كيف ننتظر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)

كيف ننتظر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)

كيف ننتظر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 5 ـــ 6] في هاتين الآيتين حديث عن وعد الله للمستضعفين ووعد الله للمؤمنين. وهناك أكثر من حديث عن وعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55] وعد الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ووعد الله للمستضعفين الذين يعيشون حياتهم على أساس الضغوط التي يمارسها المستكبرون عليهم، سواء كانت ضغوطاً ثقافية أو سياسية أو أمنية، أو ما إلى ذلك من ألوان الضغوط. إنَّ الله يعدهم بأن يمسكوا زمام الأرض. وأن يمسكوا بحكم الحياة، وأن تكون لهم القوّة الكبيرة في كلّ الواقع الذي يعيشون فيه.
إمكانية حدوث الغيبة الطويلة
في هذه الأجواء، نطلّ على العقيدة الإسلامية التي ارتكزت على أساس الاعتقاد بالإمام المهدي(1) (عجَّل الله فرجه الشريف) الذي حدّثنا رسول الله وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عنه أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وعند ظهور الإمام سينتشر الإسلام في كلّ الأرض وفي كلّ الحياة. والمسلمون في أغلبيّتهم متّفقون على عقيدة المهدي وليس هناك خلاف بينهم حول هذه المسألة وإنْ حَدَثَت بعض الخلافات أخيراً من ناحية تسييس المسألة في دائرة بعض الأوضاع السياسية المعيّنة في المنطقة. يتّفقون على الإمام المهدي، ولكنّ هناك خلافاً على شخصيّته، مَنْ هو، وهل وُلِد أم لم يولَد. هذه هي المسألة التي وَقَعَ الجدل حولها في الدائرة الإسلامية، فالمسلمون الشيعة أتباع آل البيت (عليهم السلام) يَرْوون عن أئمّتهم أنّه وُلِدَ وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ويستنتجون من حديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يرويه المسلمون جميعاً، وهو حديث الثقلين، "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(2)، وهو ما يعني أنّ الكتاب ما دام موجوداً فهناك شخص من العترة موجود، ولهذا فلا بدّ أن يستمرّ ذلك وأن لا تنقطع الحالة الزمنية بين فترةٍ وأخرى في هذا المجال.
هناك كلمات تقال في قضية طول العمر وفي بعض الجوانب الأخرى، ولكنّنا نريد أن نؤكّد المسألة من ناحية مبدئية، وهي أنّ المسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بطريق قطعي، لا شكّ فيه ولا ريب، فلا بدّ أن نعتبر أنّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثمّ بعد ذلك عندما نجد في المسألة بعض الغيب ممّا قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنّنا نلتزم بذلك، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلى النتائج الحاسمة إنْ أمكننا ذلك. هذا من جهة ما ثبت من رسول الله سواء كان في دائرة الغيب أو كان في دائرة الحضور والحسّ، فلا بدّ من أن نؤمن به على أنّه حقيقة إيمانية، لأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فما يبلّغه ويثبت عنه بطريقة قطعية فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً فإنّنا نؤمن بالغيب، وإذا كانت حضوراً فإنّنا نواجه هذا الحضور. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنَّ مسألة العمر الطويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلى ما شاء الله ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريّات العلمية التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر لا ترى مانعاً مبدئياً من أن يعيش الإنسان مدّة طويلة إلى ما شاء الله، ولكنّ العلم يقول لم نستطع حتّى الآن أن نصل إلى الأُسس أو النظريّات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرّ تجدُّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان، إلى أَمَد طويل، فالعلم لا يمنع، ولكنّه يقول لم أستطع أن أصل إلى السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتّجاه تحويل الموضوع إلى أمرٍ واقعي في هذا المجال. العقل لا يمنع والعلم لا يمنع والقرآن يثبت لنا عمراً لأحد أنبياء الله أنّه لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، قبل الطوفان كانت ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ولا ندري كم عاش بعد ذلك، الذي يمكن أن يعيش ألف سنة إلاّ قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثاني وما إلى ذلك، لأنَّ الأشياء إذا بدت ممكنة في هذه الدائرة فإنّها تكون ممكنة في الدائرة الأخرى. فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتّى إنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدَّثنا به عن نوح، ونحن في عصرنا هذا نسمع كثيراً من الأحاديث عن أُناس عاشوا مئتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة. عندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة. وقدرة الله فوق ذلك كلّه. المسألة إذاً تعتبر من الحقائق الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الغيبي بجانب الحضور والحسّ.
وُلِدَ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) كما يولَد كلّ الناس، وغاب بإرادة الله وبعلم الله، وأخبرنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة من بعده بأنّه سيظهر ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبية في العقيدة فإنَّ علينا أن نفهم أنّنا عندما نؤمن بالغيب فإنَّ الغيب يرتكز على العقل، ويرتكز على النقل، يعني كيف نؤمن بالغيب، نحن الآن مثلاً نؤمن بالجنّة والنار، نؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الآخرة، ونؤمن بالملائكة من دون أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأشياء المحسوسة لدينا، كيف آمنّا بها؟ آمنّا بها في البداية من خلال أنّنا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أم غير ممكن؟ هل هو مستحيل أم ليس مستحيلاً؟ مثلاً هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ الله القادر على الإيجاد قادر على الإعادة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ...} [يس: 78 ـــ 79] إذا كان إخراج الحياة من العدم أمراً ممكناً ومقبولاً فإعادة الحياة بعد أن تتحوّل إلى عدم أمر ممكن أيضاً، لأنَّ القادر على هذا قادرٌ على ذاك. بل إنَّ عملية الإعادة أهون من عملية الخلق لأنَّ عملية الخلق هي عملية إيجاد من دون نموذج، من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عملية خلق على أساس النموذج الذي كان. فعملية الإيجاد عملية إبداع وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صَنَعَ المثال.
بعد أن أثبتنا أنّ المسألة ممكنة من الناحية العقلية وأنّ العقل لا يرفض ذلك، قلنا من يثبت لنا ذلك، هذا ممكن لكن ليس كلّ ممكن يصير موجوداً. هناك أشياء ممكنة لكنهّا لم توجد، كيف نثبت اليوم الآخر، كيف نثبت أنّ هناك جنّة وناراً. نقول: جاءنا الأنبياء وحكَّمنا عقلنا في تصديقهم، أيضاً النبي ليس مجرّد إنسان نؤمن بنبوّته من خلال صداقتنا له، أو محبَّتنا له، نؤمن بنبوّته من خلال الأدلّة القاطعة على نبوّته، إمّا من طريق المعجزة، التي هي على شكل معجزات الأنبياء السابقين موسى ـــ عيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، أو بالنسبة إلى معجزة القرآن أو الأشياء الأخرى التي تمثّل صدق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فبعد أن أثبتنا أنّ رسول الله هو رسولٌ من الله وأنّه صادق في ما يخبرنا، جاء رسول الله وأخبرنا أنّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا رسول الله من خلال كتاب الله أنّ هناك ملائكة، وأخبرنا أيضاً أنّ هناك مهدياً يخرج آخر الزمان، فنحن آمنا بالغيب على أساس أنّ الإيمان بالغيب ارتكز على الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومن خلال الدليل الذي دلَّنا على أنّه نبيّ من عند الله. لهذا مسألة الغيب ليست مسألة معلَّقة بالهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدّ أن يرتكز الإيمان بالغيب على حقيقة علمية أو عقلية على الطريقة التي بيَّناها، ونحن آمنّا بالغيب لأنّنا آمنّا برسول الله وصدَّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك. ولما كان هذا الأمر ممكناً، فقد آمنّا به.
هذه نقطة يجب أن تكون مفهومة عندنا في العقيدة الدينية، لأنَّ كثيراً من الناس مثلاً يقولون: نحن لا نستطيع أن نفهم، كيف نؤمن بالغيب لأنَّ الإيمان بالغيب لا أساس له. نقول: لا، الإيمان بالغيب له أساس من العقيدة نفسها. ولهذا فالعقيدة الإسلامية تحتاج إلى عملية تدرُّج، والإيمان بالله لا يحتاج إلى أن يأتي نبيّ ويقول لك آمن بالله وانتهى. الإيمان بالله تعرفه من خلال تفكيرك بالكون كلّه، وتفكيرك بنفسك. الإيمان برسول الله يكون من خلال الأدلّة التي تدلّ على أنّه رسول الله من عند الله. إذا آمنت برسول الله فقد آمنت بالله وهذا رسول الله وهو يطّلع على ما أطلعه الله عليه، يخبرنا عن الله، فلا بدّ لنا أن نصدّق الله في ما أخبرنا به رسوله وبكلّ الأشياء التي نراها وبكلّ الأشياء التي لا نراها، وبهذا نعتبر الإيمان في العقيدة الإسلامية إيماناً عقلانياً وليس إيماناً أعمى، بل هو إيمان ينطلق من حقيقة ومن قاعدة.
التمسُّك بالقرآن
نقطة ثانية نريد أن نعالجها، هي أنّ مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) في ما قُدِّمت لنا في كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ننطلق فيها في خطّين لأنَّ هناك خطّين لأنَّ هناك كلمتين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الكلمة التي يحدّثنا فيها عن التمسّك بالقرآن وعن التمسّك بالعترة، والكلمة التي أخبرنا فيها عن المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف). الكلمة الأولى التي يحدّثنا فيها عن الثقلين الكتاب والعترة. "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(1)، هذه المسألة تعطينا فكرة أنّنا على مدى التاريخ كمسلمين لا بدّ لنا أن نلتزم بالقرآن، لا نستبدل به غيره، وأن نلتزم بأهل البيت (عليهم السلام) الذين لا يفترقون عن القرآن في فكرهم وفي سيرتهم وفي حياتهم، فدائماً هناك الخطّ وهناك القيادة، القرآن يمثّل الخطّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمثّلون القيادة الأمينة الصالحة التي ترعى حركة القرآن في حياة الناس، والتي تحفظ المفاهيم من الانحراف ومن الزيغ والزلل. على هذا الأساس لا بدّ لنا في خطّ السير دائماً من أن ندقِّق في كلّ مسيرتنا الفكرية والعملية: هل نحن متمسِّكون بالقرآن أم لا، إنَّ التمسّك بالقرآن هو التمسّك بكلّ ما فيه من مفاهيم، ومن شرائع، ومن مناهج، ومن وسائل ومن أهداف ومن تخطيط للعلاقات، هذا معنى التمسّك بالقرآن، ليس معنى التمسّك بالقرآن هو أن تحمله على صدرك كرمز أو تضعه في بيتك كواجهة أو تقرأه قراءة غير مركّزة؛ الله أرادك أن تتمسّك بالقرآن بأن تجعله الهدى الذي تهتدي به إذا ضلَّ الناس وضاعوا، وأن تجعله النور الذي تستضيء به إذا أطبقت الظلمات عليك، وأن تجعله الإمام الذي تأتمر به، بأن تجعل القرآن أمامك وتسير وراءه، فلا تتكلَّم بكلمة إلاّ إذا وافقت كلام القرآن، ولا تنطلق في عملٍ إلاّ إذا وافَقَ القرآن.
قيادة أهل البيت (عليهم السلام)
ثمّ بعد ذلك لا بدّ لك أن تلتزم بالقيادة الثانية وهي قيادة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أُمناء الرسل وأُمناء الله في حلاله وحرامه، لتكون قيادتك منطلقة في خطّ قيادتهم، فإذا كانوا في حضورهم فالتَزِمْهُم، وفي غيبتهم التَزِم مَنْ يمثِّلونهم "مَن كان مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالِفاً هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يُقلِّدوه"(1). أو الأحاديث التي تقول، "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حُجَّةُ الله عليهم"(2)، أو الأحاديث العامّة، "العلماء وَرَثَةُ الأنبياء"(3)، "الفقهاء أُمَنَاء الرسل ما لم يدخلوا في الدُّنيا، قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدُّنيا، قال: "اتّباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم"(1)، "إذا رأيتم العالم محبّاً للدُّنيا فاتّهموه على دينكم فإنَّ كلّ محبّ يحوط ما أحبَّ"(2).
إذاً، في غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه الشريف) العلماء المجتهدون العدول الورعون المنفتحون على الرسالة الإسلامية والذين يتحرّكون على أساس خطّ الإسلام، هم الذين ينبغي أن نركّز القيادة في وجودهم، وفي حركتهم، وفي عملهم بالمستوى الذي يتطابق مع القرآن، لتسير القيادة مع القرآن فتتكامل عندنا النظرية التي يقدّمها إلينا القرآن، فلا نظرية لنا في الجانب الفكري والجانب السياسي والجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي والجانب الأمني، إلاّ النظرية القرآنية، بل الحقيقة القرآنية التي هي كلام الله. وكذلك لا قيادة لنا إلاّ القيادة التي تجعلنا نعمل على أساس أن يكون الإسلام هو خطّنا وعلى أساس أن يكون رضى الله هو هدفنا، ليكون التكامل مع أولياء الله والتنافر مع أعداء الله هو الواقع الذي يحدِّد لنا علاقاتنا في الحياة. وهذا ما نستوحيه من كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ليس معنى التمسّك بالأئمّة أن تتمسّك بهم تمسُّكاً عصبياً، أن تهتف باسمهم أو تتحرّك فقط لتحدّث الناس عن فضائلهم، بل أن تتحرّك في خطّهم، الإمام عليّ (عليه السلام) في حضوره حدَّد للناس في زمانه معنى الارتباط به كإمام، "ألاَ وإنَّ أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، إلاّ وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد"(3). هذا هو الخطّ؛ أن يكون عليّ (عليه السلام) إمامك، أن تكون وَرِعاً كما كان عليّ (عليه السلام) ورعاً، أن تكون عفيفاً، عفيف اليد وعفيف البطن، وعفيف الفرج، كما كان عليّ (عليه السلام) عفيفاً، أن تكون سديد الرأي كما كان عليّ (عليه السلام) سديد الرأي، وأن تجتهد في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، وفي الجهاد في سبيل الله، كما كان عليّ (عليه السلام).

أهل البيت قادة الإسلام
أن تقول إنَّ عليّاً إمامي معناه أن تجعل فكر عليّ (عليه السلام)، الذي هو فكر الإسلام وسيرة عليّ (عليه السلام) التي هي سيرة الإسلام وكلام عليّ (عليه السلام) الذي هو كلام الإسلام، أن تجعل كلّ ذلك أمامك وأنْ تتحرّك معه، هذا هو معنى التمسُّك بالعترة، التمسُّك بقيادتهم ومنهجهم وسيرتهم وفكرهم وخطّهم في الحياة، لا التمسُّك بأسمائهم والزيارة لقبورهم والبكاء عند مآسيهم، هذه أمور تندرج في العلاقات الشخصية، أن تزور الأئمّة كما تزور قبور مَن تحبّ من أهلك أو أحبائك، أن تهتف باسم الأئمّة كما تهتف باسم الذين تحبّهم، المسألة ليست كذلك، الأئمّة (عليهم السلام) انطلقوا من خلال أنّهم أوصياء رسول الله في الخطّ الإسلامي. فبقدر ما تكون قريباً من الله أنتَ قريب منهم، وبقدر ما تكون بعيداً عن الله أنتَ بعيد عنهم. قالها الإمام الباقر (عليه السلام): "مَن كان مطيعاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع"(1)، أن تكون ورعاً عمَّا حرَّم الله، هذه نقطة لا بدّ أن نفهمها فهماً جيّداً وواقعياً وإيمانياً.
إنَّ التشيّع عندما تحوَّل إلى حالة من المزاج، وإلى نوع من العصبيّة، وإلى لون من العشائرية الطائفية من دون أن نبحث عن مضمون التشيّع. أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا رؤساء عشيرة وليسوا قادة جماعة بالمعنى الشخصي لقيادة الجماعة، أهل البيت (عليهم السلام) هم قادة الإسلام، يتحرّكون حيث يريد الله لهم أن يتحرّكوا في خطّ الإسلام، ويقفون حيث يريد الله لهم أن يقفوا في خطّ الإسلام، ولذا سالَم عليّ (عليه السلام) عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يُسالِم، وحارَب عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يحارِب، والإمام الحسن سالَم ووافقه الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تفرض ذلك، والإمام الحسين (عليه السلام) قاتل وثار وضحَّى عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك. المسألة هي أنّهم يبحثون عن رضى الله كيف يكون ليكون ذلك رضاهم، وعن سخط الله كيف يكون ليكون ذلك سخطهم، ولهذا فعلينا أن نحدِّد المسألة على هذا الأساس، أن لا نأخذ الإسلام أو التمذهب بالتشيّع إطاراً ليفتقد الداخل، بل نأخذه مضموناً يتحرّك على أساس السير في كتاب الله، والسير مع أولياء الله، هذه الكلمة الأولى.
الكلمة الثانية التي جاء بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يحدّثنا عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً". ما معنى ذلك؟ معناه أنّ الحديث يريدنا أن نتطلَّع إلى أنّ الظلم شيء مرفوض، وأنّه يمثّل مشكلة للحياة، ويمثّل مشكلة في الإسلام، وأنّ العدل هو الذي يحلّ المشكلة، وهو الذي يمكن أن يحقِّق النموَّ للإنسان وللحياة. يريدنا أن نتطلَّع دائماً: إذا كانت مسألة المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي مسألة أنْ يتحرّك ليقمع الظلم ويبقى العدل هو الأساس في الحياة، لينشر العدل في العالَم وليمحو الظلم في العالَم بإرادة الله وبجهاده وجهاد المجاهدين معه، فكيف يمكن لنا أن نحدِّد موقفنا منها؟ أن نحدِّد موقفنا إذا كنّا ننتظره، فإنّنا ننتظره من أجل أن يحقّق لنا العدل لأنَّنا قوم نحبّ العدل، وإذا كنّا نحبّ العدل ونريده فلا بدّ أن يتحوّل هذا الحبّ للعدل إلى واقع في حياتنا... إذا كنت تحبّ شيئاً وتريد أن تحقِّقه فمن الطبيعي إنّك تعمل على أن تحقّقه في حياتك وفي حياة الناس من حولك، فإذا كنت تحبّ العدل فلا بدّ أن تكون أنت عادلاً في نفسك في ما لك وما عليك، عادلاً مع ربّك في ما لك وما عليك، عادلاً مع أسرتك مع زوجتك في ما لها وما عليها، عادلاً مع أولادك وجيرانك وإخوانك ومَن تتعامل معهم، أن لا تظلمهم في كلمة ولا تظلمهم في ضربة ولا تظلمهم في مال تأخذه منهم ولا تظلمهم في حقّ يستحقّونه عليك؛ هذا معنى أن تكون عادلاً، وإذا كنت غير ذلك فعلى أيّ أساس تنتظر المهدي (عليه السلام)؟ إذا كنتَ رمزاً للظلم في شخصيّتك فأنتَ ممَّن يقمعهم لأنّه يقمع الظلم كلّه، فإذا كانت حياتك تعبّر عن الظلم فكيف يمكن لك أن تنتظره؟ وهكذا أن تتحرّك خطوة ثانية لتكون مع العادلين لا مع الظالمين، لأنّك إذا كنت مع الظالمين؛ تؤيّدهم، تصفّق لهم، تنفّذ خططهم، تقاتل معهم، تعمل أعمالهم، إذا كنتَ كذلك كانوا هم جماعتك وكانوا هم حزبك وكانوا هم الجهة التي تتحرّك فيها. إذا كانت جماعتك من الظالمين فكيف تنتظر ظهوره وهو يريد أن يقمع جماعتك وأن يقمعك باعتبار التقائك معهم في هذا المجال؟ لهذا انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) يعني أنّك تتّخذ لنفسك موقفاً يجعلك في الدائرة التي تتحرّك فيها معه وفي الطريق التي تجاهد فيها معه. أنتَ تريد أن تكون معه؛ ألاَ نقول اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، أعوانه أعوان العدل وأعوان الإسلام، أنصاره أنصار العدل وأنصار الإسلام المستشهدون بين يديه هم الذين يستشهدون على أساس رسالة الله وعلى أساس دين الله وعلى أساس ما أراده الله من حماية أوليائه والمستضعفين من عباده، فإذا كنتَ عوناً للكافرين، وإذا كنتَ نصيراً للظالمين، وإذا كنت مقاتلاً مع المنحرفين، فكيف يمكن أن تكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه. فكِّروا في المسألة جيّداً، لأنّكم إذا كان تفكيركم على السطح ولم يكن في العمق فقد تفاجؤون بأنّكم من أعدائه ولستم من أنصاره.
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)
أَلَسْنا كلّنا الآن من جماعة الإمام عليّ (عليه السلام)، ألسنا نقول ذلك؟ لو أنّ الإمام عليّ سلام الله عليه جاءنا في هذا العصر لحاربناه بحسب الواقع الموجود.
كثيرٌ من الناس الذين يلتزمون إمامة عليّ (عليه السلام) حاربوا الإمام الخميني وحاربوا الأشخاص الذين يحملون فكر الإسلام ويواجهون الطغاة ويواجهون الكفر والاستكبار، كثير من الناس يرفضونهم باعتبار أنّهم متطرّفون، ويرفضونهم باعتبار أنّهم متعصّبون ومتزمّتون.. هكذا أغلب الناس.
الآن لو أنّ المسيحيين الذين يقيمون في هذه الأيام الاحتفالات الكثيرة للسيّد المسيح (عليه السلام) بالمناسبات التي يؤمنون بها، لو جاء السيّد المسيح وشاهد كلّ هذا الواقع، واقع الظلم أو واقع الانحراف الأخلاقي الموجود في الساحة أو هذا الجوّ العبثي والانحراف الموجود، لا إشكال في أنّهم سيقفون ضدّ السيّد المسيح وسوف يقولون إنّه جاء من أجل أن يحدِّد حريّاتنا، وجاء من أجل أن يقف أمام حضارتنا وأمام تطلُّعاتنا وما إلى ذلك، ولو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يحتفل المسلمون بمولده وبإسرائه وبمعراجه ومبعثه، لو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الآن ودعا الناس إلى الإسلام لَوَقَفَ الكثيرون من الذين يؤمنون به أمامه وقالوا له إنّ الإسلام "موضة" قديمة، وإنَّ الإسلام حالة رجعية، وإنَّ الإسلام لا يتناسب مع الوضع هنا أو الوضع هناك، لهذا نحتاج إلى أن نفحص أنفسنا.
طريق الخلاص
إذا كنّا نؤمن بحقيقة أنّ طريق الخلاص هو بالسير في هذا الخطّ، إذاً علينا أن نفحص أنفسنا، أنّه لو جاءنا رسول الله ونحن على هذه الحالة فكيف يكون موقفنا معه، لو جاءنا المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) ونحن على هذه الحالة فهل نكون معه أم نكون من أعدائه؟ هذه النقطة يجب أن نفحصها فحصاً دقيقاً.. عندنا آية أخاف منها كثيراً أدرس نفسي في كثيرٍ من الحالات {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ـــ 104] نحن نقول إنّنا مع أهل البيت، ولكن قد نكتشف أنّنا مع أعدائهم، ونقول إنّنا مع رسول الله وقد نكتشف أنّنا مع قريش التي تتلوَّن بكلّ لون. إذاً لا بدّ أن نلتزم خطّ العدل ونلتزم رفض الظلم، أن نكون في مجتمع العادلين وأن نعمل لتكوين المجتمع العادل، وتكوين المجتمع العادل إنّما هو العمل على تطبيق أُسس العدالة وشريعة العدالة وهي الشريعة الإسلامية، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للعدل أن يتمثّل في رسالات أنبيائه، ولأنَّ الله أرسل رسله بالبيّنات ليقوم الناس بالقسط، وهذا معناه أنّ رسالات الرسل تمثّل خطّ العدل في الحياة؛ فالإسلام هو الذي يمثّل حركة العدل في الحياة وهو الذي يمثّل شريعة العدل، الأحكام الإسلامية هي أحكام العدل، إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان فكلّ أوامر الله هي عدل وكلّ نواهي الله إنّما هي عدل، يريد الإمام المهدي أن يقمع الظلم على هذا الأساس، والله يقول لرسوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 ـــ 19] إذا كانت المسألة كذلك فعلينا عندما نحرّك العدل وننادي بالعدل؛ أن لا نجعل العدل مجرّد عنوان لا حركة له في الواقع، بل أن نطرح العدل على مستوى النظرية وندعو إلى العدل على مستوى الخطّ والتطبيق، ولهذا فنحن عندما ندعو إلى الإسلام ليلتزمه الناس وليؤمنوا به، فلأنّنا نعتقد أنّ الإسلام هو خطّ العدل الذي أراد الله للنّاس أن يعيشوا عليه من خلال ذلك.
ذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية
نلتقي في هذا اليوم، وهو اليوم الأوّل من نيسان، بذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الثورة الرائدة الحكيمة التي قادها الإمام الخميني (حفظه الله) الذي فَهِمَ الإسلام فهماً واسعاً شاملاً؛ فهمه في عقيدته انفتاحاً على الله، وفهمه في عباداته تربية للنفس بين يدي الله، وفهمه في شريعته حركة من أجل الحريّة والعدالة للإنسان في الكون، ولهذا دعا له أوّلاً وثانياً وثالثاً، واضْطُهِد وشُرِّد ونفي وتعرَّض للأخطار وتعرَّض لكلّ الكلمات السيّئة التي يسوقها الاستكبار العالمي هذه الأيام، واستطاع بكلّ هذه الصلابة الإسلامية والوعي الإيماني والحركيّة التي وجَّهها لترتبط بالإسلام في كلّ جانب النظرية والتطبيق، استطاع بكلّ ذلك أن يصل ليسقط الطاغوت، ثمّ بعد ذلك ليرفع حكم الإسلام على أساس الدولة الإسلامية، لأنّه منذ أن كان في النجف كان يتحدّث عن الحكومة الإسلامية. ربّما استمرّت مسيرته ربع قرن حتى وصل إلى الدولة، وتحمّل مع كلّ إخوانه ومع كلّ تلاميذه ومع كلّ المؤمنين من أتباعه، الكثير من السجن والتشريد والجرح وما إلى ذلك، ولكنّه من خلال الوثوق بالله ومن خلال الإيمان بالله ومن خلال الوقوف أمام الطاغوت سواء كان داخلياً أو خارجياً استطاع بكلّ قوّة أن يصل إلى الهدف، ثمّ تكالَبَ العالَم عليه. وظنُّوا أنّ الإسلام مجرّد عنوان كما كانت باكستان إسلامية، وكما كانت الدول الموجودة في المنطقة إسلامية، أنّه تبديل من حكم إلى حكم، خيِّل لهم ذلك وانتظروه أن يرجع إليهم، انتظرته أميركا أن يقيم علاقات، وكانت المسألة أنّ الطلاّب المؤمنين السائرين في خطّه انطلقوا إلى وُكر الجاسوسية في السفارة الأميركية ليبعثوا رسالة إلى أميركا بأنّ المسألة ليست بالطريقة التي تعتقدون بها. إنَّ هذه الثورة هي ثورة تريد أن تقتلع النفوذ الأميركي من قلوب الناس فلا يبقى هيبة لأميركا في نفوس الناس، كما تريد أن تقتلعها من واقع الناس كمقدّمة لاقتلاعها من نفوسهم، ووجدوا أنّ القضية أصبحت مشكلة وحاولوا أن يحلُّوا المشكلة، حاولوا أن يقتربوا من مسؤول هنا أو مسؤول هناك، حاولوا أن يخلقوا المشاكل في داخل الجمهورية. حاولوا أن يثيروا الضوضاء في داخلها حتّى يسقطوها من الداخل، وسقط كلّ الذين في الداخل من الذين وجّهتهم أميركا وغير أميركا لخلخلة الدولة. وبقيت الدولة صامدة، حاصروها إعلامياً؛ فالصحف في أوروبا وفي أميركا وفي غيرهما وحتّى في عالمنا عندما تتحدّث عن الإمام الخميني (حفظه الله) أو عندما تتحدّث عن الجمهورية الإسلامية فإنّها تحاول أنْ تتحدّث بطريقة سيّئة جداً؛ بطريقة السخرية والاستهزاء، وبطريقة تصوير المسألة كما لو كانت إيران مجرّد بلد من البلدان التي يعيش فيها الإنسان تحت تـأثير الظلم والتقتيل والتشريد وما إلى ذلك ممّا لا نجد له أيّ أثرٍ هناك. حاصروها إعلامياً، وحاصروها سياسياً، وحاصروها اقتصادياً، ثمّ حاصروها عسكرياً من خلال وكلائهم في المنطقة الذين تقدّمهم النظام العراقي، ثمّ بعد ذلك وقفت معه كلّ الأنظمة التي كانت تشتري له سلاحاً وكانت تعطيه مالاً، ودعماً، ثمّ حاولوا أن يتحرَّكوا في الدائرة الإسلامية في الدول المسمّاة إسلامية ليطبقوا على إيران من كلّ جانب في مؤتمراتهم المسمّاة إسلامية وليست من الإسلام في شيء، أو في مؤتمراتهم العربية أو ما إلى ذلك، وبقيت الدولة ثابتة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ...} [لقمان : 30]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 ـــ 25]. المسألة لا تزال صامدة على الرغم من أنّ الحصار الذي تحاصر به والقوى التي تتحرّك من أجل أن تهزّ ثباتها وصمودها هي قوّة غير عادية، ومع ذلك لا تزال باقية. لماذا؟ لأنَّ هناك قيادة حكيمة مؤمنة واعية، ولأنَّ هناك شعباً يرتبط بهذه القيادة في الخطّ الفقهي لا في الخطّ السياسي المائع على أساس أنّ القيادة تتكلّم عن الله فلا بدّ أن يطيعها الناس في كلامها عن الله سبحانه وتعالى لأنّهم يطيعون الله، مَنْ أطاع الرسول فقد أطاعَ الله، ومَن أطاع أُولي الأمر الذين ينطلقون من خلال الرسول فقد أطاع الله في ذلك {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ...} [آل عمران : 31] ولا يزال هذا الشعب القوي المسلم يقف مع ثورته على الرغم من كلّ الضغوط الصعبة التي تتحدَّاه في كلّ جانب.
ونحن عندما نستعيد ذكرى الجمهورية الإسلامية، ونحن خارج إيران، فإنّنا في الوقت الذي نستفيد فيه من تجربة الجمهورية الإسلامية للثبات أمام القوى التي تريد أن تسقط حريّتنا ومواقعنا ومواقفنا؛ نرى أنّ الشعب عندما تُهَيَّأ له القيادة المسلمة الواعية المؤمنة الشجاعة ويكون الشعب أيضاً مسلماً مؤمناً شجاعاً يتحرّك حتّى يحقّق أمر الله ونهيه وحتّى يطلب رضى الله، فإنّه لا بدّ أن يكون هنا نصر... كانت مشكلة الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان القائد العظيم، ولكنّ المجتمع الذي كان معه لم يكن مرتبطاً به بالمستوى الذي ترتبط فيه الأُمّة بالقيادة، وهكذا بالنسبة إلى الحسين (عليه السلام) وهكذا بالنسبة إلى الكثيرين من الناس.
ثمّ نحن نستفيد من تجربة هذه الثورة التي تحوَّلت إلى دولة من دون أن تفقد روح الثورة، نستفيد منها أنّ الإسلام يصلح لأنْ يحرِّك الدولة، وأنّه ليس مجرّد أحكام شرعية فردية وليس مجرّد عبادات روحية.. ها هو الإسلام انطلق إلى إيران ثمّ بعد ذلك انطلق مجلس الشورى هناك ليحوّل القواعد الإسلامية والنصوص الإسلامية في الكتاب والسُنّة إلى قوانين في الاقتصاد وإلى قوانين في الأوضاع الاجتماعية وإلى قوانين في الدبلوماسية وإلى قوانين في الحرب والسلم حتّى أصبح لنا قانون يشمل الدولة كلّها أو يقترب من شموله للدولة كلّها. قانون إسلامي مئة في المئة. هذا معناه أنّنا نتحدّى بنجاح التجربة الإسلامية في الدولة الإسلامية في إيران تجربة تقنين الشريعة وتحويلها إلى قانون، نفهم منها أنّ الإسلام يستطيع أن يعيش في القرن العشرين وأن يحرِّك قانونه ودستوره في كلّ الحاجات التي فرضها تطوّر الأوضاع الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الحياة، ولا يشكو أيّ فراغ ولا أيّة مشكلة على الصعيد العام. وعلى هذا الأساس فإذا نجحت تجربة الثورة الإسلامية في إيران وإذا نجحت تجربة القانون الإسلامي في إيران وإذا نجحت النظرية السياسية في إيران بصفتها دولة إسلامية، فما الذي يجعلنا نتلفَّت تجاه غير الإسلام، لماذا لا ندعو إلى الإسلام، والإسلام أثبت جدارته في العصر الحديث؟ كانت الفكرة قبل قيام الدولة الإسلامية الموجودة حتّى عند كثير من المسلمين وعند الكثير حتّى من علماء المسلمين الذين يملكون إطاراً معيّناً، هي أنّ الإسلام ظهر في مجتمع بدويّ، بدائيّ، لا يملك فيه الإنسان أيّ موقع من مواقع التطوّر، مجتمع كان الإنسان يركب فيه البعير إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس، فأصبح الإنسان يركب الصاروخ ويصعد إلى القمر.
كانوا يقولون، كيف تريدون لأحكام شرعية خطَّطت لمجتمع بدائي أن تخطِّط لمجتمع عصري في القرن العشرين؟ وكان الكثيرون من الناس يطالبون الذين يدعون للإسلام بالانسحاب لأنّهم لا يستطيعون أن يواجهوا حاجات الحياة المتطوّرة ولا يستطيعون أن يواجهوا تحدّيات الواقع الكبيرة. وعندما انطلقت الثورة الإسلامية كنّا نراقب؛ نجحت الثورة، ليس دائماً كلّما تنجح الثورات يستطيع الذين ينجحون فيها أن يقيموا الدولة. بعض الناس كان يقول عن كلّ الثورات الإسلامية، من السهل أن تهدم ولكن من الصعب أن تبنى... كنّا نراقب الثورة الإسلامية، وكان العالم يراقبها: هل تستطيع أن تبنى الدولة على أساس الإسلام ـــ الإسلام الذي أنزله الله قبل ألف وأربعمائة سنة ونيّف ـــ أم لا؟ وتحرّكت الثورة في خطّ الدولة، واستطاعت أن تشرّع من تشريعات الإسلام للدولة ما تحتاجه، وعاش الناس هناك في خطّ التشريعات الإسلامية من دون أن يشعروا بفراغ، ومن دون أن يشعروا بمشاكل. نعم هناك مشاكل تعيش ويتحدّث فيها الكثيرون على أساس أنّها مشاكل الحريّة في إيران، ليست هناك دور للبغاء، هذه مشكلة، في إيران ليست هناك دور للخمر ليس هناك ما يماثل كازينو لبنان... هذه النِّعَم التي نعيش فيها وتعيش فيها الحضارة الحديثة لم تستطع إيران أن توفّرها للناس لأنّ الإسلام يرفض أن نوفّرها للناس بل يطلب منّا أن نمنع الناس منها. في إيران هناك حريّة الكلمة، هناك حريّة المعارضة.. القيادات نفسها قد تختلف في ما بينها وتنطلق الخلافات في الصحف وفي النوادي وفي الجوامع، ويترك الإمام للجميع حريّة أن يختلفوا وأنْ يعبِّروا عن آرائهم ثمّ يتدخَّل عندما تصل المسألة إلى درجة الخطر ليحسم الموضوع. وهكذا مجلس الشورى في إيران، يجتمع ويسمع كلّ الشعب كلّ ما يدور في المجلس لأنَّ هناك قناة بالراديو تنقل المناقشات في المجلس ما عدا الجلسات السريّة، ولهذا نستطيع أن نقول إنَّ في إيران حرية فكر وحريّة رأي وفي إيران حريّة معارضة، شرط أن تبقى في حدود القانون وأن لا تسيء إلى نظام الناس، ولهذا لم تقمع إيران المعارضين إلاّ الذين حملوا السلاح ضدّ الثورة ليُسقِطوا الثورة، لم تحبس إنساناً لأنَّ فكره لا يتّفق مع فكر الثورة، هناك كثيرون الآن من المعارضين على كثير من المستويات.
الخوارج كفَّروا الإمام عليّ (عليه السلام) وانعزلوا عنه وشكَّلوا لأنفسهم مجتمعاً خاصّاً منفصلاً عن مجتمع المسلمين، ولم يتعرَّض لهم الإمام بشيء، بل كان يبعث لهم مَن يحاورهم حتّى إذا قطعوا الطرق وقتلوا خبّاب وهو عبدٌ صالح وبقروا بطن زوجته الحامل، عند ذلك تحرَّك الإمام عليّ (عليه السلام) وقضى عليهم.
هناك فرق بين أن تقف ضدّ إنسان لأنّه معارِضٌ لك وبين آخر لأنّه يريد أن يخلّ بأمن الدولة أو بأمن الناس. ما دامت التجربة قد نجحت، لا نريد أنْ نتحدّث بالمطلق أنّها نجحت بنسبة خمس وسبعين في المئة أو سبعين في المئة، وهذا ما يجعلنا وكلّ المسلمين في موقع لا يجوز لنا أن نتحرّك فيه في أيّ موقع في العالم إلاّ بالدعوة إلى الإسلام، الإسلام في الحكم وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، إسلام الشريعة كلّها، ندعو ونقول دائماً كما قال الحسين (عليه السلام) "فَمَن قبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومَن ردّ عليّ هذا أصبِر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"(1).

الاعتراض مشروع
للآخرين أن يعارضونا في فكرنا كإسلاميين، ولهم أن يحاورونا في ما نعتقد به من مسلمين ومن غير مسلمين، ولهم أن ينقدونا، ولكن من حقّنا أن نقول كلمتنا ومن حقّنا أن نحرّك رأينا ومن حقّنا أن نتحرّك في الواقع السياسي على أساس ما نفهمه من الإسلام وعلى أساس ما نحرّكه من نظريّات الإسلام. ومن حقّ الإسلام علينا، أن نرفع شعاراته وأن نقف مواقفه، عندما حذّرنا الإسلام من اليهود أراد منّا أن نقف ضدّ اليهود الذين يقتلون الأنبياء بغير حقّ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، والذين عملوا كلّ ما عملوه في سبيل تخريب الحياة وفي سبيل العقلية العنصرية.
لا تنازل في المسألة الإسرائيلية
نحن نعتبر أنّ المسألة الإسرائيلية هي من المسائل الأساسية التي لا مجال فيها لأيّ تنازل ولا مجال فيها لأي تراجع، لأنّنا ندرك من خلال وعينا للإسلام ومن خلال وعينا للواقع، أنّ "إسرائيل" تمثّل خطر الحاضر وخطر المستقبل وأنّها تخطّط على أساس أن تحتوي مستقبلنا ليكون مستقبلنا على فُتات مستقبلهم أو في دائرة مستقبلهم أو لا يكون لنا مستقبل. "إسرائيل" خطَّطت، ووصلت إلى الكثير، وهي تخطّط وتريد أن تصل إلى الكثير، وهي تعمل على أساس الاستفادة من اللّعبة الدولية ومن دعم الدول الكبرى لها، تعمل على أساس أن تجعل الواقع السياسي يتحرّك في خدمة أطماعها وفي خدمة واقعها، ولهذا لا بدّ لنا من أن نكون حذرين جدّاً أمام أيّة خطّة من خططها سواء كانت أمنية أو سياسية.

جيش لحد امتداد للجيش الصهيوني(1)
ونريد أن نؤكّد في هذه الدائرة الإسرائيلية حقيقة وهي أنّنا ندعو كلّ أهلنا هناك في المنطقة الحدودية إلى أن يخرجوا من هذا الجيش العميل جيش لحد، الجيش العدوّ الذي نعتبره من خلال قاعدته السياسية ومن خلال حركته وعلاقاته، امتداداً للجيش الإسرائيلي.. كلّ جندي في الجيش المسمّى بالجنوبي، نعتبره جندياً إسرائيلياً بكلّ معنى هذه الكلمة، وتترتَّب عليه كلّ الأحكام الشرعية التي تترتَّب على الجندي الإسرائيلي، لا مجال في هذا الصدد لأيّة تقيّة ولا مجال لأيّ ضعف أو تخاذل. بعض الناس يقولون إذا لم نتجنَّد فسيخرجوننا، أخرجوا أفضل من أن تقتلوا أهلكم وأفضل من أن تعاونوا عدوّكم، أخرجوا واقتلوا أعداء الله لأنّكم إذا لم تقاتلوهم فسوف تُقتلون بأيدي إخوتكم وأهلكم، لأنّكم وضعتم أنفسكم متراساً للعدوّ.
في هذا الظرف الذي تضغط فيه قوّات العدوّ الإسرائيلي على كثير من أهلنا في المنطقة الحدودية لتجنّدهم في جيشها العميل، نقول لهم: ارفضوا مهما كانت الظروف، مَن كان في هذا الجيش فليخرج، ومَن لم يكن في هذا الجيش يحرم عليه أن يدخل. إذا كنتم تتحدّثون عن الضعف فإنّ مجتمع ثورة الحجارة يمكن أن يحمل الكثير الكثير من النموذج الذي يستطيع أن يسقط "إسرائيل".. لا أتكلَّم في هذا المجال بأسلوب الانفعال، ولكنّني أتكلَّم بلغة المستقبل، إنّ العدوَّ يريد أن يجعلنا في جيشه ليحاربنا بأولادنا وبإخواننا وبأهلنا، وليحتلَّنا بأهلنا وبإخواننا وأولادنا، وليدمّر بيوتنا من خلال هؤلاء. مَن الذي جعل العدوّ في "كفر رمّان"(2) يتّجه ليقتل الشيوخ والعُجَّز وليهدم بيوت الناس الآمنين بكلّ فظاعة ووحشية، مَن هو غير هذا الجيش؟ كلّ مَن يؤيّده فإنّه يحمل مسؤولية هذه المجازر، كلّ مَن يدخل فيه فهو شريك في ذلك كلّه، ونحن لا نقبل أن يكون أيّ إنسان من أهلنا شريكاً للعدوّ في قتل أولادنا بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة. إنّنا نقول إنَّنا براءٌ منهم، ليسوا منّا ولسنا منهم إلاّ أن يرجعوا إلى الله وإلاّ أن يرجعوا إلى السّاحة التي تريد أن تنتصر على "إسرائيل" وتريد أن تقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي. إنَّنا نقول لهم قد تكون "إسرائيل" لكم اليوم، ولكن حذار؛ لن تكون "إسرائيل" لكم غداً فكِّروا في غد، لا أتحدَّث عن غد الآخرة ولكنّي أتحدّث عن غد الدنيا الذي قال الله فيه {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140] هذه نقطة.
عودة أميركية
النقطة الثانية هي أنّ هناك في السّاحة الدولية والسياسية عودة أميركية على أعلى مستوى، ونحن في الوقت الذي نؤكّد أنّ السياسة الأميركية التي تتحرّك من أجل اضطهاد الشعوب ومن أجل ظلم الشعوب، هذه السياسة مرفوضة منّا جملةً وتفصيلاً ولاسيّما السياسة المتعلّقة بالمسألة الفلسطينية والتي تعمل لحساب "إسرائيل" بكلّ ما هناك من إمكانات عسكرية وأمنية وغير ذلك. إنَّ السياسة الأميركية والمبادرة الأميركية جاءت من أجل أن تلوّح للعرب أو للفلسطينيين أو للمسلمين بغصن الزيتون الإسرائيلي الذي يعني سلام "إسرائيل" ولا يعني سلام العرب أو الفلسطينيين أو المسلمين، ولكنّها تريد أن تستفيد من الضعف العربي على المستوى الرسمي، وتريد أن تستفيد من التعقيدات الدولية الموجودة في الساحة حتّى تستطيع أن تحرّك الواقع السياسي من أجل الوصول إلى أهدافها الإسرائيلية، تريد أن تخرج "إسرائيل" من مأزق الانتفاضة، وتريد أن تجعل من كثير من الرسميين من حكَّام العرب أعداءً للانتفاضة يحاربونها، وتعمل أيضاً في الوقت نفسه على احتواء السّاحة اللبنانية لخدمة سياستها التي تريد أن تبقي لبنان كما كان، مزرعة أميركية لكلّ السياسة الأميركية ولكلّ الأمن الأميركي ولكلّ الثقافة الأميركية. إنَّنا نعتقد أنّ من واجبنا أن نرصد الموقف بعمق وبدقّة وأن نواجه هذه المسألة بالكثير من الوعي وبالكثير من الحذر. هناك أُناس "يرشّون" في السّاحة السياسية أحلام التفاؤل ويعملون على أساس أن يصوِّروا للناس أنّ الجنّة الأميركية قادمة من خلال المبعوثين الأميركيين من النساء والرجال الذين يريدون أن يزرعوا لنا لبنان على الطريقة الأميركية، ولكن علينا أن نفهم أنّه ليست هناك أحلامٌ حقيقية في الساحة، وأنّ المسألة تتحرّك في أكثر من موقع حتى في المواقع العربية الأميركية أو اللبنانية ـــ اللبنانية. لا تزال المسألة تعيش في دائرة ما صرَّح به بعض الذين يملكون مواقع متقدّمة في البلد: أنّ المسألة ليست مسألة التفاؤل الحذر ولكنّ المسألة هي مسألة التشاؤم الحذر، تشاؤم فيه حذر أن يشرب جرعة من التفاؤل من الصعب أن يكون هناك حلّ في الداخل على مستوى الإصلاح للنظام في ما يتحدّث به الكثيرون لأنّ مسألة الداخل لا تزال مرتبطة بمسائل الخارج، ولأنّ من الصعب أن تفصل الأزمة اللبنانية عن المشاكل الموجودة في المنطقة، وقد تعوَّدنا، طويلاً أن ننام على فراش الشوك وأن ننام على مخدَّات الشوك ربّما يأتينا بعض القطن مع هذا الشوك ولكنَّ الأشواك تبقى تنطلق من تحت قطنة هنا وقطنة هناك حتّى القطن يحمل في داخله أشواكاً. والربيع ليس ربيع الورود، ولكنّه أيضاً ليس ربيع الحرائق.
والحمد لله ربّ العالمين

كيف ننتظر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)(*)
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص : 5 ـــ 6] في هاتين الآيتين حديث عن وعد الله للمستضعفين ووعد الله للمؤمنين. وهناك أكثر من حديث عن وعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55] وعد الله للمؤمنين العاملين بالصالحات ووعد الله للمستضعفين الذين يعيشون حياتهم على أساس الضغوط التي يمارسها المستكبرون عليهم، سواء كانت ضغوطاً ثقافية أو سياسية أو أمنية، أو ما إلى ذلك من ألوان الضغوط. إنَّ الله يعدهم بأن يمسكوا زمام الأرض. وأن يمسكوا بحكم الحياة، وأن تكون لهم القوّة الكبيرة في كلّ الواقع الذي يعيشون فيه.
إمكانية حدوث الغيبة الطويلة
في هذه الأجواء، نطلّ على العقيدة الإسلامية التي ارتكزت على أساس الاعتقاد بالإمام المهدي(1) (عجَّل الله فرجه الشريف) الذي حدّثنا رسول الله وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عنه أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وعند ظهور الإمام سينتشر الإسلام في كلّ الأرض وفي كلّ الحياة. والمسلمون في أغلبيّتهم متّفقون على عقيدة المهدي وليس هناك خلاف بينهم حول هذه المسألة وإنْ حَدَثَت بعض الخلافات أخيراً من ناحية تسييس المسألة في دائرة بعض الأوضاع السياسية المعيّنة في المنطقة. يتّفقون على الإمام المهدي، ولكنّ هناك خلافاً على شخصيّته، مَنْ هو، وهل وُلِد أم لم يولَد. هذه هي المسألة التي وَقَعَ الجدل حولها في الدائرة الإسلامية، فالمسلمون الشيعة أتباع آل البيت (عليهم السلام) يَرْوون عن أئمّتهم أنّه وُلِدَ وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ويستنتجون من حديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ما يرويه المسلمون جميعاً، وهو حديث الثقلين، "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(2)، وهو ما يعني أنّ الكتاب ما دام موجوداً فهناك شخص من العترة موجود، ولهذا فلا بدّ أن يستمرّ ذلك وأن لا تنقطع الحالة الزمنية بين فترةٍ وأخرى في هذا المجال.
هناك كلمات تقال في قضية طول العمر وفي بعض الجوانب الأخرى، ولكنّنا نريد أن نؤكّد المسألة من ناحية مبدئية، وهي أنّ المسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بطريق قطعي، لا شكّ فيه ولا ريب، فلا بدّ أن نعتبر أنّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثمّ بعد ذلك عندما نجد في المسألة بعض الغيب ممّا قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنّنا نلتزم بذلك، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلى النتائج الحاسمة إنْ أمكننا ذلك. هذا من جهة ما ثبت من رسول الله سواء كان في دائرة الغيب أو كان في دائرة الحضور والحسّ، فلا بدّ من أن نؤمن به على أنّه حقيقة إيمانية، لأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] فما يبلّغه ويثبت عنه بطريقة قطعية فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً فإنّنا نؤمن بالغيب، وإذا كانت حضوراً فإنّنا نواجه هذا الحضور. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنَّ مسألة العمر الطويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلى ما شاء الله ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريّات العلمية التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر لا ترى مانعاً مبدئياً من أن يعيش الإنسان مدّة طويلة إلى ما شاء الله، ولكنّ العلم يقول لم نستطع حتّى الآن أن نصل إلى الأُسس أو النظريّات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرّ تجدُّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان، إلى أَمَد طويل، فالعلم لا يمنع، ولكنّه يقول لم أستطع أن أصل إلى السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتّجاه تحويل الموضوع إلى أمرٍ واقعي في هذا المجال. العقل لا يمنع والعلم لا يمنع والقرآن يثبت لنا عمراً لأحد أنبياء الله أنّه لبث في قومه ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، قبل الطوفان كانت ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ولا ندري كم عاش بعد ذلك، الذي يمكن أن يعيش ألف سنة إلاّ قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثاني وما إلى ذلك، لأنَّ الأشياء إذا بدت ممكنة في هذه الدائرة فإنّها تكون ممكنة في الدائرة الأخرى. فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتّى إنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدَّثنا به عن نوح، ونحن في عصرنا هذا نسمع كثيراً من الأحاديث عن أُناس عاشوا مئتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة. عندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة. وقدرة الله فوق ذلك كلّه. المسألة إذاً تعتبر من الحقائق الإسلامية التي يمتزج فيها الجانب الغيبي بجانب الحضور والحسّ.
وُلِدَ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) كما يولَد كلّ الناس، وغاب بإرادة الله وبعلم الله، وأخبرنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة من بعده بأنّه سيظهر ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبية في العقيدة فإنَّ علينا أن نفهم أنّنا عندما نؤمن بالغيب فإنَّ الغيب يرتكز على العقل، ويرتكز على النقل، يعني كيف نؤمن بالغيب، نحن الآن مثلاً نؤمن بالجنّة والنار، نؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الآخرة، ونؤمن بالملائكة من دون أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأشياء المحسوسة لدينا، كيف آمنّا بها؟ آمنّا بها في البداية من خلال أنّنا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أم غير ممكن؟ هل هو مستحيل أم ليس مستحيلاً؟ مثلاً هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ الله القادر على الإيجاد قادر على الإعادة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ...} [يس: 78 ـــ 79] إذا كان إخراج الحياة من العدم أمراً ممكناً ومقبولاً فإعادة الحياة بعد أن تتحوّل إلى عدم أمر ممكن أيضاً، لأنَّ القادر على هذا قادرٌ على ذاك. بل إنَّ عملية الإعادة أهون من عملية الخلق لأنَّ عملية الخلق هي عملية إيجاد من دون نموذج، من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عملية خلق على أساس النموذج الذي كان. فعملية الإيجاد عملية إبداع وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صَنَعَ المثال.
بعد أن أثبتنا أنّ المسألة ممكنة من الناحية العقلية وأنّ العقل لا يرفض ذلك، قلنا من يثبت لنا ذلك، هذا ممكن لكن ليس كلّ ممكن يصير موجوداً. هناك أشياء ممكنة لكنهّا لم توجد، كيف نثبت اليوم الآخر، كيف نثبت أنّ هناك جنّة وناراً. نقول: جاءنا الأنبياء وحكَّمنا عقلنا في تصديقهم، أيضاً النبي ليس مجرّد إنسان نؤمن بنبوّته من خلال صداقتنا له، أو محبَّتنا له، نؤمن بنبوّته من خلال الأدلّة القاطعة على نبوّته، إمّا من طريق المعجزة، التي هي على شكل معجزات الأنبياء السابقين موسى ـــ عيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، أو بالنسبة إلى معجزة القرآن أو الأشياء الأخرى التي تمثّل صدق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فبعد أن أثبتنا أنّ رسول الله هو رسولٌ من الله وأنّه صادق في ما يخبرنا، جاء رسول الله وأخبرنا أنّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا رسول الله من خلال كتاب الله أنّ هناك ملائكة، وأخبرنا أيضاً أنّ هناك مهدياً يخرج آخر الزمان، فنحن آمنا بالغيب على أساس أنّ الإيمان بالغيب ارتكز على الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومن خلال الدليل الذي دلَّنا على أنّه نبيّ من عند الله. لهذا مسألة الغيب ليست مسألة معلَّقة بالهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدّ أن يرتكز الإيمان بالغيب على حقيقة علمية أو عقلية على الطريقة التي بيَّناها، ونحن آمنّا بالغيب لأنّنا آمنّا برسول الله وصدَّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك. ولما كان هذا الأمر ممكناً، فقد آمنّا به.
هذه نقطة يجب أن تكون مفهومة عندنا في العقيدة الدينية، لأنَّ كثيراً من الناس مثلاً يقولون: نحن لا نستطيع أن نفهم، كيف نؤمن بالغيب لأنَّ الإيمان بالغيب لا أساس له. نقول: لا، الإيمان بالغيب له أساس من العقيدة نفسها. ولهذا فالعقيدة الإسلامية تحتاج إلى عملية تدرُّج، والإيمان بالله لا يحتاج إلى أن يأتي نبيّ ويقول لك آمن بالله وانتهى. الإيمان بالله تعرفه من خلال تفكيرك بالكون كلّه، وتفكيرك بنفسك. الإيمان برسول الله يكون من خلال الأدلّة التي تدلّ على أنّه رسول الله من عند الله. إذا آمنت برسول الله فقد آمنت بالله وهذا رسول الله وهو يطّلع على ما أطلعه الله عليه، يخبرنا عن الله، فلا بدّ لنا أن نصدّق الله في ما أخبرنا به رسوله وبكلّ الأشياء التي نراها وبكلّ الأشياء التي لا نراها، وبهذا نعتبر الإيمان في العقيدة الإسلامية إيماناً عقلانياً وليس إيماناً أعمى، بل هو إيمان ينطلق من حقيقة ومن قاعدة.
التمسُّك بالقرآن
نقطة ثانية نريد أن نعالجها، هي أنّ مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) في ما قُدِّمت لنا في كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ننطلق فيها في خطّين لأنَّ هناك خطّين لأنَّ هناك كلمتين لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الكلمة التي يحدّثنا فيها عن التمسّك بالقرآن وعن التمسّك بالعترة، والكلمة التي أخبرنا فيها عن المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف). الكلمة الأولى التي يحدّثنا فيها عن الثقلين الكتاب والعترة. "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض"(1)، هذه المسألة تعطينا فكرة أنّنا على مدى التاريخ كمسلمين لا بدّ لنا أن نلتزم بالقرآن، لا نستبدل به غيره، وأن نلتزم بأهل البيت (عليهم السلام) الذين لا يفترقون عن القرآن في فكرهم وفي سيرتهم وفي حياتهم، فدائماً هناك الخطّ وهناك القيادة، القرآن يمثّل الخطّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمثّلون القيادة الأمينة الصالحة التي ترعى حركة القرآن في حياة الناس، والتي تحفظ المفاهيم من الانحراف ومن الزيغ والزلل. على هذا الأساس لا بدّ لنا في خطّ السير دائماً من أن ندقِّق في كلّ مسيرتنا الفكرية والعملية: هل نحن متمسِّكون بالقرآن أم لا، إنَّ التمسّك بالقرآن هو التمسّك بكلّ ما فيه من مفاهيم، ومن شرائع، ومن مناهج، ومن وسائل ومن أهداف ومن تخطيط للعلاقات، هذا معنى التمسّك بالقرآن، ليس معنى التمسّك بالقرآن هو أن تحمله على صدرك كرمز أو تضعه في بيتك كواجهة أو تقرأه قراءة غير مركّزة؛ الله أرادك أن تتمسّك بالقرآن بأن تجعله الهدى الذي تهتدي به إذا ضلَّ الناس وضاعوا، وأن تجعله النور الذي تستضيء به إذا أطبقت الظلمات عليك، وأن تجعله الإمام الذي تأتمر به، بأن تجعل القرآن أمامك وتسير وراءه، فلا تتكلَّم بكلمة إلاّ إذا وافقت كلام القرآن، ولا تنطلق في عملٍ إلاّ إذا وافَقَ القرآن.
قيادة أهل البيت (عليهم السلام)
ثمّ بعد ذلك لا بدّ لك أن تلتزم بالقيادة الثانية وهي قيادة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أُمناء الرسل وأُمناء الله في حلاله وحرامه، لتكون قيادتك منطلقة في خطّ قيادتهم، فإذا كانوا في حضورهم فالتَزِمْهُم، وفي غيبتهم التَزِم مَنْ يمثِّلونهم "مَن كان مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالِفاً هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يُقلِّدوه"(1). أو الأحاديث التي تقول، "وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حُجَّةُ الله عليهم"(2)، أو الأحاديث العامّة، "العلماء وَرَثَةُ الأنبياء"(3)، "الفقهاء أُمَنَاء الرسل ما لم يدخلوا في الدُّنيا، قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدُّنيا، قال: "اتّباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم"(1)، "إذا رأيتم العالم محبّاً للدُّنيا فاتّهموه على دينكم فإنَّ كلّ محبّ يحوط ما أحبَّ"(2).
إذاً، في غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه الشريف) العلماء المجتهدون العدول الورعون المنفتحون على الرسالة الإسلامية والذين يتحرّكون على أساس خطّ الإسلام، هم الذين ينبغي أن نركّز القيادة في وجودهم، وفي حركتهم، وفي عملهم بالمستوى الذي يتطابق مع القرآن، لتسير القيادة مع القرآن فتتكامل عندنا النظرية التي يقدّمها إلينا القرآن، فلا نظرية لنا في الجانب الفكري والجانب السياسي والجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي والجانب الأمني، إلاّ النظرية القرآنية، بل الحقيقة القرآنية التي هي كلام الله. وكذلك لا قيادة لنا إلاّ القيادة التي تجعلنا نعمل على أساس أن يكون الإسلام هو خطّنا وعلى أساس أن يكون رضى الله هو هدفنا، ليكون التكامل مع أولياء الله والتنافر مع أعداء الله هو الواقع الذي يحدِّد لنا علاقاتنا في الحياة. وهذا ما نستوحيه من كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ليس معنى التمسّك بالأئمّة أن تتمسّك بهم تمسُّكاً عصبياً، أن تهتف باسمهم أو تتحرّك فقط لتحدّث الناس عن فضائلهم، بل أن تتحرّك في خطّهم، الإمام عليّ (عليه السلام) في حضوره حدَّد للناس في زمانه معنى الارتباط به كإمام، "ألاَ وإنَّ أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، إلاّ وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد"(3). هذا هو الخطّ؛ أن يكون عليّ (عليه السلام) إمامك، أن تكون وَرِعاً كما كان عليّ (عليه السلام) ورعاً، أن تكون عفيفاً، عفيف اليد وعفيف البطن، وعفيف الفرج، كما كان عليّ (عليه السلام) عفيفاً، أن تكون سديد الرأي كما كان عليّ (عليه السلام) سديد الرأي، وأن تجتهد في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، وفي الجهاد في سبيل الله، كما كان عليّ (عليه السلام).

أهل البيت قادة الإسلام
أن تقول إنَّ عليّاً إمامي معناه أن تجعل فكر عليّ (عليه السلام)، الذي هو فكر الإسلام وسيرة عليّ (عليه السلام) التي هي سيرة الإسلام وكلام عليّ (عليه السلام) الذي هو كلام الإسلام، أن تجعل كلّ ذلك أمامك وأنْ تتحرّك معه، هذا هو معنى التمسُّك بالعترة، التمسُّك بقيادتهم ومنهجهم وسيرتهم وفكرهم وخطّهم في الحياة، لا التمسُّك بأسمائهم والزيارة لقبورهم والبكاء عند مآسيهم، هذه أمور تندرج في العلاقات الشخصية، أن تزور الأئمّة كما تزور قبور مَن تحبّ من أهلك أو أحبائك، أن تهتف باسم الأئمّة كما تهتف باسم الذين تحبّهم، المسألة ليست كذلك، الأئمّة (عليهم السلام) انطلقوا من خلال أنّهم أوصياء رسول الله في الخطّ الإسلامي. فبقدر ما تكون قريباً من الله أنتَ قريب منهم، وبقدر ما تكون بعيداً عن الله أنتَ بعيد عنهم. قالها الإمام الباقر (عليه السلام): "مَن كان مطيعاً لله فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع"(1)، أن تكون ورعاً عمَّا حرَّم الله، هذه نقطة لا بدّ أن نفهمها فهماً جيّداً وواقعياً وإيمانياً.
إنَّ التشيّع عندما تحوَّل إلى حالة من المزاج، وإلى نوع من العصبيّة، وإلى لون من العشائرية الطائفية من دون أن نبحث عن مضمون التشيّع. أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا رؤساء عشيرة وليسوا قادة جماعة بالمعنى الشخصي لقيادة الجماعة، أهل البيت (عليهم السلام) هم قادة الإسلام، يتحرّكون حيث يريد الله لهم أن يتحرّكوا في خطّ الإسلام، ويقفون حيث يريد الله لهم أن يقفوا في خطّ الإسلام، ولذا سالَم عليّ (عليه السلام) عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يُسالِم، وحارَب عندما رأى أنّ الإسلام يفرض عليه أن يحارِب، والإمام الحسن سالَم ووافقه الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تفرض ذلك، والإمام الحسين (عليه السلام) قاتل وثار وضحَّى عندما رأى أنّ المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك. المسألة هي أنّهم يبحثون عن رضى الله كيف يكون ليكون ذلك رضاهم، وعن سخط الله كيف يكون ليكون ذلك سخطهم، ولهذا فعلينا أن نحدِّد المسألة على هذا الأساس، أن لا نأخذ الإسلام أو التمذهب بالتشيّع إطاراً ليفتقد الداخل، بل نأخذه مضموناً يتحرّك على أساس السير في كتاب الله، والسير مع أولياء الله، هذه الكلمة الأولى.
الكلمة الثانية التي جاء بها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو يحدّثنا عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً". ما معنى ذلك؟ معناه أنّ الحديث يريدنا أن نتطلَّع إلى أنّ الظلم شيء مرفوض، وأنّه يمثّل مشكلة للحياة، ويمثّل مشكلة في الإسلام، وأنّ العدل هو الذي يحلّ المشكلة، وهو الذي يمكن أن يحقِّق النموَّ للإنسان وللحياة. يريدنا أن نتطلَّع دائماً: إذا كانت مسألة المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) هي مسألة أنْ يتحرّك ليقمع الظلم ويبقى العدل هو الأساس في الحياة، لينشر العدل في العالَم وليمحو الظلم في العالَم بإرادة الله وبجهاده وجهاد المجاهدين معه، فكيف يمكن لنا أن نحدِّد موقفنا منها؟ أن نحدِّد موقفنا إذا كنّا ننتظره، فإنّنا ننتظره من أجل أن يحقّق لنا العدل لأنَّنا قوم نحبّ العدل، وإذا كنّا نحبّ العدل ونريده فلا بدّ أن يتحوّل هذا الحبّ للعدل إلى واقع في حياتنا... إذا كنت تحبّ شيئاً وتريد أن تحقِّقه فمن الطبيعي إنّك تعمل على أن تحقّقه في حياتك وفي حياة الناس من حولك، فإذا كنت تحبّ العدل فلا بدّ أن تكون أنت عادلاً في نفسك في ما لك وما عليك، عادلاً مع ربّك في ما لك وما عليك، عادلاً مع أسرتك مع زوجتك في ما لها وما عليها، عادلاً مع أولادك وجيرانك وإخوانك ومَن تتعامل معهم، أن لا تظلمهم في كلمة ولا تظلمهم في ضربة ولا تظلمهم في مال تأخذه منهم ولا تظلمهم في حقّ يستحقّونه عليك؛ هذا معنى أن تكون عادلاً، وإذا كنت غير ذلك فعلى أيّ أساس تنتظر المهدي (عليه السلام)؟ إذا كنتَ رمزاً للظلم في شخصيّتك فأنتَ ممَّن يقمعهم لأنّه يقمع الظلم كلّه، فإذا كانت حياتك تعبّر عن الظلم فكيف يمكن لك أن تنتظره؟ وهكذا أن تتحرّك خطوة ثانية لتكون مع العادلين لا مع الظالمين، لأنّك إذا كنت مع الظالمين؛ تؤيّدهم، تصفّق لهم، تنفّذ خططهم، تقاتل معهم، تعمل أعمالهم، إذا كنتَ كذلك كانوا هم جماعتك وكانوا هم حزبك وكانوا هم الجهة التي تتحرّك فيها. إذا كانت جماعتك من الظالمين فكيف تنتظر ظهوره وهو يريد أن يقمع جماعتك وأن يقمعك باعتبار التقائك معهم في هذا المجال؟ لهذا انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) يعني أنّك تتّخذ لنفسك موقفاً يجعلك في الدائرة التي تتحرّك فيها معه وفي الطريق التي تجاهد فيها معه. أنتَ تريد أن تكون معه؛ ألاَ نقول اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، أعوانه أعوان العدل وأعوان الإسلام، أنصاره أنصار العدل وأنصار الإسلام المستشهدون بين يديه هم الذين يستشهدون على أساس رسالة الله وعلى أساس دين الله وعلى أساس ما أراده الله من حماية أوليائه والمستضعفين من عباده، فإذا كنتَ عوناً للكافرين، وإذا كنتَ نصيراً للظالمين، وإذا كنت مقاتلاً مع المنحرفين، فكيف يمكن أن تكون من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه. فكِّروا في المسألة جيّداً، لأنّكم إذا كان تفكيركم على السطح ولم يكن في العمق فقد تفاجؤون بأنّكم من أعدائه ولستم من أنصاره.
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف)
أَلَسْنا كلّنا الآن من جماعة الإمام عليّ (عليه السلام)، ألسنا نقول ذلك؟ لو أنّ الإمام عليّ سلام الله عليه جاءنا في هذا العصر لحاربناه بحسب الواقع الموجود.
كثيرٌ من الناس الذين يلتزمون إمامة عليّ (عليه السلام) حاربوا الإمام الخميني وحاربوا الأشخاص الذين يحملون فكر الإسلام ويواجهون الطغاة ويواجهون الكفر والاستكبار، كثير من الناس يرفضونهم باعتبار أنّهم متطرّفون، ويرفضونهم باعتبار أنّهم متعصّبون ومتزمّتون.. هكذا أغلب الناس.
الآن لو أنّ المسيحيين الذين يقيمون في هذه الأيام الاحتفالات الكثيرة للسيّد المسيح (عليه السلام) بالمناسبات التي يؤمنون بها، لو جاء السيّد المسيح وشاهد كلّ هذا الواقع، واقع الظلم أو واقع الانحراف الأخلاقي الموجود في الساحة أو هذا الجوّ العبثي والانحراف الموجود، لا إشكال في أنّهم سيقفون ضدّ السيّد المسيح وسوف يقولون إنّه جاء من أجل أن يحدِّد حريّاتنا، وجاء من أجل أن يقف أمام حضارتنا وأمام تطلُّعاتنا وما إلى ذلك، ولو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي يحتفل المسلمون بمولده وبإسرائه وبمعراجه ومبعثه، لو جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الآن ودعا الناس إلى الإسلام لَوَقَفَ الكثيرون من الذين يؤمنون به أمامه وقالوا له إنّ الإسلام "موضة" قديمة، وإنَّ الإسلام حالة رجعية، وإنَّ الإسلام لا يتناسب مع الوضع هنا أو الوضع هناك، لهذا نحتاج إلى أن نفحص أنفسنا.
طريق الخلاص
إذا كنّا نؤمن بحقيقة أنّ طريق الخلاص هو بالسير في هذا الخطّ، إذاً علينا أن نفحص أنفسنا، أنّه لو جاءنا رسول الله ونحن على هذه الحالة فكيف يكون موقفنا معه، لو جاءنا المهدي (عجَّل الله فرجه الشريف) ونحن على هذه الحالة فهل نكون معه أم نكون من أعدائه؟ هذه النقطة يجب أن نفحصها فحصاً دقيقاً.. عندنا آية أخاف منها كثيراً أدرس نفسي في كثيرٍ من الحالات {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 ـــ 104] نحن نقول إنّنا مع أهل البيت، ولكن قد نكتشف أنّنا مع أعدائهم، ونقول إنّنا مع رسول الله وقد نكتشف أنّنا مع قريش التي تتلوَّن بكلّ لون. إذاً لا بدّ أن نلتزم خطّ العدل ونلتزم رفض الظلم، أن نكون في مجتمع العادلين وأن نعمل لتكوين المجتمع العادل، وتكوين المجتمع العادل إنّما هو العمل على تطبيق أُسس العدالة وشريعة العدالة وهي الشريعة الإسلامية، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للعدل أن يتمثّل في رسالات أنبيائه، ولأنَّ الله أرسل رسله بالبيّنات ليقوم الناس بالقسط، وهذا معناه أنّ رسالات الرسل تمثّل خطّ العدل في الحياة؛ فالإسلام هو الذي يمثّل حركة العدل في الحياة وهو الذي يمثّل شريعة العدل، الأحكام الإسلامية هي أحكام العدل، إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان فكلّ أوامر الله هي عدل وكلّ نواهي الله إنّما هي عدل، يريد الإمام المهدي أن يقمع الظلم على هذا الأساس، والله يقول لرسوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 ـــ 19] إذا كانت المسألة كذلك فعلينا عندما نحرّك العدل وننادي بالعدل؛ أن لا نجعل العدل مجرّد عنوان لا حركة له في الواقع، بل أن نطرح العدل على مستوى النظرية وندعو إلى العدل على مستوى الخطّ والتطبيق، ولهذا فنحن عندما ندعو إلى الإسلام ليلتزمه الناس وليؤمنوا به، فلأنّنا نعتقد أنّ الإسلام هو خطّ العدل الذي أراد الله للنّاس أن يعيشوا عليه من خلال ذلك.
ذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية
نلتقي في هذا اليوم، وهو اليوم الأوّل من نيسان، بذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال الثورة الرائدة الحكيمة التي قادها الإمام الخميني (حفظه الله) الذي فَهِمَ الإسلام فهماً واسعاً شاملاً؛ فهمه في عقيدته انفتاحاً على الله، وفهمه في عباداته تربية للنفس بين يدي الله، وفهمه في شريعته حركة من أجل الحريّة والعدالة للإنسان في الكون، ولهذا دعا له أوّلاً وثانياً وثالثاً، واضْطُهِد وشُرِّد ونفي وتعرَّض للأخطار وتعرَّض لكلّ الكلمات السيّئة التي يسوقها الاستكبار العالمي هذه الأيام، واستطاع بكلّ هذه الصلابة الإسلامية والوعي الإيماني والحركيّة التي وجَّهها لترتبط بالإسلام في كلّ جانب النظرية والتطبيق، استطاع بكلّ ذلك أن يصل ليسقط الطاغوت، ثمّ بعد ذلك ليرفع حكم الإسلام على أساس الدولة الإسلامية، لأنّه منذ أن كان في النجف كان يتحدّث عن الحكومة الإسلامية. ربّما استمرّت مسيرته ربع قرن حتى وصل إلى الدولة، وتحمّل مع كلّ إخوانه ومع كلّ تلاميذه ومع كلّ المؤمنين من أتباعه، الكثير من السجن والتشريد والجرح وما إلى ذلك، ولكنّه من خلال الوثوق بالله ومن خلال الإيمان بالله ومن خلال الوقوف أمام الطاغوت سواء كان داخلياً أو خارجياً استطاع بكلّ قوّة أن يصل إلى الهدف، ثمّ تكالَبَ العالَم عليه. وظنُّوا أنّ الإسلام مجرّد عنوان كما كانت باكستان إسلامية، وكما كانت الدول الموجودة في المنطقة إسلامية، أنّه تبديل من حكم إلى حكم، خيِّل لهم ذلك وانتظروه أن يرجع إليهم، انتظرته أميركا أن يقيم علاقات، وكانت المسألة أنّ الطلاّب المؤمنين السائرين في خطّه انطلقوا إلى وُكر الجاسوسية في السفارة الأميركية ليبعثوا رسالة إلى أميركا بأنّ المسألة ليست بالطريقة التي تعتقدون بها. إنَّ هذه الثورة هي ثورة تريد أن تقتلع النفوذ الأميركي من قلوب الناس فلا يبقى هيبة لأميركا في نفوس الناس، كما تريد أن تقتلعها من واقع الناس كمقدّمة لاقتلاعها من نفوسهم، ووجدوا أنّ القضية أصبحت مشكلة وحاولوا أن يحلُّوا المشكلة، حاولوا أن يقتربوا من مسؤول هنا أو مسؤول هناك، حاولوا أن يخلقوا المشاكل في داخل الجمهورية. حاولوا أن يثيروا الضوضاء في داخلها حتّى يسقطوها من الداخل، وسقط كلّ الذين في الداخل من الذين وجّهتهم أميركا وغير أميركا لخلخلة الدولة. وبقيت الدولة صامدة، حاصروها إعلامياً؛ فالصحف في أوروبا وفي أميركا وفي غيرهما وحتّى في عالمنا عندما تتحدّث عن الإمام الخميني (حفظه الله) أو عندما تتحدّث عن الجمهورية الإسلامية فإنّها تحاول أنْ تتحدّث بطريقة سيّئة جداً؛ بطريقة السخرية والاستهزاء، وبطريقة تصوير المسألة كما لو كانت إيران مجرّد بلد من البلدان التي يعيش فيها الإنسان تحت تـأثير الظلم والتقتيل والتشريد وما إلى ذلك ممّا لا نجد له أيّ أثرٍ هناك. حاصروها إعلامياً، وحاصروها سياسياً، وحاصروها اقتصادياً، ثمّ حاصروها عسكرياً من خلال وكلائهم في المنطقة الذين تقدّمهم النظام العراقي، ثمّ بعد ذلك وقفت معه كلّ الأنظمة التي كانت تشتري له سلاحاً وكانت تعطيه مالاً، ودعماً، ثمّ حاولوا أن يتحرَّكوا في الدائرة الإسلامية في الدول المسمّاة إسلامية ليطبقوا على إيران من كلّ جانب في مؤتمراتهم المسمّاة إسلامية وليست من الإسلام في شيء، أو في مؤتمراتهم العربية أو ما إلى ذلك، وبقيت الدولة ثابتة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ...} [لقمان : 30]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 ـــ 25]. المسألة لا تزال صامدة على الرغم من أنّ الحصار الذي تحاصر به والقوى التي تتحرّك من أجل أن تهزّ ثباتها وصمودها هي قوّة غير عادية، ومع ذلك لا تزال باقية. لماذا؟ لأنَّ هناك قيادة حكيمة مؤمنة واعية، ولأنَّ هناك شعباً يرتبط بهذه القيادة في الخطّ الفقهي لا في الخطّ السياسي المائع على أساس أنّ القيادة تتكلّم عن الله فلا بدّ أن يطيعها الناس في كلامها عن الله سبحانه وتعالى لأنّهم يطيعون الله، مَنْ أطاع الرسول فقد أطاعَ الله، ومَن أطاع أُولي الأمر الذين ينطلقون من خلال الرسول فقد أطاع الله في ذلك {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ...} [آل عمران : 31] ولا يزال هذا الشعب القوي المسلم يقف مع ثورته على الرغم من كلّ الضغوط الصعبة التي تتحدَّاه في كلّ جانب.
ونحن عندما نستعيد ذكرى الجمهورية الإسلامية، ونحن خارج إيران، فإنّنا في الوقت الذي نستفيد فيه من تجربة الجمهورية الإسلامية للثبات أمام القوى التي تريد أن تسقط حريّتنا ومواقعنا ومواقفنا؛ نرى أنّ الشعب عندما تُهَيَّأ له القيادة المسلمة الواعية المؤمنة الشجاعة ويكون الشعب أيضاً مسلماً مؤمناً شجاعاً يتحرّك حتّى يحقّق أمر الله ونهيه وحتّى يطلب رضى الله، فإنّه لا بدّ أن يكون هنا نصر... كانت مشكلة الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان القائد العظيم، ولكنّ المجتمع الذي كان معه لم يكن مرتبطاً به بالمستوى الذي ترتبط فيه الأُمّة بالقيادة، وهكذا بالنسبة إلى الحسين (عليه السلام) وهكذا بالنسبة إلى الكثيرين من الناس.
ثمّ نحن نستفيد من تجربة هذه الثورة التي تحوَّلت إلى دولة من دون أن تفقد روح الثورة، نستفيد منها أنّ الإسلام يصلح لأنْ يحرِّك الدولة، وأنّه ليس مجرّد أحكام شرعية فردية وليس مجرّد عبادات روحية.. ها هو الإسلام انطلق إلى إيران ثمّ بعد ذلك انطلق مجلس الشورى هناك ليحوّل القواعد الإسلامية والنصوص الإسلامية في الكتاب والسُنّة إلى قوانين في الاقتصاد وإلى قوانين في الأوضاع الاجتماعية وإلى قوانين في الدبلوماسية وإلى قوانين في الحرب والسلم حتّى أصبح لنا قانون يشمل الدولة كلّها أو يقترب من شموله للدولة كلّها. قانون إسلامي مئة في المئة. هذا معناه أنّنا نتحدّى بنجاح التجربة الإسلامية في الدولة الإسلامية في إيران تجربة تقنين الشريعة وتحويلها إلى قانون، نفهم منها أنّ الإسلام يستطيع أن يعيش في القرن العشرين وأن يحرِّك قانونه ودستوره في كلّ الحاجات التي فرضها تطوّر الأوضاع الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الحياة، ولا يشكو أيّ فراغ ولا أيّة مشكلة على الصعيد العام. وعلى هذا الأساس فإذا نجحت تجربة الثورة الإسلامية في إيران وإذا نجحت تجربة القانون الإسلامي في إيران وإذا نجحت النظرية السياسية في إيران بصفتها دولة إسلامية، فما الذي يجعلنا نتلفَّت تجاه غير الإسلام، لماذا لا ندعو إلى الإسلام، والإسلام أثبت جدارته في العصر الحديث؟ كانت الفكرة قبل قيام الدولة الإسلامية الموجودة حتّى عند كثير من المسلمين وعند الكثير حتّى من علماء المسلمين الذين يملكون إطاراً معيّناً، هي أنّ الإسلام ظهر في مجتمع بدويّ، بدائيّ، لا يملك فيه الإنسان أيّ موقع من مواقع التطوّر، مجتمع كان الإنسان يركب فيه البعير إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس، فأصبح الإنسان يركب الصاروخ ويصعد إلى القمر.
كانوا يقولون، كيف تريدون لأحكام شرعية خطَّطت لمجتمع بدائي أن تخطِّط لمجتمع عصري في القرن العشرين؟ وكان الكثيرون من الناس يطالبون الذين يدعون للإسلام بالانسحاب لأنّهم لا يستطيعون أن يواجهوا حاجات الحياة المتطوّرة ولا يستطيعون أن يواجهوا تحدّيات الواقع الكبيرة. وعندما انطلقت الثورة الإسلامية كنّا نراقب؛ نجحت الثورة، ليس دائماً كلّما تنجح الثورات يستطيع الذين ينجحون فيها أن يقيموا الدولة. بعض الناس كان يقول عن كلّ الثورات الإسلامية، من السهل أن تهدم ولكن من الصعب أن تبنى... كنّا نراقب الثورة الإسلامية، وكان العالم يراقبها: هل تستطيع أن تبنى الدولة على أساس الإسلام ـــ الإسلام الذي أنزله الله قبل ألف وأربعمائة سنة ونيّف ـــ أم لا؟ وتحرّكت الثورة في خطّ الدولة، واستطاعت أن تشرّع من تشريعات الإسلام للدولة ما تحتاجه، وعاش الناس هناك في خطّ التشريعات الإسلامية من دون أن يشعروا بفراغ، ومن دون أن يشعروا بمشاكل. نعم هناك مشاكل تعيش ويتحدّث فيها الكثيرون على أساس أنّها مشاكل الحريّة في إيران، ليست هناك دور للبغاء، هذه مشكلة، في إيران ليست هناك دور للخمر ليس هناك ما يماثل كازينو لبنان... هذه النِّعَم التي نعيش فيها وتعيش فيها الحضارة الحديثة لم تستطع إيران أن توفّرها للناس لأنّ الإسلام يرفض أن نوفّرها للناس بل يطلب منّا أن نمنع الناس منها. في إيران هناك حريّة الكلمة، هناك حريّة المعارضة.. القيادات نفسها قد تختلف في ما بينها وتنطلق الخلافات في الصحف وفي النوادي وفي الجوامع، ويترك الإمام للجميع حريّة أن يختلفوا وأنْ يعبِّروا عن آرائهم ثمّ يتدخَّل عندما تصل المسألة إلى درجة الخطر ليحسم الموضوع. وهكذا مجلس الشورى في إيران، يجتمع ويسمع كلّ الشعب كلّ ما يدور في المجلس لأنَّ هناك قناة بالراديو تنقل المناقشات في المجلس ما عدا الجلسات السريّة، ولهذا نستطيع أن نقول إنَّ في إيران حرية فكر وحريّة رأي وفي إيران حريّة معارضة، شرط أن تبقى في حدود القانون وأن لا تسيء إلى نظام الناس، ولهذا لم تقمع إيران المعارضين إلاّ الذين حملوا السلاح ضدّ الثورة ليُسقِطوا الثورة، لم تحبس إنساناً لأنَّ فكره لا يتّفق مع فكر الثورة، هناك كثيرون الآن من المعارضين على كثير من المستويات.
الخوارج كفَّروا الإمام عليّ (عليه السلام) وانعزلوا عنه وشكَّلوا لأنفسهم مجتمعاً خاصّاً منفصلاً عن مجتمع المسلمين، ولم يتعرَّض لهم الإمام بشيء، بل كان يبعث لهم مَن يحاورهم حتّى إذا قطعوا الطرق وقتلوا خبّاب وهو عبدٌ صالح وبقروا بطن زوجته الحامل، عند ذلك تحرَّك الإمام عليّ (عليه السلام) وقضى عليهم.
هناك فرق بين أن تقف ضدّ إنسان لأنّه معارِضٌ لك وبين آخر لأنّه يريد أن يخلّ بأمن الدولة أو بأمن الناس. ما دامت التجربة قد نجحت، لا نريد أنْ نتحدّث بالمطلق أنّها نجحت بنسبة خمس وسبعين في المئة أو سبعين في المئة، وهذا ما يجعلنا وكلّ المسلمين في موقع لا يجوز لنا أن نتحرّك فيه في أيّ موقع في العالم إلاّ بالدعوة إلى الإسلام، الإسلام في الحكم وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، إسلام الشريعة كلّها، ندعو ونقول دائماً كما قال الحسين (عليه السلام) "فَمَن قبِلَني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومَن ردّ عليّ هذا أصبِر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين"(1).

الاعتراض مشروع
للآخرين أن يعارضونا في فكرنا كإسلاميين، ولهم أن يحاورونا في ما نعتقد به من مسلمين ومن غير مسلمين، ولهم أن ينقدونا، ولكن من حقّنا أن نقول كلمتنا ومن حقّنا أن نحرّك رأينا ومن حقّنا أن نتحرّك في الواقع السياسي على أساس ما نفهمه من الإسلام وعلى أساس ما نحرّكه من نظريّات الإسلام. ومن حقّ الإسلام علينا، أن نرفع شعاراته وأن نقف مواقفه، عندما حذّرنا الإسلام من اليهود أراد منّا أن نقف ضدّ اليهود الذين يقتلون الأنبياء بغير حقّ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، والذين عملوا كلّ ما عملوه في سبيل تخريب الحياة وفي سبيل العقلية العنصرية.
لا تنازل في المسألة الإسرائيلية
نحن نعتبر أنّ المسألة الإسرائيلية هي من المسائل الأساسية التي لا مجال فيها لأيّ تنازل ولا مجال فيها لأي تراجع، لأنّنا ندرك من خلال وعينا للإسلام ومن خلال وعينا للواقع، أنّ "إسرائيل" تمثّل خطر الحاضر وخطر المستقبل وأنّها تخطّط على أساس أن تحتوي مستقبلنا ليكون مستقبلنا على فُتات مستقبلهم أو في دائرة مستقبلهم أو لا يكون لنا مستقبل. "إسرائيل" خطَّطت، ووصلت إلى الكثير، وهي تخطّط وتريد أن تصل إلى الكثير، وهي تعمل على أساس الاستفادة من اللّعبة الدولية ومن دعم الدول الكبرى لها، تعمل على أساس أن تجعل الواقع السياسي يتحرّك في خدمة أطماعها وفي خدمة واقعها، ولهذا لا بدّ لنا من أن نكون حذرين جدّاً أمام أيّة خطّة من خططها سواء كانت أمنية أو سياسية.

جيش لحد امتداد للجيش الصهيوني(1)
ونريد أن نؤكّد في هذه الدائرة الإسرائيلية حقيقة وهي أنّنا ندعو كلّ أهلنا هناك في المنطقة الحدودية إلى أن يخرجوا من هذا الجيش العميل جيش لحد، الجيش العدوّ الذي نعتبره من خلال قاعدته السياسية ومن خلال حركته وعلاقاته، امتداداً للجيش الإسرائيلي.. كلّ جندي في الجيش المسمّى بالجنوبي، نعتبره جندياً إسرائيلياً بكلّ معنى هذه الكلمة، وتترتَّب عليه كلّ الأحكام الشرعية التي تترتَّب على الجندي الإسرائيلي، لا مجال في هذا الصدد لأيّة تقيّة ولا مجال لأيّ ضعف أو تخاذل. بعض الناس يقولون إذا لم نتجنَّد فسيخرجوننا، أخرجوا أفضل من أن تقتلوا أهلكم وأفضل من أن تعاونوا عدوّكم، أخرجوا واقتلوا أعداء الله لأنّكم إذا لم تقاتلوهم فسوف تُقتلون بأيدي إخوتكم وأهلكم، لأنّكم وضعتم أنفسكم متراساً للعدوّ.
في هذا الظرف الذي تضغط فيه قوّات العدوّ الإسرائيلي على كثير من أهلنا في المنطقة الحدودية لتجنّدهم في جيشها العميل، نقول لهم: ارفضوا مهما كانت الظروف، مَن كان في هذا الجيش فليخرج، ومَن لم يكن في هذا الجيش يحرم عليه أن يدخل. إذا كنتم تتحدّثون عن الضعف فإنّ مجتمع ثورة الحجارة يمكن أن يحمل الكثير الكثير من النموذج الذي يستطيع أن يسقط "إسرائيل".. لا أتكلَّم في هذا المجال بأسلوب الانفعال، ولكنّني أتكلَّم بلغة المستقبل، إنّ العدوَّ يريد أن يجعلنا في جيشه ليحاربنا بأولادنا وبإخواننا وبأهلنا، وليحتلَّنا بأهلنا وبإخواننا وأولادنا، وليدمّر بيوتنا من خلال هؤلاء. مَن الذي جعل العدوّ في "كفر رمّان"(2) يتّجه ليقتل الشيوخ والعُجَّز وليهدم بيوت الناس الآمنين بكلّ فظاعة ووحشية، مَن هو غير هذا الجيش؟ كلّ مَن يؤيّده فإنّه يحمل مسؤولية هذه المجازر، كلّ مَن يدخل فيه فهو شريك في ذلك كلّه، ونحن لا نقبل أن يكون أيّ إنسان من أهلنا شريكاً للعدوّ في قتل أولادنا بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة. إنّنا نقول إنَّنا براءٌ منهم، ليسوا منّا ولسنا منهم إلاّ أن يرجعوا إلى الله وإلاّ أن يرجعوا إلى السّاحة التي تريد أن تنتصر على "إسرائيل" وتريد أن تقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي. إنَّنا نقول لهم قد تكون "إسرائيل" لكم اليوم، ولكن حذار؛ لن تكون "إسرائيل" لكم غداً فكِّروا في غد، لا أتحدَّث عن غد الآخرة ولكنّي أتحدّث عن غد الدنيا الذي قال الله فيه {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} [آل عمران : 140] هذه نقطة.
عودة أميركية
النقطة الثانية هي أنّ هناك في السّاحة الدولية والسياسية عودة أميركية على أعلى مستوى، ونحن في الوقت الذي نؤكّد أنّ السياسة الأميركية التي تتحرّك من أجل اضطهاد الشعوب ومن أجل ظلم الشعوب، هذه السياسة مرفوضة منّا جملةً وتفصيلاً ولاسيّما السياسة المتعلّقة بالمسألة الفلسطينية والتي تعمل لحساب "إسرائيل" بكلّ ما هناك من إمكانات عسكرية وأمنية وغير ذلك. إنَّ السياسة الأميركية والمبادرة الأميركية جاءت من أجل أن تلوّح للعرب أو للفلسطينيين أو للمسلمين بغصن الزيتون الإسرائيلي الذي يعني سلام "إسرائيل" ولا يعني سلام العرب أو الفلسطينيين أو المسلمين، ولكنّها تريد أن تستفيد من الضعف العربي على المستوى الرسمي، وتريد أن تستفيد من التعقيدات الدولية الموجودة في الساحة حتّى تستطيع أن تحرّك الواقع السياسي من أجل الوصول إلى أهدافها الإسرائيلية، تريد أن تخرج "إسرائيل" من مأزق الانتفاضة، وتريد أن تجعل من كثير من الرسميين من حكَّام العرب أعداءً للانتفاضة يحاربونها، وتعمل أيضاً في الوقت نفسه على احتواء السّاحة اللبنانية لخدمة سياستها التي تريد أن تبقي لبنان كما كان، مزرعة أميركية لكلّ السياسة الأميركية ولكلّ الأمن الأميركي ولكلّ الثقافة الأميركية. إنَّنا نعتقد أنّ من واجبنا أن نرصد الموقف بعمق وبدقّة وأن نواجه هذه المسألة بالكثير من الوعي وبالكثير من الحذر. هناك أُناس "يرشّون" في السّاحة السياسية أحلام التفاؤل ويعملون على أساس أن يصوِّروا للناس أنّ الجنّة الأميركية قادمة من خلال المبعوثين الأميركيين من النساء والرجال الذين يريدون أن يزرعوا لنا لبنان على الطريقة الأميركية، ولكن علينا أن نفهم أنّه ليست هناك أحلامٌ حقيقية في الساحة، وأنّ المسألة تتحرّك في أكثر من موقع حتى في المواقع العربية الأميركية أو اللبنانية ـــ اللبنانية. لا تزال المسألة تعيش في دائرة ما صرَّح به بعض الذين يملكون مواقع متقدّمة في البلد: أنّ المسألة ليست مسألة التفاؤل الحذر ولكنّ المسألة هي مسألة التشاؤم الحذر، تشاؤم فيه حذر أن يشرب جرعة من التفاؤل من الصعب أن يكون هناك حلّ في الداخل على مستوى الإصلاح للنظام في ما يتحدّث به الكثيرون لأنّ مسألة الداخل لا تزال مرتبطة بمسائل الخارج، ولأنّ من الصعب أن تفصل الأزمة اللبنانية عن المشاكل الموجودة في المنطقة، وقد تعوَّدنا، طويلاً أن ننام على فراش الشوك وأن ننام على مخدَّات الشوك ربّما يأتينا بعض القطن مع هذا الشوك ولكنَّ الأشواك تبقى تنطلق من تحت قطنة هنا وقطنة هناك حتّى القطن يحمل في داخله أشواكاً. والربيع ليس ربيع الورود، ولكنّه أيضاً ليس ربيع الحرائق.
والحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية