عملي ولكم عملكم" أنتم بريئون ممّا أعمل، وأنا بريء ممّا تعملون، دعوني أذهب في طريقي وأنتم اذهبوا في طريقكم. في كربلاء المنطق نفسه، الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقف بين الساعة والأخرى وبين اليوم والآخر، ليعظ هؤلاء الذين جاؤوا ليقاتلوه ويذكرهم بعهودهم ومواثيقهم، الشّمر خاف من الحسين (عليه السلام) أن يؤثّر على الجماعة، أراد أن يقطع المسألة قال له ما تقول؟ لا نفهم ما تقول نحن لا نريد أن نفهم كلامك، لسنا مستعدّين لأنْ نناقشك، غير مستعدين لأن نحاورَك، غير مستعدّين لأن ندخل في مواجهة منطقية تقدّم حجّة ونحن نقدّم حجّة، أبداً، ولكن "انزل على حكم بني عمّك" فقط، نكلّمك كلمة واحدة، إن قبلتَ بها نتكلَّم معك، وإلاّ فنحن غير مستعدّين لأن نستمع إليك، "ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمِّك"(1)، هذا منطق الكثيرين الذين ليسوا مستعدّين لأن يتفاهموا، يريدون أن يسبُّوا، أن يشتموا، أن يتّهموا، أن يثيروا الإشاعات ولكن عندما تريد أن تقول، تعالوا لنتحاوَر ولنتفاهم ولنتجادل ولنعرف مَن على الحقّ ومَن على الباطل، فإنّهم يرفضون ذلك.
كيف نستفيد من الذكرى الحسينيّة
أنا إنّما أُركِّز دائماً على هذه القضايا حتّى لا يكون وعيكم لمسألة كربلاء وعياً سطحياً لأنَّ الأئمّة (عليهم السلام) إنّما أرادونا أن نبقى مع كربلاء طوال هذه السنين حتى ندرس مجتمعنا من خلال دراستنا لمجتمع كربلاء، لا يكفي أن تسبّ أو تتبرّأ من يزيد، بل اعرف ما منطق يزيد؟ وما ذهنية مجتمع يزيد؟ وما أسلوب ذلك المجتمع؟ حتّى تقارن بين تلك الذهنية وما تلتقي به من ذهنيات، حتى تقارن بين تلك الأساليب وما تلتقي به من أساليب هنا، حتّى يكون انفصالك عن يزيد انفصالاً عن يزيد الفكرة لا عن يزيد الشخص، لأنّ يزيد الشخص ذهب إلى النار وبئس القرار وأصبح في غياهب التاريخ. ونحن لا نريد أن نستعيد التاريخ لمجرّد التاريخ لكن نريد أن ندرس واقعنا من خلال النماذج التي يعيشها ذلك التاريخ، هذا ما يجب أن نفكِّر فيه عندما نريد أن نستهدي الإسلام.
إنَّ الحسين (عليه السلام) لم يأتِ مقاتلاً يريد أن يواجههم من موقع ذاتي، بل من موقع رسالي وكان ينصحهم ويعظهم ويرشدهم بكلّ قلب مفتوح ولكنّهم جاؤوا من خلال طمع، ومن خلال عقدة، ومن خلال حالة الاستعباد التي كانوا يعيشونها هناك.
مواقف زينبيّة
وعندما نريد أن نواجه الذكرى الحسينية في المنطق الإسلامي باعتبار أنّ عمل الإمام الحسين (عليه السلام) وكلماته تمثّل الشرعية الإسلامية، لأنّه إمام مفترض الطاعة ولأنّه سيّد شباب أهل الجنّة، لا بدّ أن نطلّ على جانبٍ آخر، تحمله لنا خصوصية ذكرى الأربعين، وهو دور أخت الحسين (عليها السلام) ورفيقة جهاده السيدة زينب (عليها السلام) هذه الإنسانة التي عاشت روح القوّة في الإسلام من الموقع الذي عاشه الحسين (عليه السلام)، لأنّها تربَّت في حضن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي أحضان فاطمة (عليها السلام) وعاشت مع أخويها الحسن والحسين (عليهم السلام) ولهذا أصبحت الإنسانة المملوءة علماً وإسلاماً ووعياً وقوّة، هذه الإنسانة التي كانت تشدّ أزر الحسين (عليه السلام) وتواكبه في كلّ أوضاع المأساة في كربلاء، كانت مع الحسين (عليه السلام) عندما كان يعيش أفكار الموت وهو يردِّد "يا دهر أُفٍّ لكَ من خليل" وأرادت من خلال لهفتها وصرختها أن تشغِلَ الحسين عن ذلك، ليتحدّث لها ولينفتح الحديث في اتّجاهٍ آخر، وهكذا رأيناها عندما يسقط عليّ الأكبر كانت أوّل إنسان تستقبل الحسين (عليه السلام) لتخفِّف عنه، وعندما كان يفقد القاسم أو العباس أو أيّ شهيد من الشهداء، كانت زينب، كما تقول السِّيَر الحسينية، هي التي تقابل الحسين لتحتضِنَ كلّ آلامِه، وكلّ عناصر المأساة في ذاته، كانت ترافق مشاعر الحسين، كما كانت ترافق أفكاره، وكانت تشعر بمسؤوليّتها في أن تظلّ الإنسانة التي يشعر الحسين (عليه السلام) أنّها معه تشاركه فكره، وتشاركه ألمه وتشاركه موقفه وتشاركه كلّ تطلُّعاته، ولهذا من الصعب أن تقرأ حادثة في عاشوراء إلاّ وزينب لها دور وحضور في تلك الحادثة، وعندما استُشهِدَ الحسين (عليه السلام) يُنقل عنها أنّها قالت وهي ترفع جسدَ الحسين (عليه السلام) لله: "اللّهم تقبَّل منّا هذا القربان". إنّها لا تشعر بالمأساة الذاتية، إنّها تشعر بأنَّ المجاهدين سواء كانوا أنبياء أو أئمّة هم القرابين التي تُقدَّم إلى الله من أجل رضاه ومن أجل إعلاء كلمته وتثبيت رسالته.
وهكذا رأينا زينب (عليها السلام) وهي تسير في موكب الأسر، وهم يسيرون بالنساء وبعليّ بن الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة، في الطريق إلى الشام، زينب القويّة الحكيمة في مجلس ابن زياد. ينقل التاريخ بعض المواقف في هذا المجال، عندما أدخلت على مجلس ابن زياد، لبست أرذل ثيابها وتنكّرت كانت لا تريد له أن يعرفها ومضت حتّى جلست ناحية من القصر، قال ابن زياد مَن هذه، فلم تجبه، فأعاد الكلام ثانية وثالثة، يسأل عنها فلم تجبه، فقالت له بعض إمائها، هذه زينب بنت فاطمة (عليها السلام)، بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليها ابن زياد، وخاطبها بما فيه من الشماتة والغلظة والجرأة على الله ورسوله، كما تقتضيه أخلاقه، قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم" فأجابته (عليها السلام)، وهي في هذا الموقف الضعيف تبقى الإنسانة المسلمة القويّة التي تحمل الرسالة ولا تخشى في الله لومةَ لائم، كما علَّمها الإسلام ذلك، قالت له: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطهَّرَنا من الرّجْسِ تطهيراً" قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم" لاحظوا ردَّها، "إنّما يُفْتَضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرُنا". كأنّها تقول له، أنتَ الفاسق والفاجر، وأنتَ الذي افتضحت بجريمتك، ولسنا الذين افتضحنا بجهادنا، قال: "كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيكِ وأهل بيتك" فقالت: "ما رأيتُ إلاَّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج"(*)، ثكلتك أُمُّك يا بن مرجانة"(1)، أرادت أن تذكره بنسبه غير الشرعي من خلال نسب أبيه، فغضب واستشاط حين أعْيَاه الجواب، لم يستطع أن يجيب فكانت تقابله بكلّ جُرأة، هنا لجأ إلى السّبّ والشتم، قال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين (عليه السلام) والعتاة المردة من أهل بيته فقالت له هذا الجواب حين أراد أن يستثيرها عاطفياً: لقد قتلتَ كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإنْ كان هذا شفاءك فقد اشتفيت لأنّك لا تحمل معنى من معاني الإنسانية. ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قال مَن أنت قال: أنا عليّ بن الحسين، قال: أليس قتل الله عليّ بن الحسين، قال له: قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً، قتله الناس، قال: بل الله قتله، قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر : 42] ولكنَّ الناس قتلوه، والله توفّاه، فغضب ابن زياد، وقال أَلَكَ جرأة لجوابي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه فتعلَّقت به عمّته زينب (عليها السلام) وقالت: يا بن زياد حسبُك من دمائنا، وعانقته، وقالت والله لا أُفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه، فقد كانت متحمّلة مسؤولية عليّ بن الحسين (عليه السلام)، لا يمكن أن أسمح لأحد بأن يقتل عليّ بن الحسين الذي هو وديعة الحسين عندي، إذا أردتَ أن تقتله فاقتلني معه، ثمّ قال الإمام لها: صبراً يا عمّتي، حتّى أُكلِّمه بطريقةٍ ثانية، قال له: "أبالقتل تُهَدِّدني، أمَا عَلِمْتَ أنّنا قوم لا نخاف الموت، القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(1).
القوّة في مواجهة يزيد
وبذلك كان موقف زينب (عليها السلام) الموقف الذي يمثّل القوّة الروحية التي استطاعت من خلالها أن تلقِمَ هذا الطاغية حجراً في مجلس ملكه، وأن تنقذ عليّ بن الحسين (عليه السلام) وهكذا كانت نهاية المطاف، عندما دخلت إلى مجلس يزيد، وخطبت خطبتها. يزيد يجلس جلسة المنتصر ويتحدّث بلهجة الطاغية، وتقف زينب، وهو يستعرض السبايا، ويتحدّث بطريقة تفوح منها رائحة الشماتة، قالت له: "صَدَقَ الله سبحانه حين يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم : 10] أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء، أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعظم خَطرك عنده، فشمَخْتَ بأنفك ونظرت في عطفك مسروراً، فمهلاً مهلاً، لا تعش جَهلاً أَنَسِيتَ قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران : 178] أَمِنَ العدل، يا بن الطلقاء، (يا بن الطلقاء هذه تذكرة بأنَّ النبيّ عفا عن أجداده عندما قالَ لهم، اذهبوا فأنتم الطلقاء في مكّة) أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوهَهنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناقب والمناقِل... إلى أن تقول له بعد ذلك، اللّهم خذ بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فَرَيْتَ إلاّ جلْدَكَ ولا حَزَزْتَ إلاّ لحمك، وَلَتَرِدَنَّ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عِتْرَته ولُحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] وحسبُك بالله حاكِماً وبمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين أنّك بئس للظالمين بدلاً. ثمّ تقول له بعد ذلك: أنا زينب، (لستُ بمستوى أن أتكلَّم معك) "ولئن جَرَتْ عليَّ الدواهي مخاطبتك (هذه الحالة جعلتني أتكلَّم معك) إنّي لأستصغرُ قدرك، وأستعظم تقريعك وأستكبر توبيخك لكن العيون عبرى، والصدور حَرَّى، ألاَ فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجبَاء بحزبِ الشيطان الطلقاء"، ثمّ تقول له بعد ذلك، "فكد كيدك، (افعل الذي تريده)، واسْعَ سعيك، وناصِب جهدك فوالله لا تمحو ذِكْرَنا ولا تميتُ وَحْيَنا ولا تدرِك أَمَدَنا وهل رأيك إلاَّ فَنَدْ وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعُكَ إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود : 18]"(1).
هذه هي زينب الإنسانة المسلمة القويّة التي لم تستطع كلّ الضغوط وكلّ الآلام وكلّ الفجائع وكلّ المآسي أن تُسْقِطَ موقفها، وأن تجعلها تنسحبُ من الساحة. وعندما نقدّم زينب (عليها السلام) إلى جانب الحسين (عليه السلام) نستذكر أنّ أُمّها فاطمة كانت إلى جانب عليّ (عليه السلام)، وأنَّ جدّتها خديجة كانت إلى جانب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). ونفهم من هذا، أنّ الله يريدُ للمرأة المسلمة أن تقف وقفةَ الحقّ وأن تواجه الظالمين وأن تواجهَ الطغاة وأن تملك القوّة في المواقع التي تفرض عليها أن تقول كلمة الحقّ، فالله لم يكلّف الرجل فقط في ما هي مسألة الجهاد في المواقف، بل كلَّف المرأة والرجل، قد لا يكون كلَّف المرأة بالجهاد المسلَّح، ولكنّه كلَّفها بالجهاد السياسي الذي تقف فيه ضدّ الظالم. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} [التوبة : 71] ولهذا فإنَّ الله كلَّف هذا، وكلَّف تلك، ومسألة عاشوراء، هي مسألة الرجل المسلم والمرأة المسلمة، والخطّ الإسلامي الذي يجب أن يتعاون فيه الرجل والمرأة من أجل بلوغ الغاية في نصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسول الله.
نماذج كربلائية حاضرة
هذه هي كربلاء، التي توحي لنا أنّ هناك أكثر من كربلاء قد تتنوَّع في شكلها، وقد تتنوَّع في أرضها، وقد تتنوَّع في أعدائها، ولكنّها تظلّ هي الخطّ الذي يقول للمستضعفين إنَّ عليهم أن يواجهوا المستكبرين، وتقول للمسلمين في كلّ مكان في العالم، إنَّ عليهم أن ينطلقوا على أساس أن يؤكّدوا العزّة ولا يقبلوا بالذلّة، أن يكون شعار كربلاء "هيهات منّا الذلّة" شعار المسلمين في كلّ مكان.
ونحن نتطلَّع الآن في العالَم الإسلامي، لنرى هناك نماذج من هؤلاء الذين يجاهدون وهم قلّة في مواجهة الكثرة الطاغية. لقد واجهنا في مسألة الثورة الإسلامية في إيران كيف وقف المجاهدون هناك أمام الاستكبار العالمي، الذي عمل بكلّ ما عنده من وسائل القتل والدمار والاقتصاد وغير ذلك، لكي يضغط على الكربلائيّين هناك ويحاصرهم، ويمنع عنهم الكثير ممّا يحتاجونه في العالم. وعلينا أن نتصوّر أيضاً مسألة الكربلائيين هنا في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي، كيف واجَهَ المستضعفون هناك "إسرائيل" التي هزمت الجيوش العربية جميعاً، وما زالت تهدِّد العرب كلّهم، وتهدِّد المنطقة كلّها، ولكنَّ المجاهدين هناك استطاعوا أن يواجهوها بكلّ الوسائل، واجهوها بالحجارة، وواجهوها بالزيت المغلي، وواجهوها بكلّ الوسائل، وواجهوها بالسلاح ولا يزالون يواجهونها.
نموذج فلسطين
إنّها كربلاؤنا الجديدة هنا التي تتحرّك من أجل أن تواجه هذه الغطرسة المتمثّلة باليهودية العمياء، والصهيونية العالمية المستكبرة، ونحن نشعر بأن هؤلاء المجاهدين قد استطاعوا أن يسدِّدوا كثيراً من الضربات لهؤلاء المستكبرين، ولا تزال المقاومة وفي طليعتها المقاومة الإسلامية التي يعمل العدوّ الآن على ضرب مواقعها بالطائرات، وبالمدافع، ولكنّه لم يستطع أن يهزم الموقع، ولم يستطع أن يهزم الموقف لأنَّ الكربلائيّين هناك يعيشون روحية الكربلائيين في التاريخ، وهم يقولون دائماً "هيهات منّا الذلّة" ونحن نواجه أيضاً، عندما نتذكّر كربلاء، المجاهدين الإسلاميين في فلسطين، الذين يتحرّكون بكلّ ما عندهم من طاقة فلا يهدأ موقع إلاّ لينطلق موقع آخر، وقد راهنوا على أن تسقط الثورة هناك، ولكنَّ الإسلام الذي يتحرّك في قلوب الذين يحملونه شعاراً أو في قلوب الذين لا يحملون الإسلام شعاراً، الإسلام يتحرّك في رواسب حتّى غير الإسلاميين لأنّهم تربّوا في مجتمع إسلامي، واختزنوا الروح الإسلامية.
إنَّ الإسلام الذي انتفض وتحرَّك وثار هناك، لا يزال يقدّم الشهداء ولا يزال يربك الواقع الإسرائيلي، ولا يزال يخيف الواقع الإسرائيلي، لأنَّ "إسرائيل" عَرَفَتْ سرّ الروح في هؤلاء الناس، وكانت مسألة "إسرائيل" أنّها تريد أن تسقط روح هؤلاء الناس، ولكنّها لم تستطع ذلك لأنَّ الإسلام أعاد للأُمّة روحها، وأعاد للأُمّة ثقتها بنفسها، وأعاد للأُمّة شعورها بمسؤوليتها أمام الله.
نموذج أفغانستان
وهكذا نلتفت إلى أفغانستان، والمسلمون المجاهدون هناك يقفون بكلّ طوائفهم ومذاهبهم، ليست هناك كلمة سُنّة وشيعة، والمجاهدون من الطرفين هناك، كلمة الجهاد، كلمة الإسلام الموحّد المواجه للكفر الذي يريد أن يدمّر الإسلام كلّه والطغيان الذي يريد أن يدمّر المسلمين، ولا تزال كربلاء تتمثّل هناك وهي تزحف، كربلاء هذه في معانيها، وفي عمقها، وفي صفائها تزحف، لا تزال تزحف إلى كلّ بلد فيه مستضعفون وفيه مستكبرون، ليتحرّك المستضعفون ليواجهوا المستكبرين، وليتحرّكوا حتى يربكوا كلّ مخططاتهم وكلّ مؤامراتهم.
المنطق الماروني وانتخابات الرئاسة
وبعد ذلك لا يزال الواقع السياسي في هذا البلد على حاله، ولا تزال الأوضاع الإعلامية تريد أن تشغلنا عن قضايانا الأساسية، ماذا هناك؟ الكلّ يصرخ: متى ينتخب رئيس جمهورية للبلد، أميركا تتحدّث، وروسيا تتحدّث، وأوروبا تتحدّث، والجامعة العربية تستعدّ، ومَنْ في الشرقية يتّهمون مَنْ في الغربية بالتقسيم، ومَنْ في الغربية يتّهمون مَنْ في الشرقية بالتقسيم، وتنطلق الكلمات والإعلانات؛ ماذا هناك؟ هل بلغ طموح الناس في هذا البلد أنّه لا بدّ أن يكون لهم رئيس جمهورية، ورئيس جمهورية من الطائفة التي ظلمت الناس ولا تزال، رئيس من ضمن الجماعة الذين عملوا على إذلال الناس ولا يزالون، لاحظوا طبيعة النكتة.. الكلّ يقول من خلال ما يعمل من مسلمين سياسيين، وروحيّين، وكتابيّين، ومسيحيّين، وغيرهم: الرئيس الماروني، ولكنَّ الموارنة يقولون لا بدّ أن نختار نحن الرئيس، لأنّنا لا نريد مارونياً يمكن أن يكون عنده عاطفة إسلامية، أو لا يكون مشدوداً إلى الغرفة السرّية المارونية التي تركَّز لهذا البلد، نريد رئيساً ينتمي في جذوره إلى المارونية السياسية ومن خلفها.
الواضح أنّ هناك أوضاعاً تتحرّك في مواجهة كلّ قضايا الحريّة في المنطقة وفي العالم، إنّهم يقولون لا يكفي أن يكون الرئيس مارونياً، هذا أمر لا بدّ أن تُسَلِّموا له، لكنّنا نريد أن يكون مارونياً باختيارنا ينفِّذ ما نريد... أيّ ذلّ أكثر من ذلك؟ ذلٌّ يفرض عليك أن تقبل حتى أن لا يكون لكَ رأي في مَنْ ينصّبونه عليك رئيساً، أيّ ذلّ أخضع من هذا الذلّ، وأيّ سقوط أعظم من هذا السقوط؟
اللّعبة الأميركية المزدوجة
إنَّ المسألة لم تعد تقبل الجدل، بعض الناس يرشِّحون أنفسهم من أجل الديكور الإسلامي، ولكن ليس على أساس الجدّية، حتّى يسجِّلوا نقطة فقط، لكنَّ المسألة هي أنّ هذا الجوّ لا يزال مفروضاً من خلال اللّعبة الدولية واللّعبة الإقليمية التي تريد للبنان أن يكون على هذه الصورة، ثمّ الحديث كلّه أنّه لا بدّ من رئيس! لكن هل يمكن أن يتغيَّر الوضع في لبنان؟ هل يمكن أن تكون هناك مساواة؟ هل يمكن أن تكون هناك حريّة؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة الإسرائيلية؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة السياسية الدولية والأميركية؟ هذا ليس دخيلاً في المسألة، أصبحنا نتقاتل على الحلّ الأميركي حتّى أنّ أميركا تأتي إلينا لتقول يا مسلمون نحن معكم، نحن اتّفقنا على أساس أن يكون المرشّح مَنْ تريدون، ثم تذهب إلى المكان الفلاني الآخر لتقول لقد أخطأت السياسة الأميركية، ونحن بحاجة إلى التشاور والنصائح وغير ذلك، وعندما تأتي إلينا ويسألها الصحافيون في شخص ممثّليها فتقول لقد حرَّف الكلام، وتقول كلاماً هنا، وكلاماً هناك، توافق هنا، وتقول للآخرين عارضوا هناك، وتظلّ اللّعبة الأميركية المزدوجة التي تريد أن تخلق مشكلة جديدة في البلد، مشكلة الحكومتين، ومشكلة الوضع الفوضوي المتردّي على جميع المستويات، لأنَّ هناك مشروعاً أميركياً تريد أن تصل إليه لم تنضجه الاتّفاقات، ولم تؤكّده المحادثات.
إنَّنا أصبحنا نتحاور ونتساءل: أميركا مع مَنْ حتّى نأخذ القوّة؟ هنا يقولون إنَّ أميركا لا تزال مخلصة لتوقيعها واتّفاقها، إذاً أميركا معنا، وستكون في الانتخابات معنا. الآخرون يقولون إنَّ أميركا معنا في العمق، وحتّى إذا اختلفنا معها وشربنا حليب السباع، فهي لا تعكِّر علاقاتها معنا. وأميركا ماذا تقول؟ إذا لم ينفذ الاتّفاق فستعلن مَنْ هو المسؤول، لا تقول سوف نعاقب، سنعلن، سننتقد كأنَّ اللبنانيّين بحاجة إلى انتقادات، أو يمكن أن تؤثّر فيهم انتقادات. أميركا تلعب اللّعبة في لبنان، لا لأجل مصلحة لبنانية حتّى ولو بنسبة واحد في المئة... أميركا لها مصالح دولية، ولها مصالح إقليمية، ولها مصالح لبنانية، لأنّها تريد بعد أن فشلت في لبنان أن تجعل منه قاعدة عسكرية في ما كانت تهيّئ له في مشروع الحلف الأطلسي الذي كان تحت غطاء القوّات المتعدّدة الجنسيات، عندما فشلت في أن تجعل من لبنان قاعدة عسكرية لها فإنّها عملت على أن تجعل منه قاعدة سياسية وقاعدة مخابراتية لها وستعمل على أن يكون قاعدة عسكرية في المستقبل، ولهذا بدأت تلوّح بالعسكر.
إنّي أحبّ أن لا تتصوَّروا أنّ العسكر يقف ضدّ المشروع الأميركي، هو جزء من المشروع الأميركي، وهذه الحكومة هي جزء من المشروع الأميركي، المسألة هي أنّ أميركا تفكِّر بمصلحتها لا بمصلحتنا، وتريد أن تثير الخلافات في داخلنا، حتى نكون وقوداً لطبختها، وهي تفكّر أيضاً بالمصلحة الإسرائيلية.
لقد سقط اتّفاق 17 أيار(1) الذي قادته أميركا لأنّه لم يستكمل شروطه، وهي ستعمل على أن تقيّدنا بأكثر من اتّفاق 17 أيار في المستقبل، والطقم السياسي في لبنان لا يزال مستعداً لأيّة مشاريع أميركية في هذا المجال. ومن الطريف جداً أنّ السفير الأميركي الجديد بدأ جولة ـــ باعتبار أنّه السفير الجديد ـــ على الجهات الروحية التي أشاد بحكمتها السياسية، وعلى الجهات السياسية هنا وهناك، ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يُفهمنا أنّ أميركا لا تفهم الواقع اللبناني، والمخابرات الأميركية داخلة في عقل أكثر السياسيين اللبنانيين، وغير السياسيين. ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يسمع نصيحة، كأنَّ أميركا لم يكفِها كلّ هذا التدخّل في شؤون لبنان، ورصد كلّ الصغائر والكبائر فيه وكلّ أوضاعه، كلّ المرشحين أو أكثر المرشّحين ذهبوا إلى أميركا ليؤدّوا امتحاناً، وأميركا لا تعرف؟ تريد نصيحة؟ تريد أن تصل إلى الحقيقة؟ الجماعة يعتبروننا أغبياء، ويعتبروننا بسطاء، ولهذا يقدّمون لنا الكلام المعسول، ويقدّمون العسل "لإسرائيل"، يقدّمون لنا التصريحات المعنوية، ويقدّمون لها القوّة المادية.
إنَّ مشروع أميركا في المنطقة الآن في ظلّ سياسة الوفاق الدولي الذي استغلَّته استغلالاً كبيراً أكثر ممّا استطاع الاتحاد السوفياتي أن يستغلّه، مشروع أميركا في المنطقة أن تتحوّل المنطقة كلّها إلى مزرعة أميركية، مزرعة للاقتصاد الأميركي، والسياسة الأميركية، والأمن الأميركي، وكلّ الواقع الأميركي، لهذا قد تحتاج أميركا أن تجعلنا نحسّ بأنّها معنا، وأنّها تريد أن تحلّ مشكلتنا؛ لكنّها تدخّلت في أكثر من بلد لحلّ مشكلته فقسّمته، وأثارت المشاكل فيه. إنَّ مشكلة قبرص دخلت فيها أميركا، والآن انظروا ماذا حلَّ في قبرص. نحن ما زلنا على فكرتنا: إنَّ لبنان لا يتقسَّم، لكن مع ذلك هي تريد أن تحرِّك كثيراً من الأوضاع في مواجهة التقسيم، وفي صورة التقسيم، لتصل إلى أن يكون لبنان بأجمعه لها، لهذا نحن عندنا نقطة، ربّما بعض الناس يقولون نحن غير قادرين على أن نواجه أميركا، وأغلب الناس تساقط في الشرقية والغربية. المسألة أنّ أميركا إذا غلبتنا على واقعنا بقوّتها العسكرية والأمنية، فعلينا أن لا نتركها تغلبنا على أفكارنا وعلى إرادة الحريّة في نفوسنا، قولوا كما قال عمّار بن ياسر "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).
والحمد لله ربّ العالمين
الإمام الحسين (عليه السلام)
نموذج الثورة الرائدة(*)
في هذه الأيام، نعيش ذكرى الحسين (عليه السلام) في يوم أربعينه، ونحن عندما نريد أن نستثير ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، فإنّنا نريد دائماً أن نجعل هذه الثورة من خلال روحيّتها، ومن خلال خطّها، ومن خلال مضمونها، ومن خلال طبيعة التحدّي الذي يتمثّل فيها، نريد أن نجعل من هذه الثورة الحسينيّة مرآة لكلّ نشاطاتنا الإسلامية العملية، باعتبار أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام المفترض الطاعة، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، في كلّ ما قاله، وفي كلّ ما فعله، يمثّل الشرعية الإسلامية. فكلّ كلمة قالها هي بالنسبة إلينا تمثّل الحقّ في كلمات الإسلام، وكلّ عمل قام به يمثّل الحقّ في نشاط المسلمين في كلّ أوضاعهم العملية.
مرتكزات الموقف الحسيني
إنّنا عندما نريد أن نستحضر ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) فلا بدّ لنا من أن ندرس كلّ مفرداتها في كلّ ما طرحه الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، الكثيرون من الناس يطرحون المسألة الجهادية فقط عندما يطرحون المسألة الحسينية، فيتحدّثون فقط عن حركة التضحية، وعن حركة الجهاد في هذه الثورة، ولكنّنا عندما نريد أن نتحدّث عن حركة الجهاد في هذه الثورة، فعلينا أن نفهم الأساس الذي ينطلق منه الجهاد وفي أيّ سبيلٍ هو. ليس من مشكلة في حياة الإنسان كمسلم أن يجاهد، ولكن على أيّ أساس تجاهد، وعلى أيّ أساس تُقاتِل؟ إنّ الذي يجعل من جهادك جهاداً في سبيل الله، أو جهاداً في غير سبيل الله هو المضمون الذي تحمله في نفسك عندما تريد أن تحرِّك خطواتك للجهاد، فمن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، فهو المجاهد في سبيل الله. ومن قاتل على أساس عصبيّة شخصيّة أو عائليّة أو عرقيّة أو حزبيّة أو ما إلى ذلك، فقد قتل في سبيل الشيطان؛ ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن هؤلاء الذين يريد الله أن ينصرهم ويريد منّا أن ننصرهم، تحدَّث عنهم من خلال الأهداف التي يستهدفونها ولهذا قال الله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج : 41] أن ينطلق الجهاد على أساس أن يكون هدف المجاهدين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإنَّ معنى أن تكون مُجاهِداً أن تنطلق من روحك الإسلامية كمتزيِّن بالإسلام، وكملتزمٍ بالإسلام وكعاملٍ في خطّ الإسلام، ومن أجل نصرة الإسلام.
كيف نفهم مقولة الصراع الديني
على هذا الأساس، فإنّنا نرفض الكثير من الكلمات التي تقول إنَّ علينا عندما نريد أن نقاتل "إسرائيل"، أن لا نقاتلها على أساس ديني، ولكن لا بدّ من أن نقاتلها على أساس سياسي، أو أنّنا لا نريد أن نقاتل اليهود المعتدين في فلسطين، بل نريد أن نقاتل الصهيونية. بعض الناس يعتبرون أنّ مقولة القتال على أساس أنّ دينك يفرض عليك ذلك تمثّل انحرافاً عن خطّ الكفاح والنضال، لأنّهم يقولون إنّنا لا نريد أن نجعل الصراع دينياً، كأنَّ الدين يمثّل معنى يعيش خارج نطاق الصراع، أو كأنَّ الدين لا يملك روحية الصراع في مواجهة الباطل وفي مواجهة الظلم، وفي مواجهة البغي والعدوان، لكن نريد أن نؤكّد أنَّ صراعنا في كلّ ما نتحرّك فيه، هو صراع ديني لا بمعنى أنّنا نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين لمجرّد اختلافهم معنا، فالله لم يطلب إلينا أن نقاتل الذين يختلفون معنا في الدين، إلاّ إذا ظلمونا، وإلاّ إذا أخرجونا من ديارنا بغير حقّ، وإلاّ إذا واجهونا بالأساليب التي يحاولون من خلالها أن يتآمروا على مصيرنا وعلى مستقبلنا.
إنَّ صراعنا ديني معناه أنّنا ننطلق من ديننا ومن أحكامنا الشرعية، من إخلاصنا لله في سبيل مواجهة كلّ الذين يعملون لكي يزرعوا في الحياة الظلم، أو يزرعوا في الحياة الانحراف، فنحن عندما نواجه اليهود فإنّنا نواجههم من موقع يهوديّتهم المستعلية ويهوديّتهم الباغية ويهوديّتهم الظالمة، كما أعطانا الله الخطّ، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...} [المائدة : 82] نحن نتحرّك على هذا الأساس؛ نقاتل من مواقعنا الإسلامية الجهادية في ما تفرضه الأحكام الشرعية علينا، ليكون حكم الله هو الذي نستهديه عندما نرفض موقفاً، أو عندما نتبنّى آخر، سواء كان الصراع صراعاً على مستوى القتال بالسلاح أو كان الصراع صراعاً على مستوى المواجهة السياسية، أو غير المواجهة السياسية.
في هذا المجال، إنّنا نعتزّ بموقف هذا الشاب المسلم المجاهد الذي اكتشفنا أنّه لا يزال في سجون "إسرائيل"، بعد أن كان الظنّ أنّه استُشهد مع رفاقه، هذا الشاب "البرزاوي" الذي يقف أمام القاضي الإسرائيلي ليقول له: إنّني مسلم أنتمي إلى الإسلام، وأُقاتلكم لأنَّ الإسلام يأمرني بأن أُقاتلكم، ولستُ غاضباً أو نادماً من حكمكم عليّ، حتّى لو حكمتم عليّ بالسجن المؤبّد، فلا أندمُ على ما فعلت، لأنَّ الحكم لله، وليس لمحكمتكم.
إنَّ موقف هذا الشاب المسلم المجاهد وهو يتلقّى الحكم عليه بالسجن الذي يتلخَّص بقوله: ديني يأمرني أنْ أُقاتلكم، إنَّ هذا الموقف يتطلَّب أن نستشعره في أعماقنا أيُّها الإخوة، ألاَّ يخدعَنَكم أحد عن دينكم، ليقول لكم قاتلوا تحت مظلّةٍ غير إسلامية، لأنَّ المظلّة الإسلامية مظلّة طائفية.
الحدود بين الإسلام والطائفية
إنَّ الإسلام ليس حالة طائفية، الطائفيون قد ينتمون إلى الإسلام شكلاً ولكنّهم لا يؤمنون بالإسلام، كثير من المسلمين الذين ينتمون طائفياً للإسلام مُنحلُّون في عقيدتهم، وكثيرون منهم منحرفون في عقيدتهم، المسلم مَن التزم الإسلام في عقله وفي قلبه وفي انتمائه وفي حركته. إذا كان أخوك غير معتقد بالله وبرسوله، فليس بمسلم، حتّى لو كان أبوه مسلماً، الإسلام ليس مجرّد بطاقة وليس مجرّد نَسب، وليس حالة جغرافية، الإسلام حالة عقلية، روحية، عملية تنطلق من خلال ما جعله الله للإنسان في رسالته من عقيدة ومن شريعة. ليكن انتماؤنا الإسلامي هو الأساس في حركتنا وفي صراعنا وفي قتالنا وفي تأييدنا وفي رفضنا، وليس معنى أن نتمسّك بالإسلام، أنّنا نكون منعزلين عن الآخرين بل إنّ معنى أن نلتزم بالإسلام، أن نستهدي الإسلام في أحكامه في ما يفرضه علينا من الانفتاح على الآخرين بحساب، ومن الانغلاق عنهم بحساب، حتّى لا نعيش حالة النفاق في الكلمات، بل نقول كما قال الله سبحانه وتعالى حيث حدَّد مواقع اللّقاء ومواقع الحوار {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 64] نحن نعيش مع الآخرين لأنَّ الإسلام يريدنا أن نعيش معهم لا على أساس حالة سياسية طارئة، ونتعايش مع الآخرين ونتحاور معهم في إطار هذه القاعدة. لهذا إنَّ شعاراتنا التي نطرحها في المجتمعات المتنوّعة وفي المجتمعات المختلفة، ليست شعارات طارئة نطلقها اليوم لوضع سياسي معيّن، ثمّ نسحبها غداً لوضع سياسي آخر، لأنَّ ديننا هو الذي ركَّز لنا قواعد الانفتاح على الآخرين، واللّقاء معهم.
الحسين (عليه السلام) نموذج الثائر المسلم
من هذا الموقع، نريد أن نفهم أنّنا لا نستطيع أن نتصوَّر الحديث عن الثورة الحسينيّة إلاّ من خلال الحديث عن الثورة الإسلامية، والحركة الإسلامية، والخطّ الإسلامي، لأنَّ الثورة الحسينية هي خطوة جهادية متقدّمة في المسيرة الإسلامية التي بدأها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأرادنا أن نسير عليها حتّى تقوم الساعة، لهذا عندما ترتبطون بالحسين (عليه السلام) لا ترتبطوا به كشخص ولكن ارتبطوا به إماماً، وعندما تنطلقون مع الحسين (عليه السلام) انطلقوا معه كونه ثائراً إسلامياً لا ثائراً في المطلق، لا تقولوا إنَّ الحسين ثائر من أجل الحريّة في المطلق، ولكن قولوا إنّه ثائر من أجل الحريّة التي انطلقت من موقع الإسلام، ومن موقع الحكم الشرعي. ركِّزوا الخصوصية الإسلامية حتى لا تبتعدوا نفسياً وروحياً أمام كلّ هذا الواقع اللاإسلامي، حتّى لا تبتعدوا عن الإسلام، وحتّى لا تخجلوا بالإسلام وحتّى لا تستحوا بالإسلام، لأنَّ القوم في شرق الأرض وغربها يصوِّرون لكم الإسلام حالة دينية، وعليكم أن تنفتحوا لتتحرَّكوا في حالة سياسية، اتركوا الدين في الزوايا وفي المساجد وانطلقوا في الحياة بعيداً عن الدين.
بين القيام بالتكليف وانتظار النتائج
الإسلام يعيش السياسة في قلبه، ويعيش الاجتماع في شريعته، ويعيش الاقتصاد في نظامه، ويعيش الجهاد في حركته. الإسلام هو كلّ الحياة في ما نريد أن نأخذ به من فنون الحياة. الحسين (عليه السلام) كيف طرح نفسه، هل طرح شعارات غائمة؟ طرح الإصلاح "خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّة جدّي" في المسألة الداخلية لا بدّ لك من أن تفكِّر في حركتك في داخل المجتمع الإسلامي، لا بدّ أن تفكِّر في إصلاح الأُمّة الإسلامية في ما انحرفت فيه على مستوى قضايا الحكم، وعلى مستوى قضايا التشريع، وعلى مستوى قضايا الواقع السياسي، وما إلى ذلك من قضايا "إنَّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أُمّةِ جدّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(1) الإصلاح على أساس ما جاء به جدّه، وعلى أساس ما شرَّعه جدّه، "أُريدُ أن آمر بالمعروف" وهو كلّ حكم شرَّعه الله للنّاس ليلتزموه "وأنهى عن المنكر" وهو كلّ حكم شرَّعه الله سبحانه وتعالى للنّاس لأن يجتنبوا ما يتضمّنه، وقال للنّاس، إنّه يطرح المسألة بعيداً عمّا إذا كانت النتائج معه أو لم تكن معه، ليست القضية فقط عندما تريد أن تطرح إسلامك أو تطرح مشاريعك الإصلاحية في الإسلام، أن تكون عندك نتيجة أو لا تكون.. اطرح فكرك وليرفض الناس فكرك، ليست مشكلتك، الأنبياء طرحوا أفكارهم ورفض الناس أفكارهم، ولم يتراجعوا {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً*فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح: 5 ـــ 6] لقد طَرَحَ نوح (عليه السلام) الفكرة تسعمئة وخمسين سنة، وكان القوم يرفضونه، لم يؤمن معه إلاّ القليل {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح : 24] قال لله في تقريره النهائي، قال له وقد أضلُّوا كثيراً لم يبقَ معه إلاّ قلّة من الناس، ولكنّه أطلق الفكرة، وهكذا الإمام الحسين (عليه السلام) كان صوتاً لا يملك الكثير من الأصوات التي تتجاوب معه، ولهذا قال لهم "فَمَنْ قَبِلَني بِقَبولِ الحقّ فالله أوْلى بالحقّ ومَن ردّ عليَّ هذا اصبرْ حتّى يقضي الله"(1) إذاً عندما يقبلكم الناس كإسلاميين في ما تطرحونه من فكر الإسلام، وفي ما تحرّكونه من حركة الإسلام، إذا قبلكم الناس بقبول الحقّ فمرحباً بالناس الذين يؤمنون بالحقّ، وإذا ردّ عليكم الناس وشتموكم وقهروكم وعملوا أيّ شيء فقولوا كما قال الحسين (عليه السلام) "نصبر" ولكن لا نصبر صبر المنهزمين، ولكنّنا نصبر صبر الرساليّين الذين لا يتراجعون.
وعندما تحاصر الضغوط الرساليّين، فإنّهم يقفون في انتظار أيّة ثغرة يمكن أن ينفذوا إليها في حياتهم العامّة، وهكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام)، فلم ينهزم نفسياً أمام كلّ الواقع الذي كان يحيط به، بل كان منفتحاً على الإسلام كلّه، وكان منفتحاً على الواقع كلّه، كلّكم تسمعون كلمة الفرزدق عندما التقى به الحسين (عليه السلام) وهو خارج من الكوفة ـــ أي الفرزدق ـــ ولكن تسمعونها فقط، "قلوب الناس معك وسيوفهم عليك" لكن هناك تفصيلاً، نستطيع أن نكوِّن منه فكرة عن روحية الإمام الحسين (عليه السلام) قال له: أخبرني عن الناس من خلفك، فأنتَ قادمٌ من الكوفة فما خبَر الكوفة عندك؟ فقلت: ـــ أي الفرزدق يُحَدِّث ـــ: "الخبير سألت: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء" (كأنَّ الرجل يشعر بالخطر على الحسين عليه السلام)، "والله يفعل ما يشاء" ماذا كان ردّ فعل الإمام الحسين على هذه الكلمات قال: "صدقت، لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإنْ حالَ القضاء دون الرجاء"(1)، (نزل القضاء بما لا نحبّ أو بما لا نرجو) "فلم يبعد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته"(2).
لو لم ننتصر، فلن ننهزم، لن نبعد، لن نسكت، لماذا؟ لأنّنا انطلقنا من موقعنا الإسلامي؛ نيّتنا في جهادنا هي الحقّ، وسيرتنا في حركتنا هي التقوى، ومَن كان الحقّ نيّته والتقوى سيرته، فهو لا يبعد، يظلّ مع الله حتى لو لم يأتِ القضاء بما يريد، هذه هي الروح المطمئنة الواثقة بالله.
إنَّ عليك أن تنطلق من موقع أنّك تؤدّي تكليفك الشرعي عندما تدعو الناس، الله كلَّفك بالدعوة إليه، وعندما تصارع الناس يتحدَّد تكليفك بأن تدخل ساحة الصراع وتقاتل الناس الذين يريد الله منك أن تقاتلهم، الله كلَّفك، أنتَ في طريق الله، فإن وصلت إلى ما تحبّ فتلك هي السعادة في الدنيا والآخرة، أمّا إذا لم تصل، فكِّر أنّك إذا لم تصل اليوم فقد أدَّيت واجبك، لكن فكِّر أنّك وصلت إلى بعض الهدف، لماذا؟ أنت جاهدت حتى وصلت إلى مرحلة، وقلت للجيل القادم لقد أوصلتكم إلى هنا، فتابعوا الطريق، ويأتي الجيل الثاني لينطلق إلى مرحلةٍ أخرى، وهكذا حتّى يصل الجيل الذي يريد الله له أن ينتصر وأن يصل إلى مواقع النصر. إذا لم تبلغوا الهدف الكبير، فلا تعتبروا أنفسكم منهزمين، لأنَّ بعض الأهداف يحتاج إلى أجيال، وموقع كلّ جيل هو أن يصل بالهدف إلى مرحلة، ليأتي الجيل الآخر للمرحلة الثانية، هكذا لا بدّ أن نفكِّر، إنَّ الإسلام دين الله الذي يريد الله من أن ننشرَه تبعاً للطاقات التي نملكها حتى يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
نتمسَّك بالحقّ ولا نبالي
على هذا الأساس نأخذ من الحسين (عليه السلام) هذه الفكرة، أنّه "فلم يبعد مَن كانَ الحقّ نيّته"(1) احفظوها في أنفسكم وحاولوا أن تكونوا حسينيّين في هذه الروح، أن يكون الحقّ نيّتكم، الحقّ بكلّ معانيه في ما تعتقدون، وما تفكِّرون، وما تلتزمون، وأن تكون التقوى سيرتكم، أن تكون سيرتكم وسلوككم على أساس التقوى، هذا هو كلام الحسين (عليه السلام) وإذا استطعتم أن تكونوا كذلك، فلا مشكلة إن انتصرتم، أو لم تنتصروا، لأنّ مَن كان مع الحقّ ومَن كان مع التقوى فهو مع الله ومَن كان مع الله فعليه أن لا يبالي أَوَقَعَ على الموت أم وَقَعَ الموت عليه.
إنَّ هذا المنطق هو سرّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، يا مَن تلتزمون خطّ عليّ بن أبي طالب، ذلك هو سرّه عندما كان يردِّد دائماً: "يا رسول الله"، ورسول الله يخبره أنّه سيُقتَل على يد ابن ملجم "أَفي سلامة من ديني" قال: بلى، قال: "إذاً لا أُبالي، أَوَقَعْتُ على الموت، أم وقَعَ الموتُ عليّ"(2). وفي حديثٍ آخر مع أصحابه عندما استبطؤوه في إذنه لأهل الشام وقالوا هل بدأ عليّ يكره الموت، قال: "أمّا قولكم أكلّ ذلك كراهيةً للموت، فوالله ما أُبالي دخلتُ إلى الموت أو خرجَ الموتُ إليّ"(3) لماذا، لأنَّ عليّاً كان يؤمن بأنّه على الحقّ، وعندما كان يؤمن بأنّه على الحقّ كان يؤمن بأنّه مع الله، وعندما آمن بأنّه مع الله، لم يخف من الموت ولم يخف من أيّ شيءٍ آخر. هذا ما يجب أن نعمِّقه في نفوسنا؛ أن يكون الحقّ نيّتنا وأن تكون التقوى سيرتنا.
الوحدة المرفوضة
هناك مفاهيم يجب أن نعيها ونركّزها في نفوسنا.. قد يأتي إليك بعض الناس وأنتَ تطرح برنامجاً إسلامياً والناس عادة يألفون وضعاً معيّناً فهم معتادون على الارتباط بزعماء الضلال، والناس معتادون على أن يسيروا مع خطوط الكفر والضلال والانحراف، في ظلّ هذا الوضع تأتي أنت، وتقول لأهل الباطل، ابتعدوا عن الباطل، وتقول لأهل الضلال ابتعدوا عن الضلال، وتثير في المجتمع مشاكل، تأخذ الولد من أبيه إذا كان أبوه ضالاًّ، وتجعل الولد مهتدياً، فتخلق مشكلة في داخل البيت، تأخذ جماعة ضالّة من مواقع الضلال وتجعلهم مهتدين فتربك وضعهم، وهكذا في المجتمع تأتي إلى المجتمع الذي يسوده السكون لأنّهم عاشوا الانحراف والضلال، واستساغوا الذلّ والعبودية، وغير ذلك، تأتي وتصرخ فيهم صرخة الحريّة، تأتي وتحدّثهم عن الحقّ وعن الإسلام وغير ذلك ويتبعك أُناس هنا، ويحاربك أُناسٌ هناك، وتثور المشاكل من خلال ذلك فماذا يقول الناس؟ كنّا مرتاحين حتى جاء فلان فأتعبنا، كنّا متّفقين وجاءت الجماعة الفلانية ففرَّقتنا، ولهذا فإنّهم يشيرون إلى دعاة الإصلاح بأنّهم المفرّقون، وأنّهم الذين يربكون الساحة، يعزلون الابن عن أبيه، ويعزلون الأخ عن أخيه، هكذا يقولون، قالوا في السابق وهكذا يقولون الآن. من خلال هذا المنطق، الأنبياء هم سادة المفرّقين، الأنبياء يأتون والمجتمع مقيم على الكفر، ويطلقون دعوتهم فيأتي شخص أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وتفيض المشاكل؛ هذا يُنازِع ذاك، وذاك ينتقد ذلك، وهذا يضرب هذا، وتثور المشاكل: من المفرّق؟ رسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو المفرّق لكن كيف؟ فرّقهم عن الضلال وأبعدهم عن الباطل، فرّقهم عن الشيطان وأتى بهم إلى الله، إنّها فرقة يحبّها الله.
لقد تعرَّض للحسين (عليه السلام) عندما انطلق بثورته أثناء خروجه من مكّة، تعرّض له جماعة لوالي المدينة، اشتبكوا قليلاً مع أصحابه، ودفعوهم عنهم، قالوا للحسين (عليه السلام) وهم في الأصل جماعة من بني أُميّة، لاحظوا أحدهم يقول للحسين: "ألاَ تتّقي الله" ـــ الخطاب للحسين ـــ "تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة" هذا الشعار موجود في كلّ زمان ومكان، ألاَ يوجد بعض الناس يقولون لكم، عندما تأخذ عشيرتكم منهجاً ضالاًّ، ويخرج بعض الناس عن العشيرة، إنّكم تفرّقون كلمة العشيرة، أو يكون البلد محكوماً من تركيبة باطلة، وأنت تقف في مواجهة هذه التركيبة، ألاَ يقولون لك، إنّك تفرّق نهج البلد، أو أنّك تفرّق الطائفة إذا كانت الطائفة سائرة في ضلال، وأنت تقول هذه الطريق غير صحيحة، يقولون: فلان يفرّق الطائفة. أليس منطقكم هو منطق هذه الجماعة نفسه، "ألاَ تتّقي الله تخرج من الجماعة"، الجماعة المتّفقة على يزيد، وكلّهم بايعوا يزيد، والأمور جيّدة، بكلّ ما في الكلمة من معنى، أنتَ تخرج على يزيد، إنّك تخرج على الجماعة، وتفرّق الأُمّة، الحسين (عليه السلام) عرَفَ أنّ هؤلاء الناس ليسوا من الناس الذين يمكن له أن يحاورَهم، كالذي يأتي إليك إمّا مواجهة، وإمّا غياباً، فقط ليشتمك، أو يتّهمك بتهمة، عندما يشتمك بشتيمة، عندما يواجهك بأيّ أسلوبٍ سيّئ، لا ينتظر أن يحاورك حتّى تدافع عن نفسك أو حتّى تفهمه الحقيقة، رأساً يريد أن يشتم ويريد أن ينسحب، يريد أن يلقي التهمة ويهرب، وهكذا شخص لا تستطيع أن تتكلَّم معه بالمنطق، وأمثاله كثيرون، فكثير من الناس يسبُّون ويشتمون ويكذبون بمختلف الوسائل وعندما تقول لهم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة : 111] تراهم يهربون.
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} [نوح : 6]، لماذا كان قوم نوح (عليه السلام) يهربون منه؟ لأنَّ نوحاً (عليه السلام) كان يملك الحجّة، وكانوا لا يملكونها، وكانوا يخافون من كلمات نوح (عليه السلام) أن تنفذ إلى عقولهم من دون اختيار، لهذا كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويخافون إذا نظروا إلى نوح ورأوا إشراقة الإيمان في وجهه أن ينجذبوا إليه، ولهذا كانوا يستغشون ثيابهم، يضعون الغطاء حتى لا ينظروا إليه، هكذا كان، والآن هناك من يخاف أن يتكلَّم معك لأنّه يخاف أن تقنعه، يخاف من التكلُّم معك لأنّه يخاف من حجّتك، وهو يريد أن يكون عدواً لك، وهذه مشكلة الإمام الحسين (عليه السلام) مع هؤلاء، بماذا أجابهم عندما رأى من الصعب التفاهم؟ قال: "لي عملي ولكم عملكم"(1)، ماذا تريدون، أنا أُفرِّق الأُمّة، أخرج عن الجماعة أنا مقتنع بالموضوع، "لي عملي ولكم عملكم" أنتم بريئون ممّا أعمل، وأنا بريء ممّا تعملون، دعوني أذهب في طريقي وأنتم اذهبوا في طريقكم. في كربلاء المنطق نفسه، الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقف بين الساعة والأخرى وبين اليوم والآخر، ليعظ هؤلاء الذين جاؤوا ليقاتلوه ويذكرهم بعهودهم ومواثيقهم، الشّمر خاف من الحسين (عليه السلام) أن يؤثّر على الجماعة، أراد أن يقطع المسألة قال له ما تقول؟ لا نفهم ما تقول نحن لا نريد أن نفهم كلامك، لسنا مستعدّين لأنْ نناقشك، غير مستعدين لأن نحاورَك، غير مستعدّين لأن ندخل في مواجهة منطقية تقدّم حجّة ونحن نقدّم حجّة، أبداً، ولكن "انزل على حكم بني عمّك" فقط، نكلّمك كلمة واحدة، إن قبلتَ بها نتكلَّم معك، وإلاّ فنحن غير مستعدّين لأن نستمع إليك، "ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمِّك"(1)، هذا منطق الكثيرين الذين ليسوا مستعدّين لأن يتفاهموا، يريدون أن يسبُّوا، أن يشتموا، أن يتّهموا، أن يثيروا الإشاعات ولكن عندما تريد أن تقول، تعالوا لنتحاوَر ولنتفاهم ولنتجادل ولنعرف مَن على الحقّ ومَن على الباطل، فإنّهم يرفضون ذلك.
كيف نستفيد من الذكرى الحسينيّة
أنا إنّما أُركِّز دائماً على هذه القضايا حتّى لا يكون وعيكم لمسألة كربلاء وعياً سطحياً لأنَّ الأئمّة (عليهم السلام) إنّما أرادونا أن نبقى مع كربلاء طوال هذه السنين حتى ندرس مجتمعنا من خلال دراستنا لمجتمع كربلاء، لا يكفي أن تسبّ أو تتبرّأ من يزيد، بل اعرف ما منطق يزيد؟ وما ذهنية مجتمع يزيد؟ وما أسلوب ذلك المجتمع؟ حتّى تقارن بين تلك الذهنية وما تلتقي به من ذهنيات، حتى تقارن بين تلك الأساليب وما تلتقي به من أساليب هنا، حتّى يكون انفصالك عن يزيد انفصالاً عن يزيد الفكرة لا عن يزيد الشخص، لأنّ يزيد الشخص ذهب إلى النار وبئس القرار وأصبح في غياهب التاريخ. ونحن لا نريد أن نستعيد التاريخ لمجرّد التاريخ لكن نريد أن ندرس واقعنا من خلال النماذج التي يعيشها ذلك التاريخ، هذا ما يجب أن نفكِّر فيه عندما نريد أن نستهدي الإسلام.
إنَّ الحسين (عليه السلام) لم يأتِ مقاتلاً يريد أن يواجههم من موقع ذاتي، بل من موقع رسالي وكان ينصحهم ويعظهم ويرشدهم بكلّ قلب مفتوح ولكنّهم جاؤوا من خلال طمع، ومن خلال عقدة، ومن خلال حالة الاستعباد التي كانوا يعيشونها هناك.
مواقف زينبيّة
وعندما نريد أن نواجه الذكرى الحسينية في المنطق الإسلامي باعتبار أنّ عمل الإمام الحسين (عليه السلام) وكلماته تمثّل الشرعية الإسلامية، لأنّه إمام مفترض الطاعة ولأنّه سيّد شباب أهل الجنّة، لا بدّ أن نطلّ على جانبٍ آخر، تحمله لنا خصوصية ذكرى الأربعين، وهو دور أخت الحسين (عليها السلام) ورفيقة جهاده السيدة زينب (عليها السلام) هذه الإنسانة التي عاشت روح القوّة في الإسلام من الموقع الذي عاشه الحسين (عليه السلام)، لأنّها تربَّت في حضن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي أحضان فاطمة (عليها السلام) وعاشت مع أخويها الحسن والحسين (عليهم السلام) ولهذا أصبحت الإنسانة المملوءة علماً وإسلاماً ووعياً وقوّة، هذه الإنسانة التي كانت تشدّ أزر الحسين (عليه السلام) وتواكبه في كلّ أوضاع المأساة في كربلاء، كانت مع الحسين (عليه السلام) عندما كان يعيش أفكار الموت وهو يردِّد "يا دهر أُفٍّ لكَ من خليل" وأرادت من خلال لهفتها وصرختها أن تشغِلَ الحسين عن ذلك، ليتحدّث لها ولينفتح الحديث في اتّجاهٍ آخر، وهكذا رأيناها عندما يسقط عليّ الأكبر كانت أوّل إنسان تستقبل الحسين (عليه السلام) لتخفِّف عنه، وعندما كان يفقد القاسم أو العباس أو أيّ شهيد من الشهداء، كانت زينب، كما تقول السِّيَر الحسينية، هي التي تقابل الحسين لتحتضِنَ كلّ آلامِه، وكلّ عناصر المأساة في ذاته، كانت ترافق مشاعر الحسين، كما كانت ترافق أفكاره، وكانت تشعر بمسؤوليّتها في أن تظلّ الإنسانة التي يشعر الحسين (عليه السلام) أنّها معه تشاركه فكره، وتشاركه ألمه وتشاركه موقفه وتشاركه كلّ تطلُّعاته، ولهذا من الصعب أن تقرأ حادثة في عاشوراء إلاّ وزينب لها دور وحضور في تلك الحادثة، وعندما استُشهِدَ الحسين (عليه السلام) يُنقل عنها أنّها قالت وهي ترفع جسدَ الحسين (عليه السلام) لله: "اللّهم تقبَّل منّا هذا القربان". إنّها لا تشعر بالمأساة الذاتية، إنّها تشعر بأنَّ المجاهدين سواء كانوا أنبياء أو أئمّة هم القرابين التي تُقدَّم إلى الله من أجل رضاه ومن أجل إعلاء كلمته وتثبيت رسالته.
وهكذا رأينا زينب (عليها السلام) وهي تسير في موكب الأسر، وهم يسيرون بالنساء وبعليّ بن الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة، في الطريق إلى الشام، زينب القويّة الحكيمة في مجلس ابن زياد. ينقل التاريخ بعض المواقف في هذا المجال، عندما أدخلت على مجلس ابن زياد، لبست أرذل ثيابها وتنكّرت كانت لا تريد له أن يعرفها ومضت حتّى جلست ناحية من القصر، قال ابن زياد مَن هذه، فلم تجبه، فأعاد الكلام ثانية وثالثة، يسأل عنها فلم تجبه، فقالت له بعض إمائها، هذه زينب بنت فاطمة (عليها السلام)، بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليها ابن زياد، وخاطبها بما فيه من الشماتة والغلظة والجرأة على الله ورسوله، كما تقتضيه أخلاقه، قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم" فأجابته (عليها السلام)، وهي في هذا الموقف الضعيف تبقى الإنسانة المسلمة القويّة التي تحمل الرسالة ولا تخشى في الله لومةَ لائم، كما علَّمها الإسلام ذلك، قالت له: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وطهَّرَنا من الرّجْسِ تطهيراً" قال لها: "الحمد لله الذي فضحكم" لاحظوا ردَّها، "إنّما يُفْتَضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرُنا". كأنّها تقول له، أنتَ الفاسق والفاجر، وأنتَ الذي افتضحت بجريمتك، ولسنا الذين افتضحنا بجهادنا، قال: "كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيكِ وأهل بيتك" فقالت: "ما رأيتُ إلاَّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج"(*)، ثكلتك أُمُّك يا بن مرجانة"(1)، أرادت أن تذكره بنسبه غير الشرعي من خلال نسب أبيه، فغضب واستشاط حين أعْيَاه الجواب، لم يستطع أن يجيب فكانت تقابله بكلّ جُرأة، هنا لجأ إلى السّبّ والشتم، قال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين (عليه السلام) والعتاة المردة من أهل بيته فقالت له هذا الجواب حين أراد أن يستثيرها عاطفياً: لقد قتلتَ كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإنْ كان هذا شفاءك فقد اشتفيت لأنّك لا تحمل معنى من معاني الإنسانية. ثمّ التفت إلى عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) قال مَن أنت قال: أنا عليّ بن الحسين، قال: أليس قتل الله عليّ بن الحسين، قال له: قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً، قتله الناس، قال: بل الله قتله، قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر : 42] ولكنَّ الناس قتلوه، والله توفّاه، فغضب ابن زياد، وقال أَلَكَ جرأة لجوابي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه فتعلَّقت به عمّته زينب (عليها السلام) وقالت: يا بن زياد حسبُك من دمائنا، وعانقته، وقالت والله لا أُفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه، فقد كانت متحمّلة مسؤولية عليّ بن الحسين (عليه السلام)، لا يمكن أن أسمح لأحد بأن يقتل عليّ بن الحسين الذي هو وديعة الحسين عندي، إذا أردتَ أن تقتله فاقتلني معه، ثمّ قال الإمام لها: صبراً يا عمّتي، حتّى أُكلِّمه بطريقةٍ ثانية، قال له: "أبالقتل تُهَدِّدني، أمَا عَلِمْتَ أنّنا قوم لا نخاف الموت، القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(1).
القوّة في مواجهة يزيد
وبذلك كان موقف زينب (عليها السلام) الموقف الذي يمثّل القوّة الروحية التي استطاعت من خلالها أن تلقِمَ هذا الطاغية حجراً في مجلس ملكه، وأن تنقذ عليّ بن الحسين (عليه السلام) وهكذا كانت نهاية المطاف، عندما دخلت إلى مجلس يزيد، وخطبت خطبتها. يزيد يجلس جلسة المنتصر ويتحدّث بلهجة الطاغية، وتقف زينب، وهو يستعرض السبايا، ويتحدّث بطريقة تفوح منها رائحة الشماتة، قالت له: "صَدَقَ الله سبحانه حين يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم : 10] أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء، أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعظم خَطرك عنده، فشمَخْتَ بأنفك ونظرت في عطفك مسروراً، فمهلاً مهلاً، لا تعش جَهلاً أَنَسِيتَ قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران : 178] أَمِنَ العدل، يا بن الطلقاء، (يا بن الطلقاء هذه تذكرة بأنَّ النبيّ عفا عن أجداده عندما قالَ لهم، اذهبوا فأنتم الطلقاء في مكّة) أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوهَهنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناقب والمناقِل... إلى أن تقول له بعد ذلك، اللّهم خذ بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا، فوالله يا يزيد ما فَرَيْتَ إلاّ جلْدَكَ ولا حَزَزْتَ إلاّ لحمك، وَلَتَرِدَنَّ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عِتْرَته ولُحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] وحسبُك بالله حاكِماً وبمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين أنّك بئس للظالمين بدلاً. ثمّ تقول له بعد ذلك: أنا زينب، (لستُ بمستوى أن أتكلَّم معك) "ولئن جَرَتْ عليَّ الدواهي مخاطبتك (هذه الحالة جعلتني أتكلَّم معك) إنّي لأستصغرُ قدرك، وأستعظم تقريعك وأستكبر توبيخك لكن العيون عبرى، والصدور حَرَّى، ألاَ فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجبَاء بحزبِ الشيطان الطلقاء"، ثمّ تقول له بعد ذلك، "فكد كيدك، (افعل الذي تريده)، واسْعَ سعيك، وناصِب جهدك فوالله لا تمحو ذِكْرَنا ولا تميتُ وَحْيَنا ولا تدرِك أَمَدَنا وهل رأيك إلاَّ فَنَدْ وأيّامك إلاّ عَدَد، وجمعُكَ إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود : 18]"(1).
هذه هي زينب الإنسانة المسلمة القويّة التي لم تستطع كلّ الضغوط وكلّ الآلام وكلّ الفجائع وكلّ المآسي أن تُسْقِطَ موقفها، وأن تجعلها تنسحبُ من الساحة. وعندما نقدّم زينب (عليها السلام) إلى جانب الحسين (عليه السلام) نستذكر أنّ أُمّها فاطمة كانت إلى جانب عليّ (عليه السلام)، وأنَّ جدّتها خديجة كانت إلى جانب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). ونفهم من هذا، أنّ الله يريدُ للمرأة المسلمة أن تقف وقفةَ الحقّ وأن تواجه الظالمين وأن تواجهَ الطغاة وأن تملك القوّة في المواقع التي تفرض عليها أن تقول كلمة الحقّ، فالله لم يكلّف الرجل فقط في ما هي مسألة الجهاد في المواقف، بل كلَّف المرأة والرجل، قد لا يكون كلَّف المرأة بالجهاد المسلَّح، ولكنّه كلَّفها بالجهاد السياسي الذي تقف فيه ضدّ الظالم. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} [التوبة : 71] ولهذا فإنَّ الله كلَّف هذا، وكلَّف تلك، ومسألة عاشوراء، هي مسألة الرجل المسلم والمرأة المسلمة، والخطّ الإسلامي الذي يجب أن يتعاون فيه الرجل والمرأة من أجل بلوغ الغاية في نصرة الله، ونصرة دينه، ونصرة رسول الله.
نماذج كربلائية حاضرة
هذه هي كربلاء، التي توحي لنا أنّ هناك أكثر من كربلاء قد تتنوَّع في شكلها، وقد تتنوَّع في أرضها، وقد تتنوَّع في أعدائها، ولكنّها تظلّ هي الخطّ الذي يقول للمستضعفين إنَّ عليهم أن يواجهوا المستكبرين، وتقول للمسلمين في كلّ مكان في العالم، إنَّ عليهم أن ينطلقوا على أساس أن يؤكّدوا العزّة ولا يقبلوا بالذلّة، أن يكون شعار كربلاء "هيهات منّا الذلّة" شعار المسلمين في كلّ مكان.
ونحن نتطلَّع الآن في العالَم الإسلامي، لنرى هناك نماذج من هؤلاء الذين يجاهدون وهم قلّة في مواجهة الكثرة الطاغية. لقد واجهنا في مسألة الثورة الإسلامية في إيران كيف وقف المجاهدون هناك أمام الاستكبار العالمي، الذي عمل بكلّ ما عنده من وسائل القتل والدمار والاقتصاد وغير ذلك، لكي يضغط على الكربلائيّين هناك ويحاصرهم، ويمنع عنهم الكثير ممّا يحتاجونه في العالم. وعلينا أن نتصوّر أيضاً مسألة الكربلائيين هنا في جنوب لبنان، في جبل عامل وفي البقاع الغربي، كيف واجَهَ المستضعفون هناك "إسرائيل" التي هزمت الجيوش العربية جميعاً، وما زالت تهدِّد العرب كلّهم، وتهدِّد المنطقة كلّها، ولكنَّ المجاهدين هناك استطاعوا أن يواجهوها بكلّ الوسائل، واجهوها بالحجارة، وواجهوها بالزيت المغلي، وواجهوها بكلّ الوسائل، وواجهوها بالسلاح ولا يزالون يواجهونها.
نموذج فلسطين
إنّها كربلاؤنا الجديدة هنا التي تتحرّك من أجل أن تواجه هذه الغطرسة المتمثّلة باليهودية العمياء، والصهيونية العالمية المستكبرة، ونحن نشعر بأن هؤلاء المجاهدين قد استطاعوا أن يسدِّدوا كثيراً من الضربات لهؤلاء المستكبرين، ولا تزال المقاومة وفي طليعتها المقاومة الإسلامية التي يعمل العدوّ الآن على ضرب مواقعها بالطائرات، وبالمدافع، ولكنّه لم يستطع أن يهزم الموقع، ولم يستطع أن يهزم الموقف لأنَّ الكربلائيّين هناك يعيشون روحية الكربلائيين في التاريخ، وهم يقولون دائماً "هيهات منّا الذلّة" ونحن نواجه أيضاً، عندما نتذكّر كربلاء، المجاهدين الإسلاميين في فلسطين، الذين يتحرّكون بكلّ ما عندهم من طاقة فلا يهدأ موقع إلاّ لينطلق موقع آخر، وقد راهنوا على أن تسقط الثورة هناك، ولكنَّ الإسلام الذي يتحرّك في قلوب الذين يحملونه شعاراً أو في قلوب الذين لا يحملون الإسلام شعاراً، الإسلام يتحرّك في رواسب حتّى غير الإسلاميين لأنّهم تربّوا في مجتمع إسلامي، واختزنوا الروح الإسلامية.
إنَّ الإسلام الذي انتفض وتحرَّك وثار هناك، لا يزال يقدّم الشهداء ولا يزال يربك الواقع الإسرائيلي، ولا يزال يخيف الواقع الإسرائيلي، لأنَّ "إسرائيل" عَرَفَتْ سرّ الروح في هؤلاء الناس، وكانت مسألة "إسرائيل" أنّها تريد أن تسقط روح هؤلاء الناس، ولكنّها لم تستطع ذلك لأنَّ الإسلام أعاد للأُمّة روحها، وأعاد للأُمّة ثقتها بنفسها، وأعاد للأُمّة شعورها بمسؤوليتها أمام الله.
نموذج أفغانستان
وهكذا نلتفت إلى أفغانستان، والمسلمون المجاهدون هناك يقفون بكلّ طوائفهم ومذاهبهم، ليست هناك كلمة سُنّة وشيعة، والمجاهدون من الطرفين هناك، كلمة الجهاد، كلمة الإسلام الموحّد المواجه للكفر الذي يريد أن يدمّر الإسلام كلّه والطغيان الذي يريد أن يدمّر المسلمين، ولا تزال كربلاء تتمثّل هناك وهي تزحف، كربلاء هذه في معانيها، وفي عمقها، وفي صفائها تزحف، لا تزال تزحف إلى كلّ بلد فيه مستضعفون وفيه مستكبرون، ليتحرّك المستضعفون ليواجهوا المستكبرين، وليتحرّكوا حتى يربكوا كلّ مخططاتهم وكلّ مؤامراتهم.
المنطق الماروني وانتخابات الرئاسة
وبعد ذلك لا يزال الواقع السياسي في هذا البلد على حاله، ولا تزال الأوضاع الإعلامية تريد أن تشغلنا عن قضايانا الأساسية، ماذا هناك؟ الكلّ يصرخ: متى ينتخب رئيس جمهورية للبلد، أميركا تتحدّث، وروسيا تتحدّث، وأوروبا تتحدّث، والجامعة العربية تستعدّ، ومَنْ في الشرقية يتّهمون مَنْ في الغربية بالتقسيم، ومَنْ في الغربية يتّهمون مَنْ في الشرقية بالتقسيم، وتنطلق الكلمات والإعلانات؛ ماذا هناك؟ هل بلغ طموح الناس في هذا البلد أنّه لا بدّ أن يكون لهم رئيس جمهورية، ورئيس جمهورية من الطائفة التي ظلمت الناس ولا تزال، رئيس من ضمن الجماعة الذين عملوا على إذلال الناس ولا يزالون، لاحظوا طبيعة النكتة.. الكلّ يقول من خلال ما يعمل من مسلمين سياسيين، وروحيّين، وكتابيّين، ومسيحيّين، وغيرهم: الرئيس الماروني، ولكنَّ الموارنة يقولون لا بدّ أن نختار نحن الرئيس، لأنّنا لا نريد مارونياً يمكن أن يكون عنده عاطفة إسلامية، أو لا يكون مشدوداً إلى الغرفة السرّية المارونية التي تركَّز لهذا البلد، نريد رئيساً ينتمي في جذوره إلى المارونية السياسية ومن خلفها.
الواضح أنّ هناك أوضاعاً تتحرّك في مواجهة كلّ قضايا الحريّة في المنطقة وفي العالم، إنّهم يقولون لا يكفي أن يكون الرئيس مارونياً، هذا أمر لا بدّ أن تُسَلِّموا له، لكنّنا نريد أن يكون مارونياً باختيارنا ينفِّذ ما نريد... أيّ ذلّ أكثر من ذلك؟ ذلٌّ يفرض عليك أن تقبل حتى أن لا يكون لكَ رأي في مَنْ ينصّبونه عليك رئيساً، أيّ ذلّ أخضع من هذا الذلّ، وأيّ سقوط أعظم من هذا السقوط؟
اللّعبة الأميركية المزدوجة
إنَّ المسألة لم تعد تقبل الجدل، بعض الناس يرشِّحون أنفسهم من أجل الديكور الإسلامي، ولكن ليس على أساس الجدّية، حتّى يسجِّلوا نقطة فقط، لكنَّ المسألة هي أنّ هذا الجوّ لا يزال مفروضاً من خلال اللّعبة الدولية واللّعبة الإقليمية التي تريد للبنان أن يكون على هذه الصورة، ثمّ الحديث كلّه أنّه لا بدّ من رئيس! لكن هل يمكن أن يتغيَّر الوضع في لبنان؟ هل يمكن أن تكون هناك مساواة؟ هل يمكن أن تكون هناك حريّة؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة الإسرائيلية؟ كيف يمكن أن ننظر إلى المسألة السياسية الدولية والأميركية؟ هذا ليس دخيلاً في المسألة، أصبحنا نتقاتل على الحلّ الأميركي حتّى أنّ أميركا تأتي إلينا لتقول يا مسلمون نحن معكم، نحن اتّفقنا على أساس أن يكون المرشّح مَنْ تريدون، ثم تذهب إلى المكان الفلاني الآخر لتقول لقد أخطأت السياسة الأميركية، ونحن بحاجة إلى التشاور والنصائح وغير ذلك، وعندما تأتي إلينا ويسألها الصحافيون في شخص ممثّليها فتقول لقد حرَّف الكلام، وتقول كلاماً هنا، وكلاماً هناك، توافق هنا، وتقول للآخرين عارضوا هناك، وتظلّ اللّعبة الأميركية المزدوجة التي تريد أن تخلق مشكلة جديدة في البلد، مشكلة الحكومتين، ومشكلة الوضع الفوضوي المتردّي على جميع المستويات، لأنَّ هناك مشروعاً أميركياً تريد أن تصل إليه لم تنضجه الاتّفاقات، ولم تؤكّده المحادثات.
إنَّنا أصبحنا نتحاور ونتساءل: أميركا مع مَنْ حتّى نأخذ القوّة؟ هنا يقولون إنَّ أميركا لا تزال مخلصة لتوقيعها واتّفاقها، إذاً أميركا معنا، وستكون في الانتخابات معنا. الآخرون يقولون إنَّ أميركا معنا في العمق، وحتّى إذا اختلفنا معها وشربنا حليب السباع، فهي لا تعكِّر علاقاتها معنا. وأميركا ماذا تقول؟ إذا لم ينفذ الاتّفاق فستعلن مَنْ هو المسؤول، لا تقول سوف نعاقب، سنعلن، سننتقد كأنَّ اللبنانيّين بحاجة إلى انتقادات، أو يمكن أن تؤثّر فيهم انتقادات. أميركا تلعب اللّعبة في لبنان، لا لأجل مصلحة لبنانية حتّى ولو بنسبة واحد في المئة... أميركا لها مصالح دولية، ولها مصالح إقليمية، ولها مصالح لبنانية، لأنّها تريد بعد أن فشلت في لبنان أن تجعل منه قاعدة عسكرية في ما كانت تهيّئ له في مشروع الحلف الأطلسي الذي كان تحت غطاء القوّات المتعدّدة الجنسيات، عندما فشلت في أن تجعل من لبنان قاعدة عسكرية لها فإنّها عملت على أن تجعل منه قاعدة سياسية وقاعدة مخابراتية لها وستعمل على أن يكون قاعدة عسكرية في المستقبل، ولهذا بدأت تلوّح بالعسكر.
إنّي أحبّ أن لا تتصوَّروا أنّ العسكر يقف ضدّ المشروع الأميركي، هو جزء من المشروع الأميركي، وهذه الحكومة هي جزء من المشروع الأميركي، المسألة هي أنّ أميركا تفكِّر بمصلحتها لا بمصلحتنا، وتريد أن تثير الخلافات في داخلنا، حتى نكون وقوداً لطبختها، وهي تفكّر أيضاً بالمصلحة الإسرائيلية.
لقد سقط اتّفاق 17 أيار(1) الذي قادته أميركا لأنّه لم يستكمل شروطه، وهي ستعمل على أن تقيّدنا بأكثر من اتّفاق 17 أيار في المستقبل، والطقم السياسي في لبنان لا يزال مستعداً لأيّة مشاريع أميركية في هذا المجال. ومن الطريف جداً أنّ السفير الأميركي الجديد بدأ جولة ـــ باعتبار أنّه السفير الجديد ـــ على الجهات الروحية التي أشاد بحكمتها السياسية، وعلى الجهات السياسية هنا وهناك، ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يُفهمنا أنّ أميركا لا تفهم الواقع اللبناني، والمخابرات الأميركية داخلة في عقل أكثر السياسيين اللبنانيين، وغير السياسيين. ماذا يريد السفير الأميركي؟ يريد أن يسمع نصيحة، كأنَّ أميركا لم يكفِها كلّ هذا التدخّل في شؤون لبنان، ورصد كلّ الصغائر والكبائر فيه وكلّ أوضاعه، كلّ المرشحين أو أكثر المرشّحين ذهبوا إلى أميركا ليؤدّوا امتحاناً، وأميركا لا تعرف؟ تريد نصيحة؟ تريد أن تصل إلى الحقيقة؟ الجماعة يعتبروننا أغبياء، ويعتبروننا بسطاء، ولهذا يقدّمون لنا الكلام المعسول، ويقدّمون العسل "لإسرائيل"، يقدّمون لنا التصريحات المعنوية، ويقدّمون لها القوّة المادية.
إنَّ مشروع أميركا في المنطقة الآن في ظلّ سياسة الوفاق الدولي الذي استغلَّته استغلالاً كبيراً أكثر ممّا استطاع الاتحاد السوفياتي أن يستغلّه، مشروع أميركا في المنطقة أن تتحوّل المنطقة كلّها إلى مزرعة أميركية، مزرعة للاقتصاد الأميركي، والسياسة الأميركية، والأمن الأميركي، وكلّ الواقع الأميركي، لهذا قد تحتاج أميركا أن تجعلنا نحسّ بأنّها معنا، وأنّها تريد أن تحلّ مشكلتنا؛ لكنّها تدخّلت في أكثر من بلد لحلّ مشكلته فقسّمته، وأثارت المشاكل فيه. إنَّ مشكلة قبرص دخلت فيها أميركا، والآن انظروا ماذا حلَّ في قبرص. نحن ما زلنا على فكرتنا: إنَّ لبنان لا يتقسَّم، لكن مع ذلك هي تريد أن تحرِّك كثيراً من الأوضاع في مواجهة التقسيم، وفي صورة التقسيم، لتصل إلى أن يكون لبنان بأجمعه لها، لهذا نحن عندنا نقطة، ربّما بعض الناس يقولون نحن غير قادرين على أن نواجه أميركا، وأغلب الناس تساقط في الشرقية والغربية. المسألة أنّ أميركا إذا غلبتنا على واقعنا بقوّتها العسكرية والأمنية، فعلينا أن لا نتركها تغلبنا على أفكارنا وعلى إرادة الحريّة في نفوسنا، قولوا كما قال عمّار بن ياسر "والله لو هزمونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل"(1).
والحمد لله ربّ العالمين