رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة في حركة الدعوة

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة في حركة الدعوة

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة في حركة الدعوة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيّه محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34] ويقول سبحانه وتعالى أيضاً {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144].
في الثامن والعشرين من شهر صفر كانت وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي رواية مشهورة، أنّ الله عندما خيَّره بين أن يعطيه الدنيا بكلّ ما يريد منها، وبين أن يختار لقاء الله، اختار لقاءه. ونحن عندما نستقبل ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم وفاته، كما نستقبلها في يوم ولادته، أو في يوم مبعثه وإسرائه، لا نريد أن نتوقّف عند المناسبة، فرسول الله بشر كبقيّة البشر، يولَد كما يولَد الناس من خلال أسباب الولادة، ويموت كما يموت الناس من خلال أسباب الموت، وهو رسول الله يُبعث كما يُبعث بقيّة الرسل، ويحيطه بكرامته، ويبيّن الله من خلاله آياته في إسرائه ومعراجه، كما يكرّم بقية الرسل أشياء أخرى، ولكنّنا نريد أن نتوقّف عند كلّ ذكرى من الذكريات التي تربطنا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، في حركة الزمن في الماضي وفي تذكيرنا له في الحاضر، لننفذ إلى حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإلى شخصيّته، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتميَّز بأنّه الشريعة المتجسّدة، إذا عرفت شيئاً منها عرفت حكمك الشرعي، وعرفت خطّ الإسلام والحقيقة الإسلامية.
قد يكون من المفروض علينا أن نقرأ تاريخ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لنرى في شخصية رسول الله كلّ البرنامج الأخلاقي الذي أراد الله، من خلال كتابه، أن يجعله برنامجاً للناس في الحياة كلّها. وقد سئلت إحدى زوجاته عنه كيف خلقه، أجابت: أوجز أو أطنب، قالوا: أوجزي، قالت: اقرؤوا القرآن تعرفوا أخلاق رسول الله، لأنَّ خُلُقه كان القرآن.
الارتباط بمحمّد الرسول لا الشخص
لقد مثَّل رسول الله القدوة والأسوة، ولهذا فإنَّ الله أراد من الناس أن يستمعوا من الرسول ما يبلّغهم، وأراد لهم أن يتبعوه في ما يرونه في سلوكه وسيرته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]. ولكن هذا الرسول العظيم في كلّ ما للعظمة من معنى، والذي تحدَّث الله عن عظمته في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
قال الله له آية أخرى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] لأنَّ سُنّة الله كذلك، وقال له مرّة ثانية وهو يحدِّثه عن هؤلاء الذين كانوا يتمنّون موته {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34]. والنقطة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّدها في حياتنا، وهي أنّ دور الشخص مهما كان عظيماً في حياتنا لا يعني أنّنا نسقط إذا غاب، فهو يعيش في حياتنا ليعلِّمنا وليكون قدوتنا، ليقودنا وليترك لنا نهجه وفكره ورسالته، فإذا كان فكره حقّاً وصواباً فإنّنا نترك شخصه إذا غاب عنّا ونلتزم فكره.
في الإسلام لا تعصّب للشخص، ولكنّ الالتزام بالفكر والرسالة. أيّ شخص أعظم لدى المسلمين من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومع ذلك قال الله للمسلمين {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران : 144]، فهو رسول، دوره أن يعطيكم رسالة الله لتأخذوها ولتعملوا بها ولتمتدّوا بها جيلاً بعد جيل ولتحفظوها أمانة في أعناقكم، يسلّمها كلّ جيل إلى الجيل الذي يأتي من بعده، {أَفَإِن مِّتَّ} الرسول بطريقة طبيعية أو قتل، كما قيل عنه في وقعة أُحُد التي نزلت الآية بعدها {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران : 144] إنَّ موت الرسول لا يعني موت الرسالة، الرسول مرحلة انطلاق الرسالة بكلّ حيويّتها وقوّتها وإخلاصها، ثمّ تبقى الرسالة ويبقى لنا من الرسول الانتماء إلى رسالته، والالتزام بخطّه ومنهجه لأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] ونبقى معه لأنّه لا يخطئ؛ فهو المعصوم في رسالته، نبقى مع رسالته كما قال ذلك المؤمن الذي قيل له في معركة أُحُد: إنَّ محمّداً قد مات وقد قتل. واهتزَّ بعض الناس وأرادوا أن يرجعوا إلى أبي سفيان، ليأخذوا منه الأمان فنادى: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لم يمت"(1) فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه محمّد لأنَّ رسالة محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا تزال موجودة.
بين الالتزام بخطّ المعصوم وغيره
إنَّ الفكرة التي نأخذها في هذا المجال، هي أن نرتبط بالرسالة لا بالشخص؛ فإذا كان الشخص معصوماً، فنرتبط به جملةً وتفصيلاً ونظلّ معه ما امتدَّ الزمن بنا، لأنّه سيبقى يمثّل الحقّ على مدى الزمن، ولكن إذا كان الشخص الذي نرتبط به في مستوى القيادة، مهما كان شخصه، فإنَّ علينا أن نتذكّره لنتذكّر إيجابيّاته، لتبقى لنا إيجابيّاته، أمّا فكره وخطّه ونهجه فعلينا أن نظلّ في مراقبة له، لأنَّ الشخص غير المعصوم قد يسير في منهج يكون حقّاً في وقت محدود، فإذا تجاوز الوقت صارت الحاجة إلى شيء أكبر من ذلك. إنَّ الشخص غير المعصوم، حتّى لو كان من أعظم العباقرة، هو شخص ينطلق فكره من تجربته ومن ثقافته ومن الظروف المحيطة به، ولذا فإنَّ علينا أن لا نتعصَّب لفكر شخصٍ غير معصوم، بل نظلّ نناقش فكره فإذا تبيّن لنا أنّ فكره يمثّل الحقيقة فنلتزم بالحقيقة من خلاله، ولا نلتزم به؛ وإذا كان فكره قاصراً عن التقاط الحقيقة، فإنَّ علينا أن نعتبر إنَّ الزمن قد تجاوز فكره، أو أنّ التجربة قد أثبتت خطأ فكره، فقد كان معذوراً في ما يفكِّر، ونحن معذورون في أن نتجاوز هذا التفكير. لهذا سواءً كنتم تنطلقون من حالة فردية أو حالة جماعية للارتباط بقيادة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، فإذا لم تكن القيادة معصومة، فعليكم أن لا تتعصَّبوا لفكرها ولخطّها، إلاّ إذا ثبت عندكم من خلال ما تلتزمون به من رسالة، إنَّ فكرها يمثّل الحقيقة، وبهذا لا نتحوّل إلى متعصّبين في ما يتعصَّب به الناس للأشخاص، وما يتقاتل فيه الناس على أساس الأشخاص، وما يلتزم به الناس الأشخاص.
لقد أراد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلِّم الناس الحقّ من خلال سلوكه فلم يُرد أن يربط الناس به ولكنّه كان يربط الناس برسالته، وأراد منهم أن يحاسبوه ويراقبوه على أساس رسالته وانسجامه مع الرسالة، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول لنا أيُّها المسلمون، ستعيشون في مجتمعاتكم غداً، وفي ما تستقبلون من القرون، مع قيادات تفرض نفسها عليكم، أو قد تفرضها الظروف عليكم، أو قد تفرضونها أنتم على أنفسكم، ولكن لا تنطلقوا مع القيادة من خلال ذاتيّاتها ولكن انطلقوا معها من خلال رساليّتها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّه في اليوم الذي توفّي فيه قال للناس: "أيُّها الناس إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء" (لا أحد يقدر أن يمسك عليَّ شيئاً)، أنا في آخر يوم من حياتي، والتاريخ الذي عشته معكم فترة ثلاثة وعشرين سنة منذ بعثني الله رسولاً إلى أن يقبضني الله إليه، كلّ هذا التاريخ أريدكم أن تراجعوه في كلامي وأفعالي وفي علاقاتي وفي أوضاع الحرب والسلم وأوضاعي العائلية، وقضاياي الشخصية، هذا التاريخ ادرسوه جيّداً "إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء، إنّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلَّ الله وما حرّمت إلاّ ما حرَّم الله" وفي رواية "إنّي ما أحللت إلاّ ما أحلَّ القرآن وما حرَّمت إلاّ ما حرَّم القرآن".
إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يطلب من المسلمين أن يحاسبوه على أساس القرآن، وعلى أساس حلال الله وحرامه، وهو ليس مسؤولاً أمام المسلمين، بل مسؤولٌ أمام الله، ولكنّه أراد أن يرشد المسلمين وأن يعلّمهم بأنّ قضية الالتزام بالقيادة لا بدّ أن تكون من خلال دراسة سلوك القيادة، على أساس خطّ الرسالة ومنهجها، حتّى لا يتعبَّد الناس للقائد وللمسؤول، بل يبقى المسؤولون كلّهم، حتّى لو كانوا أنبياء وأئمّة، خاضعين للخطّ الذي خطَّه الله للنّاس في الحياة؛ إنَّ الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء كلّهم خاضعون لرسالة الله، فالنبيّ مكلّف أن يصلّي ويصوم ويعدل بين الناس، كما أنت مكلَّف أن تصلّي وتصوم وتعدل بين الناس، وهكذا مهما كانت عظمته كبيرة، فعظمته أنّه يطيع الله.
رسول الله وحقوق الناس
هذا من جهة، أمّا من الجهة الثانية، نلاحظ أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يريد أن يعلِّم الناس، إذا أقبل عليهم الموت أو عاشوا هاجسه في أنفسهم، أن يفكِّروا كيف يقدمون على الله ولا حقَّ لأحد عليهم في ما للنّاس من حقوق على بعضهم البعض، ولا حقّ لله عليهم في ما لله من حقوق على عباده. عندما تفكّر بالموت لا يسبق إلى فكرك كيف تؤمِّن أطفالك، لأنَّ الله خلق أطفالك، كما خلقك، وهو يرزقهم كما يرزقك، ويؤمِّنهم كما أمَّنك، لا تفكّر بعقاراتك كيف تديرها، لكن فكِّر بنفسك كيف تخلّصها. ستموت بعد أيّام أو بعد أشهر وسنين، وستقف غداً بين يديَّ الله، وسيأتي الناس إليك ممّن كان لهم حقّ عندك، ممّن ضربتهم بغير حقّ أو شتمتهم أو اتّهمتهم أو أخذت مالهم أو جرحتهم أو قتلتهم أو شرّدتهم بغير حقّ، سيقفون أمامك ويقولون: يا ربّنا يا عدل يا حكيم احكم بيننا وبين فلان، فقد ضربنا بغير حقّ وقد جرحنا، وقد أخذ مالنا، وقد اتّهمنا، وسبّنا وشتمنا بغير حقّ. والله لا بدّ أن ينصف المظلوم من ظالمه لأنَّ الله قال لرسوله {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]. ذلك هو شعار يوم القيامة، لهذا فكِّر قبل أن تموت أن تتخفَّف من حقوق الناس من حولك، ومن حقوق الله عليك. هكذا كان رسول الله عندما مرض مرضه الشديد، قال لفضل بن عباس ابن عمّه، اعطني يدك، لأنّه كان لا يتمالك نفسه من شدّة الضعف، وذهب إلى المسجد فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال لهم "أيُّها الناس قد حان منّي خفوق بين أظهركم"، (أنا عندي بعض خفقات) وفي روايةٍ أخرى "قد دنا منّي حقوق بين أظهركم" (يعني حقوق لكم عليَّ) "فمن جلبت له بشراً" (يعني ضرب على جسمه) "فهذا بشري فليقتصّ منّي"، يعني ليضربني كما ضربته إذا كنتُ قد ضربت أحداً "ومن تعرّضت له في عرضه" (يعني في كرامته، سببته أو شتمته أو أهنته بدون حقّ) "فهذا عرضي فليقتصّ منّي" ليشتمني ويسبّني "ومن أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه" ثم قال لهم: "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة" (يعني إذا جاء شخص وقال يا رسول الله أنا لي عليكَ شيء أو ضربتني أو تكلّمت عليَّ بدون حقّ وأمام الناس طبعاً، هذه فضيحة ولكن هذه أهون من الفضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة) "إلاّ إنَّ أوْلى الناس بي" (يقول أحَبّ الناس إليّ) "رجل كان له شيء من ذلك" (يعني له عليّ شيء من هذه الحقوق) "فأخذه أو حلّلني منه" (إمّا يأخذ حقّه أو يسامحني) "لا يقولنَّ أحد منكم أنّي أخاف العداوة والشحناء من رسول الله" (لا يخاف أحد أن يقول إذا طالبت بحقّي سيحقد عليّ) "ألاَ إنَّ العداوة والشحناء ليست من خلقي" (أنا لا أبغض أحداً ولا أحمل شيئاً على أحد).
قام له رجل وقال يا رسول الله، كنتَ جالساً ذات يوم وجاءك سائل فقلت لي: أعطه ثلاثة دراهم وأنا سأعطيك إيّاها في ما بعد، ولم تعطني إيَّاها. فقال للفضل: أعطه ثلاثة دراهم. ويقال قام شخص قال له: "يا رسول الله، لي عليك قصاص، كنتُ مارّاً ذات يوم في بعض أزقّة المدينة وكنتَ تركب ناقتك فامتنعت عليك فأومأت لها بالسوط وأصاب جسدي" يعني أصابته الضربة خطأ، لأنَّ السوط طويل فبالصدفة أصابته. فقال له: "لم أكن متعمّداً" فقال: "هذا قصاص فأنا أحتج" فقال الرسول: "أتريد أن تقتص"، فقال: "نعم كما ضربتني أُريد أن أضربك"، فماذا قال الناس، يقولون طبعاً إنَّ النبيّ مريض، وهذا لا يستحي وما إلى ذلك من كلام عندئذٍ بعث النبيّ بأن يؤْتى بنفس السوط الذي أصاب بطن هذا الرجل، وطلب أن يجمع الناس ليصبح هذا الموقف درساً للجميع. إنَّ عظمة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن لا يترك عليه حقّاً حتّى في هذا المستوى، فلمَّا أخذ الرجل السوط قال الرجل للرسول: "اكشف لي عن جسدك يا رسول الله، لأنَّ القصاص يجب أن يكون باللّحم الحيّ"، كشف له الرسول عن جسده، والناس تحدّق بوقاحة هذا الرجل، ولكنّ الرجل كان يخفي شيئاً آخر. فقد أهوى بجسده على رسول الله، يقبّله وقال: "أعوذ بموضع القصاص من جسد رسول الله من النار"، "إنّها فرصة لي حتّى أُقَبِّل جسد رسول الله" قال له النبيّ: "أتقتصّ أم تعفو" قال: "بل أعفو" قال النبيّ: "اللّهم اعف عنه كما عفا عنّي"(1).
إنَّ هذا درس كبير لنا، يجب أن نتعلَّمه ونقتدي به، باعتبار أنّ الرسول أوْلى هذه المسألة اهتماماً كبيراً. لكن أين نحن؟ فبالنسبة لنا إذا تخاصم رجل مع زوجته مثلاً، فإنّه يشتم ويكسر ويسبّ، لأنّه رجل يجوز له كلّ شيء، هذا في مفهومه، ولكن كيف تدبّر الأمر معها يوم القيامة، عندما يضرب الرجل زوجته ويقول له آخر لماذا تضربها؟ فيجيبه "ما دخلك في زوجتي"؟ أو عندما تضرب ولدك أو ابنتك إذا أرادت الزواج بشاب أنتَ لا تريده فتضربها وتهدِّدها بالقتل فما ولايتك عليها؟ إنَّ ابنتك إنسان مثلك، جعل الله لكَ أمر رعايتها إذا كانت غير بالغة، حتّى إذا أصبحت بالغة، تولَّت أمر نفسها فلا دخل لك فيها، وحسب بعض الفتاوى فإنَّ لك حقّاً أن تستشيرك، ولم يجعل لك الحقّ أن تزوّجها بدون إرادتها، فلو زوّجت ابنتك ممّن لا تريده، فكأنّك تكون دفعتها لمن يزني بها لأنَّ العقد باطل. فماذا يقول الناس إذا سلَّم شخصاً ابنته للزنا؟
وهكذا إذا كنت ابن عشيرة، وتنتمي إلى جهة سياسية قويّة، تظلم الناس، تقتل وتضرب وتجرح وتعمل كلّ شيء لماذا؟ لأنّي أنا القوي المطاع. في يوم القيامة ستقف بين يديّ الله وعليك أن تدفع كلّ ما أخذت من الناس في ذاك الوقت. يعني كما جلدت هنا ستُجلَد هناك.
لقد أعطى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الدرس كي يتعلَّم الناس في حياتهم أن لا يأخذوا حريّتهم عندما يكونون في موقع للقوّة وأن لا يضطهدوا الآخرين الذين هم أضعف منهم، لأنَّ القصاص شديد. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمُدى ولا ضرباً بالسياط ولكنّه ما يستصغر ذلك معه"(2).
وينقل عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه كان يركب ناقته فلمَّا تأخّرت عليه في سيرها وتوقّفت، أراد أن يهوي عليها بالسوط ليضربها حتى تسير، ولكنّه قال: "آه لولا القصاص"، خاف أن يضربها "بغير حقّ" لأنَّ الناقة قد تكون توقّفت لألم أو لحاجة.
هذا درس نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإذا فكّرنا بالموت أو اقترب منّا الموت، فعلينا أن نتخفَّف من حقوق الناس في ما أسأنا به إليهم.
لا أحد فوق الشريعة
هذه نقطة، والنقطة الثانية التي ركَّز عليها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه لا بدّ للإنسان المسلم سواءً كان مسؤولاً أو غير مسؤول، أن يعتبر الناس في الحقّ سواء ولا فرق بين إنسانٍ وآخر، ولا امتياز لأحد في أيّ جانب، مهما بلغت درجته من القيادة أو من المسؤولية. والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ركَّز على هذا الأمر في بعض الكلمات حين يقول: "إنّما أهلك من كان قبلكم"(1) من المجتمعات التي سقطت وهلك أصحابها "إنّما أهلك من كان قبلكم" إنّهم "إذا سرق الشريف" الرئيس أو الوزير أو النائب أو الوجيه أو الزعيم أو صاحب المسؤولية "تركوه" فهو فوق القانون، "وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ". القانون على الضعفاء لا على الأقوياء ولكنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول نحن كمسلمين وضعنا ليس هكذا، "والله لو سرقَت فاطمة بنت محمد لَقَطَعْتُ يَدَها" وهو الذي يقول "فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني"(2) وهي سيّدة نساء العالمين "فاطمة أُمُّ أبيها"(3) ولم تسرق فاطمة ولكن إذا حدث المستحيل وسرقَت فلا فرق بين فاطمة وأيّ إنسان من المسلمين. هذه العقلية الإسلامية الإيمانية التي تقول للمؤمنين بأنَّ عليهم أن لا ينظروا إلى المركز وإلى القرابة في مسألة تطبيق الشريعة، بل أن ينظروا إلى الإنسان كإنسان مخطئ. وحتّى في الجانب الآخر أراد أن يبيِّن لهم أنّ قرابة الإنسان من رسول الله، لا تفيده شيئاً عند الله، إذا لم يكن في خطّ رسول الله. تقول كتب السيرة إنّه بينما كان الرسول جالساً وإلى جانبه عمّه العباس بن عبد المطّلب، وعمّته صفيّة بنت عبد المطّلب وابنته فاطمة بنت رسول الله، التفت إليهم وهو في آخر أيّامه قائلاً: "يا فاطمة بنت محمّد، إنّي لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطّلب إنّي لا أُغني عنك من الله شيئاً، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(1). هذا هو الخطّ، النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يأتِ ليحمل أقرباءه على ظهره؛ ليأخذهم إلى الجنّة، فقد أنزل الله بأبي لهب عمّه سورة في القرآن كاملة حتى يعرف الناس أنَّ قرابة رسول الله إنَّما هي بالعمل، كما قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) "إنَّ وليّ محمّد مَن أطاع الله وإنْ بعدت لحمته؛ وإنَّ عدوّ محمّد من عصى الله وإنْ قربت قرابته"(2). فقال ذلك الشاعر:
كانت مودّةُ سلمانٍ لهم رحماً ولم يكن بينَ نوحٍ وابنِهِ رَحِمُ
هذا هو الخطّ ونحن نعظِّم أهل البيت (عليهم السلام) لا بصفتهم أقرباء رسول الله بالقرابة، ولكن لأنّهم أطاعوا الله حقّ طاعته، وعرفوه حقّ معرفته، ونحن نلتزمهم كما نلتزم خطّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).


البلاغ الأخير
إنَّنا عندما نريد أن نستثير ذكرى وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نلاحظ أنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حجّة الوداع، التي سبقت وفاته بمقدار شهرين أو ثلاثة أشهر، أراد أن يعطي البيان الأخير للمسلمين. جمع المسلمين في مِنى في يوم عيد الأضحى، بعد أنْ بيَّن لهم كلّ أحكام الحجّ وكل فرائضه قال لهم: أيُّها الناس قد لا ألقاكم بعد عامي هذا" يمكن أن تكون هذه آخر سنة معكم، فأنا أُريد أن أُبلِّغكم كلمات أخيرة "أيُّها الناس، أيّ يوم هذا" قالوا: اليوم الحرام، يوم عيد الأضحى، قال: "أيّ شهر هذا" قالوا الشهر الحرام ذو الحجّة الحرام من الأشهر الحرم. قال: "أيّ بلد هذا" قالوا: البلد الحرام لأنَّ مِنى جزء من الحرم، قال: "أيُّها الناس... إنَّ الله قد حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا"(1)، إلاَّ "لا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(2). هذا الخطّ الذي تركه للمسلمين، أن لا يكون قتالهم كقتال الجاهلية، بل أراد للمسلمين أن يعيشوا مع بعضهم أُخوة بكلّ ما للأخوة من معنى، أراد لهم أن يكون الحقّ هو أساس العلاقات في ما بينهم، وأراد لهم عندما يتقاتلون أن تنطلق طائفة لتصلح، وعندما تتمرَّد فئة فعلى المسلمين أن يقوموا عليها حتّى تفيء إلى أمر الله {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...} [الإسراء : 33]. هذا هو البرنامج الذي أراد أن يحصِّن به المسلمين من كلّ العوامل التي يمكن أن تثير الخلاف والأحقاد والبغضاء بينهم، ليستغلّها أعداء الله، كما كان اليهود يفعلون ذلك ولا يزال اليهود يعملون في التوجّه نفسه.


حذار من دسائس المخابرات
لعلّنا استمعنا إلى كثير ممّا ذكر في مناسبة نزول هذه الآية {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} إذ بعد أن دخل الأنصار في الإسلام، أراد اليهود أن يثيروا الحزازات السابقة في ما بينهم، والعصبيّات العشائرية، فجاء يهودي وبدأ يذكّر هؤلاء بانتصاراتهم في الماضي على إخوانهم وبدأ يذكّر أولئك بانتصاراتهم على الآخرين في الماضي، حتّى تنادوا السلاح، السلاح. كلّ واحد يقول نحن انتصرنا، وهكذا غفلوا عن دينهم فاستسلموا لأحقادهم وأضغانهم. عند ذلك جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لهم: "أكفر بعد إيمان". عندئذٍ رجع إيمانهم إليهم، وأكبُّوا على قدمي رسول الله يقبّلونها قالوا: "يا رسول الله سامحنا إنَّ اليهودي أثار أحقادنا ونحن كنّا نسيناها". فنزلت الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103]. هذا الشيء عاشه المسلمون ودخل إلى صفوفهم من كان يثير بينهم العداوة والبغضاء، على أساس وجود كثير من الرواسب الذاتية والعصبية في داخل حياتهم. في ذاك الوقت كان هناك بعض اليهود، والآن عندنا أجهزة دول تتحرّك بيننا، من أجهزة مخابرات تحاول تخريج مسؤولين لتوظّفهم في إدارة الخلافات وإثارة النزاعات. أحياناً تشعر أنّ هذا الخلاف الذي جرى ويجري طبيعي. لا غير صحيح! فهنا مسؤول وهناك مسؤول إذا تَلَفَّت ودرست خلفياتهم فتجدهم مخابرات، والمخابرات في هذه الأيام مناصب، من رئاسة جمهورية أو رئاسة وزارة أو ملكية، بعض الملوك العرب الموجودين الآن قد ربَّته المخابرات من طفولته إلى أن بات في منصبه، وكذلك الجامعات الأميركية في المنطقة، سواء هنا أو غير هنا، الدور الأساسي لها هو أن تصنع للمنطقة مسؤولين على الطريقة الأميركية.
لهذا عندنا الآن الكثير من المشاكل على المستوى العائلي أو المذهبي أو المستوى الطائفي أو العرقي أو القومي أو السياسي، والوضع مهيَّأ لكلّ شيء، والأجهزة حاضرة للضغط على أزرار هذه الخلافات، لكي تنفجر. وهذه الأجهزة تأخذ المظهر الوطني أو الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو أيّ مظهرٍ آخر. هذا ما يجب أن نفهمه ونحدِّق بالواقع وبالمسؤولين في خلفيّاتهم، وعلاقاتهم وبالناس من حولنا، حتى في العلاقات الخاصّة، لأنَّ المخابرات الآن هي التي تقود العالم، حتّى رؤساء الدول الكبار هي التي تصنعهم وهي التي تصنع الانقلابات والفتن والمشاكل والتعقيدات في البلد، ووضع لبنان الآن أسير صراع الأجهزة المخابراتية الدولية والإقليمية.
أمّا الفتنة فلا تعود إلى أسباب طبيعية باعتبار أنّ لبنان يضمّ مسيحيين ومسلمين، ففي غير لبنان يوجد أيضاً مسيحيّون ومسلمون ولا يحدث ما يحدث في بلدنا.
إنَّ المخابرات في هذا البلد تعمل على تأجيج الفتنة اللبنانية، وهذا ما يدفعنا أن نكون واعين لكلّ الدعايات التي تريد أن تثير الفتنة بين المسلمين، سواءً كان المسلمون الذين تتعدَّد مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد.
فلتحرّكنا المبادئ لا العقد
إنَّ على كلٍّ منّا أن يحرس نفسه من نوازعه الذاتية، والإنسان الذي يكون مسؤولاً في أيّ موقع عليه أن يكون مسؤولاً في كلماته، ولا يحاول أن يثير الناس حول أيّ شيء يمثّل عقدة في ذاته، أو محيطه، لأنّك عندما تكون في موقع متقدّم في المجتمع فإنّك لا تسيء إلى نفسك إذا كانت كلمتك سيّئة ولكنّك تسيء إلى المجتمع كلّه، ولهذا ليخزّن الإنسان لسانه كما يخزّن ذهبه، لأنّه في كثير من الحالات، الكلمة تحرق بلداً وتثير حساسيّات، ولاسيّما إذا كانت الكلمات منطلقة من عقدة ذاتية ضدّ جهة معيّنة أو ضدّ شخص معيّن أو ضدّ فريقٍ معيّن، ولهذا يتفاضل الناس الذين يحملون المسؤولية بين إنسان يعيش المسؤولة من خلال المحافظة على وحدة الناس، والمحافظة على مواقع الخير والعدل والحقّ للنّاس؛ وبين إنسان يتحرّك من خلال العقدة التي تعيش في ذاته وفي حياته. هذا ما يجب أنْ نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى نستطيع أن نحفظ أنفسنا على خطّ الحقّ، وحتّى نستطيع أن نحفظ حياتنا على خطّ العدل، ونحمي أنفسنا من الأعداء الذين يريدون أن يكيدوا لنا على كلّ صعيد وعلى كلّ مستوى.
مشروعنا في حجم العالم
إنَّ الواقع الذي نعيشه الآن ـــ وقبل الآن ـــ هو إنّه لن يسمح لنا كمسلمين أن نتحوّل إلى قوّة في العالم تملك زمام أمرها في المستقبل، ولن يسمح لنا كمستضعفين يمكن أن يتّحدوا ليكونوا قوّة في وجه المستكبرين. لن يسمح لنا أن نكون قوّة نملك ثرواتنا لنوظّفها في خدمة قوّتنا، ونملك قوّتنا لنحرّكها من أجل مستقبلنا، ولنجعلها تنطلق على أساس قوّة رسالتنا، لأنّنا كمسلمين مدعوون إلى أن نكون الدُّعاة للإسلام في العالم، لأنَّ الله أراد أن يكون الدين كلّه لله، وهذا ما يحمِّلنا المسؤولية في ذلك، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني حفظه الله، عندما توجَّه إلى المسؤولين هناك في الجمهورية الإسلامية وهو يتحدّث عن إعمار البلد بعد الحرب، في حين كانت أجهزة الإعلام العالمية تتحدّث أنّه من الممكن لإيران أن تسقط في أحضان الاستكبار في إعمار البلاد وبذلك تكون تحت رحمة الاستكبار في السلم بعد أن لم يستطع الاستكبار أن يفرض عليها ما يريد في الحرب. وكان حديث الإمام حديث الإعمار، وكان من كلماته (حفظه الله) أنّه قال لهم: إنَّ استمرار دوام الجمهورية الإسلامية يعتمد على أساس سياسة لا شرقية ولا غربية، وإنَّ العدول عن هذه السياسة هو خيانة للإسلام والمسلمين، ويؤدّي إلى زوال عزّة وسمعة واستقلال البلاد. وقال لهم، للشعب هناك: "إنَّ عليكم أن تظلُّوا محتفظين بحقدكم المقدَّس ضدّ استكبار الدول الكبرى، وأن تستمروا بذلك، حتّى ترفرف راية الإسلام على العالَم ويرث المستضعفون والحفاة والصالحون الأرض". ولهذا كنّا معه، مع قيادته، لأنّه لم يتحدّث مع الإيرانيين عن إيران كدولة يريد لها وحدها أن تأخذ العزّة، أو يريد لها أن تسيطر على محيطها من موقع الاستكبار، ولكنّه كان يفكّر أن يكون السلم حرّاً من سيطرة الشرق الاستكباري، وأن يحمل كلّ مسلم الحلم الكبير الذي كان يحمله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكي ترفرف راية الإسلام في العالَم.
إنَّ عليك أن تكون المسلم العالمي وأن تُعِدّ نفسك في ثقافتك وفي خبرتك وفي كلّ طاقاتك، لتنطلق إلى كلّ مكان يحتاجك فيه الإسلام في العالم. أن لا نكون من الذين يختنقون في الزوايا فيحصر كلّ واحدٍ نفسه في زاوية صغيرة في قريته، أو في وطنه. نحن المسلمين نتحرّك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، لسنا عدوانيّين كمسلمين، ولكنَّنا نرفض أن يعتدي علينا أحد، وعلينا أن لا نفكِّر في بلد صغير نأخذ فيه جزءاً ولكن علينا أن نفكِّر بالعالم على أساس المراحل، وعلى أساس أن نرتبط بكلّ المسلمين في العالَم، والله لا يريدنا أن نكون محشورين في هذه الزاوية. تلك هي قيمة قيادة الإمام حفظه الله، قيمته أنّه جاء إلى مجتمع يفكّر فيه المسلمون تفكيراً وطنياً أو قومياً، فقال لهم فكِّروا إسلامياً وعالمياً، حتّى لا يعيش الإنسان مختنقاً داخل كلّ مشاعره وحتّى لا تنجح المؤامرة التي يريد الكفر والاستكبار من خلالها أن يفصل المسلمون بعضهم عن بعض، وأن يقطعوا أوصالهم، ليحمل كلّ مسلم حقداً على المسلم الآخر.
لن نستسلم للمؤامرة الأميركية
إنَّ الله أرادنا أن نكون الدُّعاة إليه والمجاهدين في سبيله والسائرين على خطّه المستقيم في كلّ مكان، ونحن عندما نريد أن نثير المسألة السياسية في كلّ موقع من المواقع فإنّنا لا ننظر إلى المشكلة الطائفية لنخطّط في سياستنا على أساسها، ولكنَّنا ننظر إلى القاعدة الأساسية للسياسة الإسلامية، نحن نعمل على أساس أن يملك المسلمون والمستضعفون الحريّة في إدارة كلّ أمورهم على الخطّ، الذي يبني لهم عزّتهم وكرامتهم، ومن خلال هذا فنحن نراقب المسألة اللبنانية في حركة الفتنة التي بدأت، وفي كلّ التطورات التي تتحرّك، إنّنا ننظر إلى خطورتها على أساس أنّها تمثّل جزءاً من المشروع الأميركي في لبنان، في ما تضغط به أميركا على الواقع اللبناني في دائرة ضغطها على الواقع العربي، وعلى الواقع الإسلامي، حتّى تحشر الجميع في الزاوية، حتّى يقول الجميع، ولسنا منهم، لأميركا دبّري لنا أمرنا، واتّفقي مع مَن تريدين أن تتّفقي معه، حتّى تحلّي لنا المشكلة "فيك الخصام وأنتِ الخصم والحكم"، أميركا التي أوجدت الفتنة اللبنانية، فتنة 1975 التي صنعها وزير خارجية أميركا السيِّئ الذكر هنري كيسنجر، حتّى تؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية، باعتبار أنّ شخصيّته اليهودية كانت الأساس في كلّ تحرّكاته. هل يمكن أن تفكّر أميركا بأن تحلّ المشكلة؟
تنسيق أميركي ـــ صهيوني
لقد صفَّق الناس للاتفاق الأميركي ـــ السوري على أساس أنّه يحلّ مشكلة الرئاسة ولكنَّ أميركا جاءت وأفسدت الحلّ، لأنَّ الموسم هو موسم الانتخابات الأميركية التي تعتمد على الأصوات اليهودية.
ولذلك من الصعب جداً أن تسير أميركا، في هذه المرحلة بالذّات على الأقلّ، في خطّ يختلف عن الخطّ الإسرائيلي في ما هي سياسة لبنان، وفي ما هو واقعه، ولهذا أفسحت أميركا "لإسرائيل" أن تدخل على الخطّ من موقع التكامل مع أميركا، لأنَّ أميركا تعمل على أساس التحالف الاستراتيجي والأمني مع "إسرائيل" في كلّ المجالات السياسية والأمنية التي تتحرّك في المنطقة.
ضمن هذا الإطار فإنَّ ما يتحرّك في السّاحة ممّن ترونه من الحكومة العسكرية، أو من الوضع القوّاتي، فهو ليس بعيداً عن الخطّة الأميركية والمشروع الأميركي: خُيِّل أنّ هؤلاء تمرَّدوا على أميركا، كيف؟ فالجيش الذي يمجّده الناس ويضعونه في مرتبة فضلى. هذا الجيش يعتبر ميليشية أميركا في لبنان، وقد حاز على توقيع المخابرات الأميركية، وهذا كلام لا نقوله نحن، ولكن يقوله السياسيون الموالون لأميركا، والمعارضون لها. إنّ اعتماد أميركا في تغيير الوضع اللبناني وفي الضغط على حركة السياسة اللبنانية، إنّما هو على الجيش الذي يسهر عليه قسم من ضبّاط الجيش الأميركي والمخابرات الأميركية الذين يقيمون في مركز القيادة اللبنانية، وأنا عندما أتكلَّم عن هذا لا أكشف سرّاً.
ممنوع التدويل أو التعريب
إنَّ قائد الجيش الذي ارتفع بقدرة قادر إلى رتبة عماد رأساً، شرب حليب السباع، وأصبح يواجه أميركا فكيف صار ذلك؟ وهكذا تتحرّك المسألة وتصير هذه الهمروجة بالمؤتمرات والاجتماعات، لكنَّ المشروع الأميركي يسير بطريقة معيّنة والطبخة لا تزال تحتاج إلى نار خفيفة، بعد أن احتاجت إلى نار قويّة، وعلى هذا الأساس يجب أن لا يشعر أحد بالإحباط، وبأنّ السماء ستقع على الأرض إذا لم ينتخب رئيس للجمهورية أو رئيس للمجلس النيابي.
إنَّ دعوات التعريب والتدويل هي دعوات للاستهلاك على أساس أنّه لا يسمح لأيّة دولة أوروبية أو غير أوروبية أن تتدخّل بالشؤون اللبنانية إلاّ لمصلحة أميركا، وهكذا بالنسبة إلى البلاد العربية. التعريب هو أن نأتي بجميع المشاكل العربية ونضعها في لبنان، كلّها بالونات اختبار، لا تملك أيّ شيء في الواقع. هناك وضع يتحرّك يمثّل حركة الأشباح، ويتحرّك في أوضاع ضبابية وخفيّة، ولهذا علينا أن لا تستغرقنا اللّعبة وأن لا تستهلكنا الأوضاع، ولا تثيرنا الكلمات التي تتحرّك من هنا وهناك، ولكن هناك نقطة نحبّ أن نتحدّث بها بمناسبة التحالف بين جيشنا اللبناني المظفّر وبين القوات اللبنانية لنسأل ما معنى هذا؟
تحالف الجيش والقوات
القوات اللبنانية لها سياسة مارونية أوّلاً، ومسيحية ثانياً، وإسرائيلية من قبل ذلك ومن بعد. أمّا الجيش اللبناني فالمفروض أنّه للبنانيين كلّهم فكيف يتحالف مع القوات؟ معنى ذلك أنّ الجيش اللبناني أصبح يلتزم في حركته سياسة القوات اللبنانية، فكيف يمكن لكم أن تطلبوا منّا أن نثق بهذا الجيش، وقد تحوَّل بفعل قيادته إلى جيش المارونية السياسية المتحالفة مع اليهودية الإسرائيليّة؟ كنّا نقول ذلك قبل الآن، لكن الآن نعيش في المرحلة التي يتعرّى فيها كلّ شيء، هذا التطابق والتحالف ضدّ مَنْ؟ بالتأكيد ليس ضدّ "إسرائيل"، إذن هل هو تحالف ضدّ الفريق الإسلامي؟
إنَّنا نطرح هذا السؤال حتّى نستطيع أن نتفهَّم كيف نتحرّك في الواقع، ثمّ علينا أن نتفهَّم شيئاً، وهو هذا الوضع الذي نشاهده في المنطقة الأخرى، حيث تتأسَّس المرتكزات لمشروع الفيدرالية الذي تنادي به بعض الفئات اللبنانية، ليتحوّل إلى أمر واقع. نحن نراقب الوضع وهناك تهاويل تثار من بعض المواقع العربية الرسمية، لتخوِّف الناس.
نحو بناء قوّة تواجه العدوان
السياسة الآن أيُّها الأخوة هي سياسة إثارة الخوف في نفوسنا. الكلمات التي تقال هي لإكمال مسألة التخويف على غرار ما يقال عن أنّ النظام العراقي أرسل عشرات أو مئات الدبّابات إلى المنطقة الشرقية، وأنّ "إسرائيل" يمكن أن تقوم باجتياح على مستوى خطّ البقاع الغربي، حتّى تصل إلى المنطقة الشرقية بطريقة معيّنة، وإنّه يمكن أن يكون هناك نوع من التدخّل العراقي في شمال سوريا، فيجب أن ننسى هذا الكلام لأنّه للتخويف حتّى يسقط الناس أمام الخوف ولا يثبتوا في مواقعهم.
إنَّ الردّ على مسألة التخويف يكون فعّالاً عندما ننطلق لنصنع القوّة التي تجعل من كلّ شخص منّا مدرّباً على السلاح في أيّ وقتٍ يحتاجه السلاح، ومدرّباً على الوعي السياسي في أيّ وقت تحتاجه المعركة السياسية، نحن لا ندعو إلى قوّة عدوانية، ولكنَّنا ندعو إلى قوّة تواجه العدوان حتّى لا يفرض علينا الأمر الواقع في أيّ مجال. نحن ضدّ أيّ تفجير عسكري ولكن إذا أراد أحد أن يفجّر عسكرياً ضدّ مواقعنا، فإنَّ علينا أن نستعدّ لذلك، أن نردّ الاعتداء.

الوحدة أمام الأخطار
وفي هذا المجال أريد أن أقول لكلّ المسؤولين، في أيّ موقع من مواقع المسؤولية، إذا كانوا يخافون الله، إنّ المرحلة هي مرحلة تجميد كلّ الخلافات وكلّ الحساسيّات وكلّ الذاتيّات، على الجميع أن يسحقوا ذاتهم أمام حاجة أُمّتهم. والمرحلة صعبة صعبة. ولهذا إنّ الذين يضعون العصيّ في دواليب الوحدة واللّقاء بين الناس الذين يواجهون الخطر من كلّ جهة، فإنَّ عليهم أن يتّقوا الله في ذلك. وهنا أيضاً كلمات تثير في هذه الأيام مشكلة التحرّك الفلسطيني في ما يتحدّث به الناس عن التحرّك في صور، أو في شرق صيدا، أو في أيّ مكانٍ آخر. إنّنا نريد أن نقول للفلسطينيين بكلّ فصائلهم أن يعلنوا الكلمة وبالفعل رفضهم لهذا التحرّك، حتّى لا يقعوا في دائرة الفتنة التي تقضي على قضيّتهم وقضيّتنا، وحتّى لا نقع نحن في دائرة الفتنة، وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فما هو تفسيركم لذلك؟ إنّ الذين يملكون انتفاضة في حجم انتفاضة الشعب الفلسطيني المجاهد في الداخل، في الضفّة الغربية وغزّة، ويملكون ثورة في حجم هذه الثورة، يغذّيها الإسلام بقوّته، إنّ الذين يملكون مثل هذه الانتفاضة لا يمكن أن يثيروا أيّة مشكلة أخرى في الوحول اللبنانية التي يراد لها أن تُغرق الانتفاضة في وحول الخلافات الداخلية العربية.
إنّنا نتمنّى أن لا يكون لهذه الكلمات التي يسوقها الإعلام المخابراتي أيّ حقيقة، وأن لا يكون لها واقع، ونحن ندعو الطيّبين من الفلسطينيين كما ندعو كلّ أهلنا في الجنوب، أن يكون لهم الوعي الكامل الذي يحدِّق بالأرض جيّداً، حتّى يفحص كلّ ما فيها ويحدِّق بالأفق جيّداً، حتّى يعرف كلّ ما يدور فيه، ويحدِّق بالمستقبل جيّداً حتّى يعرف كلّ ما يحتاجه قبل أن تنطلق الكلمات والمواقف الحادّة، لأنّنا لا نريد حرب مخيّمات جديدة، ولا نريد فتنة لبنانية فلسطينية جديدة، وأعتقد أنّ جميع المخلصين لا يريدون ذلك.

"إسرائيل" وخلط الأوراق
أيُّها الأخوة في كلّ موقع للمسؤولية، إنّ الجميع في المنطقة على مستوى القضايا المصيرية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية، يقفون الآن من أجل أن يلتقطوا أنفاسهم لمراقبة الانتخابات الأميركية، لأنّهم يعتبرونها قد تؤثّر سلباً أو إيجابياً على كثير من المشاريع السياسية والأمنية في المنطقة، وهناك أيضاً مَن يحدِّق في الانتخابات الإسرائيلية، لأنّها ستنعكس في رأيهم سلباً أو إيجاباً على كثير من المواقع السياسية في المنطقة، وربّما تتحرّك الآن بعض الأوضاع في الدائرة الفلسطينية وفي الدائرة اللبنانية لخدمة الانتخابات الإسرائيلية، لأنَّ الانتخابات الإسرائيلية سوف تجعل المسألة اللبنانية ومسألة الانتفاضة الفلسطينية رقمين متحرّكين في مجال الشدِّ والجذب في دائرة الانتخابات الإسرائيلية. لهذا قد تكون المسألة في مجملها مسألة إسرائيلية حتّى تخلط الأوراق وحتى تكون الورقة الرابحة لإسرائيل. لهذا أيُّها الأخوة علينا أن تكون عيوننا في وجوهنا مفتوحة، وعيوننا في قلوبنا مفتوحة، وأن نكون الأُمّة التي تعي حاضرها ومستقبلها، وأن نتابع خططنا في مواجهة الاستكبار كلّه والصهيونية كلّها، وأن نتَّكل على الله توكّل الذي يجاهد، وتوكّل الذي يملك الوعي كلّه في درب الإسلام كلّه، وفي درب الحريّة كلّها.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) القدوة في حركة الدعوة(*)
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيّه محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34] ويقول سبحانه وتعالى أيضاً {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144].
في الثامن والعشرين من شهر صفر كانت وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وفي رواية مشهورة، أنّ الله عندما خيَّره بين أن يعطيه الدنيا بكلّ ما يريد منها، وبين أن يختار لقاء الله، اختار لقاءه. ونحن عندما نستقبل ذكرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم وفاته، كما نستقبلها في يوم ولادته، أو في يوم مبعثه وإسرائه، لا نريد أن نتوقّف عند المناسبة، فرسول الله بشر كبقيّة البشر، يولَد كما يولَد الناس من خلال أسباب الولادة، ويموت كما يموت الناس من خلال أسباب الموت، وهو رسول الله يُبعث كما يُبعث بقيّة الرسل، ويحيطه بكرامته، ويبيّن الله من خلاله آياته في إسرائه ومعراجه، كما يكرّم بقية الرسل أشياء أخرى، ولكنّنا نريد أن نتوقّف عند كلّ ذكرى من الذكريات التي تربطنا برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، في حركة الزمن في الماضي وفي تذكيرنا له في الحاضر، لننفذ إلى حياة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإلى شخصيّته، لأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتميَّز بأنّه الشريعة المتجسّدة، إذا عرفت شيئاً منها عرفت حكمك الشرعي، وعرفت خطّ الإسلام والحقيقة الإسلامية.
قد يكون من المفروض علينا أن نقرأ تاريخ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لنرى في شخصية رسول الله كلّ البرنامج الأخلاقي الذي أراد الله، من خلال كتابه، أن يجعله برنامجاً للناس في الحياة كلّها. وقد سئلت إحدى زوجاته عنه كيف خلقه، أجابت: أوجز أو أطنب، قالوا: أوجزي، قالت: اقرؤوا القرآن تعرفوا أخلاق رسول الله، لأنَّ خُلُقه كان القرآن.
الارتباط بمحمّد الرسول لا الشخص
لقد مثَّل رسول الله القدوة والأسوة، ولهذا فإنَّ الله أراد من الناس أن يستمعوا من الرسول ما يبلّغهم، وأراد لهم أن يتبعوه في ما يرونه في سلوكه وسيرته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب : 21]. ولكن هذا الرسول العظيم في كلّ ما للعظمة من معنى، والذي تحدَّث الله عن عظمته في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
قال الله له آية أخرى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30] لأنَّ سُنّة الله كذلك، وقال له مرّة ثانية وهو يحدِّثه عن هؤلاء الذين كانوا يتمنّون موته {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34]. والنقطة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّدها في حياتنا، وهي أنّ دور الشخص مهما كان عظيماً في حياتنا لا يعني أنّنا نسقط إذا غاب، فهو يعيش في حياتنا ليعلِّمنا وليكون قدوتنا، ليقودنا وليترك لنا نهجه وفكره ورسالته، فإذا كان فكره حقّاً وصواباً فإنّنا نترك شخصه إذا غاب عنّا ونلتزم فكره.
في الإسلام لا تعصّب للشخص، ولكنّ الالتزام بالفكر والرسالة. أيّ شخص أعظم لدى المسلمين من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ومع ذلك قال الله للمسلمين {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران : 144]، فهو رسول، دوره أن يعطيكم رسالة الله لتأخذوها ولتعملوا بها ولتمتدّوا بها جيلاً بعد جيل ولتحفظوها أمانة في أعناقكم، يسلّمها كلّ جيل إلى الجيل الذي يأتي من بعده، {أَفَإِن مِّتَّ} الرسول بطريقة طبيعية أو قتل، كما قيل عنه في وقعة أُحُد التي نزلت الآية بعدها {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران : 144] إنَّ موت الرسول لا يعني موت الرسالة، الرسول مرحلة انطلاق الرسالة بكلّ حيويّتها وقوّتها وإخلاصها، ثمّ تبقى الرسالة ويبقى لنا من الرسول الانتماء إلى رسالته، والالتزام بخطّه ومنهجه لأنّه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـــ 4] ونبقى معه لأنّه لا يخطئ؛ فهو المعصوم في رسالته، نبقى مع رسالته كما قال ذلك المؤمن الذي قيل له في معركة أُحُد: إنَّ محمّداً قد مات وقد قتل. واهتزَّ بعض الناس وأرادوا أن يرجعوا إلى أبي سفيان، ليأخذوا منه الأمان فنادى: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لم يمت"(1) فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه محمّد لأنَّ رسالة محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لا تزال موجودة.
بين الالتزام بخطّ المعصوم وغيره
إنَّ الفكرة التي نأخذها في هذا المجال، هي أن نرتبط بالرسالة لا بالشخص؛ فإذا كان الشخص معصوماً، فنرتبط به جملةً وتفصيلاً ونظلّ معه ما امتدَّ الزمن بنا، لأنّه سيبقى يمثّل الحقّ على مدى الزمن، ولكن إذا كان الشخص الذي نرتبط به في مستوى القيادة، مهما كان شخصه، فإنَّ علينا أن نتذكّره لنتذكّر إيجابيّاته، لتبقى لنا إيجابيّاته، أمّا فكره وخطّه ونهجه فعلينا أن نظلّ في مراقبة له، لأنَّ الشخص غير المعصوم قد يسير في منهج يكون حقّاً في وقت محدود، فإذا تجاوز الوقت صارت الحاجة إلى شيء أكبر من ذلك. إنَّ الشخص غير المعصوم، حتّى لو كان من أعظم العباقرة، هو شخص ينطلق فكره من تجربته ومن ثقافته ومن الظروف المحيطة به، ولذا فإنَّ علينا أن لا نتعصَّب لفكر شخصٍ غير معصوم، بل نظلّ نناقش فكره فإذا تبيّن لنا أنّ فكره يمثّل الحقيقة فنلتزم بالحقيقة من خلاله، ولا نلتزم به؛ وإذا كان فكره قاصراً عن التقاط الحقيقة، فإنَّ علينا أن نعتبر إنَّ الزمن قد تجاوز فكره، أو أنّ التجربة قد أثبتت خطأ فكره، فقد كان معذوراً في ما يفكِّر، ونحن معذورون في أن نتجاوز هذا التفكير. لهذا سواءً كنتم تنطلقون من حالة فردية أو حالة جماعية للارتباط بقيادة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، فإذا لم تكن القيادة معصومة، فعليكم أن لا تتعصَّبوا لفكرها ولخطّها، إلاّ إذا ثبت عندكم من خلال ما تلتزمون به من رسالة، إنَّ فكرها يمثّل الحقيقة، وبهذا لا نتحوّل إلى متعصّبين في ما يتعصَّب به الناس للأشخاص، وما يتقاتل فيه الناس على أساس الأشخاص، وما يلتزم به الناس الأشخاص.
لقد أراد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلِّم الناس الحقّ من خلال سلوكه فلم يُرد أن يربط الناس به ولكنّه كان يربط الناس برسالته، وأراد منهم أن يحاسبوه ويراقبوه على أساس رسالته وانسجامه مع الرسالة، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول لنا أيُّها المسلمون، ستعيشون في مجتمعاتكم غداً، وفي ما تستقبلون من القرون، مع قيادات تفرض نفسها عليكم، أو قد تفرضها الظروف عليكم، أو قد تفرضونها أنتم على أنفسكم، ولكن لا تنطلقوا مع القيادة من خلال ذاتيّاتها ولكن انطلقوا معها من خلال رساليّتها. فقد جاء عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنّه في اليوم الذي توفّي فيه قال للناس: "أيُّها الناس إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء" (لا أحد يقدر أن يمسك عليَّ شيئاً)، أنا في آخر يوم من حياتي، والتاريخ الذي عشته معكم فترة ثلاثة وعشرين سنة منذ بعثني الله رسولاً إلى أن يقبضني الله إليه، كلّ هذا التاريخ أريدكم أن تراجعوه في كلامي وأفعالي وفي علاقاتي وفي أوضاع الحرب والسلم وأوضاعي العائلية، وقضاياي الشخصية، هذا التاريخ ادرسوه جيّداً "إنّكم لا تمسكون عليَّ بشيء، إنّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلَّ الله وما حرّمت إلاّ ما حرَّم الله" وفي رواية "إنّي ما أحللت إلاّ ما أحلَّ القرآن وما حرَّمت إلاّ ما حرَّم القرآن".
إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يطلب من المسلمين أن يحاسبوه على أساس القرآن، وعلى أساس حلال الله وحرامه، وهو ليس مسؤولاً أمام المسلمين، بل مسؤولٌ أمام الله، ولكنّه أراد أن يرشد المسلمين وأن يعلّمهم بأنّ قضية الالتزام بالقيادة لا بدّ أن تكون من خلال دراسة سلوك القيادة، على أساس خطّ الرسالة ومنهجها، حتّى لا يتعبَّد الناس للقائد وللمسؤول، بل يبقى المسؤولون كلّهم، حتّى لو كانوا أنبياء وأئمّة، خاضعين للخطّ الذي خطَّه الله للنّاس في الحياة؛ إنَّ الأنبياء والأوصياء والأولياء والعلماء كلّهم خاضعون لرسالة الله، فالنبيّ مكلّف أن يصلّي ويصوم ويعدل بين الناس، كما أنت مكلَّف أن تصلّي وتصوم وتعدل بين الناس، وهكذا مهما كانت عظمته كبيرة، فعظمته أنّه يطيع الله.
رسول الله وحقوق الناس
هذا من جهة، أمّا من الجهة الثانية، نلاحظ أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يريد أن يعلِّم الناس، إذا أقبل عليهم الموت أو عاشوا هاجسه في أنفسهم، أن يفكِّروا كيف يقدمون على الله ولا حقَّ لأحد عليهم في ما للنّاس من حقوق على بعضهم البعض، ولا حقّ لله عليهم في ما لله من حقوق على عباده. عندما تفكّر بالموت لا يسبق إلى فكرك كيف تؤمِّن أطفالك، لأنَّ الله خلق أطفالك، كما خلقك، وهو يرزقهم كما يرزقك، ويؤمِّنهم كما أمَّنك، لا تفكّر بعقاراتك كيف تديرها، لكن فكِّر بنفسك كيف تخلّصها. ستموت بعد أيّام أو بعد أشهر وسنين، وستقف غداً بين يديَّ الله، وسيأتي الناس إليك ممّن كان لهم حقّ عندك، ممّن ضربتهم بغير حقّ أو شتمتهم أو اتّهمتهم أو أخذت مالهم أو جرحتهم أو قتلتهم أو شرّدتهم بغير حقّ، سيقفون أمامك ويقولون: يا ربّنا يا عدل يا حكيم احكم بيننا وبين فلان، فقد ضربنا بغير حقّ وقد جرحنا، وقد أخذ مالنا، وقد اتّهمنا، وسبّنا وشتمنا بغير حقّ. والله لا بدّ أن ينصف المظلوم من ظالمه لأنَّ الله قال لرسوله {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]. ذلك هو شعار يوم القيامة، لهذا فكِّر قبل أن تموت أن تتخفَّف من حقوق الناس من حولك، ومن حقوق الله عليك. هكذا كان رسول الله عندما مرض مرضه الشديد، قال لفضل بن عباس ابن عمّه، اعطني يدك، لأنّه كان لا يتمالك نفسه من شدّة الضعف، وذهب إلى المسجد فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال لهم "أيُّها الناس قد حان منّي خفوق بين أظهركم"، (أنا عندي بعض خفقات) وفي روايةٍ أخرى "قد دنا منّي حقوق بين أظهركم" (يعني حقوق لكم عليَّ) "فمن جلبت له بشراً" (يعني ضرب على جسمه) "فهذا بشري فليقتصّ منّي"، يعني ليضربني كما ضربته إذا كنتُ قد ضربت أحداً "ومن تعرّضت له في عرضه" (يعني في كرامته، سببته أو شتمته أو أهنته بدون حقّ) "فهذا عرضي فليقتصّ منّي" ليشتمني ويسبّني "ومن أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه" ثم قال لهم: "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة" (يعني إذا جاء شخص وقال يا رسول الله أنا لي عليكَ شيء أو ضربتني أو تكلّمت عليَّ بدون حقّ وأمام الناس طبعاً، هذه فضيحة ولكن هذه أهون من الفضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة) "إلاّ إنَّ أوْلى الناس بي" (يقول أحَبّ الناس إليّ) "رجل كان له شيء من ذلك" (يعني له عليّ شيء من هذه الحقوق) "فأخذه أو حلّلني منه" (إمّا يأخذ حقّه أو يسامحني) "لا يقولنَّ أحد منكم أنّي أخاف العداوة والشحناء من رسول الله" (لا يخاف أحد أن يقول إذا طالبت بحقّي سيحقد عليّ) "ألاَ إنَّ العداوة والشحناء ليست من خلقي" (أنا لا أبغض أحداً ولا أحمل شيئاً على أحد).
قام له رجل وقال يا رسول الله، كنتَ جالساً ذات يوم وجاءك سائل فقلت لي: أعطه ثلاثة دراهم وأنا سأعطيك إيّاها في ما بعد، ولم تعطني إيَّاها. فقال للفضل: أعطه ثلاثة دراهم. ويقال قام شخص قال له: "يا رسول الله، لي عليك قصاص، كنتُ مارّاً ذات يوم في بعض أزقّة المدينة وكنتَ تركب ناقتك فامتنعت عليك فأومأت لها بالسوط وأصاب جسدي" يعني أصابته الضربة خطأ، لأنَّ السوط طويل فبالصدفة أصابته. فقال له: "لم أكن متعمّداً" فقال: "هذا قصاص فأنا أحتج" فقال الرسول: "أتريد أن تقتص"، فقال: "نعم كما ضربتني أُريد أن أضربك"، فماذا قال الناس، يقولون طبعاً إنَّ النبيّ مريض، وهذا لا يستحي وما إلى ذلك من كلام عندئذٍ بعث النبيّ بأن يؤْتى بنفس السوط الذي أصاب بطن هذا الرجل، وطلب أن يجمع الناس ليصبح هذا الموقف درساً للجميع. إنَّ عظمة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن لا يترك عليه حقّاً حتّى في هذا المستوى، فلمَّا أخذ الرجل السوط قال الرجل للرسول: "اكشف لي عن جسدك يا رسول الله، لأنَّ القصاص يجب أن يكون باللّحم الحيّ"، كشف له الرسول عن جسده، والناس تحدّق بوقاحة هذا الرجل، ولكنّ الرجل كان يخفي شيئاً آخر. فقد أهوى بجسده على رسول الله، يقبّله وقال: "أعوذ بموضع القصاص من جسد رسول الله من النار"، "إنّها فرصة لي حتّى أُقَبِّل جسد رسول الله" قال له النبيّ: "أتقتصّ أم تعفو" قال: "بل أعفو" قال النبيّ: "اللّهم اعف عنه كما عفا عنّي"(1).
إنَّ هذا درس كبير لنا، يجب أن نتعلَّمه ونقتدي به، باعتبار أنّ الرسول أوْلى هذه المسألة اهتماماً كبيراً. لكن أين نحن؟ فبالنسبة لنا إذا تخاصم رجل مع زوجته مثلاً، فإنّه يشتم ويكسر ويسبّ، لأنّه رجل يجوز له كلّ شيء، هذا في مفهومه، ولكن كيف تدبّر الأمر معها يوم القيامة، عندما يضرب الرجل زوجته ويقول له آخر لماذا تضربها؟ فيجيبه "ما دخلك في زوجتي"؟ أو عندما تضرب ولدك أو ابنتك إذا أرادت الزواج بشاب أنتَ لا تريده فتضربها وتهدِّدها بالقتل فما ولايتك عليها؟ إنَّ ابنتك إنسان مثلك، جعل الله لكَ أمر رعايتها إذا كانت غير بالغة، حتّى إذا أصبحت بالغة، تولَّت أمر نفسها فلا دخل لك فيها، وحسب بعض الفتاوى فإنَّ لك حقّاً أن تستشيرك، ولم يجعل لك الحقّ أن تزوّجها بدون إرادتها، فلو زوّجت ابنتك ممّن لا تريده، فكأنّك تكون دفعتها لمن يزني بها لأنَّ العقد باطل. فماذا يقول الناس إذا سلَّم شخصاً ابنته للزنا؟
وهكذا إذا كنت ابن عشيرة، وتنتمي إلى جهة سياسية قويّة، تظلم الناس، تقتل وتضرب وتجرح وتعمل كلّ شيء لماذا؟ لأنّي أنا القوي المطاع. في يوم القيامة ستقف بين يديّ الله وعليك أن تدفع كلّ ما أخذت من الناس في ذاك الوقت. يعني كما جلدت هنا ستُجلَد هناك.
لقد أعطى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الدرس كي يتعلَّم الناس في حياتهم أن لا يأخذوا حريّتهم عندما يكونون في موقع للقوّة وأن لا يضطهدوا الآخرين الذين هم أضعف منهم، لأنَّ القصاص شديد. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): "القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمُدى ولا ضرباً بالسياط ولكنّه ما يستصغر ذلك معه"(2).
وينقل عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه كان يركب ناقته فلمَّا تأخّرت عليه في سيرها وتوقّفت، أراد أن يهوي عليها بالسوط ليضربها حتى تسير، ولكنّه قال: "آه لولا القصاص"، خاف أن يضربها "بغير حقّ" لأنَّ الناقة قد تكون توقّفت لألم أو لحاجة.
هذا درس نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإذا فكّرنا بالموت أو اقترب منّا الموت، فعلينا أن نتخفَّف من حقوق الناس في ما أسأنا به إليهم.
لا أحد فوق الشريعة
هذه نقطة، والنقطة الثانية التي ركَّز عليها النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه لا بدّ للإنسان المسلم سواءً كان مسؤولاً أو غير مسؤول، أن يعتبر الناس في الحقّ سواء ولا فرق بين إنسانٍ وآخر، ولا امتياز لأحد في أيّ جانب، مهما بلغت درجته من القيادة أو من المسؤولية. والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ركَّز على هذا الأمر في بعض الكلمات حين يقول: "إنّما أهلك من كان قبلكم"(1) من المجتمعات التي سقطت وهلك أصحابها "إنّما أهلك من كان قبلكم" إنّهم "إذا سرق الشريف" الرئيس أو الوزير أو النائب أو الوجيه أو الزعيم أو صاحب المسؤولية "تركوه" فهو فوق القانون، "وإذا سَرَقَ الضعيف أقاموا عليه الحدّ". القانون على الضعفاء لا على الأقوياء ولكنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول نحن كمسلمين وضعنا ليس هكذا، "والله لو سرقَت فاطمة بنت محمد لَقَطَعْتُ يَدَها" وهو الذي يقول "فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني"(2) وهي سيّدة نساء العالمين "فاطمة أُمُّ أبيها"(3) ولم تسرق فاطمة ولكن إذا حدث المستحيل وسرقَت فلا فرق بين فاطمة وأيّ إنسان من المسلمين. هذه العقلية الإسلامية الإيمانية التي تقول للمؤمنين بأنَّ عليهم أن لا ينظروا إلى المركز وإلى القرابة في مسألة تطبيق الشريعة، بل أن ينظروا إلى الإنسان كإنسان مخطئ. وحتّى في الجانب الآخر أراد أن يبيِّن لهم أنّ قرابة الإنسان من رسول الله، لا تفيده شيئاً عند الله، إذا لم يكن في خطّ رسول الله. تقول كتب السيرة إنّه بينما كان الرسول جالساً وإلى جانبه عمّه العباس بن عبد المطّلب، وعمّته صفيّة بنت عبد المطّلب وابنته فاطمة بنت رسول الله، التفت إليهم وهو في آخر أيّامه قائلاً: "يا فاطمة بنت محمّد، إنّي لا أُغني عنكِ من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطّلب إنّي لا أُغني عنك من الله شيئاً، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(1). هذا هو الخطّ، النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يأتِ ليحمل أقرباءه على ظهره؛ ليأخذهم إلى الجنّة، فقد أنزل الله بأبي لهب عمّه سورة في القرآن كاملة حتى يعرف الناس أنَّ قرابة رسول الله إنَّما هي بالعمل، كما قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) "إنَّ وليّ محمّد مَن أطاع الله وإنْ بعدت لحمته؛ وإنَّ عدوّ محمّد من عصى الله وإنْ قربت قرابته"(2). فقال ذلك الشاعر:
كانت مودّةُ سلمانٍ لهم رحماً ولم يكن بينَ نوحٍ وابنِهِ رَحِمُ
هذا هو الخطّ ونحن نعظِّم أهل البيت (عليهم السلام) لا بصفتهم أقرباء رسول الله بالقرابة، ولكن لأنّهم أطاعوا الله حقّ طاعته، وعرفوه حقّ معرفته، ونحن نلتزمهم كما نلتزم خطّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).


البلاغ الأخير
إنَّنا عندما نريد أن نستثير ذكرى وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نلاحظ أنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حجّة الوداع، التي سبقت وفاته بمقدار شهرين أو ثلاثة أشهر، أراد أن يعطي البيان الأخير للمسلمين. جمع المسلمين في مِنى في يوم عيد الأضحى، بعد أنْ بيَّن لهم كلّ أحكام الحجّ وكل فرائضه قال لهم: أيُّها الناس قد لا ألقاكم بعد عامي هذا" يمكن أن تكون هذه آخر سنة معكم، فأنا أُريد أن أُبلِّغكم كلمات أخيرة "أيُّها الناس، أيّ يوم هذا" قالوا: اليوم الحرام، يوم عيد الأضحى، قال: "أيّ شهر هذا" قالوا الشهر الحرام ذو الحجّة الحرام من الأشهر الحرم. قال: "أيّ بلد هذا" قالوا: البلد الحرام لأنَّ مِنى جزء من الحرم، قال: "أيُّها الناس... إنَّ الله قد حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا"(1)، إلاَّ "لا ترجعن بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"(2). هذا الخطّ الذي تركه للمسلمين، أن لا يكون قتالهم كقتال الجاهلية، بل أراد للمسلمين أن يعيشوا مع بعضهم أُخوة بكلّ ما للأخوة من معنى، أراد لهم أن يكون الحقّ هو أساس العلاقات في ما بينهم، وأراد لهم عندما يتقاتلون أن تنطلق طائفة لتصلح، وعندما تتمرَّد فئة فعلى المسلمين أن يقوموا عليها حتّى تفيء إلى أمر الله {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...} [الإسراء : 33]. هذا هو البرنامج الذي أراد أن يحصِّن به المسلمين من كلّ العوامل التي يمكن أن تثير الخلاف والأحقاد والبغضاء بينهم، ليستغلّها أعداء الله، كما كان اليهود يفعلون ذلك ولا يزال اليهود يعملون في التوجّه نفسه.


حذار من دسائس المخابرات
لعلّنا استمعنا إلى كثير ممّا ذكر في مناسبة نزول هذه الآية {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...} إذ بعد أن دخل الأنصار في الإسلام، أراد اليهود أن يثيروا الحزازات السابقة في ما بينهم، والعصبيّات العشائرية، فجاء يهودي وبدأ يذكّر هؤلاء بانتصاراتهم في الماضي على إخوانهم وبدأ يذكّر أولئك بانتصاراتهم على الآخرين في الماضي، حتّى تنادوا السلاح، السلاح. كلّ واحد يقول نحن انتصرنا، وهكذا غفلوا عن دينهم فاستسلموا لأحقادهم وأضغانهم. عند ذلك جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لهم: "أكفر بعد إيمان". عندئذٍ رجع إيمانهم إليهم، وأكبُّوا على قدمي رسول الله يقبّلونها قالوا: "يا رسول الله سامحنا إنَّ اليهودي أثار أحقادنا ونحن كنّا نسيناها". فنزلت الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103]. هذا الشيء عاشه المسلمون ودخل إلى صفوفهم من كان يثير بينهم العداوة والبغضاء، على أساس وجود كثير من الرواسب الذاتية والعصبية في داخل حياتهم. في ذاك الوقت كان هناك بعض اليهود، والآن عندنا أجهزة دول تتحرّك بيننا، من أجهزة مخابرات تحاول تخريج مسؤولين لتوظّفهم في إدارة الخلافات وإثارة النزاعات. أحياناً تشعر أنّ هذا الخلاف الذي جرى ويجري طبيعي. لا غير صحيح! فهنا مسؤول وهناك مسؤول إذا تَلَفَّت ودرست خلفياتهم فتجدهم مخابرات، والمخابرات في هذه الأيام مناصب، من رئاسة جمهورية أو رئاسة وزارة أو ملكية، بعض الملوك العرب الموجودين الآن قد ربَّته المخابرات من طفولته إلى أن بات في منصبه، وكذلك الجامعات الأميركية في المنطقة، سواء هنا أو غير هنا، الدور الأساسي لها هو أن تصنع للمنطقة مسؤولين على الطريقة الأميركية.
لهذا عندنا الآن الكثير من المشاكل على المستوى العائلي أو المذهبي أو المستوى الطائفي أو العرقي أو القومي أو السياسي، والوضع مهيَّأ لكلّ شيء، والأجهزة حاضرة للضغط على أزرار هذه الخلافات، لكي تنفجر. وهذه الأجهزة تأخذ المظهر الوطني أو الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو أيّ مظهرٍ آخر. هذا ما يجب أن نفهمه ونحدِّق بالواقع وبالمسؤولين في خلفيّاتهم، وعلاقاتهم وبالناس من حولنا، حتى في العلاقات الخاصّة، لأنَّ المخابرات الآن هي التي تقود العالم، حتّى رؤساء الدول الكبار هي التي تصنعهم وهي التي تصنع الانقلابات والفتن والمشاكل والتعقيدات في البلد، ووضع لبنان الآن أسير صراع الأجهزة المخابراتية الدولية والإقليمية.
أمّا الفتنة فلا تعود إلى أسباب طبيعية باعتبار أنّ لبنان يضمّ مسيحيين ومسلمين، ففي غير لبنان يوجد أيضاً مسيحيّون ومسلمون ولا يحدث ما يحدث في بلدنا.
إنَّ المخابرات في هذا البلد تعمل على تأجيج الفتنة اللبنانية، وهذا ما يدفعنا أن نكون واعين لكلّ الدعايات التي تريد أن تثير الفتنة بين المسلمين، سواءً كان المسلمون الذين تتعدَّد مذاهبهم أو في داخل المذهب الواحد.
فلتحرّكنا المبادئ لا العقد
إنَّ على كلٍّ منّا أن يحرس نفسه من نوازعه الذاتية، والإنسان الذي يكون مسؤولاً في أيّ موقع عليه أن يكون مسؤولاً في كلماته، ولا يحاول أن يثير الناس حول أيّ شيء يمثّل عقدة في ذاته، أو محيطه، لأنّك عندما تكون في موقع متقدّم في المجتمع فإنّك لا تسيء إلى نفسك إذا كانت كلمتك سيّئة ولكنّك تسيء إلى المجتمع كلّه، ولهذا ليخزّن الإنسان لسانه كما يخزّن ذهبه، لأنّه في كثير من الحالات، الكلمة تحرق بلداً وتثير حساسيّات، ولاسيّما إذا كانت الكلمات منطلقة من عقدة ذاتية ضدّ جهة معيّنة أو ضدّ شخص معيّن أو ضدّ فريقٍ معيّن، ولهذا يتفاضل الناس الذين يحملون المسؤولية بين إنسان يعيش المسؤولة من خلال المحافظة على وحدة الناس، والمحافظة على مواقع الخير والعدل والحقّ للنّاس؛ وبين إنسان يتحرّك من خلال العقدة التي تعيش في ذاته وفي حياته. هذا ما يجب أنْ نتعلَّمه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى نستطيع أن نحفظ أنفسنا على خطّ الحقّ، وحتّى نستطيع أن نحفظ حياتنا على خطّ العدل، ونحمي أنفسنا من الأعداء الذين يريدون أن يكيدوا لنا على كلّ صعيد وعلى كلّ مستوى.
مشروعنا في حجم العالم
إنَّ الواقع الذي نعيشه الآن ـــ وقبل الآن ـــ هو إنّه لن يسمح لنا كمسلمين أن نتحوّل إلى قوّة في العالم تملك زمام أمرها في المستقبل، ولن يسمح لنا كمستضعفين يمكن أن يتّحدوا ليكونوا قوّة في وجه المستكبرين. لن يسمح لنا أن نكون قوّة نملك ثرواتنا لنوظّفها في خدمة قوّتنا، ونملك قوّتنا لنحرّكها من أجل مستقبلنا، ولنجعلها تنطلق على أساس قوّة رسالتنا، لأنّنا كمسلمين مدعوون إلى أن نكون الدُّعاة للإسلام في العالم، لأنَّ الله أراد أن يكون الدين كلّه لله، وهذا ما يحمِّلنا المسؤولية في ذلك، وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني حفظه الله، عندما توجَّه إلى المسؤولين هناك في الجمهورية الإسلامية وهو يتحدّث عن إعمار البلد بعد الحرب، في حين كانت أجهزة الإعلام العالمية تتحدّث أنّه من الممكن لإيران أن تسقط في أحضان الاستكبار في إعمار البلاد وبذلك تكون تحت رحمة الاستكبار في السلم بعد أن لم يستطع الاستكبار أن يفرض عليها ما يريد في الحرب. وكان حديث الإمام حديث الإعمار، وكان من كلماته (حفظه الله) أنّه قال لهم: إنَّ استمرار دوام الجمهورية الإسلامية يعتمد على أساس سياسة لا شرقية ولا غربية، وإنَّ العدول عن هذه السياسة هو خيانة للإسلام والمسلمين، ويؤدّي إلى زوال عزّة وسمعة واستقلال البلاد. وقال لهم، للشعب هناك: "إنَّ عليكم أن تظلُّوا محتفظين بحقدكم المقدَّس ضدّ استكبار الدول الكبرى، وأن تستمروا بذلك، حتّى ترفرف راية الإسلام على العالَم ويرث المستضعفون والحفاة والصالحون الأرض". ولهذا كنّا معه، مع قيادته، لأنّه لم يتحدّث مع الإيرانيين عن إيران كدولة يريد لها وحدها أن تأخذ العزّة، أو يريد لها أن تسيطر على محيطها من موقع الاستكبار، ولكنّه كان يفكّر أن يكون السلم حرّاً من سيطرة الشرق الاستكباري، وأن يحمل كلّ مسلم الحلم الكبير الذي كان يحمله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكي ترفرف راية الإسلام في العالَم.
إنَّ عليك أن تكون المسلم العالمي وأن تُعِدّ نفسك في ثقافتك وفي خبرتك وفي كلّ طاقاتك، لتنطلق إلى كلّ مكان يحتاجك فيه الإسلام في العالم. أن لا نكون من الذين يختنقون في الزوايا فيحصر كلّ واحدٍ نفسه في زاوية صغيرة في قريته، أو في وطنه. نحن المسلمين نتحرّك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، لسنا عدوانيّين كمسلمين، ولكنَّنا نرفض أن يعتدي علينا أحد، وعلينا أن لا نفكِّر في بلد صغير نأخذ فيه جزءاً ولكن علينا أن نفكِّر بالعالم على أساس المراحل، وعلى أساس أن نرتبط بكلّ المسلمين في العالَم، والله لا يريدنا أن نكون محشورين في هذه الزاوية. تلك هي قيمة قيادة الإمام حفظه الله، قيمته أنّه جاء إلى مجتمع يفكّر فيه المسلمون تفكيراً وطنياً أو قومياً، فقال لهم فكِّروا إسلامياً وعالمياً، حتّى لا يعيش الإنسان مختنقاً داخل كلّ مشاعره وحتّى لا تنجح المؤامرة التي يريد الكفر والاستكبار من خلالها أن يفصل المسلمون بعضهم عن بعض، وأن يقطعوا أوصالهم، ليحمل كلّ مسلم حقداً على المسلم الآخر.
لن نستسلم للمؤامرة الأميركية
إنَّ الله أرادنا أن نكون الدُّعاة إليه والمجاهدين في سبيله والسائرين على خطّه المستقيم في كلّ مكان، ونحن عندما نريد أن نثير المسألة السياسية في كلّ موقع من المواقع فإنّنا لا ننظر إلى المشكلة الطائفية لنخطّط في سياستنا على أساسها، ولكنَّنا ننظر إلى القاعدة الأساسية للسياسة الإسلامية، نحن نعمل على أساس أن يملك المسلمون والمستضعفون الحريّة في إدارة كلّ أمورهم على الخطّ، الذي يبني لهم عزّتهم وكرامتهم، ومن خلال هذا فنحن نراقب المسألة اللبنانية في حركة الفتنة التي بدأت، وفي كلّ التطورات التي تتحرّك، إنّنا ننظر إلى خطورتها على أساس أنّها تمثّل جزءاً من المشروع الأميركي في لبنان، في ما تضغط به أميركا على الواقع اللبناني في دائرة ضغطها على الواقع العربي، وعلى الواقع الإسلامي، حتّى تحشر الجميع في الزاوية، حتّى يقول الجميع، ولسنا منهم، لأميركا دبّري لنا أمرنا، واتّفقي مع مَن تريدين أن تتّفقي معه، حتّى تحلّي لنا المشكلة "فيك الخصام وأنتِ الخصم والحكم"، أميركا التي أوجدت الفتنة اللبنانية، فتنة 1975 التي صنعها وزير خارجية أميركا السيِّئ الذكر هنري كيسنجر، حتّى تؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية، باعتبار أنّ شخصيّته اليهودية كانت الأساس في كلّ تحرّكاته. هل يمكن أن تفكّر أميركا بأن تحلّ المشكلة؟
تنسيق أميركي ـــ صهيوني
لقد صفَّق الناس للاتفاق الأميركي ـــ السوري على أساس أنّه يحلّ مشكلة الرئاسة ولكنَّ أميركا جاءت وأفسدت الحلّ، لأنَّ الموسم هو موسم الانتخابات الأميركية التي تعتمد على الأصوات اليهودية.
ولذلك من الصعب جداً أن تسير أميركا، في هذه المرحلة بالذّات على الأقلّ، في خطّ يختلف عن الخطّ الإسرائيلي في ما هي سياسة لبنان، وفي ما هو واقعه، ولهذا أفسحت أميركا "لإسرائيل" أن تدخل على الخطّ من موقع التكامل مع أميركا، لأنَّ أميركا تعمل على أساس التحالف الاستراتيجي والأمني مع "إسرائيل" في كلّ المجالات السياسية والأمنية التي تتحرّك في المنطقة.
ضمن هذا الإطار فإنَّ ما يتحرّك في السّاحة ممّن ترونه من الحكومة العسكرية، أو من الوضع القوّاتي، فهو ليس بعيداً عن الخطّة الأميركية والمشروع الأميركي: خُيِّل أنّ هؤلاء تمرَّدوا على أميركا، كيف؟ فالجيش الذي يمجّده الناس ويضعونه في مرتبة فضلى. هذا الجيش يعتبر ميليشية أميركا في لبنان، وقد حاز على توقيع المخابرات الأميركية، وهذا كلام لا نقوله نحن، ولكن يقوله السياسيون الموالون لأميركا، والمعارضون لها. إنّ اعتماد أميركا في تغيير الوضع اللبناني وفي الضغط على حركة السياسة اللبنانية، إنّما هو على الجيش الذي يسهر عليه قسم من ضبّاط الجيش الأميركي والمخابرات الأميركية الذين يقيمون في مركز القيادة اللبنانية، وأنا عندما أتكلَّم عن هذا لا أكشف سرّاً.
ممنوع التدويل أو التعريب
إنَّ قائد الجيش الذي ارتفع بقدرة قادر إلى رتبة عماد رأساً، شرب حليب السباع، وأصبح يواجه أميركا فكيف صار ذلك؟ وهكذا تتحرّك المسألة وتصير هذه الهمروجة بالمؤتمرات والاجتماعات، لكنَّ المشروع الأميركي يسير بطريقة معيّنة والطبخة لا تزال تحتاج إلى نار خفيفة، بعد أن احتاجت إلى نار قويّة، وعلى هذا الأساس يجب أن لا يشعر أحد بالإحباط، وبأنّ السماء ستقع على الأرض إذا لم ينتخب رئيس للجمهورية أو رئيس للمجلس النيابي.
إنَّ دعوات التعريب والتدويل هي دعوات للاستهلاك على أساس أنّه لا يسمح لأيّة دولة أوروبية أو غير أوروبية أن تتدخّل بالشؤون اللبنانية إلاّ لمصلحة أميركا، وهكذا بالنسبة إلى البلاد العربية. التعريب هو أن نأتي بجميع المشاكل العربية ونضعها في لبنان، كلّها بالونات اختبار، لا تملك أيّ شيء في الواقع. هناك وضع يتحرّك يمثّل حركة الأشباح، ويتحرّك في أوضاع ضبابية وخفيّة، ولهذا علينا أن لا تستغرقنا اللّعبة وأن لا تستهلكنا الأوضاع، ولا تثيرنا الكلمات التي تتحرّك من هنا وهناك، ولكن هناك نقطة نحبّ أن نتحدّث بها بمناسبة التحالف بين جيشنا اللبناني المظفّر وبين القوات اللبنانية لنسأل ما معنى هذا؟
تحالف الجيش والقوات
القوات اللبنانية لها سياسة مارونية أوّلاً، ومسيحية ثانياً، وإسرائيلية من قبل ذلك ومن بعد. أمّا الجيش اللبناني فالمفروض أنّه للبنانيين كلّهم فكيف يتحالف مع القوات؟ معنى ذلك أنّ الجيش اللبناني أصبح يلتزم في حركته سياسة القوات اللبنانية، فكيف يمكن لكم أن تطلبوا منّا أن نثق بهذا الجيش، وقد تحوَّل بفعل قيادته إلى جيش المارونية السياسية المتحالفة مع اليهودية الإسرائيليّة؟ كنّا نقول ذلك قبل الآن، لكن الآن نعيش في المرحلة التي يتعرّى فيها كلّ شيء، هذا التطابق والتحالف ضدّ مَنْ؟ بالتأكيد ليس ضدّ "إسرائيل"، إذن هل هو تحالف ضدّ الفريق الإسلامي؟
إنَّنا نطرح هذا السؤال حتّى نستطيع أن نتفهَّم كيف نتحرّك في الواقع، ثمّ علينا أن نتفهَّم شيئاً، وهو هذا الوضع الذي نشاهده في المنطقة الأخرى، حيث تتأسَّس المرتكزات لمشروع الفيدرالية الذي تنادي به بعض الفئات اللبنانية، ليتحوّل إلى أمر واقع. نحن نراقب الوضع وهناك تهاويل تثار من بعض المواقع العربية الرسمية، لتخوِّف الناس.
نحو بناء قوّة تواجه العدوان
السياسة الآن أيُّها الأخوة هي سياسة إثارة الخوف في نفوسنا. الكلمات التي تقال هي لإكمال مسألة التخويف على غرار ما يقال عن أنّ النظام العراقي أرسل عشرات أو مئات الدبّابات إلى المنطقة الشرقية، وأنّ "إسرائيل" يمكن أن تقوم باجتياح على مستوى خطّ البقاع الغربي، حتّى تصل إلى المنطقة الشرقية بطريقة معيّنة، وإنّه يمكن أن يكون هناك نوع من التدخّل العراقي في شمال سوريا، فيجب أن ننسى هذا الكلام لأنّه للتخويف حتّى يسقط الناس أمام الخوف ولا يثبتوا في مواقعهم.
إنَّ الردّ على مسألة التخويف يكون فعّالاً عندما ننطلق لنصنع القوّة التي تجعل من كلّ شخص منّا مدرّباً على السلاح في أيّ وقتٍ يحتاجه السلاح، ومدرّباً على الوعي السياسي في أيّ وقت تحتاجه المعركة السياسية، نحن لا ندعو إلى قوّة عدوانية، ولكنَّنا ندعو إلى قوّة تواجه العدوان حتّى لا يفرض علينا الأمر الواقع في أيّ مجال. نحن ضدّ أيّ تفجير عسكري ولكن إذا أراد أحد أن يفجّر عسكرياً ضدّ مواقعنا، فإنَّ علينا أن نستعدّ لذلك، أن نردّ الاعتداء.

الوحدة أمام الأخطار
وفي هذا المجال أريد أن أقول لكلّ المسؤولين، في أيّ موقع من مواقع المسؤولية، إذا كانوا يخافون الله، إنّ المرحلة هي مرحلة تجميد كلّ الخلافات وكلّ الحساسيّات وكلّ الذاتيّات، على الجميع أن يسحقوا ذاتهم أمام حاجة أُمّتهم. والمرحلة صعبة صعبة. ولهذا إنّ الذين يضعون العصيّ في دواليب الوحدة واللّقاء بين الناس الذين يواجهون الخطر من كلّ جهة، فإنَّ عليهم أن يتّقوا الله في ذلك. وهنا أيضاً كلمات تثير في هذه الأيام مشكلة التحرّك الفلسطيني في ما يتحدّث به الناس عن التحرّك في صور، أو في شرق صيدا، أو في أيّ مكانٍ آخر. إنّنا نريد أن نقول للفلسطينيين بكلّ فصائلهم أن يعلنوا الكلمة وبالفعل رفضهم لهذا التحرّك، حتّى لا يقعوا في دائرة الفتنة التي تقضي على قضيّتهم وقضيّتنا، وحتّى لا نقع نحن في دائرة الفتنة، وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فما هو تفسيركم لذلك؟ إنّ الذين يملكون انتفاضة في حجم انتفاضة الشعب الفلسطيني المجاهد في الداخل، في الضفّة الغربية وغزّة، ويملكون ثورة في حجم هذه الثورة، يغذّيها الإسلام بقوّته، إنّ الذين يملكون مثل هذه الانتفاضة لا يمكن أن يثيروا أيّة مشكلة أخرى في الوحول اللبنانية التي يراد لها أن تُغرق الانتفاضة في وحول الخلافات الداخلية العربية.
إنّنا نتمنّى أن لا يكون لهذه الكلمات التي يسوقها الإعلام المخابراتي أيّ حقيقة، وأن لا يكون لها واقع، ونحن ندعو الطيّبين من الفلسطينيين كما ندعو كلّ أهلنا في الجنوب، أن يكون لهم الوعي الكامل الذي يحدِّق بالأرض جيّداً، حتّى يفحص كلّ ما فيها ويحدِّق بالأفق جيّداً، حتّى يعرف كلّ ما يدور فيه، ويحدِّق بالمستقبل جيّداً حتّى يعرف كلّ ما يحتاجه قبل أن تنطلق الكلمات والمواقف الحادّة، لأنّنا لا نريد حرب مخيّمات جديدة، ولا نريد فتنة لبنانية فلسطينية جديدة، وأعتقد أنّ جميع المخلصين لا يريدون ذلك.

"إسرائيل" وخلط الأوراق
أيُّها الأخوة في كلّ موقع للمسؤولية، إنّ الجميع في المنطقة على مستوى القضايا المصيرية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية، يقفون الآن من أجل أن يلتقطوا أنفاسهم لمراقبة الانتخابات الأميركية، لأنّهم يعتبرونها قد تؤثّر سلباً أو إيجابياً على كثير من المشاريع السياسية والأمنية في المنطقة، وهناك أيضاً مَن يحدِّق في الانتخابات الإسرائيلية، لأنّها ستنعكس في رأيهم سلباً أو إيجاباً على كثير من المواقع السياسية في المنطقة، وربّما تتحرّك الآن بعض الأوضاع في الدائرة الفلسطينية وفي الدائرة اللبنانية لخدمة الانتخابات الإسرائيلية، لأنَّ الانتخابات الإسرائيلية سوف تجعل المسألة اللبنانية ومسألة الانتفاضة الفلسطينية رقمين متحرّكين في مجال الشدِّ والجذب في دائرة الانتخابات الإسرائيلية. لهذا قد تكون المسألة في مجملها مسألة إسرائيلية حتّى تخلط الأوراق وحتى تكون الورقة الرابحة لإسرائيل. لهذا أيُّها الأخوة علينا أن تكون عيوننا في وجوهنا مفتوحة، وعيوننا في قلوبنا مفتوحة، وأن نكون الأُمّة التي تعي حاضرها ومستقبلها، وأن نتابع خططنا في مواجهة الاستكبار كلّه والصهيونية كلّها، وأن نتَّكل على الله توكّل الذي يجاهد، وتوكّل الذي يملك الوعي كلّه في درب الإسلام كلّه، وفي درب الحريّة كلّها.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية