في رحاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة

في رحاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة

في رحاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة(*)
يعيش الناس في هذه الأيام أجواء ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وفاته وفي أيام مولده، التي نستقبلها بعد فترة قصيرة من أيّام هذا الشهر. ونحن بحاجة دائماً إلى أن نستنطق القرآن الكريم، في ما قدَّمه إلينا من صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما بعثه الله بالرسالة، وكيف كانت دعوته، وكيف كان ردّ فعله على الذين وقفوا في وجه الدعوة وتمرَّدوا عليه، وآذوه واضطهدوه وحاربوه وشرّدوه. وعن آفاق هذه الدعوة، إلى أين يريد الله لها أن تصل؟ وإلى المجتمع الذي عاش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل أن يصنعه، وكيف صنعه وكيف كان أصحابه معه، وما هي أخلاقه؟ هذه أمور لا بدّ أن نتعرَّف إليها عندما نريد أن نثير ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وعينا الإسلامي وفي وعينا الإنساني، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء للنّاس كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] وجاء للإنس والجن، كما حدَّثنا الله عن ذلك. ولا بدّ للمسلمين دائماً أن تكون صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صورة واضحة في أذهانهم، لأنَّ رسول الله إمامنا الذي نقتدي به، كما هو نبيّنا الذي نأخذ برسالته؛ فهو النبيّ في الرسالة، وهو الإمام في القدوة. كما جعل الله إبراهيم إماماً فقد جعل الله محمّداً إماماً ونبيّاً ورسولاً ومرشداً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
الارتباط بمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الرسول
لا بدّ لنا أن نتعرَّف كيف نستمع إليه، حتّى نتعرَّف كيف نقتدي به وحتى نتعرّف الأسلوب الذي يجب أن نسير عليه في الحياة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29] تلك هي صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصورة المجتمع الذي صنعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). إنَّ عظمة الرسول تكمن في أنّه استطاع أن يصنع مجتمعاً في البداية على خطّ الله وخطّ كتابه، واستطاع بعد ذلك أن يحوِّل المجتمع إلى أُمّة تنتشر في الكون كلّه؛ وكلّ واحدٍ منها يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله. شهادة لله بالتوحيد، وشهادة للرسول بالرسالة، شهادة تبدأ من توحيد الله لتسير في خطّه، ولتقف بعد ذلك بين يديّ الله الواحد موقفاً يحاسب فيه الإنسان كلّ حياته على أساس خطّ التوحيد.
محمّد رسول الله، تلك صفته في وعينا. نحن مع محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لسنا مع محمّد الهاشمي، ولا مع محمّد القرشي، ليس لنا علاقة بصفة هاشميّته وإنْ كانت صفة مميّزة أو علاقة بصفة قريشيّة، وإنْ كانت صفة مميّزة، أو علاقة بصفة مكيّته ومدنيّته، كما جاء في بعض الأدعية "القرشي التهامي المكّي المدني" ليس لنا علاقة بهذا؛ علاقتنا بمحمّد بصفة أنّه رسول الله، حَمَلَ إلينا الرسالة وعلَّمَنا كيف نفهمها، وعلَّمنا كيف نحرِّك الرسالة في حياتنا، وعلَّمنا كيف ندعو للرسالة، وعلَّمنا كيف نجاهد في سبيلها، {... وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران : 164] يعطينا الكتاب ويعلّمنا كيف نحرّك الحكمة في وعينا للكتاب، ويزكّينا، يزكّي أنفسنا ومشاعرنا ويطهّرها من كلّ خبث. هو رسول الله ونحن مع رسول الله، وإذا كنّا مع رسول الله فنحن مع رسالته، لهذا لا قيمة لمسلمين يرتبطون بمحمّد ولا يرتبطون برسالة محمّد، إنَّ محمّداً يرفض أن يرتبط الناس به من خلال اسمه، لهذا فإنَّنا نرفض كلمة المحمّديين. لسنا محمّديين، نحن مسلمون، ننطلق من خلال رسول الله لا من خلال ذاته.
بعض الناس عندما يقولون عنّا إنّنا محمّديون، يريدون أن يجعلوا رسالة الله رسالة شخص، فيقولون إنَّ محمّداً هو الذي صنع القرآن، وهو الذي صنع الرسالة، وهؤلاء أتباع محمّد أتباع كتاب محمّد وأتباع رسالة محمّد وأتباع ثورة محمّد. ليس الأمر كذلك، محمّد رسول الله. قيمة كلّ ما قاله، وقيمة كلّ ما فكَّر فيه، وقيمة كلّ ما فعل، وقيمة كلّ ما جاهد فيه، وقيمة كلّ ما وقفه من مواقف، قيمته إنّه سار على خطّ الله في ما رسمه الله له. هو لا يستطيع أن يزيد كلمة ولا يستطيع أن ينقص كلمة. علَّمه الله أن يقول ما أوحى إليه من دون زيادة أو نقصان وقال له قبل أن يقول لنا {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 4 ـــ 47]، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] قد يحدّثكم بعض الناس عن محمّد، كعبقري، وقد يحدِّثكم بعض الناس عن محمّد كمصلح، وقد يحدِّثكم بعض الناس أنَّه عاش آلام العروبة واختزن كلّ مشاعرها، وثار من أجل أن يؤكّدها. محمّد عبقري مصلح قائد عظيم، ولكن ليست تلك الصفات صفاته الذاتية. عندنا صفته أنّه محمّد رسول الله {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] قال للنّاس: رسالتي التوحيد لله أوحي لي بالتوحيد كرسالة أساسية، فإذا كنتم ترجون لقاء الله وتريدون أن تلتقوا به وأنتم في محبّة الله، تحبُّون الله ويحبّكم. أيُّها الناس أتعرفون كيف يجب أن تتّقوا الله؟ لا تقدِّموا إليَّ الكلمات المعسولة، لا تخاطبوني بما تخاطبون به الجبابرة، لا ترتبطوا بي كشخص، ولكن {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به واعملوا العمل الصالح، الذي يتحرّك في خطّ التوحيد وعندها يصلني حقّي. كان النبيّ يقول ذلك: ليس حقّي حقّ شخص.
لا بدّ لنا أيُّها الأخوة من أن لا يخدعنا الآخرون بالكلمات التي يريدون من خلالها، أن يؤكِّدوا إنَّ الإسلام صُنع محمّد، وإنَّ القرآن صُنع محمّد، ويمدحون محمّداً، إنّه الفيلسوف، وإنّه المصلح، وإنّه الثائر. محمّد كلّ هذا ولكن محمّداً يوحى إليه من ربّه، فمن أنكر الوحي أنكر الإسلام، ومَن أنكر رسالة رسول الله الآتية من الله، فقد أنكر الإسلام. لا تخلطوا بين الأشياء. لأنَّ الكثيرين يريدون منكم أن تخلطوا بينها.
كيف ندير الصراع مع الكفّار
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، في خطّ المواجهة، والذين معه في خطّ المجتمع الإسلامي، كيف هو حال المسلمين في مجتمعهم في الداخل؟ وكيف هو حال المسلمين في مواجهتهم لتحدّيات الخارج؟ {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]، الكفّار الذين يثيرون الحرب ضدّ المسلمين، لأنَّ الله لا ينهاكم عن الذين يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا على إخراجكم، الله لم يَنْهَنا عن ذلك؛ الكفّار الذين يتمرّدون ويحاربون ويعملون على أن ينصبوا الحواجز ضدّ حريّة الدُّعاة إلى الله في أن ينطلقوا إلى الناس، ليحولوا بينهم وبين الناس بطريقة الحواجز الأمنية أو الحواجز السياسية أو الحواجز العسكرية. أي حاجز ينصبه الذين يجعلون الكفر قاعدة التفكير؟! فإذا أراد الداعية الإسلامي أن يقف ليقول إنّي أريد أن أدعو إلى الله، وقفوا بينه وبين ذلك. المسلمون لا يجاملون أحداً في هذا المجال إنّهم ليسوا عدوانيين {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}، المسلمون لا يتنازلون عن مواقفهم، إنّهم يقولون للكفّار إنّ بيننا وبينكم قضية، نحن نتّخذ فيها موقفاً ولسنا مستعدّين أن نتنازل عن هذا الموقف، صفتنا مسلمون ونحن نؤكّد هذه الصفة، فإذا أردتم أن تعادونا وإذا أردتم أن تقاتلونا وإذا أردتم أن تقفوا بيننا وبين حريّتنا في الدعوة إلى الإسلام، وفي العمل في سبيله، فلن نكون ضعفاء، قد نرحم الجانب الإنساني في الحياة، ولكن عندما يراد لهذا الجانب أن يقمع الإسلام ويحبسه ويسجنه ويحاصره، فالشدّة هي أسلوبنا، وهذا يجب أن تأخذوا منه معنى.
أيُّها الأخوة، كشباب يلتزم خطّ الله وخطّ رسوله، مسألة أن يكون موقفك موقفاً إسلامياً واضحاً ملتزماً في مقابل الذين يريدون أن يؤكّدوا الكفر في مجتمع الإسلاميين، لا مجاملة في هذا المجال، قل {فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وعلينا أن لا نتنازل عن أيّ شيء أن نحترم صفتنا الإسلامية وأن نحترم حريّة الإسلام في أن يدعو الناس إليه، وحريّة المسلمين في أن ينطلقوا في خطّ الإسلام، وإذا أراد الآخرون منّا أن ننسحب فعلينا أن لا نفعل ذلك، وإذا أرادوا منّا المواجهة فعلينا أن نواجه، ليس من الضروري أن نواجه بالبندقية، لكن إذا واجَهَنا الناس بالفكر فسنواجه بالفكر من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسياسة فَسَنُواجههم بالسياسة من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسلاح فسنجرّب أن نواجه بالسلاح من موقف قوّة، نحن نتحدّث إلى الناس باللّغة التي يتحدّثون فيها معنا، لا نتحدّث بلغة السيف لقد قال الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ولكن إذا جرّد الناس السيف علينا، فقد نستطيع أن نجرّد الكثير من السيوف ضدّهم. هذا ما يجب أن نفكِّر فيه.
نحن مسلمون فقط
إنّي أحبّ أن أؤكّد للمرّة الألف، أن لا تتركوا صفتكم الإسلامية بكلّ معناها، لا تأخذوا من الإسلام جانباً، لتبحثوا عن صفات أخرى أو تحاولوا أن تستبدلوا بالإسلام صفات أخرى، أبداً كلّ الصفات من ديمقراطية، اشتراكية، وجودية وشعبية، كلّ الصفات نقيسها بالإسلام؛ إذا كانت قريبة للإسلام، فنقول إنّنا مسلمون نتبنّى هذا الشيء، ولا نعطي أنفسنا صفة أخرى؛ وإذا كانت بعيدة عن الإسلام فلا نتبنَّاها كخطّ قد يُلجئنا الظرف إليها كتكتيك، كمرحلة، ولكن كخطّ لا شيء غير الإسلام. سياستنا، اجتماعنا، أمننا، حربنا، سلمنا، علاقتنا مع الآخرين كلّها من خلال الإسلام. وأمّا إذا أخذت شيئاً من غير الإسلام لتدخله في الإسلام، فالله يقول لك، أردت أن تأخذ شيئاً من هذا الاتجاه وشيئاً من ذاك الاتجاه، حتّى يرضى الناس عنك {... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] الله يقول لكم ذلك، والله يسألكم إذا أخذتم بعض الأشياء، لتدخلوها في الإسلام وهي ليست منه، هل الله أَذِنَ لكم، هل أخذتم إذناً من الله في ذلك؟ أم على الله تفترون، أم أنّك تكذب على الله؟ ومَن كذب على الله فليتبوّأ مقعده من النار، وإذا أردت أن يرضى عنك الناس بحجّة أنّ مجتمعنا يضمّ اليهود والنصارى وفئات متنوّعة، ممّا يتطلّب القيام ببعض الأعمال حتّى يرضوا عنّا، إنَّ الله يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] لا هدى غيره.
لماذا لا يرضون عنك؟ السبب أنّهم مخلصون لملّتهم، ومن مقتضى إخلاصهم أن لا يرضوا على أحد حتى يصير منهم.
لماذا تبدأ بتقديم التنازلات مباشرة ولا تتمسّك بمبدئك؟ إنَّ اليهود ومنذ أن أُنشئت دولتهم، وبعد حرب 1967، وهم يقولون نريد مفاوضات مباشرة مع العرب، فيما الردّ العربي لا صلح ولا اعتراف. لكن سرعان ما تنازل العرب واستمرّ اليهود متمسّكين بمواقفهم.
اليهود لم يغيّروا كلمة ممّا أرادوه من خلال مصلحتهم اليهودية، ونحن غيَّرنا الكثير لأنّنا لم نأخذ الإسلام عنواناً لكلّ واقعنا السياسي: إذاً أيُّها الأحبّة نحن مسلمون فقط، ونحن مسلمون ومن إسلامنا نقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} [آل عمران: 64] ومن إسلامنا نقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة: 82].
الانفتاح على النصارى
من إسلامنا نقول للنصارى: نحن ننفتح عليكم إذا لم تكونوا عدوانيّين {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...} [العنكبوت: 46] إذا لم تظلمونا، إذا لم تحتلوا فلسطين، إذا لم تعملوا على أساس أن تكونوا في لبنان قوّة عنصرية تهيمن على المسلمين وتستغلّهم وتسيطر على حقوقهم. نحن نتكلّم معكم بالتي هي أحسن، ونتحاور بالتي هي أحسن، ونتعايش معكم بالتي هي أقوم، ليست عندنا مشكلة. لهذا حتّى عندما تريدون أن تتحدّثوا عن التعايش تحدَّثوا بمنطق القرآن، وحتّى إذا أردتم أن تتحدَّثوا على أساس الحوار مع كلّ الناس تحدَّثوا بمنطق القرآن، هكذا حاوَرَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المشركين وحاوَرَ الكافرين، وحاوَرَ اليهود، وحاوَرَ النصارى، وحاوَرَ كلّ الناس. رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكن يعاني عقدة ضعف، لا يخاف من أحد لأنّه واثق بنفسه وواثق برسالته وواثق بربّه، ولهذا لم يَحْتَجْ إلى أن يقاطع أحداً، إلاّ إذا كانت المقاطعة هي السبيل الذي يمكن أن يحمي الرسالة من شرّ، أو يمكن أن يوجّهها إلى خير.
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] كونوا الأشدّاء على الآخرين، لا على أساس أن تكون شدّتكم عدوانية، ولكن على أساس أن تكون شدّتكم التزاماً بالموقف، والتزاماً بالدفاع عن الموقف، والالتزام بتأكيد حريّة المسلمين في أن يكون لهم الساحة التي يستطيعون من خلالها أن يكون لهم حقّ الدعوة كما يأخذ الآخرون لأنفسهم هذا الحقّ.
مجتمع الرحمة
إذا اقتربنا نحو المجتمع الرسالي الداخلي فكيف هي علاقاتنا {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وتواصوا بالحقّ، وتواصوا بالرّحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران: 159] رحماء: يرحم كلّ إنسان الآخر، فيعينه على قضاء حاجته. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر فيعطيه ممّا أعطاه الله. يرحم كلّ واحد منكم الآخر فيعفو عن أخطائه إذا أخطأ معه. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر، فيدرس ظروفه من أجل أن يرحم ضغط ظروفه عليه؛ أن تشعر أنّ المسلم أخوك وأنّ عليك أن ترحم كلّ مسلم كما يرحم الأخ أخاه، لأنَّ الله هو الذي ربط بينك وبين المسلمين برباط الأخوة وما يربطه الله لا يمكن أن يحلّه أحد. عندما تكون مؤمناً ويكون الآخر مؤمناً، تكون مسلماً ويكون الآخر مسلماً، فإنَّ الله قال لك هذا أخوك، لو تنازعت معه يبقى أخاك ما دمت مؤمناً وهو مؤمن، تقاتلت معه يبقى أخاك ما دام الإيمان في قلبك والإيمان في قلبه وإنْ كنتَ قد تخطئ في بعض تفاصيل الإيمان أو يخطئ في بعض هذه التفاصيل. أن تكون هناك رحمة في داخل المجتمع، هذا ما يريده الله أن يكون صفة المجتمع الإسلامي.

طبيعة المجتمع اليهودي
الله حدَّثنا عن مجتمع اليهود، عندما كان اليهود في المدينة في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {... بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...} [الحشر: 14] إذا حدثت الحرب أو وقع نزاعٌ داخل المجتمع اليهودي فإنّه سيكون أقسى ممّا يمكن لك أن تتصوَّره، فمن الصعب أن تدخل بينهم بالصلح فإذا طرحت مسألة الصلح بينهم ثاروا في وجهك، وأطلقوا الشعارات الكبيرة في وجهك، وأثاروا الناس حولك. هكذا كان اليهود {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} لو تقاتلوا مع غيرهم فمن الممكن أن يتصالحوا معهم، لكن لو تقاتل بعضهم مع بعض فمن الصعب أن يصلحهم أحد. مجتمعون في ساحاتهم، ولكن قلوبهم شتّى، لكلّ قلب اتّجاه ولكلّ قلب موقف ولكن يبدو أنّ القصّة انقلبت، عندما كان المسلمون أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم انتصروا على اليهود، وعندما صار اليهود أشدّاء على المسلمين رحماء بينهم انتصروا على المسلمين، لأنَّ الانتصار والانكسار لا يأتي من السماء كهبة، ليقول الله لك كنْ منتصراً، أو ليقول الله لإنسان كنْ منهزماً. للانتصار أسبابه، وللهزيمة أسبابها، ولهذا قال الله {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ...} [محمّد: 7] تنصرون الله بأن تأخذوا بتعاليم الله، وأن يكون مجتمعكم المجتمع الذي يرضاه الله، وأن تكون صفاتكم هي الصفات التي يرضاها الله لكم، لا أن تكون صفاتكم صفات الكافرين وتريدون من الله أن ينصركم نصر المؤمنين، لا يمكن ذلك. لاحظوا {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} عندما تقرؤون القرآن تذكَّروا حديث الإمام الباقر (عليه السلام): "القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ويجري مجرى الليل والنهار"(1) يعني كما استفاد الأوّلون من الشمس والقمر، نستفيد منهما نحن أيضاً. كذلك القرآن هو نور استفاد منه الأوّلون ونستفيد نحن منه بالدرجة ذاتها. القرآن هو نور ونور لا يزال يتدفَّق. كما كان يتدفَّق هناك فهو يتدفَّق هنا، أقول لنفسي وأقول لكم أيُّها الأحبّة إذا قرأتم القرآن، فلا تدرسوا القرآن في كتب القاموس، ولكن ادرسوه في الحياة، عندما تدرسون حديث القرآن عن مجتمع إسلامي سابق، قولوا لأنفسكم هل نحن صورة هذا المجتمع، وعندما تجدون القرآن يتحدّث عن صورة مجتمع يهودي أو مشرك أو غير ذلك، التفتوا إلى هذا المجتمع هل هي صورته، فإذا استطعتم أن تعرفوا صورتنا الآن وصورة غيرنا الآن، مقارنة بصورتنا في الماضي أو صورة غيرنا في الماضي، أمكننا أن نفهم طبيعة التحرّكات في الواقع، وطبيعة التحرّكات في الموقف.
هشاشة المشاريع الوحدويّة
ينبغي أن نبني شخصيّاتنا على أساس الرحمة. لا تربِّ ولدك على العداوة إذا كان لك عداوة مع إنسان من أقربائك أو من أهل بلدك ولكن ربِّ ولدك على الرحمة، وإذا وجدت القسوة في قلبك فحاول أن تزرع شتلة رحمة في إحدى زوايا هذا القلب، وإذا وجدت المجتمع مجتمع العصبية ومجتمع القسوة فعليك أن تعمل على أن تحوّله إلى أن يكون مجتمع المحبّة، ومجتمع الرسالة وإلاّ فلن تنفعنا ـــ أيُّها الأخوة ـــ لن تنفعنا كلّ المشاريع الوحدوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الجبهوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الاستعراضية، لن ينفعنا ذلك {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11] مجتمع القساة على بعضهم يفرز المجتمع المتنافر، الذي لا تربط بين أفراده رابطة، ولهذا فإنَّ من الممكن أن يهزمه أيّ واحد. لهذا لنربِّ أنفسنا على الرحمة، ونعتبر أنّ كلّ المشاكل التي تحدث بين المسلمين، سواءً كانوا مختلفين في مذاهبهم، أو في سياساتهم، أو في مصالحهم؛ كلّ النزاعات والخلافات لا بدّ أن تحلّ من موقع الرحمة، لا من موقع القسوة، إلاّ إذا كانت القسوة في بعض الحالات سبيلاً للرحمة. كما تقطع في بعض الحالات يدك، لأنّك لو لم تقطعها لاستشرى السمّ أو المرض إلى بقيّة أجزاء جسمك. ففي هذه الحالة إنّك ترحم جسدك عندما تقطع يدك. وتلك أمور علينا أن لا نستعجل قرارها. أو الحكم فيها، لأنَّ نوازعنا الذاتية قد تهيّئ لنا أنّ هناك حالة ميؤوساً منها، وهي ليست محلّ يأس، لكنّ سرعتنا في اتّخاذ القرار قد توحي إلينا بذلك. لا بدّ أن نظلّ نفحص. حتّى إذا وجد عندنا احتمال واحد وفرصة واحدة علينا أن نتابع ذلك كلّه، وهذا أمر يحتاج إلى معاناة كثيرة، وإلى تعب كثير، حتّى نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} في كلّ الدوائر الإسلامية الواسعة، أو في الدوائر الإسلامية الضيّقة، في كلّ دائرة لا بدّ أن نعيش الرحمة، أن نحرِّك الرحمة لتكون خطّاً سياسياً وخطّاً فكرياً، وخطّاً اجتماعياً، حتّى إذا تحرّك الناس من موقع الرحمة يمكن لهم أن ينفذوا إلى قلوب بعضهم البعض، وإلى عقول بعضهم البعض، وإلى حياة بعضهم البعض، لهذا لنكفّ عن كلمات البغضاء والحقد والعداوة، لنحوِّلها إلى كلمات محبّة وصداقة وخير، حتّى نلتقي على الرحمة بين يديّ الرحمن الرحيم.
الخضوع لله شرط تحقيق العزّة
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً...} [الفتح : 29] هذه الحالة، روحية الصلاة بين يديّ الله هي الشرط، لكي تعرف كيف يعيش بين الناس. إذا ركعت لله بقلبك وجسدك وإذا سجدت لله بروحك وجبهتك، فإنَّ معنى ذلك أن تقول لله يا ربّ إنّي أركع بين يديك، لن أرفع رأسي أمامك، كما يرفع الناس رؤوسهم أمام بعضهم البعض ليؤكّدوا ذاتهم، ليس لي يا ربّ ذات أمامك، ذاتي صدى لإرادتك وظلّ لوجودك. إنّي أركع لأعبِّر لكَ عن كلّ خضوعي، أنا العبد الخاضع، مرني أطِعك يا ربّي بكلّ ما تأمرني، لو قلت لي ارمِ نفسك من شاهق فإنّه واجب، لا بدّ لي أن لا أفكِّر في طبيعته ولكن أفكّر في أنّه طاعة لك، وسأسجد يا ربّ، يسجد لكَ وجهي ويداي ورجلاي وكلّ جسمي، كلّها تسجد بين يديك، لتقول لك الجبهة: يا ربّ إنّي أرفع جبهتي أمام الناس الذين ترتفع جباههم أمامي لأُحقِّق العزّة، ولكن أمامك، يا مَن بيده ناصيتي، أنتظر تنفيذ أمرك، يداي تنتظران أنْ تتحرَّكا في سبيلك.
{رُكَّعاً سُجَّداً...} من موقع ركوعهم وخضوعهم لله، كانوا الأقوياء في مواجهة كلّ الشرك وكلّ الكفر وكلّ الظلم؛ ومن خلال سجودهم لله، كانوا الأعداء أمام الآخرين "إذا أراد بك عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله"(1)، وهكذا كانوا رُكَّعاً سُجَّداً. اللّيل ليل المناجاة، اللّيل ليل الابتهالات، اللّيل ليل الصلوات؛ أمّا النهار فعلماء حلماء، أمّا النَّهار فأبطال مجاهدون، أمّا النهار فالموقف الذي يتحرّك من موقع الحريّة والعدالة والعزّة والكرامة. أن يقف الإنسان ليقول كما يقول الله {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] الجانب الروحي أيُّها الأحبّاء أساسي. اسهروا في تنمية إسلامكم، ليكون إسلامكم ينبوع روحانية، وينبوع خوف من الله، وينبوع محبّة لله. أن تجلس بين يديّ الله، لتدمع عينك من خشية الله، ولينبض قلبك بخوف الله ومحبّته، ولتعيش لتجعل كلّ حياتك لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163] بذلك تكون قد بعت نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة: 111].
الله أقرب إليك من الجميع
أيُّها الأخوة أتعرفون سرّ قوّة عليّ (عليه السلام)، الذي كان لا ينهزم، كرَّار غير فرَّار، لأنّه كان يحبّ الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويحبّه الله ورسوله؛ عليّ (عليه السلام) الذي باع نفسه لله فنزلت فيه هذه الآية ـــ في ما يُروى ـــ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة: 207] يبيع نفسه، يشتري نفسه للجنّة، ويبيع نفسه لله، ولهذا كانت كلّ كلمات عليّ (عليه السلام) تتحرّك من خلال الله، حتّى إذا أراد أن يغمض عينيه كانت كلماته "بسم الله وبالله وعلى ملَّةِ رسول الله". اسهروا أيُّها الأحبّة، أيّها الشباب، اسهروا على أساس أن تُعمِّقوا في أنفسكم محبّة الله، أحبُّوا الله أكثر من آبائكم وأُمّهاتكم وإخوانكم وأصدقائكم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة: 165] تلك هي المسألة أن تحبّ الله أكثر ممّا تحبّ كلّ الناس مهما قرُبَ الناس إليك، لأنَّ أيّ إنسان يقرب منك، فالله أقرب إليك منه ولو كان أباك أو أمّك. أبوك كان سبباً في ولادتك، كانت نطفتك منه، وأُمّك كانت سبباً في ولادتك، كان رحمها وعاءً لك، لكن مَن الذي أودع الحياة في النطفة، ومَن الذي أودع أجواء الحياة في الرحم، ومَن الذي أرسل لك الغذاء وأنتَ في رحم أُمّك، ومَن الذي أودع سرّ النمو في النطفة والعلقة والمضغة، ومَن صوَّرك فأحسن صورتك، ومَن الذي تكفَّل لك برزقك، ومَن الذي يحييك ويميتك، ويدبّرك ويبعثك من جديد؟ ما قيمة كلّ الناس؟ الله أقرب إليك من كلّ الناس، فإذا أحببت أباك لأنّه كان حركة في وجودك، فأحبّ الله لأنّه كان السرّ في وجودك. وهكذا عليك أن تحبّ الله وهذا هو الشرط لأنْ تكون قويّاً، وهذا هو الشرط لأنْ تكون صلباً، وهذا هو الشرط لأن تكون ثابت القدم. رسول الله إنّما كان {... يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...} [التوبة: 40] لأنّه كان يفكّر بالله، عندما كان الخوف يحاول أن يزحف إلى شخصيّته، وعندما فكَّر بالله كان قوياً وعرف أنّ رعاية الله سبحانه وتعالى ترافقه في كلّ مكان. كانوا الرُكَّع السُجَّد وبذلك حصلوا على روحية القوّة التي هيّأت لهم الانتصار. فكونوا الرُكَّع السُجَّد، ليطَّلع الله عليكم ليرى صدق ركوعكم في قلوبكم التي تركع له، وصِدْق سجودكم في سجود قلوبكم التي تسجد له.
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} يبتغون فضلاً من الله، قلوبهم معلَّقة بالله، عندما يتطلَّعون إلى الحياة ويفكّرون في الرزق، ويفكّرون في الصحّة، ويفكّرون في الأمن، ويفكّرون في كلّ شيء، فإنّهم يطلبون ذلك من الله {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} والفضل من الله يعني كلّ النِّعَم التي تحيط بالإنسان في الحياة، يعني ما تأكله وما تشربه وما تلبسه وما تجلس عليه. الصحّة في الأمن والرزق كلّه فضلٌ من الله، ولهذا فقيمتهم تكمن في أنّ حاجاتهم معلّقة بالله، وليس معنى أنّ حاجاتهم معلّقة بالله أنّهم لا يعملون ولا يشتغلون، فقد قال الله لهم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] هم يعملون ولكن يعتقدون أنّ الله من وراء عملهم وإنَّ الله أمام عملهم، وإنَّ الله هو الذي يقلِّب القلوب، وهو الذي يحوّل إليه القلوب، وهو الذي يرزق من يرزق، عندما يلهم هذا أن يكون سبباً في رزق ذاك، وعندما يُلهم ذاك أن يكون سبباً في رزق هذا.
المهم رضى الله
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} يريدون أن يعطيهم الله كلّ فضله في حياتهم، وعندما يفكّرون أن يرضى عنهم أحد فإنّهم يفكّرون برضى الله وحده، يطلبون رضوان الله، ليست القيمة عندهم أن يرضى الكبار عنهم أو الصغار، ليست القيمة عندهم أن يرضى الوجهاء والأغنياء والرؤساء، المهم أن يرضى الله عنهم.. قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنْ لم يكن منكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(1) المهم أن يرضى الله عنّا. وقال الحسين (عليه السلام) وهو يتلقّى دماء ولده عبد الله الرضيع "هوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(2) وكان هؤلاء المؤمنون عندما يفكّرون بالله قد يردّدون بيتاً قاله ابن هانئ الأندلسي في غير الله ولكنّ المؤمنين يقولونه لله:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينَكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] يريدون رضوان الله، وهذه مرتبة عالية عظيمة صعبة، لا ينالها إلاّ الذين هدى الله وامتحن قلوبهم للإيمان. أن يكون كلّ همّك رضى الله، هذه مهمّة كبيرة ولكن إذا حصلت عليها، فستكون القوي الذي ليس هناك أحد أقوى من موقفه، لأنّك عندما تفكّر أنّك تريد أن تحصل على رضى الله، معنى ذلك لو سبَّك الناس فلن يزلزلوا موقفك، لو اتّهمك الناس بكلّ السوء فلن يغيِّروا خطّك، لو أنّ الناس حشدوا عليك كلّ حقدهم وبغضائهم، فلن يغيِّروا انتماءك إذا كان كلّ ذلك لله؛ ولهذا كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتلقّى الاتّهامات، وكان ينفتح على الله، وكان يتلقّى الضربات وكان يقول "فإنْ لم يكن منك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(3) ستكون القويّ في موقفك، لأنَّ كثيرين منّا ـــ أيُّها الأخوة ـــ على كلّ المستويات دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، الكثيرون منّا يتزلزلون لأنّهم يحدّقون بعيون الناس، هل تبرق استحساناً، أو تبرق أزوراراً؟ الكثيرون من الذين يتطلَّعون إلى كلام الناس عنهم بالسوء غيَّروا مواقفهم، وإذا تكلَّم الناس عنهم بالرضى زادوا في مواقفهم، ليتزلَّفوا إلى الناس حتّى لو كانت مواقفهم خطأ.
إنّ الذين يضعفون في مواقفهم، والذين يسقطون في مواقعهم، والذين ينحرفون عن خطّهم هم الذين يفكّرون برضى الناس ولا يفكّرون برضى الله. أمّا الذين لا يخافون في الله لومة لائم فهؤلاء هم الأقوياء، هؤلاء هم الذين يثبتون والجراح تثخنهم، يثبتون والزلازل تهزّ الأرض من تحت أقدامهم، يثبتون وكلمات السبّ والشتم والفحشاء والاتّهام تأتيهم من كلّ جانب، إنّهم يضحكون على كلّ تلك الكلمات، ويرحمون الناس الذين يقولون كلّ تلك الكلمات. لقد سبَّ الناس عليّاً ما يقارب المئة سنة وكان سبّ عليّ (عليه السلام) عبادة، ولكن أين عليّ (عليه السلام) وأين الذين سبّوه؟ لأنَّ علياً كان يقول: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1) ولأنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول: "قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهزّ فرصتها مَن لا حريجة لهُ في الدين"(2)، عليَّ الذي لم يساوم، بقي في مشرق الشمس نوراً ينير الحياة كلّها للنّاس. وأمّا غير عليّ فأين هو في التاريخ؟ أين غير عليّ في الواقع كما يقول ذلك الشاعر:
فهذا عليٌّ فوقَ كرسيِّ مجدِهِ يرتِّل آيَ الحمدِ سبعاً مثانيا
وهذا عليٌّ والأهازيج باسمِهِ تشقُّ الفضا العالي فهاتوا معاويا
أعيدوا ابنَ هندٍ، إنْ وجدتم رفاتَهُ رفاةً وإلاّ فانشروها مخازيا
أين عليّ، وأين معاوية؟ أين الحسين وأين يزيد؟ لأنَّ الحسين أيضاً كان مثل أبيه "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل"(3). قالوا له الكثير وفعلوا معه الكثير. وهكذا كان أصحاب محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين أخلصوا له وأخلصوا للإسلام {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} صورتهم، ملامحهم وعلاماتهم من أثر السجود، هذا الأثر الذي ينطلق من سجود عفوي، لا من تكلُّف، لأنَّ هناك فرقاً حتّى في الملامح بين الملامح التي تنطلق من صنعة، وبين الملامح التي تنطلق من طبيعة، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ} زرعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الشطء هو فرخ الزرع الذي يأتي إلى جانب الزرع {فَآزَرَهُ} يعني لم يضعفه بل قوَّاه {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}. وفي قراءة يعجب الزارع. وهو رسول الله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} عندما يرون قوّة المسلمين، وإنّ الجيل الجديد يقوّي الجيل القديم، والجيل القديم يقوّي الجيل الجديد، آزره أن يؤازر الجيل الأوّل الجيل الآخر {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29].
الالتزام بالخطّ ومواجهة الاتهامات
تلك هي صورة رسول الله وتلك هي صورة مجتمعه الذي ربَّاه وصنعه، والذي يريد منّا أن نربّي مثله، وأن نصنع مثله: أن نربّي أنفسنا ونربّي الآخرين على هذه الصفات، حتّى نستطيع أن نكون المجتمع الذي يكون قدوة بعمله، أكثر ممّا يكون قدوة بكلامه، كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم. وهذا ما يجب ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن نؤكّده، أن نفكّر بأن تكون شخصيّتنا الإسلامية هي كلّ شيء، أنت ابنُ عشيرة، أنتَ ابن بلد، أنت ابن وطن، أنتَ ابن قومية، تلك صفات متعدّدة، ولكن إذا أردت أن تربّي نفسك، ربِّ نفسك على أساس أنّك ابن الإسلام. لتكن أحكام الله هي ما نربّي به شخصيّاتنا، وما نحرِّك به خطواتنا، لأنّ احترام الإنسان لانتمائه يفرض عليه ذلك. قل لنفسك إذا كنتَ مسلماً فعليّ أن أسلم حياتي كلّها لله، وإسلام حياتي لله يتمثّل في أن أسير في ما يحبّ الله أن أسير فيه، وأن أقف حيث يريدني الله أن أقف، وسيحاول الكثيرون كما حاولوا ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن يسبغوا عليكم كلمات، قد ترهقكم وقد لا تريحكم وقد ترهق أباءكم وأُمَّهاتكم وأهلكم، فيطلبون منكم أن تتراجعوا ليرضى الناس عنكم. سيقولون عنكم ـــ كما قالوا ـــ إنّكم متخلِّفون، لأنّكم لم تأخذوا بكلّ أسباب الحضارات الغربية. ولا يقصدون أنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع العلم ولكنّهم يقولون إنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع اللّهو. وهكذا سيقولون عنكم إنّكم رجعيون، لأنَّكم لم تكونوا ملحدين حيث يعتبر الإلحاد تقدُّماً، ولم تكونوا ضالّين حيث يعتبر الضلال حضارة، لأنّكم التزمتم بالإسلام لا على أساس أنّه شيء من التاريخ، ولكن لأنّكم التزمتم بالإسلام على أساس أنّه دين من الله، وأنّه يرعى الحياة ليجعلها تتقدَّم، ولكي يعطي الحياة روحانية وواقعية ويعطيها كلّ ما تحتاج إليه من فرص التقدّم.
سيقولون عنكم إنّكم متطرّفون، كما قالوا، على أساس إنّهم أخذوا من الإسلام شيئاً بسيطاً وانسجموا مع كلّ الواقع من حولهم، واسترخوا له. لا يريدون أن يتغيَّر هذا الواقع، لقد ألفوه، ألفوا كلّ حقارته، وألفوا كلّ وضاعته، وألفوا سلبياته، لهذا إذا أردتم أن تغيّروا الواقع قالوا عنكم متطرّفين، ولكن قولوا لهم تعالوا ندرس الإسلام فلا نتجاوز أيّ حكم إسلامي، ناقشونا في الإسلام. إنّ الالتزام بالإسلام ليس تطرُّفاً، لأنّ كلّ دين وكلّ فكر يريد أن يغيّر الواقع هو تطرُّف بالنسبة له، ولكنّه ليس تطرّفاً على أساس ما يراد للحياة، هناك فرق بين أن تكون متطرّفاً لحساب بقاء الأمر الواقع، وأن تكون متطرّفاً على أساس ما تحتاجه الحياة، وعند ذلك لن يكون كلّ التزام إذا سار في الحدود المعقولة، لن يكون متطرّفاً.
حرب أعصاب ضدّ المتديّنين
أيّها الإخوة سيتّهمونكم بكلّ اتّهام، وأحبّ أن أقول لكم: لن يقولوا عنكم ذلك، لأنّهم يعتقدون فيكم هذه الصفات، ولكن الكثيرين منهم يقولون عنكم ذلك ليحاربوكم بالكلمات، لأنّ المخابرات بكلّ أجهزتها، وبكلّ متفرّعاتها، وإنتاجها تعمل على أن تخوض حرب الأعصاب ضدّ كلّ الذين يلتزمون، حتّى لو لم تكن ملتزماً دينياً، وإذا كنتَ ملتزماً ثورياً وكنتَ تقف ضدّ الاستعمار والاستكبار فيمنحونك كلمات أخرى، وأوسمة أخرى تتناسب مع طبيعة الجوّ الذي تعيشه. لهذا فليقولوا ما يقولون، ليس مشكلة. لقد قال الله لرسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ وافهموا ما يقوله الله لرسوله، لأنّ الله يريدكم أن تسيروا على خطّ رسوله ـــ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...} هذه الآية معبِّرة جداً لكلّ رسول ولكلّ داعٍ لله وعامل في سبيل الله. كثير من الناس يتضايقون ولسان حالهم يقول: "هذا يسبّني، هذا يشتمني، هذا يقول عنّي إنّني مُتطرّف، هذا يقول إنّي إرهابي، هذا يقول إنّني رجعي هذا كذا وهذا كذا.. كرامتي انداست إنّهم يشتمونني ويسبُّونني ويتّهمونني". كثير من الناس سواءً كان من العلماء أو السياسيين أو غير ذلك يشعر بحسّ الكرامة عندما يواجهه أعداء فكرته ورسالته بالكلمات الجارحة.
إنّنا نقول إنّ النبيّ أيضاً اتّهموه بأنّه ساحر وقالوا: هو كاهن ومجنون، اتّهموه في عقله، كذَّاب. اتّهامات وردت في القرآن قالوا عن القرآن أساطير اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا. لكن انظروا كيف عالَجَ الله المسألة، إذ قال للنبيّ الذي تأثّر كما يتأثّر كلّ الناس {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33] فوراء هذا الاتّهام، هذا العدوان، هذه الكلمات، السباب، الشتائم، لستَ أنتَ المستهدف؛ إنَّ هذه الاتّهامات موجّهة إليَّ، فلماذا أنتَ حزين؟ أنا الذي سأُدبِّر أمرهم لا تغضب أنت ولا تحزن، كذلك إذا كنت داعية لله ووقف الناس ضدّك لأنّك تدعو إلى الله، ولأنّك تقف الموقف الصلب في هذا المجال، لا تنزعج، حتّى لو سبُّوك اعتبر هذه الكلمات وكأنّهم يرمون عليك عطراً.
بعض الشباب يأتون إليَّ قائلين: سامحنا، ولماذا أُسامحكم؟ قالوا: والله ما رفعوا عنّا الضرب والتعذيب حتّى نسبَّك، قلتُ لهم: في المرة الثانية سبُّوا أكثر كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) "سيأمركم بسبّي والبراءة منّي وأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة (1) الله يعطيني ثواباً، الإمام هكذا يقول: ولكم نجاة" أنتم تتخلَّصون من الضرب والعذاب. نحن نقول كلام الإمام عليّ (عليه السلام) المسألة أنّه عندما تُسب وتُشتم وتُتّهم، القصّة لست موجّهة لك. أنا عندي كرامة، أنا ابن فلان، وأنا ابن العشيرة الفلانية، كيف أسبّ، كيف أُتّهم، كيف هذا؟ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} ثمّ الله يقول للنبيّ لماذا تغضب؟ لستَ أوّل واحد أنت {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
كلّ الكلام يذهب في الهواء، ضغط الكلمات لا يزلزل مواقفي. هناك حديث يقول ما معناه: إنَّ اللعنة إذا خرجت من فم صاحبها تتردَّد فإذا رأت المستهدف يستحقّها التصقت به وإلاّ رجعت إلى صاحبها لتلعنه.
فإذا كنتم تعتقدون أَنّ ما يقال عنكم ليس منكم، أقول للمسلمين الملتزمين في أيّ مكان في العالم، فليلعنوكم فليسبّوكم، فليشتموكم، فليتّهموكم. إنَّ اللعنة إذا خرجت من أفواه هؤلاء ستقف في نصف الطريق فإذا كان الإنسان التي توجَّه إليه اللعنة لا يستحقّها فإنّها سترتد إلى صاحبها. هذه القضايا عليكم أن تعايشوا أنفسكم فيها، حتّى لا تشعروا بضغط يضغط على مواقفكم، لهذا نحن نشعر كإسلاميين نلتزم الخطّ الإسلامي على الرغم من كلّ الكلمات التي تُقال نشعر بالثقة، ونشعر بالقوّة ونشعر بالصفاء ونشعر بالروحية الواثقة بربّها، ومن خلال ثقتها بربّها تثق بنفسها.
نحن نعتبر أنّ الإسلام أمانة الله في أعناقنا ولن نغيِّر ذلك. نريد أن نكون انطلاقاً من قول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] نريد أن نكون كذلك أنْ لا نبدِّل، ولا نغيِّر. نريد أن نقول لكلّ الناس المتردّدين، الذين يغلِّفون كلماتهم ومواقفهم وأوضاعهم بأيّ شيء، لو كان رسول الله الآن حاضراً فكيف تكون دعوته، كيف؟ هل يدعو إلى غير ما يدعو إليه القرآن، وهل يتحدَّث بغير أحكام الله؟ إذا كان رسول الله كذلك فهو قدوتنا في ذلك، فكما قال ذلك الصحابي الذي قيل له وهو يعالج جراحاته في أُحُد: إنَّ رسول الله قد قُتِل. قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1) فتعالوا نُقاتِل على ما قاتَلَ عليه محمد ونسير على ما سار عليه محمد.
أحفادنا ومواجهة "إسرائيل"
نحن في ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نريد أن نؤكّد الأمانة التي حمَّلنا إيَّاها رسول الله، لنكون المسلمين لا الطائفيين، لنكون المسلمين المنفتحين على كلّ الناس من موقع العدالة التي لا تفرّق بين إنسانٍ وآخر، ومن موقع الحريّة التي لا تريد أن تفرّق بين إنسانٍ وآخر في رضى الله سبحانه وتعالى. على هذا الأساس نؤكّد موقفنا هنا في لبنان وفي المنطقة، نؤكّد موقفنا كإسلاميين نقف ضدّ الاستكبار بكلّ امتيازاته، وبكلّ رموزه، سواءً كان استكباراً عالمياً أو إقليمياً أو محليّاً، لأنَّ الله أرادنا أن نقف ضدّ المستكبرين، لنمنعهم من استضعاف المستضعفين، قد لا تكون لنا القوّة الآن ولكنّنا نحرّك قوّتنا كما حرَّك صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعض قوّتهم عندما كانوا في مكّة ثمّ في المدينة. سنحاول أن نحرّك قوّتنا وأن نستزيد قوّة من الله سبحانه وتعالى ومن خلال الجهد الذي وجَّهنا الله في اتّجاهه. ونحن سوف نقف أيضاً ضدّ الصهيوني. نحن نريد أن نظلّ الفئة التي تعمل، لتكون في حجم الأُمّة لنواجه إسرائيل ونربّي أولادنا على ذلك، ونربّي أحفادنا على ذلك، حتى تزول إسرائيل ولو بعد مئة سنة. ونستعمل الأسلوب الإسرائيلي نفسه، لقد قرَّروا أن يأتوا إلى فلسطين، وخطَّطوا وعاشوا في حجم المستقبل، ووصلوا وربّما يصلون من خلال دقّة تخطيطهم وعفويّة ارتجالنا، ربّما يصلون بعد ذلك إلى أن يستقطبوا المنطقة، حسب ما يفكِّرون، نحن لا تهزمنا زوايا الزمن ولا زوايا الواقع.
إنَّنا نقول لكلّ الذين يقفون حاجزاً بين المجاهدين وبين جهادهم، سواءً كان ذلك في فلسطين، أو في لبنان، أو في الأردن، وفي أيّ بلدٍ آخر لهؤلاء نقول: إنّكم عندما تسقطون موقف الجهاد سترتاحون، ولكنّ إسرائيل التي تفكّر أنْ تتغدّى بالمجاهدين الآن، سوف تفكّر أن تتعشّى بالذين يجلسون مسترخين فتجعلهم لقمة ثانية، لا تفكِّروا إنّكم سترتاحون، ادرسوا كيف تخطّط إسرائيل لأنْ تكون قوّة عظمى، وادرسوا كيف تفكّر إسرائيل في أن تجعل كلّ مجتمعها مجتمع حرب، في الوقت الذي يتحرّك فيه كلّ الساسة عندنا، سواءً كانوا في المستويات القيادية العليا، أو في المستويات الدنيا، أو سواءً كان ذلك في خطّ الأجواء الدينية، أو السياسية، أو الاجتماعية للدعوة إلى السلم وإلى عدم العنف، وإلى ترك فكرة الحرب وبذلك يقفون ضدّ كلّ مجاهد. هؤلاء الذين يفكِّرون بهذه الطريقة يريدون لمجتمعهم أن يكون مجتمع الهزيمة.
إنَّ إسرائيل لا تزال تخطّط وتتدرَّب ولا تزال تشتري أحدث الأسلحة، وتصنع أحدثها، ولا تزال توجه أميركا كي لا تبيع أيّ سلاح للمنطقة، إلاّ إذا كان هذا السلاح لا يضرّ إسرائيل. إنّهم يفكّرون بهذه الطريقة: لماذا كلّ الأسلحة التي باعتها أميركا وغير أميركا من الدول الغربية اشترط عليها بالسرّ أو العلن أن لا تُقاتل بها إسرائيل، على الرغم من كلّ الكلمات التي تُثار في هذا المجال؟ عندما تخطِّط إسرائيل لتبني جيشاً في مستوى تواجه فيه المنطقة، وتبني أيضاً قوّة عسكرية من أجل أن تواجه كلّ قوّة المنطقة، فلماذا تفعل ذلك؟ هل تريد إسرائيل أن تحارب روسيا، أم تريد أن تحارب أميركا؟ إنّها تريد أن تسيطر علينا، لا خيار لنا، أنا أحبّ لكلّ الإخوة أن يفكِّروا بهذه الطريقة، إنَّ إسرائيل سوف تأتي وتخرجكم من بيوتكم إذا ارتاحت واستقرّت. نحن نعرف أنّ المجاهدين الذين يجاهدون ويضحُّون بأنفسهم، إنَّ هؤلاء المجاهدين لا يستطيعون أن يرجعوا فلسطين وربّما لا يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل من الجنوب، لكنّهم يربكون كلّ خطط إسرائيل.
بين حريّة الجنوب وأمنه
قبل بدء أحداث الجنوب، كان جيش لحد قد تعرَّض لضعف كبير ولكنَّ أحداث الجنوب التي فرَّقت الناس بعضهم عن بعض، وأضعفت المواقف، هي التي جعلت جيش لحد يشرب حليب السباع. لهذا نحن نقول لكلّ الناس، ولكلّ الإخوة الذين لا يزالون يطرحون مسألة قتال إسرائيل، نقول لهم: لا تستغرقوا في الخلافات الداخلية، لقد قلناها مراراً، ليست المسألة هي مَن يتولّى أمن الجنوب، ولكنَّ المسألة مَن سيتولّى حريّة الجنوب أمام إسرائيل. يمكن أن يقوم بالأمن كلّ شخص يمكن أن يتّفق على مسألة الأمن للنّاس، وضمان أمن الناس، ليست مشكلة. لكن علينا أن نفكِّر إنّ إسرائيل تريد الجنوب كلّه، وإنّها تريد أن تهزم روحنا قبل أن تهزم مواقعنا. لهذا أريد لكلّ الناس الذين يعيشون في الجنوب أو الذين يعيشون هنا، الذين يتحمّلون المسؤولية، إنّنا نريد منهم أنْ لا يلعبوا بالنار.
كلّ المناصب لا تهمّنا
إنَّنا نتوجَّه إلى كلّ الفعاليات في هذا المجال، لنقول لهم ما قلناه أكثر من مرّة على الرغم من كلّ الكلمات السيّئة التي تلقيناها، ولا نزال نتلقَّاها، على الرغم من كلّ الاتّهامات الكاذبة التي تلقيناها ولا نزال نتلقَّاها، ولكن ليعرفوا وأقولها لكلّ الناس، سبُّوا ما شئتم، اتّهموا ما شئتم، فإنّا سائرون. كلّ المناصب على مستوى الطائفة والوطن لا تمثّل عندنا شيئاً، سنظلّ نقول كلمة الحقّ حتّى لو رَجَمَنا الناس بالحجارة، نقول لجميع الفعاليات إنَّ الذين لا يريدون للنار أن تنطفئ، لأنّهم يحبُّون للنار أن تحرق بعض الناس ليكونوا بمنجاة منها. بكلّ محبّة أقول لكلّ الفعاليات إذا لم نتعاون على أن نطفئ النار فستحرق النار الجميع وستحرق الذين يوقدونها والذين يعملون على إشعالها، كفانا ما عشناه من الفتنة. كفانا ما عشناه من فتنة الجنوب المأساة، ومن فتنة الضاحية المأساة، كفانا ذلك لقد خطَّطتم للقاء كلّ الذين قاتلتموهم وقاتلوكم فلماذا لا تلتقون مع إخوتكم وأهلكم؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

في رحاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة(*)
يعيش الناس في هذه الأيام أجواء ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وفاته وفي أيام مولده، التي نستقبلها بعد فترة قصيرة من أيّام هذا الشهر. ونحن بحاجة دائماً إلى أن نستنطق القرآن الكريم، في ما قدَّمه إلينا من صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما بعثه الله بالرسالة، وكيف كانت دعوته، وكيف كان ردّ فعله على الذين وقفوا في وجه الدعوة وتمرَّدوا عليه، وآذوه واضطهدوه وحاربوه وشرّدوه. وعن آفاق هذه الدعوة، إلى أين يريد الله لها أن تصل؟ وإلى المجتمع الذي عاش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من أجل أن يصنعه، وكيف صنعه وكيف كان أصحابه معه، وما هي أخلاقه؟ هذه أمور لا بدّ أن نتعرَّف إليها عندما نريد أن نثير ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وعينا الإسلامي وفي وعينا الإنساني، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جاء للنّاس كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107] وجاء للإنس والجن، كما حدَّثنا الله عن ذلك. ولا بدّ للمسلمين دائماً أن تكون صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صورة واضحة في أذهانهم، لأنَّ رسول الله إمامنا الذي نقتدي به، كما هو نبيّنا الذي نأخذ برسالته؛ فهو النبيّ في الرسالة، وهو الإمام في القدوة. كما جعل الله إبراهيم إماماً فقد جعل الله محمّداً إماماً ونبيّاً ورسولاً ومرشداً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
الارتباط بمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الرسول
لا بدّ لنا أن نتعرَّف كيف نستمع إليه، حتّى نتعرَّف كيف نقتدي به وحتى نتعرّف الأسلوب الذي يجب أن نسير عليه في الحياة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29] تلك هي صورة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصورة المجتمع الذي صنعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). إنَّ عظمة الرسول تكمن في أنّه استطاع أن يصنع مجتمعاً في البداية على خطّ الله وخطّ كتابه، واستطاع بعد ذلك أن يحوِّل المجتمع إلى أُمّة تنتشر في الكون كلّه؛ وكلّ واحدٍ منها يقول: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله. شهادة لله بالتوحيد، وشهادة للرسول بالرسالة، شهادة تبدأ من توحيد الله لتسير في خطّه، ولتقف بعد ذلك بين يديّ الله الواحد موقفاً يحاسب فيه الإنسان كلّ حياته على أساس خطّ التوحيد.
محمّد رسول الله، تلك صفته في وعينا. نحن مع محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، لسنا مع محمّد الهاشمي، ولا مع محمّد القرشي، ليس لنا علاقة بصفة هاشميّته وإنْ كانت صفة مميّزة أو علاقة بصفة قريشيّة، وإنْ كانت صفة مميّزة، أو علاقة بصفة مكيّته ومدنيّته، كما جاء في بعض الأدعية "القرشي التهامي المكّي المدني" ليس لنا علاقة بهذا؛ علاقتنا بمحمّد بصفة أنّه رسول الله، حَمَلَ إلينا الرسالة وعلَّمَنا كيف نفهمها، وعلَّمنا كيف نحرِّك الرسالة في حياتنا، وعلَّمنا كيف ندعو للرسالة، وعلَّمنا كيف نجاهد في سبيلها، {... وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران : 164] يعطينا الكتاب ويعلّمنا كيف نحرّك الحكمة في وعينا للكتاب، ويزكّينا، يزكّي أنفسنا ومشاعرنا ويطهّرها من كلّ خبث. هو رسول الله ونحن مع رسول الله، وإذا كنّا مع رسول الله فنحن مع رسالته، لهذا لا قيمة لمسلمين يرتبطون بمحمّد ولا يرتبطون برسالة محمّد، إنَّ محمّداً يرفض أن يرتبط الناس به من خلال اسمه، لهذا فإنَّنا نرفض كلمة المحمّديين. لسنا محمّديين، نحن مسلمون، ننطلق من خلال رسول الله لا من خلال ذاته.
بعض الناس عندما يقولون عنّا إنّنا محمّديون، يريدون أن يجعلوا رسالة الله رسالة شخص، فيقولون إنَّ محمّداً هو الذي صنع القرآن، وهو الذي صنع الرسالة، وهؤلاء أتباع محمّد أتباع كتاب محمّد وأتباع رسالة محمّد وأتباع ثورة محمّد. ليس الأمر كذلك، محمّد رسول الله. قيمة كلّ ما قاله، وقيمة كلّ ما فكَّر فيه، وقيمة كلّ ما فعل، وقيمة كلّ ما جاهد فيه، وقيمة كلّ ما وقفه من مواقف، قيمته إنّه سار على خطّ الله في ما رسمه الله له. هو لا يستطيع أن يزيد كلمة ولا يستطيع أن ينقص كلمة. علَّمه الله أن يقول ما أوحى إليه من دون زيادة أو نقصان وقال له قبل أن يقول لنا {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 4 ـــ 47]، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] قد يحدّثكم بعض الناس عن محمّد، كعبقري، وقد يحدِّثكم بعض الناس عن محمّد كمصلح، وقد يحدِّثكم بعض الناس أنَّه عاش آلام العروبة واختزن كلّ مشاعرها، وثار من أجل أن يؤكّدها. محمّد عبقري مصلح قائد عظيم، ولكن ليست تلك الصفات صفاته الذاتية. عندنا صفته أنّه محمّد رسول الله {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] قال للنّاس: رسالتي التوحيد لله أوحي لي بالتوحيد كرسالة أساسية، فإذا كنتم ترجون لقاء الله وتريدون أن تلتقوا به وأنتم في محبّة الله، تحبُّون الله ويحبّكم. أيُّها الناس أتعرفون كيف يجب أن تتّقوا الله؟ لا تقدِّموا إليَّ الكلمات المعسولة، لا تخاطبوني بما تخاطبون به الجبابرة، لا ترتبطوا بي كشخص، ولكن {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به واعملوا العمل الصالح، الذي يتحرّك في خطّ التوحيد وعندها يصلني حقّي. كان النبيّ يقول ذلك: ليس حقّي حقّ شخص.
لا بدّ لنا أيُّها الأخوة من أن لا يخدعنا الآخرون بالكلمات التي يريدون من خلالها، أن يؤكِّدوا إنَّ الإسلام صُنع محمّد، وإنَّ القرآن صُنع محمّد، ويمدحون محمّداً، إنّه الفيلسوف، وإنّه المصلح، وإنّه الثائر. محمّد كلّ هذا ولكن محمّداً يوحى إليه من ربّه، فمن أنكر الوحي أنكر الإسلام، ومَن أنكر رسالة رسول الله الآتية من الله، فقد أنكر الإسلام. لا تخلطوا بين الأشياء. لأنَّ الكثيرين يريدون منكم أن تخلطوا بينها.
كيف ندير الصراع مع الكفّار
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، في خطّ المواجهة، والذين معه في خطّ المجتمع الإسلامي، كيف هو حال المسلمين في مجتمعهم في الداخل؟ وكيف هو حال المسلمين في مواجهتهم لتحدّيات الخارج؟ {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]، الكفّار الذين يثيرون الحرب ضدّ المسلمين، لأنَّ الله لا ينهاكم عن الذين يقاتلونكم في الدين ولم يظاهروا على إخراجكم، الله لم يَنْهَنا عن ذلك؛ الكفّار الذين يتمرّدون ويحاربون ويعملون على أن ينصبوا الحواجز ضدّ حريّة الدُّعاة إلى الله في أن ينطلقوا إلى الناس، ليحولوا بينهم وبين الناس بطريقة الحواجز الأمنية أو الحواجز السياسية أو الحواجز العسكرية. أي حاجز ينصبه الذين يجعلون الكفر قاعدة التفكير؟! فإذا أراد الداعية الإسلامي أن يقف ليقول إنّي أريد أن أدعو إلى الله، وقفوا بينه وبين ذلك. المسلمون لا يجاملون أحداً في هذا المجال إنّهم ليسوا عدوانيين {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}، المسلمون لا يتنازلون عن مواقفهم، إنّهم يقولون للكفّار إنّ بيننا وبينكم قضية، نحن نتّخذ فيها موقفاً ولسنا مستعدّين أن نتنازل عن هذا الموقف، صفتنا مسلمون ونحن نؤكّد هذه الصفة، فإذا أردتم أن تعادونا وإذا أردتم أن تقاتلونا وإذا أردتم أن تقفوا بيننا وبين حريّتنا في الدعوة إلى الإسلام، وفي العمل في سبيله، فلن نكون ضعفاء، قد نرحم الجانب الإنساني في الحياة، ولكن عندما يراد لهذا الجانب أن يقمع الإسلام ويحبسه ويسجنه ويحاصره، فالشدّة هي أسلوبنا، وهذا يجب أن تأخذوا منه معنى.
أيُّها الأخوة، كشباب يلتزم خطّ الله وخطّ رسوله، مسألة أن يكون موقفك موقفاً إسلامياً واضحاً ملتزماً في مقابل الذين يريدون أن يؤكّدوا الكفر في مجتمع الإسلاميين، لا مجاملة في هذا المجال، قل {فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وعلينا أن لا نتنازل عن أيّ شيء أن نحترم صفتنا الإسلامية وأن نحترم حريّة الإسلام في أن يدعو الناس إليه، وحريّة المسلمين في أن ينطلقوا في خطّ الإسلام، وإذا أراد الآخرون منّا أن ننسحب فعلينا أن لا نفعل ذلك، وإذا أرادوا منّا المواجهة فعلينا أن نواجه، ليس من الضروري أن نواجه بالبندقية، لكن إذا واجَهَنا الناس بالفكر فسنواجه بالفكر من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسياسة فَسَنُواجههم بالسياسة من موقف قوّة، وإذا واجهونا بالسلاح فسنجرّب أن نواجه بالسلاح من موقف قوّة، نحن نتحدّث إلى الناس باللّغة التي يتحدّثون فيها معنا، لا نتحدّث بلغة السيف لقد قال الله: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ولكن إذا جرّد الناس السيف علينا، فقد نستطيع أن نجرّد الكثير من السيوف ضدّهم. هذا ما يجب أن نفكِّر فيه.
نحن مسلمون فقط
إنّي أحبّ أن أؤكّد للمرّة الألف، أن لا تتركوا صفتكم الإسلامية بكلّ معناها، لا تأخذوا من الإسلام جانباً، لتبحثوا عن صفات أخرى أو تحاولوا أن تستبدلوا بالإسلام صفات أخرى، أبداً كلّ الصفات من ديمقراطية، اشتراكية، وجودية وشعبية، كلّ الصفات نقيسها بالإسلام؛ إذا كانت قريبة للإسلام، فنقول إنّنا مسلمون نتبنّى هذا الشيء، ولا نعطي أنفسنا صفة أخرى؛ وإذا كانت بعيدة عن الإسلام فلا نتبنَّاها كخطّ قد يُلجئنا الظرف إليها كتكتيك، كمرحلة، ولكن كخطّ لا شيء غير الإسلام. سياستنا، اجتماعنا، أمننا، حربنا، سلمنا، علاقتنا مع الآخرين كلّها من خلال الإسلام. وأمّا إذا أخذت شيئاً من غير الإسلام لتدخله في الإسلام، فالله يقول لك، أردت أن تأخذ شيئاً من هذا الاتجاه وشيئاً من ذاك الاتجاه، حتّى يرضى الناس عنك {... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] الله يقول لكم ذلك، والله يسألكم إذا أخذتم بعض الأشياء، لتدخلوها في الإسلام وهي ليست منه، هل الله أَذِنَ لكم، هل أخذتم إذناً من الله في ذلك؟ أم على الله تفترون، أم أنّك تكذب على الله؟ ومَن كذب على الله فليتبوّأ مقعده من النار، وإذا أردت أن يرضى عنك الناس بحجّة أنّ مجتمعنا يضمّ اليهود والنصارى وفئات متنوّعة، ممّا يتطلّب القيام ببعض الأعمال حتّى يرضوا عنّا، إنَّ الله يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] لا هدى غيره.
لماذا لا يرضون عنك؟ السبب أنّهم مخلصون لملّتهم، ومن مقتضى إخلاصهم أن لا يرضوا على أحد حتى يصير منهم.
لماذا تبدأ بتقديم التنازلات مباشرة ولا تتمسّك بمبدئك؟ إنَّ اليهود ومنذ أن أُنشئت دولتهم، وبعد حرب 1967، وهم يقولون نريد مفاوضات مباشرة مع العرب، فيما الردّ العربي لا صلح ولا اعتراف. لكن سرعان ما تنازل العرب واستمرّ اليهود متمسّكين بمواقفهم.
اليهود لم يغيّروا كلمة ممّا أرادوه من خلال مصلحتهم اليهودية، ونحن غيَّرنا الكثير لأنّنا لم نأخذ الإسلام عنواناً لكلّ واقعنا السياسي: إذاً أيُّها الأحبّة نحن مسلمون فقط، ونحن مسلمون ومن إسلامنا نقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} [آل عمران: 64] ومن إسلامنا نقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى...} [المائدة: 82].
الانفتاح على النصارى
من إسلامنا نقول للنصارى: نحن ننفتح عليكم إذا لم تكونوا عدوانيّين {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...} [العنكبوت: 46] إذا لم تظلمونا، إذا لم تحتلوا فلسطين، إذا لم تعملوا على أساس أن تكونوا في لبنان قوّة عنصرية تهيمن على المسلمين وتستغلّهم وتسيطر على حقوقهم. نحن نتكلّم معكم بالتي هي أحسن، ونتحاور بالتي هي أحسن، ونتعايش معكم بالتي هي أقوم، ليست عندنا مشكلة. لهذا حتّى عندما تريدون أن تتحدّثوا عن التعايش تحدَّثوا بمنطق القرآن، وحتّى إذا أردتم أن تتحدَّثوا على أساس الحوار مع كلّ الناس تحدَّثوا بمنطق القرآن، هكذا حاوَرَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المشركين وحاوَرَ الكافرين، وحاوَرَ اليهود، وحاوَرَ النصارى، وحاوَرَ كلّ الناس. رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يكن يعاني عقدة ضعف، لا يخاف من أحد لأنّه واثق بنفسه وواثق برسالته وواثق بربّه، ولهذا لم يَحْتَجْ إلى أن يقاطع أحداً، إلاّ إذا كانت المقاطعة هي السبيل الذي يمكن أن يحمي الرسالة من شرّ، أو يمكن أن يوجّهها إلى خير.
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] كونوا الأشدّاء على الآخرين، لا على أساس أن تكون شدّتكم عدوانية، ولكن على أساس أن تكون شدّتكم التزاماً بالموقف، والتزاماً بالدفاع عن الموقف، والالتزام بتأكيد حريّة المسلمين في أن يكون لهم الساحة التي يستطيعون من خلالها أن يكون لهم حقّ الدعوة كما يأخذ الآخرون لأنفسهم هذا الحقّ.
مجتمع الرحمة
إذا اقتربنا نحو المجتمع الرسالي الداخلي فكيف هي علاقاتنا {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وتواصوا بالحقّ، وتواصوا بالرّحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ...} [آل عمران: 159] رحماء: يرحم كلّ إنسان الآخر، فيعينه على قضاء حاجته. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر فيعطيه ممّا أعطاه الله. يرحم كلّ واحد منكم الآخر فيعفو عن أخطائه إذا أخطأ معه. يرحم كلّ واحدٍ منهم الآخر، فيدرس ظروفه من أجل أن يرحم ضغط ظروفه عليه؛ أن تشعر أنّ المسلم أخوك وأنّ عليك أن ترحم كلّ مسلم كما يرحم الأخ أخاه، لأنَّ الله هو الذي ربط بينك وبين المسلمين برباط الأخوة وما يربطه الله لا يمكن أن يحلّه أحد. عندما تكون مؤمناً ويكون الآخر مؤمناً، تكون مسلماً ويكون الآخر مسلماً، فإنَّ الله قال لك هذا أخوك، لو تنازعت معه يبقى أخاك ما دمت مؤمناً وهو مؤمن، تقاتلت معه يبقى أخاك ما دام الإيمان في قلبك والإيمان في قلبه وإنْ كنتَ قد تخطئ في بعض تفاصيل الإيمان أو يخطئ في بعض هذه التفاصيل. أن تكون هناك رحمة في داخل المجتمع، هذا ما يريده الله أن يكون صفة المجتمع الإسلامي.

طبيعة المجتمع اليهودي
الله حدَّثنا عن مجتمع اليهود، عندما كان اليهود في المدينة في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {... بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...} [الحشر: 14] إذا حدثت الحرب أو وقع نزاعٌ داخل المجتمع اليهودي فإنّه سيكون أقسى ممّا يمكن لك أن تتصوَّره، فمن الصعب أن تدخل بينهم بالصلح فإذا طرحت مسألة الصلح بينهم ثاروا في وجهك، وأطلقوا الشعارات الكبيرة في وجهك، وأثاروا الناس حولك. هكذا كان اليهود {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} لو تقاتلوا مع غيرهم فمن الممكن أن يتصالحوا معهم، لكن لو تقاتل بعضهم مع بعض فمن الصعب أن يصلحهم أحد. مجتمعون في ساحاتهم، ولكن قلوبهم شتّى، لكلّ قلب اتّجاه ولكلّ قلب موقف ولكن يبدو أنّ القصّة انقلبت، عندما كان المسلمون أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم انتصروا على اليهود، وعندما صار اليهود أشدّاء على المسلمين رحماء بينهم انتصروا على المسلمين، لأنَّ الانتصار والانكسار لا يأتي من السماء كهبة، ليقول الله لك كنْ منتصراً، أو ليقول الله لإنسان كنْ منهزماً. للانتصار أسبابه، وللهزيمة أسبابها، ولهذا قال الله {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ...} [محمّد: 7] تنصرون الله بأن تأخذوا بتعاليم الله، وأن يكون مجتمعكم المجتمع الذي يرضاه الله، وأن تكون صفاتكم هي الصفات التي يرضاها الله لكم، لا أن تكون صفاتكم صفات الكافرين وتريدون من الله أن ينصركم نصر المؤمنين، لا يمكن ذلك. لاحظوا {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} عندما تقرؤون القرآن تذكَّروا حديث الإمام الباقر (عليه السلام): "القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ويجري مجرى الليل والنهار"(1) يعني كما استفاد الأوّلون من الشمس والقمر، نستفيد منهما نحن أيضاً. كذلك القرآن هو نور استفاد منه الأوّلون ونستفيد نحن منه بالدرجة ذاتها. القرآن هو نور ونور لا يزال يتدفَّق. كما كان يتدفَّق هناك فهو يتدفَّق هنا، أقول لنفسي وأقول لكم أيُّها الأحبّة إذا قرأتم القرآن، فلا تدرسوا القرآن في كتب القاموس، ولكن ادرسوه في الحياة، عندما تدرسون حديث القرآن عن مجتمع إسلامي سابق، قولوا لأنفسكم هل نحن صورة هذا المجتمع، وعندما تجدون القرآن يتحدّث عن صورة مجتمع يهودي أو مشرك أو غير ذلك، التفتوا إلى هذا المجتمع هل هي صورته، فإذا استطعتم أن تعرفوا صورتنا الآن وصورة غيرنا الآن، مقارنة بصورتنا في الماضي أو صورة غيرنا في الماضي، أمكننا أن نفهم طبيعة التحرّكات في الواقع، وطبيعة التحرّكات في الموقف.
هشاشة المشاريع الوحدويّة
ينبغي أن نبني شخصيّاتنا على أساس الرحمة. لا تربِّ ولدك على العداوة إذا كان لك عداوة مع إنسان من أقربائك أو من أهل بلدك ولكن ربِّ ولدك على الرحمة، وإذا وجدت القسوة في قلبك فحاول أن تزرع شتلة رحمة في إحدى زوايا هذا القلب، وإذا وجدت المجتمع مجتمع العصبية ومجتمع القسوة فعليك أن تعمل على أن تحوّله إلى أن يكون مجتمع المحبّة، ومجتمع الرسالة وإلاّ فلن تنفعنا ـــ أيُّها الأخوة ـــ لن تنفعنا كلّ المشاريع الوحدوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الجبهوية، ولن تنفعنا كلّ المشاريع الاستعراضية، لن ينفعنا ذلك {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11] مجتمع القساة على بعضهم يفرز المجتمع المتنافر، الذي لا تربط بين أفراده رابطة، ولهذا فإنَّ من الممكن أن يهزمه أيّ واحد. لهذا لنربِّ أنفسنا على الرحمة، ونعتبر أنّ كلّ المشاكل التي تحدث بين المسلمين، سواءً كانوا مختلفين في مذاهبهم، أو في سياساتهم، أو في مصالحهم؛ كلّ النزاعات والخلافات لا بدّ أن تحلّ من موقع الرحمة، لا من موقع القسوة، إلاّ إذا كانت القسوة في بعض الحالات سبيلاً للرحمة. كما تقطع في بعض الحالات يدك، لأنّك لو لم تقطعها لاستشرى السمّ أو المرض إلى بقيّة أجزاء جسمك. ففي هذه الحالة إنّك ترحم جسدك عندما تقطع يدك. وتلك أمور علينا أن لا نستعجل قرارها. أو الحكم فيها، لأنَّ نوازعنا الذاتية قد تهيّئ لنا أنّ هناك حالة ميؤوساً منها، وهي ليست محلّ يأس، لكنّ سرعتنا في اتّخاذ القرار قد توحي إلينا بذلك. لا بدّ أن نظلّ نفحص. حتّى إذا وجد عندنا احتمال واحد وفرصة واحدة علينا أن نتابع ذلك كلّه، وهذا أمر يحتاج إلى معاناة كثيرة، وإلى تعب كثير، حتّى نكون مثل أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} في كلّ الدوائر الإسلامية الواسعة، أو في الدوائر الإسلامية الضيّقة، في كلّ دائرة لا بدّ أن نعيش الرحمة، أن نحرِّك الرحمة لتكون خطّاً سياسياً وخطّاً فكرياً، وخطّاً اجتماعياً، حتّى إذا تحرّك الناس من موقع الرحمة يمكن لهم أن ينفذوا إلى قلوب بعضهم البعض، وإلى عقول بعضهم البعض، وإلى حياة بعضهم البعض، لهذا لنكفّ عن كلمات البغضاء والحقد والعداوة، لنحوِّلها إلى كلمات محبّة وصداقة وخير، حتّى نلتقي على الرحمة بين يديّ الرحمن الرحيم.
الخضوع لله شرط تحقيق العزّة
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً...} [الفتح : 29] هذه الحالة، روحية الصلاة بين يديّ الله هي الشرط، لكي تعرف كيف يعيش بين الناس. إذا ركعت لله بقلبك وجسدك وإذا سجدت لله بروحك وجبهتك، فإنَّ معنى ذلك أن تقول لله يا ربّ إنّي أركع بين يديك، لن أرفع رأسي أمامك، كما يرفع الناس رؤوسهم أمام بعضهم البعض ليؤكّدوا ذاتهم، ليس لي يا ربّ ذات أمامك، ذاتي صدى لإرادتك وظلّ لوجودك. إنّي أركع لأعبِّر لكَ عن كلّ خضوعي، أنا العبد الخاضع، مرني أطِعك يا ربّي بكلّ ما تأمرني، لو قلت لي ارمِ نفسك من شاهق فإنّه واجب، لا بدّ لي أن لا أفكِّر في طبيعته ولكن أفكّر في أنّه طاعة لك، وسأسجد يا ربّ، يسجد لكَ وجهي ويداي ورجلاي وكلّ جسمي، كلّها تسجد بين يديك، لتقول لك الجبهة: يا ربّ إنّي أرفع جبهتي أمام الناس الذين ترتفع جباههم أمامي لأُحقِّق العزّة، ولكن أمامك، يا مَن بيده ناصيتي، أنتظر تنفيذ أمرك، يداي تنتظران أنْ تتحرَّكا في سبيلك.
{رُكَّعاً سُجَّداً...} من موقع ركوعهم وخضوعهم لله، كانوا الأقوياء في مواجهة كلّ الشرك وكلّ الكفر وكلّ الظلم؛ ومن خلال سجودهم لله، كانوا الأعداء أمام الآخرين "إذا أراد بك عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله"(1)، وهكذا كانوا رُكَّعاً سُجَّداً. اللّيل ليل المناجاة، اللّيل ليل الابتهالات، اللّيل ليل الصلوات؛ أمّا النهار فعلماء حلماء، أمّا النَّهار فأبطال مجاهدون، أمّا النهار فالموقف الذي يتحرّك من موقع الحريّة والعدالة والعزّة والكرامة. أن يقف الإنسان ليقول كما يقول الله {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] الجانب الروحي أيُّها الأحبّاء أساسي. اسهروا في تنمية إسلامكم، ليكون إسلامكم ينبوع روحانية، وينبوع خوف من الله، وينبوع محبّة لله. أن تجلس بين يديّ الله، لتدمع عينك من خشية الله، ولينبض قلبك بخوف الله ومحبّته، ولتعيش لتجعل كلّ حياتك لله {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163] بذلك تكون قد بعت نفسك لله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...} [التوبة: 111].
الله أقرب إليك من الجميع
أيُّها الأخوة أتعرفون سرّ قوّة عليّ (عليه السلام)، الذي كان لا ينهزم، كرَّار غير فرَّار، لأنّه كان يحبّ الله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويحبّه الله ورسوله؛ عليّ (عليه السلام) الذي باع نفسه لله فنزلت فيه هذه الآية ـــ في ما يُروى ـــ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ...} [البقرة: 207] يبيع نفسه، يشتري نفسه للجنّة، ويبيع نفسه لله، ولهذا كانت كلّ كلمات عليّ (عليه السلام) تتحرّك من خلال الله، حتّى إذا أراد أن يغمض عينيه كانت كلماته "بسم الله وبالله وعلى ملَّةِ رسول الله". اسهروا أيُّها الأحبّة، أيّها الشباب، اسهروا على أساس أن تُعمِّقوا في أنفسكم محبّة الله، أحبُّوا الله أكثر من آبائكم وأُمّهاتكم وإخوانكم وأصدقائكم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ...} [البقرة: 165] تلك هي المسألة أن تحبّ الله أكثر ممّا تحبّ كلّ الناس مهما قرُبَ الناس إليك، لأنَّ أيّ إنسان يقرب منك، فالله أقرب إليك منه ولو كان أباك أو أمّك. أبوك كان سبباً في ولادتك، كانت نطفتك منه، وأُمّك كانت سبباً في ولادتك، كان رحمها وعاءً لك، لكن مَن الذي أودع الحياة في النطفة، ومَن الذي أودع أجواء الحياة في الرحم، ومَن الذي أرسل لك الغذاء وأنتَ في رحم أُمّك، ومَن الذي أودع سرّ النمو في النطفة والعلقة والمضغة، ومَن صوَّرك فأحسن صورتك، ومَن الذي تكفَّل لك برزقك، ومَن الذي يحييك ويميتك، ويدبّرك ويبعثك من جديد؟ ما قيمة كلّ الناس؟ الله أقرب إليك من كلّ الناس، فإذا أحببت أباك لأنّه كان حركة في وجودك، فأحبّ الله لأنّه كان السرّ في وجودك. وهكذا عليك أن تحبّ الله وهذا هو الشرط لأنْ تكون قويّاً، وهذا هو الشرط لأنْ تكون صلباً، وهذا هو الشرط لأن تكون ثابت القدم. رسول الله إنّما كان {... يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...} [التوبة: 40] لأنّه كان يفكّر بالله، عندما كان الخوف يحاول أن يزحف إلى شخصيّته، وعندما فكَّر بالله كان قوياً وعرف أنّ رعاية الله سبحانه وتعالى ترافقه في كلّ مكان. كانوا الرُكَّع السُجَّد وبذلك حصلوا على روحية القوّة التي هيّأت لهم الانتصار. فكونوا الرُكَّع السُجَّد، ليطَّلع الله عليكم ليرى صدق ركوعكم في قلوبكم التي تركع له، وصِدْق سجودكم في سجود قلوبكم التي تسجد له.
{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} يبتغون فضلاً من الله، قلوبهم معلَّقة بالله، عندما يتطلَّعون إلى الحياة ويفكّرون في الرزق، ويفكّرون في الصحّة، ويفكّرون في الأمن، ويفكّرون في كلّ شيء، فإنّهم يطلبون ذلك من الله {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} والفضل من الله يعني كلّ النِّعَم التي تحيط بالإنسان في الحياة، يعني ما تأكله وما تشربه وما تلبسه وما تجلس عليه. الصحّة في الأمن والرزق كلّه فضلٌ من الله، ولهذا فقيمتهم تكمن في أنّ حاجاتهم معلّقة بالله، وليس معنى أنّ حاجاتهم معلّقة بالله أنّهم لا يعملون ولا يشتغلون، فقد قال الله لهم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] هم يعملون ولكن يعتقدون أنّ الله من وراء عملهم وإنَّ الله أمام عملهم، وإنَّ الله هو الذي يقلِّب القلوب، وهو الذي يحوّل إليه القلوب، وهو الذي يرزق من يرزق، عندما يلهم هذا أن يكون سبباً في رزق ذاك، وعندما يُلهم ذاك أن يكون سبباً في رزق هذا.
المهم رضى الله
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} يريدون أن يعطيهم الله كلّ فضله في حياتهم، وعندما يفكّرون أن يرضى عنهم أحد فإنّهم يفكّرون برضى الله وحده، يطلبون رضوان الله، ليست القيمة عندهم أن يرضى الكبار عنهم أو الصغار، ليست القيمة عندهم أن يرضى الوجهاء والأغنياء والرؤساء، المهم أن يرضى الله عنهم.. قالها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنْ لم يكن منكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(1) المهم أن يرضى الله عنّا. وقال الحسين (عليه السلام) وهو يتلقّى دماء ولده عبد الله الرضيع "هوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(2) وكان هؤلاء المؤمنون عندما يفكّرون بالله قد يردّدون بيتاً قاله ابن هانئ الأندلسي في غير الله ولكنّ المؤمنين يقولونه لله:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينَكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] يريدون رضوان الله، وهذه مرتبة عالية عظيمة صعبة، لا ينالها إلاّ الذين هدى الله وامتحن قلوبهم للإيمان. أن يكون كلّ همّك رضى الله، هذه مهمّة كبيرة ولكن إذا حصلت عليها، فستكون القوي الذي ليس هناك أحد أقوى من موقفه، لأنّك عندما تفكّر أنّك تريد أن تحصل على رضى الله، معنى ذلك لو سبَّك الناس فلن يزلزلوا موقفك، لو اتّهمك الناس بكلّ السوء فلن يغيِّروا خطّك، لو أنّ الناس حشدوا عليك كلّ حقدهم وبغضائهم، فلن يغيِّروا انتماءك إذا كان كلّ ذلك لله؛ ولهذا كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتلقّى الاتّهامات، وكان ينفتح على الله، وكان يتلقّى الضربات وكان يقول "فإنْ لم يكن منك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي"(3) ستكون القويّ في موقفك، لأنَّ كثيرين منّا ـــ أيُّها الأخوة ـــ على كلّ المستويات دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، الكثيرون منّا يتزلزلون لأنّهم يحدّقون بعيون الناس، هل تبرق استحساناً، أو تبرق أزوراراً؟ الكثيرون من الذين يتطلَّعون إلى كلام الناس عنهم بالسوء غيَّروا مواقفهم، وإذا تكلَّم الناس عنهم بالرضى زادوا في مواقفهم، ليتزلَّفوا إلى الناس حتّى لو كانت مواقفهم خطأ.
إنّ الذين يضعفون في مواقفهم، والذين يسقطون في مواقعهم، والذين ينحرفون عن خطّهم هم الذين يفكّرون برضى الناس ولا يفكّرون برضى الله. أمّا الذين لا يخافون في الله لومة لائم فهؤلاء هم الأقوياء، هؤلاء هم الذين يثبتون والجراح تثخنهم، يثبتون والزلازل تهزّ الأرض من تحت أقدامهم، يثبتون وكلمات السبّ والشتم والفحشاء والاتّهام تأتيهم من كلّ جانب، إنّهم يضحكون على كلّ تلك الكلمات، ويرحمون الناس الذين يقولون كلّ تلك الكلمات. لقد سبَّ الناس عليّاً ما يقارب المئة سنة وكان سبّ عليّ (عليه السلام) عبادة، ولكن أين عليّ (عليه السلام) وأين الذين سبّوه؟ لأنَّ علياً كان يقول: "ما تَرَكَ الحقّ لي صديقاً"(1) ولأنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول: "قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهزّ فرصتها مَن لا حريجة لهُ في الدين"(2)، عليَّ الذي لم يساوم، بقي في مشرق الشمس نوراً ينير الحياة كلّها للنّاس. وأمّا غير عليّ فأين هو في التاريخ؟ أين غير عليّ في الواقع كما يقول ذلك الشاعر:
فهذا عليٌّ فوقَ كرسيِّ مجدِهِ يرتِّل آيَ الحمدِ سبعاً مثانيا
وهذا عليٌّ والأهازيج باسمِهِ تشقُّ الفضا العالي فهاتوا معاويا
أعيدوا ابنَ هندٍ، إنْ وجدتم رفاتَهُ رفاةً وإلاّ فانشروها مخازيا
أين عليّ، وأين معاوية؟ أين الحسين وأين يزيد؟ لأنَّ الحسين أيضاً كان مثل أبيه "لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل"(3). قالوا له الكثير وفعلوا معه الكثير. وهكذا كان أصحاب محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين أخلصوا له وأخلصوا للإسلام {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} صورتهم، ملامحهم وعلاماتهم من أثر السجود، هذا الأثر الذي ينطلق من سجود عفوي، لا من تكلُّف، لأنَّ هناك فرقاً حتّى في الملامح بين الملامح التي تنطلق من صنعة، وبين الملامح التي تنطلق من طبيعة، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ} زرعه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الشطء هو فرخ الزرع الذي يأتي إلى جانب الزرع {فَآزَرَهُ} يعني لم يضعفه بل قوَّاه {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}. وفي قراءة يعجب الزارع. وهو رسول الله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} عندما يرون قوّة المسلمين، وإنّ الجيل الجديد يقوّي الجيل القديم، والجيل القديم يقوّي الجيل الجديد، آزره أن يؤازر الجيل الأوّل الجيل الآخر {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح : 29].
الالتزام بالخطّ ومواجهة الاتهامات
تلك هي صورة رسول الله وتلك هي صورة مجتمعه الذي ربَّاه وصنعه، والذي يريد منّا أن نربّي مثله، وأن نصنع مثله: أن نربّي أنفسنا ونربّي الآخرين على هذه الصفات، حتّى نستطيع أن نكون المجتمع الذي يكون قدوة بعمله، أكثر ممّا يكون قدوة بكلامه، كونوا دعاة للنّاس بغير ألسنتكم. وهذا ما يجب ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن نؤكّده، أن نفكّر بأن تكون شخصيّتنا الإسلامية هي كلّ شيء، أنت ابنُ عشيرة، أنتَ ابن بلد، أنت ابن وطن، أنتَ ابن قومية، تلك صفات متعدّدة، ولكن إذا أردت أن تربّي نفسك، ربِّ نفسك على أساس أنّك ابن الإسلام. لتكن أحكام الله هي ما نربّي به شخصيّاتنا، وما نحرِّك به خطواتنا، لأنّ احترام الإنسان لانتمائه يفرض عليه ذلك. قل لنفسك إذا كنتَ مسلماً فعليّ أن أسلم حياتي كلّها لله، وإسلام حياتي لله يتمثّل في أن أسير في ما يحبّ الله أن أسير فيه، وأن أقف حيث يريدني الله أن أقف، وسيحاول الكثيرون كما حاولوا ـــ أيُّها الإخوة ـــ أن يسبغوا عليكم كلمات، قد ترهقكم وقد لا تريحكم وقد ترهق أباءكم وأُمَّهاتكم وأهلكم، فيطلبون منكم أن تتراجعوا ليرضى الناس عنكم. سيقولون عنكم ـــ كما قالوا ـــ إنّكم متخلِّفون، لأنّكم لم تأخذوا بكلّ أسباب الحضارات الغربية. ولا يقصدون أنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع العلم ولكنّهم يقولون إنّكم لم تأخذوا بأسباب الحضارة في مواقع اللّهو. وهكذا سيقولون عنكم إنّكم رجعيون، لأنَّكم لم تكونوا ملحدين حيث يعتبر الإلحاد تقدُّماً، ولم تكونوا ضالّين حيث يعتبر الضلال حضارة، لأنّكم التزمتم بالإسلام لا على أساس أنّه شيء من التاريخ، ولكن لأنّكم التزمتم بالإسلام على أساس أنّه دين من الله، وأنّه يرعى الحياة ليجعلها تتقدَّم، ولكي يعطي الحياة روحانية وواقعية ويعطيها كلّ ما تحتاج إليه من فرص التقدّم.
سيقولون عنكم إنّكم متطرّفون، كما قالوا، على أساس إنّهم أخذوا من الإسلام شيئاً بسيطاً وانسجموا مع كلّ الواقع من حولهم، واسترخوا له. لا يريدون أن يتغيَّر هذا الواقع، لقد ألفوه، ألفوا كلّ حقارته، وألفوا كلّ وضاعته، وألفوا سلبياته، لهذا إذا أردتم أن تغيّروا الواقع قالوا عنكم متطرّفين، ولكن قولوا لهم تعالوا ندرس الإسلام فلا نتجاوز أيّ حكم إسلامي، ناقشونا في الإسلام. إنّ الالتزام بالإسلام ليس تطرُّفاً، لأنّ كلّ دين وكلّ فكر يريد أن يغيّر الواقع هو تطرُّف بالنسبة له، ولكنّه ليس تطرّفاً على أساس ما يراد للحياة، هناك فرق بين أن تكون متطرّفاً لحساب بقاء الأمر الواقع، وأن تكون متطرّفاً على أساس ما تحتاجه الحياة، وعند ذلك لن يكون كلّ التزام إذا سار في الحدود المعقولة، لن يكون متطرّفاً.
حرب أعصاب ضدّ المتديّنين
أيّها الإخوة سيتّهمونكم بكلّ اتّهام، وأحبّ أن أقول لكم: لن يقولوا عنكم ذلك، لأنّهم يعتقدون فيكم هذه الصفات، ولكن الكثيرين منهم يقولون عنكم ذلك ليحاربوكم بالكلمات، لأنّ المخابرات بكلّ أجهزتها، وبكلّ متفرّعاتها، وإنتاجها تعمل على أن تخوض حرب الأعصاب ضدّ كلّ الذين يلتزمون، حتّى لو لم تكن ملتزماً دينياً، وإذا كنتَ ملتزماً ثورياً وكنتَ تقف ضدّ الاستعمار والاستكبار فيمنحونك كلمات أخرى، وأوسمة أخرى تتناسب مع طبيعة الجوّ الذي تعيشه. لهذا فليقولوا ما يقولون، ليس مشكلة. لقد قال الله لرسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـــ وافهموا ما يقوله الله لرسوله، لأنّ الله يريدكم أن تسيروا على خطّ رسوله ـــ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...} هذه الآية معبِّرة جداً لكلّ رسول ولكلّ داعٍ لله وعامل في سبيل الله. كثير من الناس يتضايقون ولسان حالهم يقول: "هذا يسبّني، هذا يشتمني، هذا يقول عنّي إنّني مُتطرّف، هذا يقول إنّي إرهابي، هذا يقول إنّني رجعي هذا كذا وهذا كذا.. كرامتي انداست إنّهم يشتمونني ويسبُّونني ويتّهمونني". كثير من الناس سواءً كان من العلماء أو السياسيين أو غير ذلك يشعر بحسّ الكرامة عندما يواجهه أعداء فكرته ورسالته بالكلمات الجارحة.
إنّنا نقول إنّ النبيّ أيضاً اتّهموه بأنّه ساحر وقالوا: هو كاهن ومجنون، اتّهموه في عقله، كذَّاب. اتّهامات وردت في القرآن قالوا عن القرآن أساطير اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا. لكن انظروا كيف عالَجَ الله المسألة، إذ قال للنبيّ الذي تأثّر كما يتأثّر كلّ الناس {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام : 33] فوراء هذا الاتّهام، هذا العدوان، هذه الكلمات، السباب، الشتائم، لستَ أنتَ المستهدف؛ إنَّ هذه الاتّهامات موجّهة إليَّ، فلماذا أنتَ حزين؟ أنا الذي سأُدبِّر أمرهم لا تغضب أنت ولا تحزن، كذلك إذا كنت داعية لله ووقف الناس ضدّك لأنّك تدعو إلى الله، ولأنّك تقف الموقف الصلب في هذا المجال، لا تنزعج، حتّى لو سبُّوك اعتبر هذه الكلمات وكأنّهم يرمون عليك عطراً.
بعض الشباب يأتون إليَّ قائلين: سامحنا، ولماذا أُسامحكم؟ قالوا: والله ما رفعوا عنّا الضرب والتعذيب حتّى نسبَّك، قلتُ لهم: في المرة الثانية سبُّوا أكثر كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) "سيأمركم بسبّي والبراءة منّي وأمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة (1) الله يعطيني ثواباً، الإمام هكذا يقول: ولكم نجاة" أنتم تتخلَّصون من الضرب والعذاب. نحن نقول كلام الإمام عليّ (عليه السلام) المسألة أنّه عندما تُسب وتُشتم وتُتّهم، القصّة لست موجّهة لك. أنا عندي كرامة، أنا ابن فلان، وأنا ابن العشيرة الفلانية، كيف أسبّ، كيف أُتّهم، كيف هذا؟ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} ثمّ الله يقول للنبيّ لماذا تغضب؟ لستَ أوّل واحد أنت {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
كلّ الكلام يذهب في الهواء، ضغط الكلمات لا يزلزل مواقفي. هناك حديث يقول ما معناه: إنَّ اللعنة إذا خرجت من فم صاحبها تتردَّد فإذا رأت المستهدف يستحقّها التصقت به وإلاّ رجعت إلى صاحبها لتلعنه.
فإذا كنتم تعتقدون أَنّ ما يقال عنكم ليس منكم، أقول للمسلمين الملتزمين في أيّ مكان في العالم، فليلعنوكم فليسبّوكم، فليشتموكم، فليتّهموكم. إنَّ اللعنة إذا خرجت من أفواه هؤلاء ستقف في نصف الطريق فإذا كان الإنسان التي توجَّه إليه اللعنة لا يستحقّها فإنّها سترتد إلى صاحبها. هذه القضايا عليكم أن تعايشوا أنفسكم فيها، حتّى لا تشعروا بضغط يضغط على مواقفكم، لهذا نحن نشعر كإسلاميين نلتزم الخطّ الإسلامي على الرغم من كلّ الكلمات التي تُقال نشعر بالثقة، ونشعر بالقوّة ونشعر بالصفاء ونشعر بالروحية الواثقة بربّها، ومن خلال ثقتها بربّها تثق بنفسها.
نحن نعتبر أنّ الإسلام أمانة الله في أعناقنا ولن نغيِّر ذلك. نريد أن نكون انطلاقاً من قول الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] نريد أن نكون كذلك أنْ لا نبدِّل، ولا نغيِّر. نريد أن نقول لكلّ الناس المتردّدين، الذين يغلِّفون كلماتهم ومواقفهم وأوضاعهم بأيّ شيء، لو كان رسول الله الآن حاضراً فكيف تكون دعوته، كيف؟ هل يدعو إلى غير ما يدعو إليه القرآن، وهل يتحدَّث بغير أحكام الله؟ إذا كان رسول الله كذلك فهو قدوتنا في ذلك، فكما قال ذلك الصحابي الذي قيل له وهو يعالج جراحاته في أُحُد: إنَّ رسول الله قد قُتِل. قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1) فتعالوا نُقاتِل على ما قاتَلَ عليه محمد ونسير على ما سار عليه محمد.
أحفادنا ومواجهة "إسرائيل"
نحن في ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نريد أن نؤكّد الأمانة التي حمَّلنا إيَّاها رسول الله، لنكون المسلمين لا الطائفيين، لنكون المسلمين المنفتحين على كلّ الناس من موقع العدالة التي لا تفرّق بين إنسانٍ وآخر، ومن موقع الحريّة التي لا تريد أن تفرّق بين إنسانٍ وآخر في رضى الله سبحانه وتعالى. على هذا الأساس نؤكّد موقفنا هنا في لبنان وفي المنطقة، نؤكّد موقفنا كإسلاميين نقف ضدّ الاستكبار بكلّ امتيازاته، وبكلّ رموزه، سواءً كان استكباراً عالمياً أو إقليمياً أو محليّاً، لأنَّ الله أرادنا أن نقف ضدّ المستكبرين، لنمنعهم من استضعاف المستضعفين، قد لا تكون لنا القوّة الآن ولكنّنا نحرّك قوّتنا كما حرَّك صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعض قوّتهم عندما كانوا في مكّة ثمّ في المدينة. سنحاول أن نحرّك قوّتنا وأن نستزيد قوّة من الله سبحانه وتعالى ومن خلال الجهد الذي وجَّهنا الله في اتّجاهه. ونحن سوف نقف أيضاً ضدّ الصهيوني. نحن نريد أن نظلّ الفئة التي تعمل، لتكون في حجم الأُمّة لنواجه إسرائيل ونربّي أولادنا على ذلك، ونربّي أحفادنا على ذلك، حتى تزول إسرائيل ولو بعد مئة سنة. ونستعمل الأسلوب الإسرائيلي نفسه، لقد قرَّروا أن يأتوا إلى فلسطين، وخطَّطوا وعاشوا في حجم المستقبل، ووصلوا وربّما يصلون من خلال دقّة تخطيطهم وعفويّة ارتجالنا، ربّما يصلون بعد ذلك إلى أن يستقطبوا المنطقة، حسب ما يفكِّرون، نحن لا تهزمنا زوايا الزمن ولا زوايا الواقع.
إنَّنا نقول لكلّ الذين يقفون حاجزاً بين المجاهدين وبين جهادهم، سواءً كان ذلك في فلسطين، أو في لبنان، أو في الأردن، وفي أيّ بلدٍ آخر لهؤلاء نقول: إنّكم عندما تسقطون موقف الجهاد سترتاحون، ولكنّ إسرائيل التي تفكّر أنْ تتغدّى بالمجاهدين الآن، سوف تفكّر أن تتعشّى بالذين يجلسون مسترخين فتجعلهم لقمة ثانية، لا تفكِّروا إنّكم سترتاحون، ادرسوا كيف تخطّط إسرائيل لأنْ تكون قوّة عظمى، وادرسوا كيف تفكّر إسرائيل في أن تجعل كلّ مجتمعها مجتمع حرب، في الوقت الذي يتحرّك فيه كلّ الساسة عندنا، سواءً كانوا في المستويات القيادية العليا، أو في المستويات الدنيا، أو سواءً كان ذلك في خطّ الأجواء الدينية، أو السياسية، أو الاجتماعية للدعوة إلى السلم وإلى عدم العنف، وإلى ترك فكرة الحرب وبذلك يقفون ضدّ كلّ مجاهد. هؤلاء الذين يفكِّرون بهذه الطريقة يريدون لمجتمعهم أن يكون مجتمع الهزيمة.
إنَّ إسرائيل لا تزال تخطّط وتتدرَّب ولا تزال تشتري أحدث الأسلحة، وتصنع أحدثها، ولا تزال توجه أميركا كي لا تبيع أيّ سلاح للمنطقة، إلاّ إذا كان هذا السلاح لا يضرّ إسرائيل. إنّهم يفكّرون بهذه الطريقة: لماذا كلّ الأسلحة التي باعتها أميركا وغير أميركا من الدول الغربية اشترط عليها بالسرّ أو العلن أن لا تُقاتل بها إسرائيل، على الرغم من كلّ الكلمات التي تُثار في هذا المجال؟ عندما تخطِّط إسرائيل لتبني جيشاً في مستوى تواجه فيه المنطقة، وتبني أيضاً قوّة عسكرية من أجل أن تواجه كلّ قوّة المنطقة، فلماذا تفعل ذلك؟ هل تريد إسرائيل أن تحارب روسيا، أم تريد أن تحارب أميركا؟ إنّها تريد أن تسيطر علينا، لا خيار لنا، أنا أحبّ لكلّ الإخوة أن يفكِّروا بهذه الطريقة، إنَّ إسرائيل سوف تأتي وتخرجكم من بيوتكم إذا ارتاحت واستقرّت. نحن نعرف أنّ المجاهدين الذين يجاهدون ويضحُّون بأنفسهم، إنَّ هؤلاء المجاهدين لا يستطيعون أن يرجعوا فلسطين وربّما لا يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل من الجنوب، لكنّهم يربكون كلّ خطط إسرائيل.
بين حريّة الجنوب وأمنه
قبل بدء أحداث الجنوب، كان جيش لحد قد تعرَّض لضعف كبير ولكنَّ أحداث الجنوب التي فرَّقت الناس بعضهم عن بعض، وأضعفت المواقف، هي التي جعلت جيش لحد يشرب حليب السباع. لهذا نحن نقول لكلّ الناس، ولكلّ الإخوة الذين لا يزالون يطرحون مسألة قتال إسرائيل، نقول لهم: لا تستغرقوا في الخلافات الداخلية، لقد قلناها مراراً، ليست المسألة هي مَن يتولّى أمن الجنوب، ولكنَّ المسألة مَن سيتولّى حريّة الجنوب أمام إسرائيل. يمكن أن يقوم بالأمن كلّ شخص يمكن أن يتّفق على مسألة الأمن للنّاس، وضمان أمن الناس، ليست مشكلة. لكن علينا أن نفكِّر إنّ إسرائيل تريد الجنوب كلّه، وإنّها تريد أن تهزم روحنا قبل أن تهزم مواقعنا. لهذا أريد لكلّ الناس الذين يعيشون في الجنوب أو الذين يعيشون هنا، الذين يتحمّلون المسؤولية، إنّنا نريد منهم أنْ لا يلعبوا بالنار.
كلّ المناصب لا تهمّنا
إنَّنا نتوجَّه إلى كلّ الفعاليات في هذا المجال، لنقول لهم ما قلناه أكثر من مرّة على الرغم من كلّ الكلمات السيّئة التي تلقيناها، ولا نزال نتلقَّاها، على الرغم من كلّ الاتّهامات الكاذبة التي تلقيناها ولا نزال نتلقَّاها، ولكن ليعرفوا وأقولها لكلّ الناس، سبُّوا ما شئتم، اتّهموا ما شئتم، فإنّا سائرون. كلّ المناصب على مستوى الطائفة والوطن لا تمثّل عندنا شيئاً، سنظلّ نقول كلمة الحقّ حتّى لو رَجَمَنا الناس بالحجارة، نقول لجميع الفعاليات إنَّ الذين لا يريدون للنار أن تنطفئ، لأنّهم يحبُّون للنار أن تحرق بعض الناس ليكونوا بمنجاة منها. بكلّ محبّة أقول لكلّ الفعاليات إذا لم نتعاون على أن نطفئ النار فستحرق النار الجميع وستحرق الذين يوقدونها والذين يعملون على إشعالها، كفانا ما عشناه من الفتنة. كفانا ما عشناه من فتنة الجنوب المأساة، ومن فتنة الضاحية المأساة، كفانا ذلك لقد خطَّطتم للقاء كلّ الذين قاتلتموهم وقاتلوكم فلماذا لا تلتقون مع إخوتكم وأهلكم؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية