دور الصوم في تصويب قضايانا

دور الصوم في تصويب قضايانا

دور الصوم في تصويب قضايانا(*)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183]، هذه الفريضة التي فرضها الله على كلّ عباده في كلّ رسالاته، كانت تتنوَّع وتختلف في ما يلزم الله به عباده بين تعاليم نبيٍّ وآخر. ولكنَّ المسألة أنّ الله أراد للنّاس أن يصوموا حتّى يستطيعوا من خلال الصوم أن يحصلوا على التقوى، ليكون الصوم طاعة لله في نفسه باعتباره امتثالاً لأمر الله، وليكون طاعة لله من خلال أنّه يحقِّق للإنسان روح التقوى في روحه وعقلية التقوى في فكره وحركة التقوى في حياته ليكون الإنسانُ من خلال الصوم، الإنسانَ التقيّ الذي يخاف الله في نفسه فيراقبها في ما يعيش في نفسه من أفكار ويراقب الله في نفسه في ما يتحرّك به من أعمال ومشاريع. وهكذا يريد الإسلام من خلال العبادات وفي مقدّمتها الصوم أن يصنع الإنسان التقيّ الذي يعيش في الحياة ولا يحتاج إلى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل إنَّ شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة كلّها يجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، ويجعله يحاكم نفسه قبل أن يحاكمها الناس، ويجعله يمنع نفسه ويضغط عليها بأنْ لا تعتدي وأن لا تظلم وأن لا تسيء قبل أن يضبطها الناس.
التقوى هي الأساس، فإنَّ الله يريد من الناس عندما يعيشون الحياة كلّها وعندما يتحرّكون في كلّ قضاياهم، أن يقدِّموا بين أيديهم عند لقاء ربّهم زاداً يتزوّدون به حتّى يستطيعوا أن ينالوا رضوان الله وأن يعيشوا جنّة الله {... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 197]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. التقوى هي العنوان الذي يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته، ليكون الإنسانَ التقيّ اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً وفي جميع مجالات الحياة، لأنَّ لكلّ شيء تقواه؛ فللسياسة تقواها وللحرب تقواها ولحالة السّلم تقواها ولكلّ مجالات الحياة في الاقتصاد والاجتماع، لكلّ منها تقوى، لأنَّ التقوى تعني أن يجدك الله حيث أمرك ويفقدك الله حيث نهاك، فما دام أنّ في كلّ شيء تشريعاً ولكلّ شيء أمراً ونهياً فإنَّ التقوى تكون حيث يكون الأمر الإلهي، والتقوى تكون حيث يكون النهي الإلهي.
وهكذا مَن صام واستطاعَ أن يحصل على التقوى فقد حصل على عمق الصوم في شخصيّته، أمّا مَن صام ولم يحصل على التقوى فإنّه يصدق عليه القول المأثور الشريف المروي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "ربَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائم حظّه من قيامه السهر"(1) ولهذا فإنَّ علينا أن نراقب أنفسنا عندما نصوم، أن نعرف أنفسنا في كلّ يوم: هل استطعنا أن نتقرَّب إلى الله أكثر أم أنّنا ابتعدنا عن الله أكثر؟ هل استطعنا أن يكون التزامنا بما أحلَّ الله وبما حرَّمه أكثر، أم هو أقلّ من ذلك؟ افحصوا أنفسكم يومياً حتّى تعرفوا هل تتحرّكون في خطّ التقوى، أم في الخطّ المضاد تتقلَّبون؟ راقِب نفسك في علاقتك مع نفسك، هل تحجم نفسك عن الحرام لتمنعها أم أنّك تتركها؟ وراقِب نفسك في بيتك، هل تسيء معاملة زوجتك نتيجة سلطتك عليها بدون حقّ؟ هل تسيء معاملة جارك؟ هل تسيء معاملة الناس الذين يعيشون معك ممّن تربطك بهم العلاقات على المستوى العام أو على المستوى الخاص؟ راقِب نفسك يومياً حتّى ترى أنّك تتحرّك في خط ٍّتصاعدي نحو الله، أو أنّك تتحرّك في خطّ تنازلي إلى الشيطان؟
وهكذا يريد الله سبحانه وتعالى من خلال الصوم أن يحقّق لنا كلّ هذا المعنى من التقوى، يمكن تصوّر الصوم على أشكال معيّنة؛ هناك الصوم المادي وهو أن تمتنع عن الأكل وعن الشرب وعن اللّذات الجنسية وما إلى ذلك ممّا يحيط بهذه الأمور الأساسية، هذا الصوم المادي الذي إذا فعلته فقد امتثلت الأمر بالصوم وسقط عنك الواجب، ولكنْ هناك نوع آخر من الصوم وهو أن تصوم عن الكذب، وأن تصوم عن الغيبة، وأن تصوم عن النميمة، وأن تصوم عن الشتم، وأن تصوم عن إيذاء الناس، وأن تصوم عن ظلم الناس، وأن تصوم عن الاعتداء على أرواح الناس وأحوالهم وأعراضهم.. هذا نوعٌ آخر من الصوم، أن تصوم صوماً أخلاقياً يجعلك تراقب نفسك في ما تريد أن تتكلَّم، كما تراقب نفسك في ما تريد أن تأكل أو تشرب، وهكذا تراقب نفسك في ما حرَّمه الله عليك من الأفعال والأعمال الأخرى، لأنَّ الله جعل للإنسان صومين، صوماً صغيراً، وصوماً كبيراً. أمّا الصوم الصغير فهو صومك في شهر رمضان عمّا أرادك الله أن تمسك عنه وأمّا الصوم الكبير فهو صوم العمر كلّه عن كلّ ما حرَّم الله عليك ممّا تقول وممّا تفعل وممّا تتحرّك فيه من مواقف ومن علاقات على كلّ المستويات، والصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير، المعركة الصغيرة مع النفس في شهر رمضان هي مقدّمة للمعركة الكبيرة مع النفس ومع الآخرين في غير شهر رمضان.
ولهذا لا بدّ أن نعيش هذا الصوم من خلال ما نتحرّك فيه في حياتنا اليومية، وقد ورد أنّ الإنسان الذي يمارس الغيبة والكذب وأمثال ذلك، لا صوم له، يعني أنّه يفقد معنى الصوم وروحيّته لأنّه لم يستفد من الصوم في ذلك كلّه، وهكذا نريد للإنسان عندما يعيش الصوم في نفسه أن يمنع نفسه من الأفكار السيّئة والنوايا السيّئة والدوافع السيّئة، لأنَّ مشكلة كلّ واحدٍ منّا هي في أفكاره وفي نيَّاته وفي دوافعه، لأنَّ أفكارنا هي التي تصنع لنا مواقفنا ولأنّ نوايانا هي التي تتحرّك في خطّ علاقاتنا، ولهذا إذا أردت أن تكون الصائم التقيّ المنفتح على الله فإنَّ الله يريد أن يقول لكَ ليست المشكلة أن تكون أعضاؤك صائمة عن الشرّ وعن الجريمة وعن الحرام ولكنّ المفروض أن تكون أفكارك صائمة ومشاعرك صائمة وأن تكون نيّاتك صائمة، لأنَّ للفكر صوماً، فإنَّ الإنسان إذا أراد أن يفكِّر فقد يفكِّر بعض الناس تفكير الخير الذي يبني للحياة سلامتها ويبني للحياة قوّتها ويبني للنّاس قوّتهم، وأنّ للفكر أيضاً طريقاً شرّيراً يخطّط فيه الإنسان للشرّ عندما يفكّر في إيذاء الناس وفي العدوان عليهم وفي ظلمهم وفي انتهاب أموالهم وفي الاعتداء على أعراضهم وحياتهم، هذا فكرٌ شرّير، الذين يفكّرون بهذه الطريقة، الله يقول لهم ليصمّ فكركم عن كلّ فكر الشرّ وليبقَ الفكر متحرِّكاً من خلال غذاء الخير كلّه ومن خلال حركة الخير كلّه والله يقول لكم أيضاً إنَّ لأفكاركم كفراً وإيماناً وإنَّ لأفكاركم عدلاً وظلماً، فلا تظلموا الناس في أفكاركم عندما تحقّقون الانطباع في أنفسكم عنهم من خلال قضايا غير دقيقة ومن خلال مصادر غير موثوقة. لذلك لا بدّ لك أن تكون العادل في انطباعاتك في ما تحمل من انطباعات عن هذا وعن ذاك.
وهكذا لا بدّ أن تكون نيّتك نيّة خالصة لله سبحانه وتعالى.. أنتَ تصوم قربةً إلى الله، وتصلّي قربةً إلى الله، وتحجّ قربةً إلى الله، والله يريد منك أن تتعلَّم من خلال ذلك أن تعيش حياتك في كلّ أفعالك وفي كلّ علاقاتك لتحصل من خلال ذلك على درجة القرب من الله سبحانه وتعالى، فإنّها الدرجة التي لا درجة فوقها في الدنيا وفي الآخرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...} [الأنفال : 53]. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنَّما الأعمال بالنيَّات لكلّ امرئٍ ما نَوَى"(1)، "إنَّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(2).
من هنا، لا بدّ من أن نصوم صوماً جسديّاً، ونصوم صوماً أخلاقياً، ونصوم صوماً فكرياً روحياً شعورياً في مشاعرنا، فالله يريدنا أن نصوم عن محبّة أعداء الله وأن نصوم عن بغض أولياء الله، أن لا نحبّ إلاّ الطيّبين المؤمنين الذين ينفتحون على الله في حياتهم وأن لا نبغض إلاّ أعداء الله في كلّ ما يخطِّطون له ويعملون له، أن لا نُوالي إلاّ المؤمنين ولا نُعادي إلاّ الكافرين المستكبرين؛ ذلك هو صوم المشاعر، كما هو صوم العقل والجسد وما إلى ذلك.

الصوم: دروس للحياة
في هذا الجوّ، نتعلَّم من الصوم درساً للحياة، الدرس الأول الذي نتعلَّمه من الصوم هو التمرُّد على العادات التي نعتادها في حياتنا، فلكلٍّ منّا في حياته عادة، قد تكون العادة محلَّلة وقد تكون محرّمة، هناك عادات ننطلق بها في حياتنا الشخصية وهناك عادات ننطلق بها في حياتنا الاجتماعية، وعلينا أن نستفيد من الصوم، أن نتحرَّر من عبودية العادة، أن لا نكون عبيداً لعاداتنا لأنَّ عاداتنا قد تضغط علينا فتشلّ كلّ قدراتنا على المستوى الصحي وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الشرعي في ذلك كلّه. في الصوم أنتَ تنتصر على عادتك يومياً، في الصباح أنتَ معتاد على أن تشرب القهوة أو الشاي أو أن تفطر في وقتٍ معيّن، وفي الظهر أنتَ معتاد على تناول الغداء، وهناك عادات غذائية في الأكل والشرب، هناك أشياء تعتادها، ويأتي شهر رمضان ليقلب كلّ عاداتك فيأتي الصباح ولا فطور هناك، ويأتي الزوال ولا غداء، وتأتي كلّ مناسباتك الاجتماعية، لا تقدّم شيئاً لأحد ممّا اعتدت أن تقدّمه، ولا يقدّم إليك أحد شيئاً ممّا اعتاد أن يقدّمه لأنَّ الله قال لك: غيِّر عاداتك، افطر في وقتٍ معيّن، غيِّر وقت الإفطار إلى الغروب وغيِّر وقت الغداء إلى السحور، انتصر على إلحاح العادة، لا تخضع لما اعتدته في هذا اليوم، خذ من هذا درساً لحياتك في ما بعد ذلك، أو لحياتك في وقت الإفطار. إذا كانت عندك عادات سيّئة تضرّ بصحّتك وتضرّ عقلك وتضرّ دينك وتضرّ حياتك وأوضاعك الاجتماعية، فاستعِنْ بالقوّة التي حصلت عليها في محاربة عاداتك اليومية، لتكون أساساً للانتصار على عاداتك الأخرى التي قد تكون عادات محرَّمة وقد تكون محلَّلة. الله يريد منك كمؤمن أن تكون حرّاً، أن لا يضغط عليك أحد إلاّ إيمانك، أن لا تضغط عليك عاداتك، وأن لا يضغط عليك الناس من حولك، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن دائماً إذا جاءه أمر الله ونهي الله أن يكون حرّاً في الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا أراد الناس منه أن يتحرّك يميناً ويساراً في غير مصلحته، وفي غير ما يريده الله، أن يقول لا من موقع الحريّة، وأن يقول نعم من موقع الحريّة، لأنَّ الذين يعيشون العبودية لعاداتهم، يعيشون معنى العبودية في شخصيّتهم وبذلك فإنّهم مؤهّلون لأنْ يكونوا عبيداً للطغاة ولأنْ يكونوا عبيداً للمستكبرين ولأنْ يكونوا عبيداً للكافرين.
لهذا، إنَّ الله يريد منك أن تكون الحرّ لتستطيع أن ترفض من موقع إرادة وتستطيع أن تقبل من موقع إرادة، لهذا علينا أن ننتصر على عاداتنا من خلال ما نتعلَّمه في صومنا من الانتصار على العادة.
الصوم: صبر
ثمّ الدرس الثاني الذي نأخذه من الصوم هو الصبر، كلّنا في يوم الصبر نعيش الحرمان ونصبر، نعيش الحرمان في ما نحبّ من مأكولات ومشروبات وملذَّات وشهوات، ولكنّ النفس تلحّ علينا ونحن نتحمّل الحرمان في ذلك كلّه، نصبر، نضغط على أنفسنا، نضغط على إرادتنا، نصبر ونحن نتألَّم، نتألّم لأنّ الأكلة أمامنا ولم نأكلها، ولأنّ الشراب أمامنا ولم نشربه، نتألّم والجوع يفتك بكلّ أجهزتنا الجسدية، والعطش يفتك بنا في ذلك كلّه، والشهوة تحرقنا في بعض المجالات. لهذا نحن نصبر في شهر رمضان، ولا بدّ لنا أن نتعلَّم الصبر في الحياة كلّها، ليكون شهر رمضان المدرسة التدريبية التي نتدرَّب فيها على أن نمنع أنفسنا عن بعض شهواتها، ونصبر على كلّ المشاعر المضادّة لما نريد، كلّ المشاعر التي تفترض حياتنا.
والصبر على أقسام: صبر على البلاء؛ إذا جاءك البلاء من كلّ جانب سواء كان بلاءً في خطّك العقيدي أو في خطّك الشرعي أو في خطّك الجهادي أو في خطّك السياسي، إذا جاء البلاء اصبِرْ وتعلَّم من الصوم كيف تضغط على نوازعك الذاتية في ذلك كلّه، تعلَّم كيف تكون الصابر في مواقع البلاء كما أنت الصابر في مواقع الحرمان في الصوم، وتعلَّم أيضاً أن تصبر على طاعة الله، وطاعة الله قد تكلِّف الإنسان الكثير من جهده، قد تخسرك طاعة الله مالاً في ما يريدك الله أن تدفع المال فيه، وقد تحرمك طاعة الله جاهاً في ما يريدك الله فيه أن تتنازل عن جاهٍ محرَّم، وقد تخسرك طاعة الله جهداً وقوّة، وقد تخسرك طاعة الله حياتك في بعض الحالات. عليك أن تتعلَّم من صبرك على الصوم كيف تصبر على كلّ مواقع طاعة الله في العبادات وفي المعاملات وفي كلّ العلاقات وفي كلّ أوضاع الناس من قريب ومن بعيد. ثمّ أن تتعلَّم الصبر عن المعصية، عندما تأتيك المعاصي لتخاطب غرائزك ولتخاطب شهواتك ولتخاطب أطماعك ولتخاطب كثيراً من نوازعك الذاتية. عندما تأتيك المعاصي وتلحّ عليك وتحرق كيانك بشهواتها وبكلّ ذلك، اصبر عن معصية الله كما كنت تصبر أيُّها الصائم عن معصية الله وأنتَ في حال الصوم. الصبر هو الدرس الثاني الذي نتعلَّمه من الصوم، ولذلك فإنَّ علينا أن نجعل الصوم صوماً واعياً ننتقل فيه من موقعٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ إلى أخرى.
الصوم يحرِّك الضمير الشرعي
الدرس الثالث الذي نتعلَّمه من الصوم هو درس الحالة الروحية التي تجعل الإنسان يعيش الضمير الشرعي، الوازع الديني، أن يكون لك ضمير شرعي يحاسبك، بعض الناس يتحدّثون عن الضمير بعيداً عن الخطوط التي يتحرّك فيها الضمير. والله يريد منك أن يكون لك ضمير ديني، أن يكون لك ضمير شرعي، بحيث أنّك إذا أقبلت على ما حرَّم الله فإنَّ ضميرك الشرعي يؤنّبك ويحاسبك، ليقول لك يا عبد الله إنّك أسأْتَ إلى الله في ذلك، وإذا أردت أن تترك واجباً شرعياً فإنَّ ضميرك يحاسبك ويؤنّبك. أن يكون عندك ضمير شرعي بمعنى أن تكون لك ذهنية شرعية تقيّة منفتحة على الله سبحانه وتعالى لتمنعْك ولتحاسبك ولتهمس إليك في كلّ مشاعرك، يا عبد الله اتقِ الله، يا عبد الله أطع الله يا عبد الله لا تعصِ الله، الذهنية الشرعية تقول لك ذلك في كلّ موقع من مواقع حياتك، لأنّك في الصوم تعيش هذا الجوّ، تشعر أنّك وحدك، لا يراك أهلك ولا يراك الناس من حولك، وتجوع، وقد تقول لك نفسك: إنَّ لك أن تأكل وليس هناك من أحد، ولكنّك لا تأكل، وليس هناك أحد تخافه، لماذا، لأنّك تقول لنفسك عندما تدعوك إلى الأكل ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الشرب ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الأخذ باللّذّات ولا أحد هناك، تقول لنفسك صحيح، لا أحد هناك ولكنَّ الله هو الذي يملك السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا كان الله يعلم ما قد لا أعلمه من نفسي فكيف أتَسَتَّر مِنَ الله، وهل يمكن أن أتَسَتَّر مِنَ الله الذي لا ساتر يحجبه عن خلقه أو يحجب خلقه منه، يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين لا تغشى بصره الظلمة؟. أَلاَ تدعون ذلك في أدعية النهار في شهر رمضان؟ لا تغشى بصره الظلمة ولا يستتر منه بستر، ولا يواري منه جدار ولا يغيم منه ما في برٍ ولا بحر لأنَّ عينه النافذة تنفذ إلى كلّ شيء، هذه الروح التي تحصل عليها وأنتَ صائم لا تستر لأنّ الله يراقبك في غير وقت الصوم، حاوِل أن تستفيد من ذلك إذا جاءك الشيطان وطلب منك أن تكون جاسوساً للظالمين وقالَ لك: لا أحد يسمعك، لا أحد يعرفك، لا أحد ينظر، اتفاقنا بيننا وبينك سرّي، قل: هل تضمن لي أن يكون الاتّفاق سريّاً عن الله، إذا دعاكَ الناس من حولك إلى أن ترتكب أيّ محرم لأيّ حساب، وقالوا لك: إذا كنتَ تخاف الناس فليس هناك مَن يبصرك سنذهب إلى مكانٍ لا يرانا فيه أحد، قل لهم: إذا كنتم تضمنون لي أن لا يبصرني الله فأنا معكم. كما قالت تلك المرأة العفيفة لشخصٍ أراد أن يعتدي عليها بالحرام ولم يكن هناك أحد، وكانت الجزيرة خالية من كلّ أحد، وارتعبت المرأة فقال لها: لماذا ترتعبين وتخافين وليس هناك إلاّ الكواكب، قالت صحيح ولكن أين مكوكبها، أين الذي خلقها، وكوكبها؟ إنَّ الله يرانا برغم عدم وجود أحد.
لنحاول جميعاً أن نزرع في أنفسنا هذا الوازع الديني، وهذا الضمير الشرعي الذي يجعلنا نشعر برقابة الله علينا وبحضور الله في حياتنا {... مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا...} [المجادلة : 7].
هكذا نستفيد من الصوم، تربية الضمير الديني، الضمير الشرعي، الوازع الديني الذي يحمينا من شهواتنا ويحمي الناس منّا في ما نريد أن نسيء به إلى الناس.
الصوم: جوع وعطش واعٍ
ثمّ الدرس الرابع الذي نستطيع أن نتعلَّمه هو أن يكون جوعنا جوعاً واعياً وعطشنا عطشاً واعياً، إذا جعت وأحسست بالجوع، وربّما ليست عندك فرصة في حياتك أن تحسّ بالجوع لأنّك من الناس الذين إذا أردت شيئاً وجدته، إنّ الله يريد للنّاس أن يحسُّوا بالجوع ليفكِّروا أنّ هناك جائعين، ليفهموا لسعات الجوع في مشاعر الجائعين، ليعرفوا معنى الجوع، فإذا عرفوا معنى الجوع وأحسُّوه وذاقوه استطاعوا أن ينفتحوا على مشكلة الجوع من موقع الحسّ، لا من موقع الفكرة التي تبتعد عن الحسّ.
وهكذا إذا عطشت فإنّك تفكّر أنّ هناك ناساً يعطشون ويظمؤون فتفكّر فيهم كيف تحلّ مشكلة جوعهم وكيف تحلّ مشكلة عطشهم؟ لأنَّ المشكلة في الكثيرين من الناس أنّهم لا يصدّقون أنّ هناك جائعين، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة الجوع، ولم يصدّقوا أنّ هناك عطاشى، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة العطش، وهكذا في كلّ مجالات الحياة التي يعيش فيها بعض الناس الحرمان بطريقةٍ وبأخرى.
هذا هو الجوّ الذي ينبغي لنا أن نعيش فيه مع الصوم من أجل أن نعيش التقوى في كلّ مجالاتها العملية.
ثمّ قال الله في هذه الأجواء يا محمّد قد لا يعرفني عبادي، يا محمّد قد يسألك عنّي عبادي، لأنّهم لا يعرفون قربي منهم، قد يتصوَّرونني بعيداً عنهم، قد يتصوّرونني في واقع لا أستجيب لهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة : 186] لماذا يبتعدون عنّي، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد خلقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد رزقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وأنا أتعهّدهم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، لماذا يبتعد عبادي عنّي، هل يتصوّرونني بعيداً عنهم هناك في السّماء، وهل الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة : 186] عندما أُناديهم، أكون قريباً أجيب دعوتهم، لماذا لا يدعونني؟ لماذا تقدمون كلّ دعواتكم وكلّ عروضكم للآخرين من عبادي الذي يحتاجونني كما تحتاجونني أنتم؟ لماذا تقدِّمون طلباتكم إلى الذين يذلُّونكم وإلى الذين قد لا يستجيبون لكم؟ أنا ربّكم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] هذه هي الروح التي يريد الله لنا أن نعيشها عندما نعيش معه، أن نقترب إليه بكلّ حياتنا وبكلّ آلامنا وبكلّ مشاكلنا وبكلّ قضايانا وبكلّ خطوطنا، أن نجلس بين يديه. أيُّها الناس إنّكم تجلسون إلى كلّ الناس من حولكم فلماذا لا تجلسون إلى ربّكم وقد دعاكم إلى أن تجلسوا إليه، إنّكم تتحدّثون بعضكم إلى بعض حديثاً كثيراً وتتناجون في ما بينكم مناجاة كثيرة، فلماذا لا تتحدّثون إلى ربّكم، ولماذا لا تناجونه في كلّ ما يهمّكم؟ اجلسوا إلى الله، تعلَّموا محبّة الله، تعلَّموا أن تكونوا أصدقاء الله، هل غريب أن يكون بشر صديقاً لله {... وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء : 125]، إبراهيم جعله الله صديقه، لماذا جعله الله صديقه، لأنَّ إبراهيم {قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، وعندما أسلم لله كلّ حياته، وأعطى لله كلّ وجوده وكلّ ما عنده اتّخذه الله خليلاً لأنّه عَرَفَ منه صدق النيّة وصدق العبودية وصدق المحبّة في ذلك كلّه.
مناسبة لإعادة النظر بالأحقاد
في هذا الجوّ لا بدّ أن نطلّ على كلّ واقعنا الذي نريده أن يكون واقعاً تتحرّك فيه الروحانية التي تجعلنا نفكِّر روحياً كما نفكّر مادياً، وأن نفكّر في حسابات الله كما نفكِّر في حسابات الناس، فلعلَّ بعض مشاكلنا أنّ كلّ تفكيرنا يستغرق في النظر إلى حساباتنا المادية ولا يستغرق في النظر إلى حساباتنا الروحية، هل فكَّرنا ونحن نتنازَع ونختلِف ونتقاتَل ونتحاقَد، هل فكّرنا كيف يكون موقفنا من الله، أم فكَّر كلّ إنسان كيف يكون موقفه من هذا الإنسان أو ذاك؟ لماذا نستغرق فيمن نعبدهم من دون الله وهم لا يستطيعون أن ينصرونا، ولماذا لا نفكِّر بالله، إنَّ حسابات الدنيا البعيدة عن الآخرة تموت في الدنيا، أين الأغنياء الذين تملأ دفاترهم دوراً وأماكن واسعة، أين ذهبت كلّ تلك الدفاتر؟ هل أخذوها معهم ونتائجها إلى قبورهم، نتائجها الإيجابية ونتائجها السلبية، أين كلّ الملوك وكلّ الطغاة وكلّ الجبابرة وكلّ هؤلاء الذين طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، أين كلّ ما عندهم؟ تركوه وراءهم واستقبلوا الله بكلّ نتائج الحسابات.
ونحن في شهر رمضان الذي أفاض الله فيه روحيّته علينا جميعاً وجعله شهره وجعلنا ضيوفه وجعلنا من أهل كرامته، في هذا الجوّ الروحي، لماذا لا نجعل روحيّتنا تتفايض على علاقاتنا؟ لماذا لا نعيد النظر في كلّ ما انطلق فيه المستكبرون والضالّون والمضلّلون والفاسقون ليملؤوا قلوبنا بالحقد بعضنا على بعض. الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10] وأنتم تقولون لبعضكم إنّهم أعداء، كيف يمكن أن نجمع هذا مع هذا، لماذا نصرّ على الخطأ؟ ولماذا نصرّ على الفتنة؟ ولماذا نصرّ على أن نكون أدوات وقطع شطرنج بيد الآخرين ممّن يكيدون للإسلام وأهله وللإيمان وأهله؟ فلنرجع إلى الله ولنجلس في حساب مع الله، ولنعرف أنفسنا هل نحن سائرون أم راجعون، هل نحن متقدّمون أم متأخّرون؟ هل نحن في طريق الله أم في طريق الشيطان نسير؟ فكِّروا في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...} [البقرة : 185]، تعالوا إلى القرآن فاحتكموا إليه، وتعالوا إلى القرآن فاهتدوا به، وتعالوا إلى القرآن ولينفتح بعضكم على بعض من خلاله، إنَّ الشيطان يعمل على أن يكيد، وإنَّ الشياطين تتحرّك لتكمل اللّعبة وتتحرّك من أجل أن تسقط الإسلام والمسلمين ومن أجل أن تهاجم الإيمان والمؤمنين بكلّ الوسائل، فإذا كان لكم شغل بإسلامكم، وإذا كان لكم شغل بإيمانكم فانطلقوا حتّى تنفتحوا على الله وتنغلقوا على الشيطان. لقد قال الله لنا عن الشيطان: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة : 91]. أقولها لكلّ إخواني المؤمنين والمؤمنات ممّن عبثت بهم الفتنة، وممَّن كانوا وقودها، وممَّن يعمل الآخرون من أجل أنْ يحرِّكوها ويمدّوها على أساس العصبيّة لا على أساس الإيمان؛ لنترك العصبية جانباً ولننفتح على كلام الله ولنرتبط بأحكام الله ولنعرف أين مواطن طاعة الله وأين مواطن معصية الله، لنستفد من شهر رمضان، لنرجع إلى ربّنا ولنرجع إلى إيماننا ولنرجع إلى وعينا في ذلك كلّه. إنَّ الأعداء يحيطون بنا من كلّ جانب، على مستوى الداخل والخارج، وإنَّ الأحزاب قد تجمَّعت، أحزاب دولية ولا أتحدَّث عن أحزاب محليّة، تماماً كما هي الأحزاب تجمَّعت على رسول الله، وأرادت أن تحاصر المدينة، فالأحزاب الأميركية والأوروبية والسوفياتية تجمَّعت على الإسلام من أجل أن لا تُمكِّن المسلمين من أن يأخذوا حريّتهم ويربحوا قضاياهم وأنْ يتحرّكوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، إنّهم يحيطون بنا من كلّ جانب ويخطّطون لنا في كلّ مجال ويعملون على أن يعقدوا حلفاً غير مقدَّس، حلفاً دولياً أو حلفاً إقليمياً يتحرّك من خلال أدوات محليّة.
صفّاً واحداً أمام الكفر
في هذا المجال، لا تستغرقوا في خصوصيّات اللعبة ولكن استغرقوا في الأجواء التي تتحرّك فيها كلّ هذه الخيوط التي يُراد تحريكها في حياتنا من أجل أن يكون بأسنا شديداً بيننا، ومن أجل أن نكون رُحَماء على الكفَّار أشدَّاء في ما بيننا. المسألة هي هذه، ونحن نريد أن نذكّر كلّ أهلنا هنا وفي البقاع وفي الجنوب بأنَّ الجمهورية الإسلامية قد أرسلت وفداً برئاسة آية الله جنّتي(1)، الرجل العاقل المستقيم العالِم المنفتح، من أجل أن ترأب الصدع ومن أجل أن تجمع الشمل ومن أجل أن تصلح بين المؤمنين والمسلمين على أساس العدل، وعلى أساس الحقّ، وعلى أساس الأبوّة للجميع، ولهذا فإنّنا ندعو الجميع، كلّ الجميع، سواء كانوا في مستوى المسؤولية أو كانوا في مستوى القاعدة، إلى أن يتعاونوا مع هذا الوفد الذي نال بركة إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) من أجل أن تعود الأمور إلى واقعها وينطلق الجميع للوقوف صفّاً واحداً أمام الكفر كلّه وأمام الظلم كلّه وأمام الاستكبار كلّه على أساسٍ من مصلحة الإسلام والمسلمين وعلى أساس من مصلحة المستضعفين، ولا عذر لأحد في أيّ موقع من المواقع في الابتعاد عن رسالة هذا الوفد وعن مهمّته لأنّها تتحرّك في الإطار الشرعي الذي ينبغي لكلّ الناس أن يلتزموه في هذا المجال.
هجمة أميركية على المنطقة
ونحن في الدائرة الواسعة التي نعيشها في هذه المرحلة من تاريخنا الإسلامي، نجد أنّ هناك هجمة أميركية على المنطقة كلّها وعلى كلّ القضايا المرتبطة بكلّ مسائل الحريّة في المنطقة، فنحن نجد مثلاً أنّ أميركا عملت منذ اللحظة الأولى على أساس أن تكون السند القوي لـــ "إسرائيل"، تحفظ أمنها وتخدم سياستها وتحرّك كلّ خيوط اللّعبة السياسية والأمنية في المنطقة لمصلحتها، وإذا جرَّب أحد أن يدينها إدانة كلامية في مجلس الأمن فإنّها تبادر إلى منع ذلك، لأنّها تريد لـــ "إسرائيل" أن تكون القوّة الكبرى في المنطقة لتحميَ مصالحها الذاتية ومصالح أميركا الاستكبارية في المنطقة، لتكون شرطي المنطقة، ولتكون الذراع الذي تضرب به أميركا. وقد لا يكون من المصادفة أنّ أميركا توقِّع حلفاً واتّفاقاً استراتيجياً في كلّ المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية في ذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس الكيان الصهيوني ويقف رئيس الولايات المتحدة ليقول: إنَّنا نضمن أمن "إسرائيل" بالمطلق، كم يتصدّق على العرب بأنْ يفكِّروا في السلام، ولكن أيّ سلام هو سلام ريغان(1)، إنّه سلام "إسرائيل"، السلام الذي يخدم "إسرائيل" مئة في المئة. وهكذا نجد أنَّ "إسرائيل" تأخذ من أميركا كلّ شيء، أمّا العرب فإنّهم يأخذون الفتات وبشروط تجعل كلّ سلاح يدخل إلى أيّ أرض عربية يكتب عليه ممنوع استعماله ضدّ "إسرائيل"، وعندما أعطت أميركا مصر السلاح فإنّها فعلت بعد أن أصبحت مصر تمثّل إحدى القواعد الاستراتيجية للمصالح الأميركية في المنطقة تماماً كما هي "إسرائيل". ولذا فإنَّ أميركا في المنطقة تتحرّك على دعامتين أساسيّتين استراتيجيّتين هما مصر من جهة و"إسرائيل" من جهةٍ أخرى، إنَّ أميركا انطلقت قبل مدّة في مبادرة وقالت: إنّها أفكار للسلام ومبادرة للسلام، ولكنّها انطلقت في ذلك على أساس أنّها تريد أن تُفشِل الانتفاضة المجاهدة في فلسطين، وأرادت أن تشغل العالَم عنها، وأرادت أن تقدّم لكلّ الأنظمة العربية بعض الطعم في ما يطالبون به، وبعض التهديد في ما يخافون منه، حتّى لا يمتدّوا كثيراً في تأييد الانتفاضة ولو شكليّاً، إنّها رأت أنّ العالَم شُغِل بالانتفاضة، وأنّ مصداقية "إسرائيل" التي كانت تقدّم نفسها على أنّها الدولة الديمقراطية الحضارية في المنطقة أصبحت تمثّل الدولة المتعسّفة النازية في المنطقة، وأصبح الكثيرون في الغرب يقارنون بينها وبين النازي في ما تفعله في فلسطين، عند ذلك خافت أميركا على مصداقية "إسرائيل" وعلى مصداقيّتها هي، ولذا أطلقت المبادرة، وجاء وزير خارجيّتها في جولات ورحلات مكوكيّة يعرف أنّها لن تؤدّي إلى نتيجة، ولكنَّ النتيجة التي كانت تريدها، هي أن يشغل العالَم عن الانتفاضة بالمبادرة الأميركية. ولهذا أصبح الحديث في الواقع السياسي عن المبادرة الأميركية وأصبحت الانتفاضة على هامش المبادرة، وأصبح بعض حكَّام العرب ومنهم مبارك غير المبارك، الذي كان يطلب هدنة ستّة أشهر لوقف الانتفاضة حتّى يدبّروا الأمر، كأنَّ المسألة الفلسطينية لم تدبّر كليّة ولم يعرفها أحد أو لم يفهمها أحد، ولهذا كان كلام وزير خارجية أميركا في البداية عندما قالوا له: ألاَ تخاف من الفشل قال: إنَّ الفشل صناعتي، يعني هو يعرف أنّه سيفشل، ولكنّه يريد أن يسوّق الفشل بنجاح.
وهكذا رأينا أنّ العالَم سَكَتَ الآن، بدأ يسكت عن فظائع "إسرائيل" في الانتفاضة في الوقت الذي انطلقت "إسرائيل" لتزيد من فظاعتها ووحشيّتها وهمجيّتها أكثر بكثير من بداية الانتفاضة. أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية إلاّ لحساب المصالح الإسرائيليّة.
ورقة أميركية
وهكذا انطلقت أميركا هنا في لبنان، وبدأت تتحدّث عن حلّ، وبدأ الكثيرون يهلِّلون ويصفّقون ويقولون: وأخيراً تنازلت أميركا وبدأت تهتمّ بنا، وبدأ السياسيون يتحدّثون عن التفاؤل وعن الآمال الكبيرة التي سنجنيها من خلال ذلك، فماذا حدث؟ إنَّ طبخة البحص هذه انطلقت هنا وهناك وبدأوا يقولون: إنّها تعسَّرت وإنَّ الأمر يتحرّك الآن بطريقة ضبابيّة وبدأ الكلام، إنَّ أميركا لم تأتِ إلى لبنان لتفصل بين الأزمة اللبنانية وبين مشكلة الشرق الأوسط التي هي المسألة الفلسطينية وإنّما جاءت لتزيدها ارتباطاً ولتجعلها ورقة تلعب بها عندما يأتي المؤتمر الدولي. إنّها خافت أن تسقط الورقة اللبنانية من يدها، ولهذا جاءت لتعقِّد المشكلة وتجعل الجميع يتحدّثون عن المشاركة وغير المشاركة، ولكن من دون طائل، وهي تعرف كيف تخلق الطرق المسدودة والأبواب المسدودة. ولهذا فإنَّ المحادثات التي قامت بها أميركا في هذا المجال ليست هي المحادثات اللبنانية في الدائرة اللبنانية، بل كانت في المحادثات الإقليمية في مصالح أميركا في المنطقة لا في مصالح اللبنانيين في لبنان وإنّما كانت تلك المحادثات مجرّد غطاء لأشياء أخرى في هذا المجال. ومن هنا فإنَّ اللبنانيين يقفون الآن بعد كلّ تلك الجولات أمام الجوّ الضبابي الذي لا يعرفون فيه ماذا حدث وماذا هناك، لأنَّ المسألة اللبنانية ليست مسألة محليّة في بدايتها وإنّما هي مسألة خارجية، إنَّ الفتنة اللبنانية تدخل في دائرة السياسة الخارجية اللبنانية وللدول الإقليمية والدولية ولا تدخل في دائرة السياسة المحليّة لكنَّ السياسة المحليّة اعتبرت طعماً لحركة السياسة الخارجية، ولهذا فقد لا نستطيع أن نقول للناس أنْ يناموا على حرير لأنَّ حرير أميركا هو شوك ينخز كلّ وجودنا وكلّ مستقبلنا.
ولهذا فإنَّ علينا أن نفهم القضية على هذا الأساس، لأنَّ أميركا لا تريد خيراً بكلّ الشعوب إلاّ بما يخدم مصالحها من قريب أو من بعيد.
أميركا وعدوانها على الخليج
إنّنا نريد في هذه الدائرة أيضاً أن نفهم أميركا جيّداً من خلال ما قامت به في الخليج من ضرب المنصّتين الإيرانيّتين اللّتين لا تحملان أيّ طابع عسكري بل لهما طابع اقتصادي نفطي، وفي الوقت نفسه ضربت بعض السفن والزوارق الإيرانية على أساس أن توحي لإيران بأنَّ عليها أن لا تخربط مواقعها وأن لا تسيء إلى وجودها في الخليج باعتبار أنّها سيّدة الخليج، ولم تقتصر على ذلك بل إنّها أعطيت الضوء الأخضر لاحتلال الفاو بطريقةٍ وبأخرى، ربّما لم يكشف النقاب عن تفاصيلها، ولكنَّ الجميع يجمعون على أنّ الجوّ في المنطقة وفي المعركة كان جوّاً أميركياً، قد يكون بشكلٍ مباشر وقد يكون بشكل غير مباشر، وهلَّل الكثيرون لهذه الهجمة الأميركية وتساءلوا بإشفاق أنّ إيران تريد أنْ تنتحر عندما تقف في وجه أميركا، ولكنّهم لا يعرفون أنّ الجمهورية الإسلامية تنطلق من قاعدة شعبية واسعة تدعم كلّ مواقفها وكلّ مواقعها حيث إِنّ الشعب هناك يشتدّ أكثر ويقوى أكثر كلَّما وجّهت إليه الصدمات أكثر وكلّما وجّهت إليه التحدّيات أكثر، لهذا كانت إيران الإسلام تعمل على أساس أن توحي لأميركا بأنَّ الضربة لا بدّ أن ترد بضربة، وإنَّ أيّ موقف لا بدّ أن يقابله موقف، لأنَّ المسألة الآن ليست مسألة الحرب العسكرية الشاملة أو الحادّة بين إيران وبين أميركا، بل إنَّ المسألة المطروحة في السّاحة الآن هي الحرب النفسية التي تريد أميركا من خلالها أن تضغط نفسياً على إيران وعلى الشعب الإيراني حتّى يسقط أمام الجبروت الأميركي، ولهذا ربّما استطاعت أميركا أن تؤذي إيران أكثر ولكن أن تقف إيران أمام البوارج الأميركية لتسقط طائرة أميركية ولتغرق فرقاطة أميركية؛ هذا في الحسابات العسكرية النفسية يعتبر انتصاراً كبيراً، لأنَّ المسألة أنّ المنطقة قد اعتادت أنّ أميركا إذا أرادت شيئاً أن ترفع لها كلّ الأيدي خضوعاً وانقياداً في كلّ المجالات، أمّا أن يبقى هناك أحد يقف ليؤكّد شعاراته من موقع أن يقابل الضربة بضربة بقطع النظر عن النتائج السلبية، إنَّ هذه رسالة تؤكّد أنّ الإسلاميين لن يستسلموا وأنّهم عندما رفعوا شعاراتهم في العالَم فإنّهم لم يرفعوها من موقع الانفعال والحماسة ولكنّهم رفعوها من موقع التخطيط والدراسة الدقيقة الواعية. إنّنا نريد أن نقول دائماً كما كنّا نقول في أكثر من مجال، إنَّنا لسنا ضدّ الشعب الأميركي ولسنا ضدّ الشعوب الأوروبية ولسنا ضدّ شعوب العالَم الآخر وإنْ كنّا نختلف مع هذه الشعوب في كثيرٍ من المواقع والمواقف الفكرية والسياسية لأنّنا لا نعتبر أنَّ علاقات الشعوب في ما بينها يمكن أن تنطلق من خلال أنّ الاختلاف يعني الحقد ويعني العداوة، لكنَّنا ضدّ الإدارات السياسية التي تعمل على العبث بقضايانا وعلى مصادرة حاضرنا ومستقبلنا وعلى تحويلنا إلى حيوانات للتجارب. إنّهم يخترعون الأسلحة ويعطونها لـــ "إسرائيل" ولغير "إسرائيل" من أجل أن يجرِّبوا الأسلحة بنا ومن أجل أن يجعلوا ساحاتنا مختبراً للتجارب لأسلحتهم.
أميركا مسؤولة عن قتل الأطفال
لهذا إنَّنا نعتبر أميركا مسؤولة عن كلّ طفل يسقط وعن كلّ امرأة وعن كلّ شيخ وعن كلّ بيت يدمَّر، لأنَّ ذلك يحدث من خلال السلاح الأميركي ومن خلال السياسة الأميركية ومن خلال الدعم الأميركي. إنَّ أميركا تتحدّث عن الإرهاب وعن العمليات الإرهابية، لكنّها لا تتحدّث بكلمة واحدة عن العمليات الإرهابية الإسرائيليّة، كيف نفسّر عملية اغتيال أبو جهاد التي نفَّذها كومندوس إسرائيلي يذهب بطريقة معيّنة ويهجم على بيت شخص بطريقة أمنية دقيقة ويقتله بهذه الطريقة التي عرفها الناس من خلال الإعلام، ماذا نسمّي ذلك؟ أليسَ هذا، حتّى في المصطلح الدولي، عملية إرهابية؟ لأنّك عندما تهجم إلى بيت شخص وتقتله، أيّ إرهاب غير هذه الصورة، أيّ إرهاب غير ما تعطيه هذه الصورة؟ كيف أنّ أميركا لم تستنكر هذا الإرهاب وهي عملية إرهابية مئة في المئة، قد يكون عذر أميركا أنّ هذا القائد الفلسطيني يعتبر في موقع المقاتِل لـــ "إسرائيل". فالعملية عملية قتال وعملية حرب. إذاً لماذا لا تقولون: إنَّ كلّ الذين يقومون بعمليات مماثلة أو غير مماثلة يفهمون أنّ المسألة مسألة حرب، لماذا عندما يكون الإرهاب إسرائيليّاً يكون دفاعاً عن النفس، وعندما يكون من جهةٍ أخرى يكون جريمة، وما إلى ذلك، نحن لا نريد للإرهاب أن يفرض نفسه على العالَم، وقد قلنا مراراً: إنّنا لا نوافق على الإساءة إلى الأبرياء، ولكن لماذا يكون هناك صيف وشتاء تحت السقف الأميركي في السّاحة العامّة في الحياة. من هنا إنّنا نريد أن ننبّه إلى أنّ أميركا تريد أن تظلِّل العالَم وتجعله يتبنّى كلّ شعاراتها وكلّ لافتاتها. إنّنا نريد أن نقول: إنَّ علينا أن نحدِّق بكلّ هذه اللافتات الأميركية لنعرف المسألة تماماً؛ لنعرف أنّ أميركا تنسّق مع "إسرائيل" في مصادرة الشعب الفلسطيني وفي إذلاله، وفي مصادرة الشعب اللبناني وفي إذلاله بكلّ ما عندها من طاقة، ولكنّها أرادت من خلال ذلك أن تسقط انتفاضة هذا الشعب وأن تعتبر المسألة مسألة إحداث شغب وإحداث فوضى وما إلى ذلك، لكنَّ ثقتنا بالشعب المجاهد في فلسطين وبالشعب المجاهد في لبنان، إنَّ ثقتنا بشعبنا المنفتح على الإسلام والمنفتح على الإيمان تجعلنا نشعر بأنَّ الشعلة لم تنطفى، وأنّ المسيرة سوف تتقدَّم، وأنّ الشهداء سوف يصنعون النصر عاجلاً أو آجلاً، وأنَّ المسألة في كلّ حركات الشعوب هي أن تعرف الشعوب كيف تواصل المسيرة ولا تسقط أمام الآلام ولا تسقط أمام التحدّيات والمشاكل. إنَّنا نقول للمجاهدين الفلسطينيين: تابعوا مسيرتكم، لن تخسروا إلاّ أغلالكم وقيودكم، تابعوا المسيرة لتنطلق منكم القدوة كما انطلقت القدوة من هنا، من لبنان الإسلامي المقاوم، لتنطلق القدوة إلى المنطقة كلّها لتحرق كلّ هذه الأوضاع التي أرادت أن تحاصركم وأن تحاصر كلّ قضايا الحريّة وكلّ قضايا الإسلام في المنطقة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

دور الصوم في تصويب قضايانا(*)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183]، هذه الفريضة التي فرضها الله على كلّ عباده في كلّ رسالاته، كانت تتنوَّع وتختلف في ما يلزم الله به عباده بين تعاليم نبيٍّ وآخر. ولكنَّ المسألة أنّ الله أراد للنّاس أن يصوموا حتّى يستطيعوا من خلال الصوم أن يحصلوا على التقوى، ليكون الصوم طاعة لله في نفسه باعتباره امتثالاً لأمر الله، وليكون طاعة لله من خلال أنّه يحقِّق للإنسان روح التقوى في روحه وعقلية التقوى في فكره وحركة التقوى في حياته ليكون الإنسانُ من خلال الصوم، الإنسانَ التقيّ الذي يخاف الله في نفسه فيراقبها في ما يعيش في نفسه من أفكار ويراقب الله في نفسه في ما يتحرّك به من أعمال ومشاريع. وهكذا يريد الإسلام من خلال العبادات وفي مقدّمتها الصوم أن يصنع الإنسان التقيّ الذي يعيش في الحياة ولا يحتاج إلى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل إنَّ شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة كلّها يجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، ويجعله يحاكم نفسه قبل أن يحاكمها الناس، ويجعله يمنع نفسه ويضغط عليها بأنْ لا تعتدي وأن لا تظلم وأن لا تسيء قبل أن يضبطها الناس.
التقوى هي الأساس، فإنَّ الله يريد من الناس عندما يعيشون الحياة كلّها وعندما يتحرّكون في كلّ قضاياهم، أن يقدِّموا بين أيديهم عند لقاء ربّهم زاداً يتزوّدون به حتّى يستطيعوا أن ينالوا رضوان الله وأن يعيشوا جنّة الله {... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة : 197]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. التقوى هي العنوان الذي يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته، ليكون الإنسانَ التقيّ اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً وفي جميع مجالات الحياة، لأنَّ لكلّ شيء تقواه؛ فللسياسة تقواها وللحرب تقواها ولحالة السّلم تقواها ولكلّ مجالات الحياة في الاقتصاد والاجتماع، لكلّ منها تقوى، لأنَّ التقوى تعني أن يجدك الله حيث أمرك ويفقدك الله حيث نهاك، فما دام أنّ في كلّ شيء تشريعاً ولكلّ شيء أمراً ونهياً فإنَّ التقوى تكون حيث يكون الأمر الإلهي، والتقوى تكون حيث يكون النهي الإلهي.
وهكذا مَن صام واستطاعَ أن يحصل على التقوى فقد حصل على عمق الصوم في شخصيّته، أمّا مَن صام ولم يحصل على التقوى فإنّه يصدق عليه القول المأثور الشريف المروي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) "ربَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائم حظّه من قيامه السهر"(1) ولهذا فإنَّ علينا أن نراقب أنفسنا عندما نصوم، أن نعرف أنفسنا في كلّ يوم: هل استطعنا أن نتقرَّب إلى الله أكثر أم أنّنا ابتعدنا عن الله أكثر؟ هل استطعنا أن يكون التزامنا بما أحلَّ الله وبما حرَّمه أكثر، أم هو أقلّ من ذلك؟ افحصوا أنفسكم يومياً حتّى تعرفوا هل تتحرّكون في خطّ التقوى، أم في الخطّ المضاد تتقلَّبون؟ راقِب نفسك في علاقتك مع نفسك، هل تحجم نفسك عن الحرام لتمنعها أم أنّك تتركها؟ وراقِب نفسك في بيتك، هل تسيء معاملة زوجتك نتيجة سلطتك عليها بدون حقّ؟ هل تسيء معاملة جارك؟ هل تسيء معاملة الناس الذين يعيشون معك ممّن تربطك بهم العلاقات على المستوى العام أو على المستوى الخاص؟ راقِب نفسك يومياً حتّى ترى أنّك تتحرّك في خط ٍّتصاعدي نحو الله، أو أنّك تتحرّك في خطّ تنازلي إلى الشيطان؟
وهكذا يريد الله سبحانه وتعالى من خلال الصوم أن يحقّق لنا كلّ هذا المعنى من التقوى، يمكن تصوّر الصوم على أشكال معيّنة؛ هناك الصوم المادي وهو أن تمتنع عن الأكل وعن الشرب وعن اللّذات الجنسية وما إلى ذلك ممّا يحيط بهذه الأمور الأساسية، هذا الصوم المادي الذي إذا فعلته فقد امتثلت الأمر بالصوم وسقط عنك الواجب، ولكنْ هناك نوع آخر من الصوم وهو أن تصوم عن الكذب، وأن تصوم عن الغيبة، وأن تصوم عن النميمة، وأن تصوم عن الشتم، وأن تصوم عن إيذاء الناس، وأن تصوم عن ظلم الناس، وأن تصوم عن الاعتداء على أرواح الناس وأحوالهم وأعراضهم.. هذا نوعٌ آخر من الصوم، أن تصوم صوماً أخلاقياً يجعلك تراقب نفسك في ما تريد أن تتكلَّم، كما تراقب نفسك في ما تريد أن تأكل أو تشرب، وهكذا تراقب نفسك في ما حرَّمه الله عليك من الأفعال والأعمال الأخرى، لأنَّ الله جعل للإنسان صومين، صوماً صغيراً، وصوماً كبيراً. أمّا الصوم الصغير فهو صومك في شهر رمضان عمّا أرادك الله أن تمسك عنه وأمّا الصوم الكبير فهو صوم العمر كلّه عن كلّ ما حرَّم الله عليك ممّا تقول وممّا تفعل وممّا تتحرّك فيه من مواقف ومن علاقات على كلّ المستويات، والصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير، المعركة الصغيرة مع النفس في شهر رمضان هي مقدّمة للمعركة الكبيرة مع النفس ومع الآخرين في غير شهر رمضان.
ولهذا لا بدّ أن نعيش هذا الصوم من خلال ما نتحرّك فيه في حياتنا اليومية، وقد ورد أنّ الإنسان الذي يمارس الغيبة والكذب وأمثال ذلك، لا صوم له، يعني أنّه يفقد معنى الصوم وروحيّته لأنّه لم يستفد من الصوم في ذلك كلّه، وهكذا نريد للإنسان عندما يعيش الصوم في نفسه أن يمنع نفسه من الأفكار السيّئة والنوايا السيّئة والدوافع السيّئة، لأنَّ مشكلة كلّ واحدٍ منّا هي في أفكاره وفي نيَّاته وفي دوافعه، لأنَّ أفكارنا هي التي تصنع لنا مواقفنا ولأنّ نوايانا هي التي تتحرّك في خطّ علاقاتنا، ولهذا إذا أردت أن تكون الصائم التقيّ المنفتح على الله فإنَّ الله يريد أن يقول لكَ ليست المشكلة أن تكون أعضاؤك صائمة عن الشرّ وعن الجريمة وعن الحرام ولكنّ المفروض أن تكون أفكارك صائمة ومشاعرك صائمة وأن تكون نيّاتك صائمة، لأنَّ للفكر صوماً، فإنَّ الإنسان إذا أراد أن يفكِّر فقد يفكِّر بعض الناس تفكير الخير الذي يبني للحياة سلامتها ويبني للحياة قوّتها ويبني للنّاس قوّتهم، وأنّ للفكر أيضاً طريقاً شرّيراً يخطّط فيه الإنسان للشرّ عندما يفكّر في إيذاء الناس وفي العدوان عليهم وفي ظلمهم وفي انتهاب أموالهم وفي الاعتداء على أعراضهم وحياتهم، هذا فكرٌ شرّير، الذين يفكّرون بهذه الطريقة، الله يقول لهم ليصمّ فكركم عن كلّ فكر الشرّ وليبقَ الفكر متحرِّكاً من خلال غذاء الخير كلّه ومن خلال حركة الخير كلّه والله يقول لكم أيضاً إنَّ لأفكاركم كفراً وإيماناً وإنَّ لأفكاركم عدلاً وظلماً، فلا تظلموا الناس في أفكاركم عندما تحقّقون الانطباع في أنفسكم عنهم من خلال قضايا غير دقيقة ومن خلال مصادر غير موثوقة. لذلك لا بدّ لك أن تكون العادل في انطباعاتك في ما تحمل من انطباعات عن هذا وعن ذاك.
وهكذا لا بدّ أن تكون نيّتك نيّة خالصة لله سبحانه وتعالى.. أنتَ تصوم قربةً إلى الله، وتصلّي قربةً إلى الله، وتحجّ قربةً إلى الله، والله يريد منك أن تتعلَّم من خلال ذلك أن تعيش حياتك في كلّ أفعالك وفي كلّ علاقاتك لتحصل من خلال ذلك على درجة القرب من الله سبحانه وتعالى، فإنّها الدرجة التي لا درجة فوقها في الدنيا وفي الآخرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...} [الرعد : 11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...} [الأنفال : 53]. وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "فإنَّما الأعمال بالنيَّات لكلّ امرئٍ ما نَوَى"(1)، "إنَّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"(2).
من هنا، لا بدّ من أن نصوم صوماً جسديّاً، ونصوم صوماً أخلاقياً، ونصوم صوماً فكرياً روحياً شعورياً في مشاعرنا، فالله يريدنا أن نصوم عن محبّة أعداء الله وأن نصوم عن بغض أولياء الله، أن لا نحبّ إلاّ الطيّبين المؤمنين الذين ينفتحون على الله في حياتهم وأن لا نبغض إلاّ أعداء الله في كلّ ما يخطِّطون له ويعملون له، أن لا نُوالي إلاّ المؤمنين ولا نُعادي إلاّ الكافرين المستكبرين؛ ذلك هو صوم المشاعر، كما هو صوم العقل والجسد وما إلى ذلك.

الصوم: دروس للحياة
في هذا الجوّ، نتعلَّم من الصوم درساً للحياة، الدرس الأول الذي نتعلَّمه من الصوم هو التمرُّد على العادات التي نعتادها في حياتنا، فلكلٍّ منّا في حياته عادة، قد تكون العادة محلَّلة وقد تكون محرّمة، هناك عادات ننطلق بها في حياتنا الشخصية وهناك عادات ننطلق بها في حياتنا الاجتماعية، وعلينا أن نستفيد من الصوم، أن نتحرَّر من عبودية العادة، أن لا نكون عبيداً لعاداتنا لأنَّ عاداتنا قد تضغط علينا فتشلّ كلّ قدراتنا على المستوى الصحي وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الشرعي في ذلك كلّه. في الصوم أنتَ تنتصر على عادتك يومياً، في الصباح أنتَ معتاد على أن تشرب القهوة أو الشاي أو أن تفطر في وقتٍ معيّن، وفي الظهر أنتَ معتاد على تناول الغداء، وهناك عادات غذائية في الأكل والشرب، هناك أشياء تعتادها، ويأتي شهر رمضان ليقلب كلّ عاداتك فيأتي الصباح ولا فطور هناك، ويأتي الزوال ولا غداء، وتأتي كلّ مناسباتك الاجتماعية، لا تقدّم شيئاً لأحد ممّا اعتدت أن تقدّمه، ولا يقدّم إليك أحد شيئاً ممّا اعتاد أن يقدّمه لأنَّ الله قال لك: غيِّر عاداتك، افطر في وقتٍ معيّن، غيِّر وقت الإفطار إلى الغروب وغيِّر وقت الغداء إلى السحور، انتصر على إلحاح العادة، لا تخضع لما اعتدته في هذا اليوم، خذ من هذا درساً لحياتك في ما بعد ذلك، أو لحياتك في وقت الإفطار. إذا كانت عندك عادات سيّئة تضرّ بصحّتك وتضرّ عقلك وتضرّ دينك وتضرّ حياتك وأوضاعك الاجتماعية، فاستعِنْ بالقوّة التي حصلت عليها في محاربة عاداتك اليومية، لتكون أساساً للانتصار على عاداتك الأخرى التي قد تكون عادات محرَّمة وقد تكون محلَّلة. الله يريد منك كمؤمن أن تكون حرّاً، أن لا يضغط عليك أحد إلاّ إيمانك، أن لا تضغط عليك عاداتك، وأن لا يضغط عليك الناس من حولك، لأنَّ الله يريد للإنسان المؤمن دائماً إذا جاءه أمر الله ونهي الله أن يكون حرّاً في الامتثال لأمر الله ونهيه، وإذا أراد الناس منه أن يتحرّك يميناً ويساراً في غير مصلحته، وفي غير ما يريده الله، أن يقول لا من موقع الحريّة، وأن يقول نعم من موقع الحريّة، لأنَّ الذين يعيشون العبودية لعاداتهم، يعيشون معنى العبودية في شخصيّتهم وبذلك فإنّهم مؤهّلون لأنْ يكونوا عبيداً للطغاة ولأنْ يكونوا عبيداً للمستكبرين ولأنْ يكونوا عبيداً للكافرين.
لهذا، إنَّ الله يريد منك أن تكون الحرّ لتستطيع أن ترفض من موقع إرادة وتستطيع أن تقبل من موقع إرادة، لهذا علينا أن ننتصر على عاداتنا من خلال ما نتعلَّمه في صومنا من الانتصار على العادة.
الصوم: صبر
ثمّ الدرس الثاني الذي نأخذه من الصوم هو الصبر، كلّنا في يوم الصبر نعيش الحرمان ونصبر، نعيش الحرمان في ما نحبّ من مأكولات ومشروبات وملذَّات وشهوات، ولكنّ النفس تلحّ علينا ونحن نتحمّل الحرمان في ذلك كلّه، نصبر، نضغط على أنفسنا، نضغط على إرادتنا، نصبر ونحن نتألَّم، نتألّم لأنّ الأكلة أمامنا ولم نأكلها، ولأنّ الشراب أمامنا ولم نشربه، نتألّم والجوع يفتك بكلّ أجهزتنا الجسدية، والعطش يفتك بنا في ذلك كلّه، والشهوة تحرقنا في بعض المجالات. لهذا نحن نصبر في شهر رمضان، ولا بدّ لنا أن نتعلَّم الصبر في الحياة كلّها، ليكون شهر رمضان المدرسة التدريبية التي نتدرَّب فيها على أن نمنع أنفسنا عن بعض شهواتها، ونصبر على كلّ المشاعر المضادّة لما نريد، كلّ المشاعر التي تفترض حياتنا.
والصبر على أقسام: صبر على البلاء؛ إذا جاءك البلاء من كلّ جانب سواء كان بلاءً في خطّك العقيدي أو في خطّك الشرعي أو في خطّك الجهادي أو في خطّك السياسي، إذا جاء البلاء اصبِرْ وتعلَّم من الصوم كيف تضغط على نوازعك الذاتية في ذلك كلّه، تعلَّم كيف تكون الصابر في مواقع البلاء كما أنت الصابر في مواقع الحرمان في الصوم، وتعلَّم أيضاً أن تصبر على طاعة الله، وطاعة الله قد تكلِّف الإنسان الكثير من جهده، قد تخسرك طاعة الله مالاً في ما يريدك الله أن تدفع المال فيه، وقد تحرمك طاعة الله جاهاً في ما يريدك الله فيه أن تتنازل عن جاهٍ محرَّم، وقد تخسرك طاعة الله جهداً وقوّة، وقد تخسرك طاعة الله حياتك في بعض الحالات. عليك أن تتعلَّم من صبرك على الصوم كيف تصبر على كلّ مواقع طاعة الله في العبادات وفي المعاملات وفي كلّ العلاقات وفي كلّ أوضاع الناس من قريب ومن بعيد. ثمّ أن تتعلَّم الصبر عن المعصية، عندما تأتيك المعاصي لتخاطب غرائزك ولتخاطب شهواتك ولتخاطب أطماعك ولتخاطب كثيراً من نوازعك الذاتية. عندما تأتيك المعاصي وتلحّ عليك وتحرق كيانك بشهواتها وبكلّ ذلك، اصبر عن معصية الله كما كنت تصبر أيُّها الصائم عن معصية الله وأنتَ في حال الصوم. الصبر هو الدرس الثاني الذي نتعلَّمه من الصوم، ولذلك فإنَّ علينا أن نجعل الصوم صوماً واعياً ننتقل فيه من موقعٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ إلى أخرى.
الصوم يحرِّك الضمير الشرعي
الدرس الثالث الذي نتعلَّمه من الصوم هو درس الحالة الروحية التي تجعل الإنسان يعيش الضمير الشرعي، الوازع الديني، أن يكون لك ضمير شرعي يحاسبك، بعض الناس يتحدّثون عن الضمير بعيداً عن الخطوط التي يتحرّك فيها الضمير. والله يريد منك أن يكون لك ضمير ديني، أن يكون لك ضمير شرعي، بحيث أنّك إذا أقبلت على ما حرَّم الله فإنَّ ضميرك الشرعي يؤنّبك ويحاسبك، ليقول لك يا عبد الله إنّك أسأْتَ إلى الله في ذلك، وإذا أردت أن تترك واجباً شرعياً فإنَّ ضميرك يحاسبك ويؤنّبك. أن يكون عندك ضمير شرعي بمعنى أن تكون لك ذهنية شرعية تقيّة منفتحة على الله سبحانه وتعالى لتمنعْك ولتحاسبك ولتهمس إليك في كلّ مشاعرك، يا عبد الله اتقِ الله، يا عبد الله أطع الله يا عبد الله لا تعصِ الله، الذهنية الشرعية تقول لك ذلك في كلّ موقع من مواقع حياتك، لأنّك في الصوم تعيش هذا الجوّ، تشعر أنّك وحدك، لا يراك أهلك ولا يراك الناس من حولك، وتجوع، وقد تقول لك نفسك: إنَّ لك أن تأكل وليس هناك من أحد، ولكنّك لا تأكل، وليس هناك أحد تخافه، لماذا، لأنّك تقول لنفسك عندما تدعوك إلى الأكل ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الشرب ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الأخذ باللّذّات ولا أحد هناك، تقول لنفسك صحيح، لا أحد هناك ولكنَّ الله هو الذي يملك السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا كان الله يعلم ما قد لا أعلمه من نفسي فكيف أتَسَتَّر مِنَ الله، وهل يمكن أن أتَسَتَّر مِنَ الله الذي لا ساتر يحجبه عن خلقه أو يحجب خلقه منه، يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين لا تغشى بصره الظلمة؟. أَلاَ تدعون ذلك في أدعية النهار في شهر رمضان؟ لا تغشى بصره الظلمة ولا يستتر منه بستر، ولا يواري منه جدار ولا يغيم منه ما في برٍ ولا بحر لأنَّ عينه النافذة تنفذ إلى كلّ شيء، هذه الروح التي تحصل عليها وأنتَ صائم لا تستر لأنّ الله يراقبك في غير وقت الصوم، حاوِل أن تستفيد من ذلك إذا جاءك الشيطان وطلب منك أن تكون جاسوساً للظالمين وقالَ لك: لا أحد يسمعك، لا أحد يعرفك، لا أحد ينظر، اتفاقنا بيننا وبينك سرّي، قل: هل تضمن لي أن يكون الاتّفاق سريّاً عن الله، إذا دعاكَ الناس من حولك إلى أن ترتكب أيّ محرم لأيّ حساب، وقالوا لك: إذا كنتَ تخاف الناس فليس هناك مَن يبصرك سنذهب إلى مكانٍ لا يرانا فيه أحد، قل لهم: إذا كنتم تضمنون لي أن لا يبصرني الله فأنا معكم. كما قالت تلك المرأة العفيفة لشخصٍ أراد أن يعتدي عليها بالحرام ولم يكن هناك أحد، وكانت الجزيرة خالية من كلّ أحد، وارتعبت المرأة فقال لها: لماذا ترتعبين وتخافين وليس هناك إلاّ الكواكب، قالت صحيح ولكن أين مكوكبها، أين الذي خلقها، وكوكبها؟ إنَّ الله يرانا برغم عدم وجود أحد.
لنحاول جميعاً أن نزرع في أنفسنا هذا الوازع الديني، وهذا الضمير الشرعي الذي يجعلنا نشعر برقابة الله علينا وبحضور الله في حياتنا {... مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا...} [المجادلة : 7].
هكذا نستفيد من الصوم، تربية الضمير الديني، الضمير الشرعي، الوازع الديني الذي يحمينا من شهواتنا ويحمي الناس منّا في ما نريد أن نسيء به إلى الناس.
الصوم: جوع وعطش واعٍ
ثمّ الدرس الرابع الذي نستطيع أن نتعلَّمه هو أن يكون جوعنا جوعاً واعياً وعطشنا عطشاً واعياً، إذا جعت وأحسست بالجوع، وربّما ليست عندك فرصة في حياتك أن تحسّ بالجوع لأنّك من الناس الذين إذا أردت شيئاً وجدته، إنّ الله يريد للنّاس أن يحسُّوا بالجوع ليفكِّروا أنّ هناك جائعين، ليفهموا لسعات الجوع في مشاعر الجائعين، ليعرفوا معنى الجوع، فإذا عرفوا معنى الجوع وأحسُّوه وذاقوه استطاعوا أن ينفتحوا على مشكلة الجوع من موقع الحسّ، لا من موقع الفكرة التي تبتعد عن الحسّ.
وهكذا إذا عطشت فإنّك تفكّر أنّ هناك ناساً يعطشون ويظمؤون فتفكّر فيهم كيف تحلّ مشكلة جوعهم وكيف تحلّ مشكلة عطشهم؟ لأنَّ المشكلة في الكثيرين من الناس أنّهم لا يصدّقون أنّ هناك جائعين، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة الجوع، ولم يصدّقوا أنّ هناك عطاشى، لأنّهم لم يعيشوا مشكلة العطش، وهكذا في كلّ مجالات الحياة التي يعيش فيها بعض الناس الحرمان بطريقةٍ وبأخرى.
هذا هو الجوّ الذي ينبغي لنا أن نعيش فيه مع الصوم من أجل أن نعيش التقوى في كلّ مجالاتها العملية.
ثمّ قال الله في هذه الأجواء يا محمّد قد لا يعرفني عبادي، يا محمّد قد يسألك عنّي عبادي، لأنّهم لا يعرفون قربي منهم، قد يتصوَّرونني بعيداً عنهم، قد يتصوّرونني في واقع لا أستجيب لهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة : 186] لماذا يبتعدون عنّي، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد خلقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وقد رزقتهم، لماذا يبتعد عبادي عنّي وأنا أتعهّدهم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قـ : 16]، لماذا يبتعد عبادي عنّي، هل يتصوّرونني بعيداً عنهم هناك في السّماء، وهل الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة : 186] عندما أُناديهم، أكون قريباً أجيب دعوتهم، لماذا لا يدعونني؟ لماذا تقدمون كلّ دعواتكم وكلّ عروضكم للآخرين من عبادي الذي يحتاجونني كما تحتاجونني أنتم؟ لماذا تقدِّمون طلباتكم إلى الذين يذلُّونكم وإلى الذين قد لا يستجيبون لكم؟ أنا ربّكم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] هذه هي الروح التي يريد الله لنا أن نعيشها عندما نعيش معه، أن نقترب إليه بكلّ حياتنا وبكلّ آلامنا وبكلّ مشاكلنا وبكلّ قضايانا وبكلّ خطوطنا، أن نجلس بين يديه. أيُّها الناس إنّكم تجلسون إلى كلّ الناس من حولكم فلماذا لا تجلسون إلى ربّكم وقد دعاكم إلى أن تجلسوا إليه، إنّكم تتحدّثون بعضكم إلى بعض حديثاً كثيراً وتتناجون في ما بينكم مناجاة كثيرة، فلماذا لا تتحدّثون إلى ربّكم، ولماذا لا تناجونه في كلّ ما يهمّكم؟ اجلسوا إلى الله، تعلَّموا محبّة الله، تعلَّموا أن تكونوا أصدقاء الله، هل غريب أن يكون بشر صديقاً لله {... وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء : 125]، إبراهيم جعله الله صديقه، لماذا جعله الله صديقه، لأنَّ إبراهيم {قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131]، وعندما أسلم لله كلّ حياته، وأعطى لله كلّ وجوده وكلّ ما عنده اتّخذه الله خليلاً لأنّه عَرَفَ منه صدق النيّة وصدق العبودية وصدق المحبّة في ذلك كلّه.
مناسبة لإعادة النظر بالأحقاد
في هذا الجوّ لا بدّ أن نطلّ على كلّ واقعنا الذي نريده أن يكون واقعاً تتحرّك فيه الروحانية التي تجعلنا نفكِّر روحياً كما نفكّر مادياً، وأن نفكّر في حسابات الله كما نفكِّر في حسابات الناس، فلعلَّ بعض مشاكلنا أنّ كلّ تفكيرنا يستغرق في النظر إلى حساباتنا المادية ولا يستغرق في النظر إلى حساباتنا الروحية، هل فكَّرنا ونحن نتنازَع ونختلِف ونتقاتَل ونتحاقَد، هل فكّرنا كيف يكون موقفنا من الله، أم فكَّر كلّ إنسان كيف يكون موقفه من هذا الإنسان أو ذاك؟ لماذا نستغرق فيمن نعبدهم من دون الله وهم لا يستطيعون أن ينصرونا، ولماذا لا نفكِّر بالله، إنَّ حسابات الدنيا البعيدة عن الآخرة تموت في الدنيا، أين الأغنياء الذين تملأ دفاترهم دوراً وأماكن واسعة، أين ذهبت كلّ تلك الدفاتر؟ هل أخذوها معهم ونتائجها إلى قبورهم، نتائجها الإيجابية ونتائجها السلبية، أين كلّ الملوك وكلّ الطغاة وكلّ الجبابرة وكلّ هؤلاء الذين طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، أين كلّ ما عندهم؟ تركوه وراءهم واستقبلوا الله بكلّ نتائج الحسابات.
ونحن في شهر رمضان الذي أفاض الله فيه روحيّته علينا جميعاً وجعله شهره وجعلنا ضيوفه وجعلنا من أهل كرامته، في هذا الجوّ الروحي، لماذا لا نجعل روحيّتنا تتفايض على علاقاتنا؟ لماذا لا نعيد النظر في كلّ ما انطلق فيه المستكبرون والضالّون والمضلّلون والفاسقون ليملؤوا قلوبنا بالحقد بعضنا على بعض. الله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10] وأنتم تقولون لبعضكم إنّهم أعداء، كيف يمكن أن نجمع هذا مع هذا، لماذا نصرّ على الخطأ؟ ولماذا نصرّ على الفتنة؟ ولماذا نصرّ على أن نكون أدوات وقطع شطرنج بيد الآخرين ممّن يكيدون للإسلام وأهله وللإيمان وأهله؟ فلنرجع إلى الله ولنجلس في حساب مع الله، ولنعرف أنفسنا هل نحن سائرون أم راجعون، هل نحن متقدّمون أم متأخّرون؟ هل نحن في طريق الله أم في طريق الشيطان نسير؟ فكِّروا في {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...} [البقرة : 185]، تعالوا إلى القرآن فاحتكموا إليه، وتعالوا إلى القرآن فاهتدوا به، وتعالوا إلى القرآن ولينفتح بعضكم على بعض من خلاله، إنَّ الشيطان يعمل على أن يكيد، وإنَّ الشياطين تتحرّك لتكمل اللّعبة وتتحرّك من أجل أن تسقط الإسلام والمسلمين ومن أجل أن تهاجم الإيمان والمؤمنين بكلّ الوسائل، فإذا كان لكم شغل بإسلامكم، وإذا كان لكم شغل بإيمانكم فانطلقوا حتّى تنفتحوا على الله وتنغلقوا على الشيطان. لقد قال الله لنا عن الشيطان: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة : 91]. أقولها لكلّ إخواني المؤمنين والمؤمنات ممّن عبثت بهم الفتنة، وممَّن كانوا وقودها، وممَّن يعمل الآخرون من أجل أنْ يحرِّكوها ويمدّوها على أساس العصبيّة لا على أساس الإيمان؛ لنترك العصبية جانباً ولننفتح على كلام الله ولنرتبط بأحكام الله ولنعرف أين مواطن طاعة الله وأين مواطن معصية الله، لنستفد من شهر رمضان، لنرجع إلى ربّنا ولنرجع إلى إيماننا ولنرجع إلى وعينا في ذلك كلّه. إنَّ الأعداء يحيطون بنا من كلّ جانب، على مستوى الداخل والخارج، وإنَّ الأحزاب قد تجمَّعت، أحزاب دولية ولا أتحدَّث عن أحزاب محليّة، تماماً كما هي الأحزاب تجمَّعت على رسول الله، وأرادت أن تحاصر المدينة، فالأحزاب الأميركية والأوروبية والسوفياتية تجمَّعت على الإسلام من أجل أن لا تُمكِّن المسلمين من أن يأخذوا حريّتهم ويربحوا قضاياهم وأنْ يتحرّكوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، إنّهم يحيطون بنا من كلّ جانب ويخطّطون لنا في كلّ مجال ويعملون على أن يعقدوا حلفاً غير مقدَّس، حلفاً دولياً أو حلفاً إقليمياً يتحرّك من خلال أدوات محليّة.
صفّاً واحداً أمام الكفر
في هذا المجال، لا تستغرقوا في خصوصيّات اللعبة ولكن استغرقوا في الأجواء التي تتحرّك فيها كلّ هذه الخيوط التي يُراد تحريكها في حياتنا من أجل أن يكون بأسنا شديداً بيننا، ومن أجل أن نكون رُحَماء على الكفَّار أشدَّاء في ما بيننا. المسألة هي هذه، ونحن نريد أن نذكّر كلّ أهلنا هنا وفي البقاع وفي الجنوب بأنَّ الجمهورية الإسلامية قد أرسلت وفداً برئاسة آية الله جنّتي(1)، الرجل العاقل المستقيم العالِم المنفتح، من أجل أن ترأب الصدع ومن أجل أن تجمع الشمل ومن أجل أن تصلح بين المؤمنين والمسلمين على أساس العدل، وعلى أساس الحقّ، وعلى أساس الأبوّة للجميع، ولهذا فإنّنا ندعو الجميع، كلّ الجميع، سواء كانوا في مستوى المسؤولية أو كانوا في مستوى القاعدة، إلى أن يتعاونوا مع هذا الوفد الذي نال بركة إمام الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) من أجل أن تعود الأمور إلى واقعها وينطلق الجميع للوقوف صفّاً واحداً أمام الكفر كلّه وأمام الظلم كلّه وأمام الاستكبار كلّه على أساسٍ من مصلحة الإسلام والمسلمين وعلى أساس من مصلحة المستضعفين، ولا عذر لأحد في أيّ موقع من المواقع في الابتعاد عن رسالة هذا الوفد وعن مهمّته لأنّها تتحرّك في الإطار الشرعي الذي ينبغي لكلّ الناس أن يلتزموه في هذا المجال.
هجمة أميركية على المنطقة
ونحن في الدائرة الواسعة التي نعيشها في هذه المرحلة من تاريخنا الإسلامي، نجد أنّ هناك هجمة أميركية على المنطقة كلّها وعلى كلّ القضايا المرتبطة بكلّ مسائل الحريّة في المنطقة، فنحن نجد مثلاً أنّ أميركا عملت منذ اللحظة الأولى على أساس أن تكون السند القوي لـــ "إسرائيل"، تحفظ أمنها وتخدم سياستها وتحرّك كلّ خيوط اللّعبة السياسية والأمنية في المنطقة لمصلحتها، وإذا جرَّب أحد أن يدينها إدانة كلامية في مجلس الأمن فإنّها تبادر إلى منع ذلك، لأنّها تريد لـــ "إسرائيل" أن تكون القوّة الكبرى في المنطقة لتحميَ مصالحها الذاتية ومصالح أميركا الاستكبارية في المنطقة، لتكون شرطي المنطقة، ولتكون الذراع الذي تضرب به أميركا. وقد لا يكون من المصادفة أنّ أميركا توقِّع حلفاً واتّفاقاً استراتيجياً في كلّ المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية في ذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس الكيان الصهيوني ويقف رئيس الولايات المتحدة ليقول: إنَّنا نضمن أمن "إسرائيل" بالمطلق، كم يتصدّق على العرب بأنْ يفكِّروا في السلام، ولكن أيّ سلام هو سلام ريغان(1)، إنّه سلام "إسرائيل"، السلام الذي يخدم "إسرائيل" مئة في المئة. وهكذا نجد أنَّ "إسرائيل" تأخذ من أميركا كلّ شيء، أمّا العرب فإنّهم يأخذون الفتات وبشروط تجعل كلّ سلاح يدخل إلى أيّ أرض عربية يكتب عليه ممنوع استعماله ضدّ "إسرائيل"، وعندما أعطت أميركا مصر السلاح فإنّها فعلت بعد أن أصبحت مصر تمثّل إحدى القواعد الاستراتيجية للمصالح الأميركية في المنطقة تماماً كما هي "إسرائيل". ولذا فإنَّ أميركا في المنطقة تتحرّك على دعامتين أساسيّتين استراتيجيّتين هما مصر من جهة و"إسرائيل" من جهةٍ أخرى، إنَّ أميركا انطلقت قبل مدّة في مبادرة وقالت: إنّها أفكار للسلام ومبادرة للسلام، ولكنّها انطلقت في ذلك على أساس أنّها تريد أن تُفشِل الانتفاضة المجاهدة في فلسطين، وأرادت أن تشغل العالَم عنها، وأرادت أن تقدّم لكلّ الأنظمة العربية بعض الطعم في ما يطالبون به، وبعض التهديد في ما يخافون منه، حتّى لا يمتدّوا كثيراً في تأييد الانتفاضة ولو شكليّاً، إنّها رأت أنّ العالَم شُغِل بالانتفاضة، وأنّ مصداقية "إسرائيل" التي كانت تقدّم نفسها على أنّها الدولة الديمقراطية الحضارية في المنطقة أصبحت تمثّل الدولة المتعسّفة النازية في المنطقة، وأصبح الكثيرون في الغرب يقارنون بينها وبين النازي في ما تفعله في فلسطين، عند ذلك خافت أميركا على مصداقية "إسرائيل" وعلى مصداقيّتها هي، ولذا أطلقت المبادرة، وجاء وزير خارجيّتها في جولات ورحلات مكوكيّة يعرف أنّها لن تؤدّي إلى نتيجة، ولكنَّ النتيجة التي كانت تريدها، هي أن يشغل العالَم عن الانتفاضة بالمبادرة الأميركية. ولهذا أصبح الحديث في الواقع السياسي عن المبادرة الأميركية وأصبحت الانتفاضة على هامش المبادرة، وأصبح بعض حكَّام العرب ومنهم مبارك غير المبارك، الذي كان يطلب هدنة ستّة أشهر لوقف الانتفاضة حتّى يدبّروا الأمر، كأنَّ المسألة الفلسطينية لم تدبّر كليّة ولم يعرفها أحد أو لم يفهمها أحد، ولهذا كان كلام وزير خارجية أميركا في البداية عندما قالوا له: ألاَ تخاف من الفشل قال: إنَّ الفشل صناعتي، يعني هو يعرف أنّه سيفشل، ولكنّه يريد أن يسوّق الفشل بنجاح.
وهكذا رأينا أنّ العالَم سَكَتَ الآن، بدأ يسكت عن فظائع "إسرائيل" في الانتفاضة في الوقت الذي انطلقت "إسرائيل" لتزيد من فظاعتها ووحشيّتها وهمجيّتها أكثر بكثير من بداية الانتفاضة. أميركا لا تريد أن تحلّ المشكلة الفلسطينية إلاّ لحساب المصالح الإسرائيليّة.
ورقة أميركية
وهكذا انطلقت أميركا هنا في لبنان، وبدأت تتحدّث عن حلّ، وبدأ الكثيرون يهلِّلون ويصفّقون ويقولون: وأخيراً تنازلت أميركا وبدأت تهتمّ بنا، وبدأ السياسيون يتحدّثون عن التفاؤل وعن الآمال الكبيرة التي سنجنيها من خلال ذلك، فماذا حدث؟ إنَّ طبخة البحص هذه انطلقت هنا وهناك وبدأوا يقولون: إنّها تعسَّرت وإنَّ الأمر يتحرّك الآن بطريقة ضبابيّة وبدأ الكلام، إنَّ أميركا لم تأتِ إلى لبنان لتفصل بين الأزمة اللبنانية وبين مشكلة الشرق الأوسط التي هي المسألة الفلسطينية وإنّما جاءت لتزيدها ارتباطاً ولتجعلها ورقة تلعب بها عندما يأتي المؤتمر الدولي. إنّها خافت أن تسقط الورقة اللبنانية من يدها، ولهذا جاءت لتعقِّد المشكلة وتجعل الجميع يتحدّثون عن المشاركة وغير المشاركة، ولكن من دون طائل، وهي تعرف كيف تخلق الطرق المسدودة والأبواب المسدودة. ولهذا فإنَّ المحادثات التي قامت بها أميركا في هذا المجال ليست هي المحادثات اللبنانية في الدائرة اللبنانية، بل كانت في المحادثات الإقليمية في مصالح أميركا في المنطقة لا في مصالح اللبنانيين في لبنان وإنّما كانت تلك المحادثات مجرّد غطاء لأشياء أخرى في هذا المجال. ومن هنا فإنَّ اللبنانيين يقفون الآن بعد كلّ تلك الجولات أمام الجوّ الضبابي الذي لا يعرفون فيه ماذا حدث وماذا هناك، لأنَّ المسألة اللبنانية ليست مسألة محليّة في بدايتها وإنّما هي مسألة خارجية، إنَّ الفتنة اللبنانية تدخل في دائرة السياسة الخارجية اللبنانية وللدول الإقليمية والدولية ولا تدخل في دائرة السياسة المحليّة لكنَّ السياسة المحليّة اعتبرت طعماً لحركة السياسة الخارجية، ولهذا فقد لا نستطيع أن نقول للناس أنْ يناموا على حرير لأنَّ حرير أميركا هو شوك ينخز كلّ وجودنا وكلّ مستقبلنا.
ولهذا فإنَّ علينا أن نفهم القضية على هذا الأساس، لأنَّ أميركا لا تريد خيراً بكلّ الشعوب إلاّ بما يخدم مصالحها من قريب أو من بعيد.
أميركا وعدوانها على الخليج
إنّنا نريد في هذه الدائرة أيضاً أن نفهم أميركا جيّداً من خلال ما قامت به في الخليج من ضرب المنصّتين الإيرانيّتين اللّتين لا تحملان أيّ طابع عسكري بل لهما طابع اقتصادي نفطي، وفي الوقت نفسه ضربت بعض السفن والزوارق الإيرانية على أساس أن توحي لإيران بأنَّ عليها أن لا تخربط مواقعها وأن لا تسيء إلى وجودها في الخليج باعتبار أنّها سيّدة الخليج، ولم تقتصر على ذلك بل إنّها أعطيت الضوء الأخضر لاحتلال الفاو بطريقةٍ وبأخرى، ربّما لم يكشف النقاب عن تفاصيلها، ولكنَّ الجميع يجمعون على أنّ الجوّ في المنطقة وفي المعركة كان جوّاً أميركياً، قد يكون بشكلٍ مباشر وقد يكون بشكل غير مباشر، وهلَّل الكثيرون لهذه الهجمة الأميركية وتساءلوا بإشفاق أنّ إيران تريد أنْ تنتحر عندما تقف في وجه أميركا، ولكنّهم لا يعرفون أنّ الجمهورية الإسلامية تنطلق من قاعدة شعبية واسعة تدعم كلّ مواقفها وكلّ مواقعها حيث إِنّ الشعب هناك يشتدّ أكثر ويقوى أكثر كلَّما وجّهت إليه الصدمات أكثر وكلّما وجّهت إليه التحدّيات أكثر، لهذا كانت إيران الإسلام تعمل على أساس أن توحي لأميركا بأنَّ الضربة لا بدّ أن ترد بضربة، وإنَّ أيّ موقف لا بدّ أن يقابله موقف، لأنَّ المسألة الآن ليست مسألة الحرب العسكرية الشاملة أو الحادّة بين إيران وبين أميركا، بل إنَّ المسألة المطروحة في السّاحة الآن هي الحرب النفسية التي تريد أميركا من خلالها أن تضغط نفسياً على إيران وعلى الشعب الإيراني حتّى يسقط أمام الجبروت الأميركي، ولهذا ربّما استطاعت أميركا أن تؤذي إيران أكثر ولكن أن تقف إيران أمام البوارج الأميركية لتسقط طائرة أميركية ولتغرق فرقاطة أميركية؛ هذا في الحسابات العسكرية النفسية يعتبر انتصاراً كبيراً، لأنَّ المسألة أنّ المنطقة قد اعتادت أنّ أميركا إذا أرادت شيئاً أن ترفع لها كلّ الأيدي خضوعاً وانقياداً في كلّ المجالات، أمّا أن يبقى هناك أحد يقف ليؤكّد شعاراته من موقع أن يقابل الضربة بضربة بقطع النظر عن النتائج السلبية، إنَّ هذه رسالة تؤكّد أنّ الإسلاميين لن يستسلموا وأنّهم عندما رفعوا شعاراتهم في العالَم فإنّهم لم يرفعوها من موقع الانفعال والحماسة ولكنّهم رفعوها من موقع التخطيط والدراسة الدقيقة الواعية. إنّنا نريد أن نقول دائماً كما كنّا نقول في أكثر من مجال، إنَّنا لسنا ضدّ الشعب الأميركي ولسنا ضدّ الشعوب الأوروبية ولسنا ضدّ شعوب العالَم الآخر وإنْ كنّا نختلف مع هذه الشعوب في كثيرٍ من المواقع والمواقف الفكرية والسياسية لأنّنا لا نعتبر أنَّ علاقات الشعوب في ما بينها يمكن أن تنطلق من خلال أنّ الاختلاف يعني الحقد ويعني العداوة، لكنَّنا ضدّ الإدارات السياسية التي تعمل على العبث بقضايانا وعلى مصادرة حاضرنا ومستقبلنا وعلى تحويلنا إلى حيوانات للتجارب. إنّهم يخترعون الأسلحة ويعطونها لـــ "إسرائيل" ولغير "إسرائيل" من أجل أن يجرِّبوا الأسلحة بنا ومن أجل أن يجعلوا ساحاتنا مختبراً للتجارب لأسلحتهم.
أميركا مسؤولة عن قتل الأطفال
لهذا إنَّنا نعتبر أميركا مسؤولة عن كلّ طفل يسقط وعن كلّ امرأة وعن كلّ شيخ وعن كلّ بيت يدمَّر، لأنَّ ذلك يحدث من خلال السلاح الأميركي ومن خلال السياسة الأميركية ومن خلال الدعم الأميركي. إنَّ أميركا تتحدّث عن الإرهاب وعن العمليات الإرهابية، لكنّها لا تتحدّث بكلمة واحدة عن العمليات الإرهابية الإسرائيليّة، كيف نفسّر عملية اغتيال أبو جهاد التي نفَّذها كومندوس إسرائيلي يذهب بطريقة معيّنة ويهجم على بيت شخص بطريقة أمنية دقيقة ويقتله بهذه الطريقة التي عرفها الناس من خلال الإعلام، ماذا نسمّي ذلك؟ أليسَ هذا، حتّى في المصطلح الدولي، عملية إرهابية؟ لأنّك عندما تهجم إلى بيت شخص وتقتله، أيّ إرهاب غير هذه الصورة، أيّ إرهاب غير ما تعطيه هذه الصورة؟ كيف أنّ أميركا لم تستنكر هذا الإرهاب وهي عملية إرهابية مئة في المئة، قد يكون عذر أميركا أنّ هذا القائد الفلسطيني يعتبر في موقع المقاتِل لـــ "إسرائيل". فالعملية عملية قتال وعملية حرب. إذاً لماذا لا تقولون: إنَّ كلّ الذين يقومون بعمليات مماثلة أو غير مماثلة يفهمون أنّ المسألة مسألة حرب، لماذا عندما يكون الإرهاب إسرائيليّاً يكون دفاعاً عن النفس، وعندما يكون من جهةٍ أخرى يكون جريمة، وما إلى ذلك، نحن لا نريد للإرهاب أن يفرض نفسه على العالَم، وقد قلنا مراراً: إنّنا لا نوافق على الإساءة إلى الأبرياء، ولكن لماذا يكون هناك صيف وشتاء تحت السقف الأميركي في السّاحة العامّة في الحياة. من هنا إنّنا نريد أن ننبّه إلى أنّ أميركا تريد أن تظلِّل العالَم وتجعله يتبنّى كلّ شعاراتها وكلّ لافتاتها. إنّنا نريد أن نقول: إنَّ علينا أن نحدِّق بكلّ هذه اللافتات الأميركية لنعرف المسألة تماماً؛ لنعرف أنّ أميركا تنسّق مع "إسرائيل" في مصادرة الشعب الفلسطيني وفي إذلاله، وفي مصادرة الشعب اللبناني وفي إذلاله بكلّ ما عندها من طاقة، ولكنّها أرادت من خلال ذلك أن تسقط انتفاضة هذا الشعب وأن تعتبر المسألة مسألة إحداث شغب وإحداث فوضى وما إلى ذلك، لكنَّ ثقتنا بالشعب المجاهد في فلسطين وبالشعب المجاهد في لبنان، إنَّ ثقتنا بشعبنا المنفتح على الإسلام والمنفتح على الإيمان تجعلنا نشعر بأنَّ الشعلة لم تنطفى، وأنّ المسيرة سوف تتقدَّم، وأنّ الشهداء سوف يصنعون النصر عاجلاً أو آجلاً، وأنَّ المسألة في كلّ حركات الشعوب هي أن تعرف الشعوب كيف تواصل المسيرة ولا تسقط أمام الآلام ولا تسقط أمام التحدّيات والمشاكل. إنَّنا نقول للمجاهدين الفلسطينيين: تابعوا مسيرتكم، لن تخسروا إلاّ أغلالكم وقيودكم، تابعوا المسيرة لتنطلق منكم القدوة كما انطلقت القدوة من هنا، من لبنان الإسلامي المقاوم، لتنطلق القدوة إلى المنطقة كلّها لتحرق كلّ هذه الأوضاع التي أرادت أن تحاصركم وأن تحاصر كلّ قضايا الحريّة وكلّ قضايا الإسلام في المنطقة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية