معاركنا الإسلامية على ضوء معركة أُحُد

معاركنا الإسلامية على ضوء معركة أُحُد

معاركنا الإسلامية
على ضوء معركة أُحُد(*)
في النصف من شوّال كانت ذكرى معركة من أبرز معارك الإسلام، التي خاضها المسلمون من مواقع الدفاع ضدّ المشركين بقيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهي معركة "أُحُد". هذه المعركة الثانية، التي واجَهَ فيها المسلمون التحدّي بشكلٍ مباشر مِن قِبَل قوى الشرّ؛ فقد خطَّط المشركون بعد معركة بدر، التي هُزِموا فيها شرّ هزيمة، خطَّطوا للهجوم على المدينة من أجل أن يحاصروها ويسقطوها ويسقطوا الإسلام من خلالها ويقتلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والصّفوة الطيّبة من أصحابه وأهل بيته. واستعدّت قريش لذلك استعداداً كبيراً فجمعت من حلفائها ومن جماعتها ما يقرب من أربعة آلاف مقاتل، وقامت بحملة كبيرة لجمع المال، لتوفير المعدات القتالية بالمستوى الذي يستطيعون من خلاله تحريك قوّة ساحقة لا ترجع إلاّ بهزيمة المسلمين وهزيمة الإسلام. واقتربوا من المدينة، وعَرَفَ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك وعبَّأ المسلمين من أجل أن يواجهوهم من موقعٍ واحد من خارج المدينة. وهكذا تحرَّك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأصحابه، ويقال إنّهم لم يبلغوا الألف، حتّى وصل إلى جبل "أُحُد" الذي يعرفه كلّ مَن حجَّ الديار المقدَّسة وشاهده عياناً. وكانت هناك ثغرة في الجبل، يمكن أن ينفذ منها الرُّماة ويمكن أن تنفذ منها خيل قريش لتلتفّ على جيش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الأمر الذي دفع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لينظّم الجيش على أساس أن يكون "أُحُد" من ورائهم ليحتموا به، وجعل جماعة من الرُّماة على الثغرة التي كان من الممكن أن ينفذ إليها المشركون، وقال لهؤلاء الرُّماة اثبتوا في أماكنكم، إذا رأيتمونا انتصرنا فاثبتوا، وإذا رأيتمونا انهزمنا فاثبتوا؛ لا تتحرَّكوا من مواقعكم، لأنَّ نقطة الضعف في موقعنا الدفاعي هي في هذا الموقع. وهكذا جعل عليهم قائداً وأمرهم أن يطيعوه. وهنا حدَّثنا الله كيف كان المسلمون يعيشون بعض نقاط الضعف في إيمانهم في البداية، إذ عندما دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى القتال كانت هناك جماعة تريد أن تخرج معه، وكانت هناك جماعة لا تريد أن تخرج معه، وتغلَّب الرأي الأوّل بشكلٍ كامل وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ...} همُّوا في الفشل، فشلهم الإيمان، لأنَّ نجاح الإيمان بالالتزام بطاعة الله ورسوله وأُولي الأمر الذين ارتضاهم الله ورسوله. أمّا الفشل في الإيمان فهو أن يبتعد الإنسان عن الالتزام بالخطّ، على أساس نقاط الضعف الموجودة في شخصيّته، {... إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران :121 ـــ 122].
ودارت المعركة وتحرَّك المسلمون فيها بروحية "بدر" واستطاعوا أن يوقعوا بالمشركين شرّ هزيمة، بحيث تفرَّق المشركون ولم تكن لهم أيّة جامعة تجمعهم. وبدأ المسلمون يجمعون غنائم المعركة كما كانت العادة، حيث يجمعون ما سقط في المعركة من سلاح وعتاد وخيول وما إلى ذلك. وكان أولئك الذين في الثغرة يشرفون على المعركة، وقال بعضهم لبعض إنَّ المعركة قد انتهت وإنّ إخواننا يجمعون الغنائم فلم يعد هناك خطر. وهذه قريش قد انهزمت، فما بقاؤها هنا، اتركونا لننزل لنأخذ حصَّتنا من الغنائم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قال لهم إنَّ حصّتكم محفوظة، وقال قائدهم لقد أمرنا رسول الله بأمر ولا بدّ أن ننفّذه، لأنَّ رسول الله قال لنا: اثبتوا في أماكنكم، لأنَّ غدر المشركين يأتي من جانبه. فإن انتصرنا اثبتوا ليكون النصر، وإذا انهزمنا اثبتوا ليكون لنا موقع قوّة في المعركة، نستطيع من خلاله أن نحوِّل الهزيمة إلى نصر. لن أترك مكاني. وانضمَّ إليه جماعة وتفرَّق عنه الذين كانوا معه وهم الأكثرية. وهنا حانَت من خالد بن الوليد، التفاتة وكان آنذاك مع المشركين ورأى أنّ الثغرة أصبحت ضعيفة فليس فيها إلاّ عدد قليل، وهكذا اندفع مَن بقي معه من جيش المشركين وقاتَلَ مَن تبقّى من المسلمين الذين كانوا في الثغرة، حتى قُتِلوا أو جُرِحوا. واندفع من خلال تلك الثغرة في عملية التفاف على المسلمين وهم مشغولون في تصفية نتائج المعركة، وهنا دارت الدائرة على المسلمين وبدأت الهزيمة في مواقع المسلمين من جديد، حتّى إِنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلَّم قد شجَّ في جبهته وكسرت رباعيّته "بعض أسنانه"، وسقط على الأرض بعد أن أخذت منه الدماء، حتّى صاح أحدهم: إنَّ محمّداً قد قُتِل. واندفع إليه قوم من المشركين حتّى يقتلوه، ولكنَّ عليّاً والصّفوة الطيّبة معه دافعوا عنه وكشفوهم وقُتِلَ آنذاك حمزة بن عبد المطّلب (رضي الله عنه) وهو عمّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وهنا أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر أو كانت التجربة تجربة هزيمة أو كانت تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة كما كانت هذه المعركة، أو كانت تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهون معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنصر؟ ليستفيدوا من ذلك في المستقبل.
وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل. إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلّ مجالات الحياة. وهكذا أراد الله للمسلمين في القرآن، في كلّ زمانٍ ومكان، أن يدرسوا تجربة أُحُد. وسنحاول أن نلتقي مع بعض آيات القرآن التي نزلت في سورة آل عمران في تقييم القرآن الكريم لمعركة أُحُد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} قال الله لكم إنّكم ستنتصرون في "أُحُد" ولكنَّ الله قال لكم أن تنتصروا ضمن الخطّة وعندما نفّذتم الخطّة بشكلٍ جيّد انتصرتم.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} الحسّ هو كناية عن القتل، بحيث يفقد الإنسان إحساسه معه إذ تحسُّونهم بإذنه وقد صدقكم الله وعده فانتصرتم، ثمّ حتّى إذا فشلتم، فشلتم في إيمانكم لأنّكم لم تلتزموا بخطّ الإيمان وفشلتم في الالتزام بالعناصر التي تهيّئ النصر في المعركة؛ {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}، دبَّ النزاع بينكم ودبَّ الخلاف بينكم والمعركة لا تزال والعدوّ لا يزال يملك مواقع القوّة، دبَّ النزاع بينكم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، عصيتم أوامر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من بعد ما أراكم ما تحبُّون.
لماذا اختار هؤلاء النزول إلى ساحة الغنائم ولماذا اختار الفريق الثاني الوقوف حيث أمرهم رسول الله؟ الله يبيِّن الدوافع وعلينا من خلال هذه الدوافع التي يحدّثنا الله عنها، عندما يحدّثنا عن نقاط ضعف المسلمين، أن نلتفت إلى دوافعنا نحن، عندما نعيش بعض نقاط الضعف في كلّ ساحات التحدّي وفي معركة الإسلام مع الكفر ومعركة الحقّ مع الباطل ومعركة العدل مع الظلم، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، من بعد ما أراكم النصر. {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}، يقاتل وفي فكره أنّه يريد أن يقاتل، ليغنم وليحصل على موقع وليحصل على مركز وليحصل على زعامة وغير ذلك ممّا تحتويه الدنيا من أهداف الناس الذين يستغرقون في الأرض {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}، وعندما دبَّ النزاع {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} صرفكم عن المشركين وجعل المشركين يتقدَّمون {لِيَبْتَلِيَكُمْ} حتّى تعرفوا أنّ البلاء عندما ينزل فإنّه لا ينزل بدون سبب.
أنتم زرعتم في حياتكم العناصر التي أدَّت إلى النتائج السلبية، {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}، بعد أن تبتم، {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 152].
ثمَّ يحدّثنا الله بعد ذلك عن أجواء الرسالة، وكيف كانوا يتحدّثون في ما بينهم وكيف انطلقوا. ويحدّثنا الله في هذا المجال عن بعض الناس الذين كانوا في المدينة {... يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران : 154]. إنَّ الله يقول لكلّ الذين يتحدّثون عن إخوانهم الذين يسقطون في ساحات الجهاد بهذه الطريقة، إنّ الله يقول لكلّ هؤلاء، إنَّ مسألة الأجل بيد الله فإذا لم تقتل في الموقع الجهادي فإنّك لن تستطيع أن تدفع القتل عن نفسك، لأنَّ الله إذا قدّر القتل على شخص فإنَّ الذين يكتب عليهم القتل، سيأتيهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيّدة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} إنَّ الشيطان يحاول أن يكتشف نقاط الضعف من خلال ذنوبك التي تمارسها في حياتك، ويحاول أن يوضّحها في ساحة القتال ليبعدك عن ساحة القتال، {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران : 155].
النصر لا يكون إلاّ بأسبابه
في هذا المجال نريد أن نطلّ بعض الشيء على دروس "أُحُد" التي نستطيع أن نأخذ منها الكثير من الدروس في المستقبل في كلّ مجالاتها. إنَّ الذين عاشوا المشكلة في "أُحُد" كانوا يفكِّرون كيف نهزم ونحن مسلمون ونهزم مع رسول الله. ولكنَّ الله يريد أن يقول للمسلمين ما قاله هناك وما يقوله لكلّ المسلمين في الحياة، إنَّ الله لم يلتزم للمسلمين أن ينصرهم دون الأخذ بأسباب النصر، وإلاّ لو شاء الله لجعل الناس أُمّةً واحدة، ويخلقهم جميعاً مؤمنين كما يخلق للإنسان عينين وشفتين، يخلق للإنسان إيماناً لا يتزعزع، وعند ذلك لا يحتاج الأنبياء إلى الدعوة وإلى الجهاد، ولا يحتاج المجاهدون إلى الجهاد، ويعيش الناس مؤمنين. ولكنَّ الله أراد للأنبياء أن يقولوا كلمتهم {... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...} [الأنفال : 42]، وأراد للحياة أن تأخذ مداها في سنن الله في الكون، في ما هي قضايا الصراع بين الحقّ والباطل، ليجاهد المجاهدون فيقتل منهم مَن يقتل ويجرح مَن يجرح وينتصر من ينتصر وينهزم مَن ينهزم. وأراد الله للناس أن يأخذوا بأسباب النصر، ثمّ قال لهم: إذا نصرتم الله وأخذتم بأسباب النصر فإنَّ الله ينصركم ويهيّئ رعايته ولطفه ولكنَّ الله لا يقاتل بالنيابة عنكم، والملائكة لا يقاتلون بالنيابة عنكم، ولكنَّ الله لا يريد أن يجعل الحياة كلّها بشكلٍ لا يملك الناس فيه الاختيار، لهذا يقول الله للمسلمين عندما تنهزمون في معركة أو عندما تجرحون في معركة، أو عندما تتألّمون في موقف، فلا تسقطوا ولا تضعفوا ولا تحزنوا، راقبوا مشاعركم، لا تكن مشاعركم مشاعر الحزن التي تجعل صاحبها يبكي ويسقط من خلال دموعه، راقبوا أفكاركم. لا تجعلوا أفكاركم أفكار الهزيمة ولكن حاولوا أن تعتبروا أنّ الإنسان يهزم في معركة ولكنّه لا يهزم في الحرب كلّها. إذا كانت الفرص موجودة في المستقبل، راقبوا نظرتكم إلى مواقعكم. إنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يشعر بعزّة الإيمان في موقفه وأن يشعر بقوّة الإسلام في قوّته وأن يشعر بالانفتاح على الله عندما يسير مع الله، ليشعر بأنّ مَن كان مع الله لا يهزم، حتّى إذا هزم جسده فإنَّ روحه تظلّ في موقف الحريّة، تنفتح على الله في ذلك كلّه.
استمعوا إلى القرآن الكريم في سورة (آل عمران) كيف يعطينا الدروس وعندما نأخذ دروس القرآن، أتعرفون ما معنى أن تجلسوا وتستمعوا القرآن وتأخذوا دروس القرآن، أتعرفون ما معنى ذلك؟ الله في عليائه يعلِّمكم. مَنْ كان أستاذه الله ومَن كان معلّمه الله ومَن كان الذي يعطيه الدروس الله. فأين الأساتذة وأين المعلِّمون وأين المدرِّسون وأين الكلمات التي تأتي من هؤلاء وأولئك الذين أعطاهم الشيطان دروساً من الضعف والخيانة ومن النفاق وغير ذلك؟ الله يعلِّمكم، أتعرفون أنّ دروس الله في كتابه هي التي جعلت من محمّد رسول الله، محمدٌ الذي يقف أمام العالم كلّه، ليواجه العالم كلّه بقلبٍ قوي لا يتزعزع ليقول: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا"(1) أتعرفون أنّ دروس القرآن هذه هي التي جعلت الصحابة المخلصين والمؤمنين الملتزمين بخطّ رسول الله ينتصرون في معاركهم وهم قلّة، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} [آل عمران : 123]، كانوا قليلين ولكنّهم انتصروا من خلال أنّهم تعلَّموا القوّة من القرآن، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا الإنسان الذي لا يزال العالَم يعيش على فكره ويتطلَّع إلى بطولته ويدرس مواقفه في الحقّ ويدرس قوّته أمام كلّ العالم، عندما يقول: "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة"(2) لأنّي قويّ بالحقّ ولأنّي قويّ بالله، عليّ (عليه السلام) هذا الذي كان قوّة من خلال فكره وروحه وشجاعته وبطولته، عليّ (عليه السلام) تعلَّم القرآن على يد رسول الله فكان قويّاً من خلال القرآن، ولهذا إنّنا عندما نستمع إلى دروس الله، دروس القرآن، فإنّنا نلتقي بالحقيقة الصافية التي لا أصفى منها ولا أنقى، ونلتقي بالروح المشرقة، بالحياة التي لا يمكن أن يقترب إليها ظلام. الله يعلِّمنا فلنتعلَّم ولنأخذ القوّة منه، وعليكم أن تراقبوا كلّ الذين يريدون أن يضعفوكم باسم تفسيرات في القرآن {... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ...} [المائدة : 13]، [النساء: 46] وتطلَّعوا إلى كلّ الذين يريدون أن يُجَبِّنوكم ويبعدوكم عن كلّ ساحات الحقّ وعن كلّ ساحات الجهاد باسم الآيات المتشابهة، لأنّهم يريدون أن يضيّعوا الناس باسم القرآن؛ انتبهوا جيّداً لأنَّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ القوّة، لأنّه قال لنا إنّ الله قويّ، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ العزّة لأنَّ الله قال إنّه العزيز، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ كلّ المعاني التي ترتفع بحياتنا، لأنّ الحديث قال: "تَخَلَّقوا بأخلاق الله". لأنّ الله رحيم فكونوا رحماء، ولأنَّ الله قويّ فكونوا الأقوياء ولأنَّ الله عزيز فكونوا الأعزّة، ولأنَّ الله العليم فكونوا العلماء، ولأنَّ الله هو الحليم فكونوا الحلماء.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ...} [آل عمران : 140] إذا جرحتم، إذا نكبتم، إذا حدث لكم ما حدث، تذكَّروا لستم وحدكم الذين تجرحون ولستم وحدكم الذين تتألَّمون، ولكنّكم تألّمتم وتألَّم القوم قبلكم. وجرحتم وجرح القوم قبلكم، وقتل منكم وقتل من القوم قبلكم.
قولوها في كلّ معارك الإسلام، قولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة "إسرائيل" وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الاستكبار العالمي، وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الظلم الداخلي، قولوا كما قال الله للمسلمين بعد "أُحُد" {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.
ولا تيأسوا لأنّ الحياة لا تثبت على خطٍّ واحد فقد جعل الله الحياة متغيّرة {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140] فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرّ؛ لهذا الهزيمة ليست خالدة، فلا تيأسوا أمام الهزائم؛ والنصر ليس خالداً فلا تبطروا أمام النصر، لأنَّ المنتصر قد ينهزم إذا لم يأخذ بأسباب النصر في مجالاتٍ أخرى، ولأنَّ المنهزم قد ينتصر إذا أخذ بأسباب النصر وتعلَّم من الهزيمة، لهذا لا تيأسوا في الحياة ولا تتركوا الاستعداد في الحياة. ليكن رجاؤكم بالله في كلّ مواقف الضعف، لتأخذوا من الله القوّة ولتكن حياتكم استعداداً دائماً في مواجهة كلّ أعداء الله.
واعلموا أنّ هذا النوع من الاهتزاز، هذا النوع من تغيير الظروف، هذا النوع من أن يمسّك القرح من أن يمسّ عدوّك القرح هدفه التمحيص {... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران : 140]، إنّك تقول إنّي مؤمن وأنا أقول إنّي مؤمن والآخرون يقولون إنَّنا مؤمنون. تقول وأقول ويقولون، ولكن ما الدليل على أنّك مؤمن؟ الذين إذا أصابهم القرح سقطوا فسقط إيمانهم معهم والذين إذا أصابهم القرح ثبتوا فيثبت إيمانهم معهم، لأنَّ مسألة أن تكون مؤمناً، أن تستقبل شروط الإيمان وضريبة الإيمان بكلّ صدرٍ رحب، لتقول يا ربّي إذا كانت ضريبة الإيمان أن أُجرَح وأنتَ تراني فإنّها ضريبة سأدفعها، وإذا كانت ضريبة الإيمان أنْ أُشَرَّد وأنتَ تراني فما أحلى ذلك التشريد، وإذا كانت ضريبة الإيمان أن أُقْتَل في سبيل طاعتك فليست عندي مشكلة، أتعرفون مَن قالها، إنّكم تقرؤون كربلاء وتستمعون كربلاء، ولكنَّ المشكلة في كثيرٍ من الناس، أنّهم لا يحاولون أن يقرؤوا في كربلاء دروس الإيمان بالله، وكيف تجعل الإنسان يعيش في فرح روحي أمام كلّ الدماء التي تستنزف منه ومَن أحبّته. قالها الحسين (عليه السلام) قالها وهو يستقبل دماء ولده عبد الله الرضيع "هَوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(1)، وقد قال وهو يستقبل الموت "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(2) وكانت روحه تتصاعد لله بكلّ محبّة ويصوِّر الشاعر لسان حاله:
إلهي تَرَكْتُ الخلْقَ طُرّاً في هواكا وأيتَمْتُ العيالَ لكي أَراكا
فلو قَطَّعْتَني بالحبّ إرْباً لَمَا مالَ الفؤادُ إلى سواكا
الارتباط بالله لا بالأشخاص
لهذا عندما نتّخذ المواقف أمام الضغوط والتحدّيات التي تريد أن تبعد الإنسان عن إيمانه، فعلينا أن نفكِّر أنّ الله يراقبنا. الله يقول لنا إنّكم تعيشون في التجربة فأروني تجربتكم في مسألة الإيمان، هذا الكلام ليس كلامي.
{... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} ليس الشهداء بمعنى الشهادة بالقدر، لكن يتّخذ منكم إذا نجحتم بالإيمان ووقفتم مواقف الإيمان الصلبة بالرغم من كلّ التحدّيات فإنَّ الله سيجمعكم شهوداً على مجتمعكم، تقدِّمون الشهادة بين يديه يوم القيامة، لأنَّ الذين يشهدون على الناس يوم القيامة هم الصادقون في مواقفهم والصادقون في كلماتهم، {... وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران : 140].
فلا تكونوا الظالمين في مواقفكم {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141] في مواقف الصراع {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران : 143] كنتم تتمنُّونه في كلّ حالات ضعفكم وقوّتكم، وها هو الموت. كلّكم يريد الجنّة وكأنَّ الجنّة أرض مجّانية، مشاع، كما هو المشاع في حالة عدم وجود نظام ينظّمه للناس، مشاعات وكلّ إنسان يريد أن يأخذ حصّة من المشاع والجنّة مشاع.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142] لن نبلغ الجنّة إلاّ بالجهاد في كلّ مواقع الجهاد، ولن نبلغ الجنّة إلاّ بالصبر في كلّ مواقع الصبر. قال قائلهم لقد قتل محمّد، وتزلزل البعض، قال بعض الناس هناك مَن يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال بعض الناس لقد قتل محمّد فلنرجع إلى ما كنّا عليه. وكان هناك جريح يكاد يلفظ أنفاسه، ومرَّ عليه شخص وكان هذا الجريح يسمع دون أن يميِّز الكلمات قال له: ماذا هناك، قال: يقولون قتل محمّد. قال: إنْ كان قد قتل محمّد فقد بلَّغ، ولكنّ ربّ محمّد لم يمت. وعلى هذا لا بدّ أن نكمل المسيرة. وقال آخرون وكان الجوّ يعيش الخوف والضعف: تعالوا نتّخذ لأنفسنا مواقع أمن، لكنَّ هناك مَن قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمّداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1)، فتعالوا نقاتل على ما قاتَلَ عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وجاءت السورة لتؤكّد الفكرة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} لم يبعث الله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليحكم الحياة كلّها وليكون الارتباط به مدّة حياته؛ محمّد الذي أرسله الله جاء يحمل رسالة الله وأراد الله لرسالته أن تبقى وأراد الله لرسوله أن يموت. فقد قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} يبلّغ الرسالة ويمضي كما مضى الأنبياء من قبله.
{... أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] إذاً كيف نأخذ هذه الفكرة أيُّها الإخوة، إنّها تعلِّمنا أنّ القيادات، حتّى قيادات الأنبياء والأئمّة دورها أنّها تطلق الرسالة وتبلّغها وتحرّكها وتخلص لها وتجاهد في سبيلها، ليحتضن الناس الرسالة، ليؤمنوا بها وليتابعوا السير على أساسها؛ فإذا مات القائد فالرسالة باقية. لا تتجمَّدوا أمام القيادات، لتعتبروا أنّ الإسلام يموت بموت قيادة، حتّى لو كان بمستوى رسول الله، أو أنَّ الأُمّة تموت بموت قائد أو بطل. لا ترتبطوا بالأشخاص ولكن ارتبطوا برسالاتهم، إذا كانت رسالاتهم تؤدّي عن الله، لا ترتبطوا بالقيادات إلاّ من خلال حركة القيادات في مشاريعها.
الله لم يرد لنا أن نرتبط بالأشخاص بل نرتبط بالرسالة، وعلى هذا الأساس فإنَّ علينا أن نفهم أَنَّ الحياة لا تتجمَّد عند أيّ قائد، فلو مات، فعلى الأُمّة أن تبحث عن قيادة أخرى وأن تبحث عن الرسالة في موقع القيادة. لا قيمة للأشخاص، لا تتعصَّبوا للأشخاص، لا تجعلوا كلّ شيء في عهدة الأشخاص إلاّ إذا كان الشخص يؤدّي عن الله وعن رسوله، وإلاّ إذا كان الشخص يقود المسيرة، ومع ذلك لا تدعوا العصمة لمن لا عصمة له، ولا تعملوا على الدفاع عن المخطئ إذا أخطأ، وعن المجرم إذا تحوّلت القيادة إلى قيادة مجرمة. لتكن الرسالة هي الخطّ الذي تحاسبون كلّ قياداتكم على أساسه. إنَّ الرسالة التي جاء بها رسول الله هي الخطّ الذي يحكم الجميع وليس هناك من أحد يحكم الرسالة. وهذا ما يجب أن نتحرّك فيه، ولهذا فإنَّ على المسلمين أن يكفُّوا عن اللّغو في قضية أن تربط نفسك بشخص، أو تربط خطّك بشخص. ادرس الشخص من خلال خطّه، فإذا سارَ على الخطّ كن معه، وإذا انحرف عن الخطّ كن مع الله في الخطّ المستقيم، واتركه يعاني من انحرافه. قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للنّاس وأظلّ أقولها لكم، بعض الناس يهتفون باسمه ويرجمون فكره، وبعض الناس يتعصَّبون له ويتعصَّبون على مَن يحمل خطّه، عليٌّ قال لبعض الناس إنّك "لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه"(1).
الجاهلون بالحقّ هم الذين يلتزمون الباطل ويخيَّل إليهم أَنّه الحقّ. اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله، إنَّ الحقّ لا يعرف بالرجال ولكنّ الرجال يعرفون بالحقّ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144]، أتخافون من الموت وتتركون كلّ مواقف الحقّ، لأنّكم تخافون من الموت، تتركون كلمة الحقّ دون أن تقال عندما يحرّك الباطل باطله، لأنّكم تخافون من الموت وتتركون أعداء الله يسيطرون عليكم. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا...} قدِّموا طلباتكم إلى الله، ماذا تريد؟ يا ربّ أريد مالاً وأُريد زوجة وأريد أولاداً وعقارات وزعامة وما إلى ذلك. تريد ذلك هل بقي لك طلب غير ذلك؟ فكِّر، اعصر فكرك ماذا تريد؟ أنا ربّك، الله يقول ما تريده سأعطيك إيّاه. تقول يا ربّي لا أريد غير هذا {... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}، ماذا تريد؟ يبرز قوم من الناس: يا ربّي إنّنا نعيش في الدنيا ونعلم أنّك لن تتركنا نموت قبل أن يأتي أجلنا، ستعطينا من رزقك لأنّك تعطي الكافر والمؤمن وستعطينا ما نحبّ أن نعيش فيه، لأنّك تعطي كلّ الناس. الشمس تشرق على الأرض التي تحتاجها ولا تحتاجها، المطر ينزل على الأرض التي لا تحتاجه، إذاً لماذا نطلب منك الدنيا يا ربّ، فمشكلتنا هي الآخرة، آتنا ثواب الآخرة. والله يقول لكَ سأوتيك ثواب الآخرة.
{... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} بعد {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 145]؛ الذين يذكرون الله في نعمه بشكر الكلمة وشكر الفعل وشكر الموقف ثمّ يريد أن يقول لكلّ المؤمنين المجاهدين؛ فكِّروا في الأنبياء وأصحابهم لتكونوا مثلهم.
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ} وما وقفوا موقف الذلّ {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وما كان قولهم؟ ماذا كان يقول أصحاب الأنبياء عندما تشتدّ عليهم الضغوط وعندما يحاصرهم الطغيان وعندما يلقون في السجون وعندما يعذَّبون؟ إلى مَنْ كانوا يلجؤون؟ هل كانوا يلجؤون إلى وسيط يتوسّطونه أو أيّ شيء؟ { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عندما يعذّبون يخافون من عذاب النار يتذكّرونها {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} قد نخطئ يا ربّ {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} حتّى لا نتزلزل {وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وعلى أتباع الكافرين وعلى عملاء الكافرين وعلى حلفاء الكافرين؛ ثمّ {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 ـــ 148] ويختم الله الدرس.
يا أيُّها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ستأتيكم المغريات وستأتيكم التهويلات وسيأتيكم من يخوِّفكم. الله يقول لكم يا جماعة انتبهوا، لتكن عقولكم معكم ليكن إيمانكم معكم {... إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران : 149]. لا مولى لكم إلاّ الله لا توالوا غيره ولا تطيعوا غيره {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران : 150].
مواجهة الحياة من موقع التحدّي
وتبقى معركة "أُحُد" بكلّ دروسها تعرِّفنا كيف نواجه الحياة من موقع التحدّي وكيف نواجه الحياة من موقع المسؤولية وكيف نحرّك كلّ أوضاعنا من أجل أن نجعلها في طريق الله وتعرّفنا أنّ علينا أن لا نسير إلى الهزيمة بأقدامنا، لأنَّنا نترك الانضباط بالمواقع التي يريد الله منّا أن ننضبط فيها ونترك الصبر في المواقع التي يريد الله منّا أن نصبر فيها. قد يتحوَّل أيّ عنصر إلى هزيمة إذا لم يعرف الإنسان كيف يحافظ على أسباب النصر. وعندما نتحدّث عن حروب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نرى أنّ حروب الإسلام كانت من أجل عزَّة الإسلام وقوّته وكرامة المسلمين ومن أجل الناس كلّهم. وهذا ما نريد أن نفكِّر فيه، أن لا تكون عقلية الحرب عندنا عقلية مزاجية، نتحرّك فيها من خلال شهوة القتال ونتحرّك فيها من خلال بعض أطماع الدنيا أو بعض أفكار الدنيا، لأنَّ الله لا يريد للحرب في أيّ موقع أن تخاض إلاّ بشروطه وإلاّ من خلال أحكامه وإلاّ من خلال حلاله وحرامه، وعندما نفكّر في قوّة المسلمين وعزّتهم فإنّنا نفكّر في ما عشنا من بلاء ومن تعقيدات في الواقع الاجتماعي، الذي تحوَّل إلى محرقة على أكثر من مستوى.
البحث عن أسباب الخلل
ما نريد أن نفكِّر فيه هو أن نبحث جيّداً عن أسباب هذا الخلل في مجتمعنا الإسلامي وعن أسباب هذا الضعف، الذي يقودنا عندما نختلف كمسلمين إلى أن نتقاتل وإلى أن يعمل كلّ واحدٍ ليجد في الآخر عدوّاً له وكلاهما يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، لماذا ذلك كلّه؟ لأنّنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا ممّن لا يتحرّكون في خطّ المسؤولية، في ما تتحرّك فيه المسؤولية على أساس الموقف الإسلامي في مواجهة التحدّيات، فأضلُّونا السبيل. إنَّنا نعيش أيُّها الإخوة في عقلية انفعالية والله أرادنا أن نعيش الهدوء في العقل والهدوء في المشاعر والهدوء في الكلمات، فأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس وأن نحسِن إليهم وأن نعرض عن الجاهلين، وأن ندفع بالتي هي أحسن، وأن نقول التي هي أحسن، وأن نجادل بالتي هي أحسن، لأنَّ القتال لا يستطيع أن يحلّ مشكلة بل يعقِّد المشاكل ولأنَّ القتال لا يمكن أن ينتهي إلى نتيجة حاسمة بل يعمل على إحباط كلّ النتائج. لهذا كنّا نقول ولا نزال نقول: لا بدّ لكلّ الناس، لاسيّما في المجتمع الواحد ولاسيّما الذين يجتمعون في البيت الواحد، لا بدّ للناس أن يتّفقوا على أساس أن يتحاوروا في ما يختلفون فيه، ليصلوا إلى قاعدة ثابتة متوازنة تحكم علاقاتهم مع بعضهم، ليعرف كلّ إنسان ما له وما عليه فيأخذ ما له ولا يحاول أن يتنكَّر ممّا عليه من مسؤولية، ولا يتجاوز حدوده.
الاجتماع على الكلمة السّواء
قلنا مراراً أيُّها الناس تَحاوَروا، إنّ الله يقول لنا أن نقول لأهل الكتاب {... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]، فلماذا لا نقول لأهل القرآن تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم. إنَّ الله يريدنا أن نعمل على أن نكون الواعين، ولهذا إنّني أقول لكلّ الناس وأقولها لنفسي قبلكم: إنَّ علينا جميعاً أن لا نجعل عقولنا في آذاننا وإنّما نجعل عقولنا في رؤوسنا، لأنَّ عقلك عندما يعيش في أذنك فإنَّ الآخرين سيدخلون إلى أذنك ما يخرّب على عقلك حكمه، لأنَّ الكلمات تتنوّع في كذبها وصدقها وفي خيرها وشرّها وحقّها وباطلها. أيُّها الناس إنَّ علينا أن ندرس هذه التجربة المريرة الصعبة، حتى لا نعود إلى مثلها وحتّى لا تتدخَّل الأجهزة إلى أن تقودنا إلى مثلها، راقبوا الواقع من حولكم، لأنَّ الأجهزة المخابراتية من محليّة وإقليمية ودولية تعمل على أن توقد النار من جديد في هذا الاتّجاه أو ذاك، لهذا إنّنا نقول للقيادات ـــ كلّ القيادات ونقولها لأنفسنا إذا كنّا نملك موقعاً قياديّاً ـــ إنَّ عليكم أن تخفّفوا من الانفعال في كلماتكم، لتنطلقوا مع العقل والإيمان في هذه الكلمات، وإنَّ عليكم أن لا تفكِّروا بطموحاتكم الذاتية ولكن فكِّروا بطموحات الأُمّة الرسالية، وإنَّ عليكم أن لا تعيشوا الخوف في مواقعكم ولكن حاولوا أن تعيشوا الخوف على الأُمّة في مواقعها. لأنّه لا قيمة لقيادة تسقط الأُمّة من حسابها ولا قيمة لقيادة إذا ذهبت الأُمّة. ونقول للأُمّة ـــ كلّ الأُمّة ـــ كونوا الواعين، لا تندفعوا للأجواء التي يحاول الإعلام المخابراتي أن يحرِّكها في حياتكم. عندما تتكلَّمون، فكِّروا أنَّ الكلمة ستصعد إلى الله، وكيف تكون كلماتكم التي تصعد إلى الله. وعندما تسمعون فكِّروا في ما تسمعون لأنَّ الله سيقول لكم كيف سمعتم؟ فكِّروا بأنّكم المسؤولون أمام الله وحاولوا أن تبحثوا عن الحقائق من خلال الإمكانات التي تملكونها ممّا عرفكم الله في ذلك؟ لماذا؟ لأنّكم إذا عشتم حياتكم على أساس أن ترفعكم إشاعة وتسقطكم أخرى وتنطلق كلمة لتلهب مشاعركم وتنطلق أخرى لتبرّدها. فماذا تفعلون في مستقبلكم وكلّ أجهزة الإعلام تعمل على اللّعب بكلّ قضايا المصير؟.
لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية
ثمّ ما أُريد أن أقوله لأهلنا في الضاحية، لكلّ الشباب، سواء كان الشباب من هذا الفريق أو من ذلك الفريق، إنّي أُريد للجميع وللنّاس جميعاً أن لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية، لأنّ بديل الخطّة الأمنية في ظروفنا الحاضرة ومن خلال الذي تعيشه هو التقاتل لأنَّ الجميع يراهنون على ذلك، لهذا لا بدّ من الانضباط، ولا بدّ من الانفتاح على طبيعة الأخطار والمشاكل التي تحصل على أساس أن تدرس دراسة هادئة ولا تدرس دراسة منفعلة. إنَّ أمامنا قضايا كثيرة نحتاج أن نواجهها ونحتاج أن نلاحقها، حتّى نستطيع أن نملك القرار وحتّى نستطيع أن نملك المواقف، التي نستطيع فيها أن نمنع كلّ هؤلاء الذين يريدون أن يبيعوا كلّ دماء الشهداء وكلّ دماء الضحايا باتّفاقات، تعمل على إرجاع البلد كلّه إلى نقطة الصفر.

أمن الجنوب في مواجهة "إسرائيل"
لهذا لا تستغرقوا في خلافاتكم مع بعضكم، جمِّدوا خلافاتكم. لا تتحدَّثوا فقط عن أمن الجنوب في الداخل، ولكن تحدَّثوا عن أمن الجنوب(1) في مواجهة "إسرائيل"، تحدَّثوا عن الشريط الحدودي الذي أرادت "إسرائيل" أن تجعل منه تجربة لكيفية ضمّها قسماً من الجنوب إلى ما اعتادت عليه من أرض فلسطين، لتُطبِّع الناس ولتجعل الناس يقاتلون بالنيابة عنها ولتجعل الناس يعملون على محاصرة المجاهدين بالنيابة عنها، لماذا لا نتّفق على أساس أن نحرِّر الشريط الحدودي ونحرِّر المواقع التي تحتلها "إسرائيل" بطريقة غير مباشرة؟ إذا كان كثير من الناس يتشنَّجون من مسألة تحرير القدس، لأنّهم لا يريدون هذه الفكرة أو يخافون منها أو يهوّلون بها على الناس، فليس هناك من يفكِّر بتحرير القدس عشوائياً، وليس هناك من يفكِّر في أن يحرِّر العامليّون أو اللبنانيّون القدس لأنّهم لا يملكون ذلك. ولكنّنا نفكّر أن يكون هذا هدفاً لنا في المستقبل، نتكامل فيه مع كلّ المسلمين في العالم، كما كان الوصول إلى القدس هدفاً لليهود واستطاعوا أن يصلوا إليه، لماذا ترفضون أن تحلموا بالحريّة؟ لماذا يرفض الكثير من الناس أن يتمنّى الإنسان أن يكون حرّاً؟ بعض الناس أدمنوا العبوديّة حتّى أصبحوا لا يطيقون كلمة الحريّة. وأنا أقول إنّ بعض الناس الذين يتحدّثون بطريقة إعلامية عن شعار تحرير القدس بهذا الشكل الاستهلاكي، هؤلاء الناس لو دخلت إلى قلوبهم وإلى ارتباطاتهم، لرأيت أنّهم ضدّ تحرير جنوب لبنان أيضاً، لأنّهم لا يريدون للجنوب أن يتحرَّر وإنّما يريدون للجنوب أن يخضع "لإسرائيل" على أساس الترتيبات الأمنية. هذا هو المطروح في الساحة الأميركية وفي الساحة السياسية اللبنانية، المطروح في العمق هو أن يكون هناك نصف صلح مع "إسرائيل" في الترتيبات الأمنية لمصلحة "إسرائيل" بانتظار انعقاد المؤتمر الدولي. لا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل، لكن أريد أن أقول تعالوا لنتّفق على أن نحرِّر الشريط الحدودي، تعالوا نتّفق على أن لا نجعل بلادنا تعيش تحت وطأة الهجمة الإسرائيلية، التي لا تجد منّا ـــ كما يحبّ البعض ـــ إلاّ أُناساً يصفّقون لإسرائيل ويقدّمون لها التبريكات. إنّ الشعب الذي يسكت أمام الاحتلال هو شعب سيظلّ يعيش طويلاً تحت أقدام المحتلين، هل تريدون لأولادكم أن يعيشوا تحت أقدام الاحتلال الإسرائيلي؟
دولة الإنسان
وهكذا نريد أن نقول للجميع إنَّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مشاريع لحلّ المشكلة اللبنانية وليس هناك أيّ حلّ للمشكلة اللبنانية في المستقبل المنظور. إنَّ هناك استحقاقاً رئاسياً، كما يقولون، وهو لا يمثّل أيّ حلّ بل أيّة حلحلة. لاحظوا أنّ الجميع لا يتحدّثون عن لبنان ولا يتحدّثون عن الجنوب وإنّما يتحدّثون عن بيروت الإدارية. وبيروت الإدارية هي مشكلة دولية وإقليمية ومحليّة لا بدّ أن تجتمع كلّ سياسة العالَم بما يوحي به الوضع اللبناني المتحرّك على أكثر من صعيد، حتّى يفكِّروا كيف تكون بيروت الإدارية. لكن نقول أيُّها الناس نقولها لكلّ مَن يسمّون بالصف الإسلامي سواء كان صفّاً لا يؤمن بالإسلام أو كان صفّاً إسلامياً يؤمن بالإسلام بطريقة معيّنة أو ما إلى ذلك.
الصّف الإسلامي بين قوسين. نقول لهذا الصّف: لماذا لا نتوحَّد على القواسم المشتركة؟ إنّكم تريدون أن تواجهوا الحكم وتواجهوا المعسكر الآخر، تعالوا نتّفق على أساس مشروع إذا لم يستطع أن يغيّر الوضع اللبناني كلّه ويغيّر النظام اللبناني كلّه فعلى الأقلّ يستطيع أن يضمن للبنانيين من مسلمين ومن مسيحيين إنسانيّتهم ليكون لبنان دولة الإنسان. إنَّنا نطرح الإسلام ولكن إذا لم تكن هناك ظروف لأن يكون الإسلام هو الحكم في هذه الظروف، فتعالوا نطرح دولة الإنسان، أن ينطلق الناس على أساس أن تكون إنسانيّتهم هي قوّة مواطنيّتهم، لا أن تكون طائفيّتهم هي أساس مواطنيّتهم، وعند ذلك، عندما يكون لبنان دولة الإنسان فإنّه يكون دولة الحرية والعدالة، بالطريقة التي يفهم فيها كثير من الناس الحريّة والعدالة، لأنَّ لنا مفهوماً آخر في هذا المجال، عندما تكون هناك حريّة ليطلق كلّ واحد رأيه وليكون الرأي الأقوى هو الذي يحكم الواقع. تعالوا إلى أن نتّفق على لبنان ألاّ يكون ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً له. تعالوا نتّفق على لبنان يكفل كلّ العدالة لبنيه ويكفل لهم القوّة كي لا يحتلّه أحد من هؤلاء الذين يسيؤون للأُمّة في كلّ حياتها. إنَّنا نقول إنّ الاختلاف والاقتتال والاستغراق في الخصوصيّات لا يفيد أحداً، ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن داخل الجنوب وتكون "إسرائيل" هي التي تحيط بالأمن كلّه؟ ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن في بيروت ويكون الاستعمار هو الذي يحرس الأمن كلّه، ماذا يفيدنا ذلك؟ إنّك عندما تقسم (الكبّة) في الصينية فلن نستفيد شيئاً من قطعة يأخذها هذا وقطعة يأخذها ذاك. المهمّ هو من الذي يملك الصينية؟ إذا كانت "إسرائيل" هي التي تملك الصينية فما قيمة أن يكون لك موقع في هذه الزاوية أو تلك؟
القمّة والقاصرون
ثمّ بعد ذلك أخيراً نقول، إنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا تحدَّثوا فيها في الكواليس، لأنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا يراد منها. الآخرون يتولّون أمورنا، هم الأولياء والأوصياء ونحن القاصرون ونحن الذين نعطي قيادنا للآخرين. قد تكون هناك قوّة كبيرة على مستوى العالم وقد تكون هناك قوّة على مستوى المنطقة، ولكنَّ الشعوب عندما تأخذ بأسباب القوّة، سوف تربك القوى الطاغية والظالمة بكلّ ما عندها من وسائل وبكلّ ما عندها من إمكانات. إنَّ القمّة العربية تعمل من أجل أن تجعل مصر عضواً جديداً في الجامعة العربية ومعنى ذلك أنّها تجعل جزءاً من "إسرائيل" عضواً في الجامعة العربية. وكلّ جامعة عربية وأنتم بخير.
والحمد لله ربّ العالمين

معاركنا الإسلامية
على ضوء معركة أُحُد(*)
في النصف من شوّال كانت ذكرى معركة من أبرز معارك الإسلام، التي خاضها المسلمون من مواقع الدفاع ضدّ المشركين بقيادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهي معركة "أُحُد". هذه المعركة الثانية، التي واجَهَ فيها المسلمون التحدّي بشكلٍ مباشر مِن قِبَل قوى الشرّ؛ فقد خطَّط المشركون بعد معركة بدر، التي هُزِموا فيها شرّ هزيمة، خطَّطوا للهجوم على المدينة من أجل أن يحاصروها ويسقطوها ويسقطوا الإسلام من خلالها ويقتلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والصّفوة الطيّبة من أصحابه وأهل بيته. واستعدّت قريش لذلك استعداداً كبيراً فجمعت من حلفائها ومن جماعتها ما يقرب من أربعة آلاف مقاتل، وقامت بحملة كبيرة لجمع المال، لتوفير المعدات القتالية بالمستوى الذي يستطيعون من خلاله تحريك قوّة ساحقة لا ترجع إلاّ بهزيمة المسلمين وهزيمة الإسلام. واقتربوا من المدينة، وعَرَفَ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك وعبَّأ المسلمين من أجل أن يواجهوهم من موقعٍ واحد من خارج المدينة. وهكذا تحرَّك رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأصحابه، ويقال إنّهم لم يبلغوا الألف، حتّى وصل إلى جبل "أُحُد" الذي يعرفه كلّ مَن حجَّ الديار المقدَّسة وشاهده عياناً. وكانت هناك ثغرة في الجبل، يمكن أن ينفذ منها الرُّماة ويمكن أن تنفذ منها خيل قريش لتلتفّ على جيش رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الأمر الذي دفع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لينظّم الجيش على أساس أن يكون "أُحُد" من ورائهم ليحتموا به، وجعل جماعة من الرُّماة على الثغرة التي كان من الممكن أن ينفذ إليها المشركون، وقال لهؤلاء الرُّماة اثبتوا في أماكنكم، إذا رأيتمونا انتصرنا فاثبتوا، وإذا رأيتمونا انهزمنا فاثبتوا؛ لا تتحرَّكوا من مواقعكم، لأنَّ نقطة الضعف في موقعنا الدفاعي هي في هذا الموقع. وهكذا جعل عليهم قائداً وأمرهم أن يطيعوه. وهنا حدَّثنا الله كيف كان المسلمون يعيشون بعض نقاط الضعف في إيمانهم في البداية، إذ عندما دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى القتال كانت هناك جماعة تريد أن تخرج معه، وكانت هناك جماعة لا تريد أن تخرج معه، وتغلَّب الرأي الأوّل بشكلٍ كامل وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ...} همُّوا في الفشل، فشلهم الإيمان، لأنَّ نجاح الإيمان بالالتزام بطاعة الله ورسوله وأُولي الأمر الذين ارتضاهم الله ورسوله. أمّا الفشل في الإيمان فهو أن يبتعد الإنسان عن الالتزام بالخطّ، على أساس نقاط الضعف الموجودة في شخصيّته، {... إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران :121 ـــ 122].
ودارت المعركة وتحرَّك المسلمون فيها بروحية "بدر" واستطاعوا أن يوقعوا بالمشركين شرّ هزيمة، بحيث تفرَّق المشركون ولم تكن لهم أيّة جامعة تجمعهم. وبدأ المسلمون يجمعون غنائم المعركة كما كانت العادة، حيث يجمعون ما سقط في المعركة من سلاح وعتاد وخيول وما إلى ذلك. وكان أولئك الذين في الثغرة يشرفون على المعركة، وقال بعضهم لبعض إنَّ المعركة قد انتهت وإنّ إخواننا يجمعون الغنائم فلم يعد هناك خطر. وهذه قريش قد انهزمت، فما بقاؤها هنا، اتركونا لننزل لنأخذ حصَّتنا من الغنائم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قال لهم إنَّ حصّتكم محفوظة، وقال قائدهم لقد أمرنا رسول الله بأمر ولا بدّ أن ننفّذه، لأنَّ رسول الله قال لنا: اثبتوا في أماكنكم، لأنَّ غدر المشركين يأتي من جانبه. فإن انتصرنا اثبتوا ليكون النصر، وإذا انهزمنا اثبتوا ليكون لنا موقع قوّة في المعركة، نستطيع من خلاله أن نحوِّل الهزيمة إلى نصر. لن أترك مكاني. وانضمَّ إليه جماعة وتفرَّق عنه الذين كانوا معه وهم الأكثرية. وهنا حانَت من خالد بن الوليد، التفاتة وكان آنذاك مع المشركين ورأى أنّ الثغرة أصبحت ضعيفة فليس فيها إلاّ عدد قليل، وهكذا اندفع مَن بقي معه من جيش المشركين وقاتَلَ مَن تبقّى من المسلمين الذين كانوا في الثغرة، حتى قُتِلوا أو جُرِحوا. واندفع من خلال تلك الثغرة في عملية التفاف على المسلمين وهم مشغولون في تصفية نتائج المعركة، وهنا دارت الدائرة على المسلمين وبدأت الهزيمة في مواقع المسلمين من جديد، حتّى إِنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلَّم قد شجَّ في جبهته وكسرت رباعيّته "بعض أسنانه"، وسقط على الأرض بعد أن أخذت منه الدماء، حتّى صاح أحدهم: إنَّ محمّداً قد قُتِل. واندفع إليه قوم من المشركين حتّى يقتلوه، ولكنَّ عليّاً والصّفوة الطيّبة معه دافعوا عنه وكشفوهم وقُتِلَ آنذاك حمزة بن عبد المطّلب (رضي الله عنه) وهو عمّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). وهنا أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر أو كانت التجربة تجربة هزيمة أو كانت تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة كما كانت هذه المعركة، أو كانت تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهون معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنصر؟ ليستفيدوا من ذلك في المستقبل.
وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل. إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلّ مجالات الحياة. وهكذا أراد الله للمسلمين في القرآن، في كلّ زمانٍ ومكان، أن يدرسوا تجربة أُحُد. وسنحاول أن نلتقي مع بعض آيات القرآن التي نزلت في سورة آل عمران في تقييم القرآن الكريم لمعركة أُحُد {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ} قال الله لكم إنّكم ستنتصرون في "أُحُد" ولكنَّ الله قال لكم أن تنتصروا ضمن الخطّة وعندما نفّذتم الخطّة بشكلٍ جيّد انتصرتم.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} الحسّ هو كناية عن القتل، بحيث يفقد الإنسان إحساسه معه إذ تحسُّونهم بإذنه وقد صدقكم الله وعده فانتصرتم، ثمّ حتّى إذا فشلتم، فشلتم في إيمانكم لأنّكم لم تلتزموا بخطّ الإيمان وفشلتم في الالتزام بالعناصر التي تهيّئ النصر في المعركة؛ {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}، دبَّ النزاع بينكم ودبَّ الخلاف بينكم والمعركة لا تزال والعدوّ لا يزال يملك مواقع القوّة، دبَّ النزاع بينكم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، عصيتم أوامر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من بعد ما أراكم ما تحبُّون.
لماذا اختار هؤلاء النزول إلى ساحة الغنائم ولماذا اختار الفريق الثاني الوقوف حيث أمرهم رسول الله؟ الله يبيِّن الدوافع وعلينا من خلال هذه الدوافع التي يحدّثنا الله عنها، عندما يحدّثنا عن نقاط ضعف المسلمين، أن نلتفت إلى دوافعنا نحن، عندما نعيش بعض نقاط الضعف في كلّ ساحات التحدّي وفي معركة الإسلام مع الكفر ومعركة الحقّ مع الباطل ومعركة العدل مع الظلم، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}، من بعد ما أراكم النصر. {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}، يقاتل وفي فكره أنّه يريد أن يقاتل، ليغنم وليحصل على موقع وليحصل على مركز وليحصل على زعامة وغير ذلك ممّا تحتويه الدنيا من أهداف الناس الذين يستغرقون في الأرض {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}، وعندما دبَّ النزاع {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} صرفكم عن المشركين وجعل المشركين يتقدَّمون {لِيَبْتَلِيَكُمْ} حتّى تعرفوا أنّ البلاء عندما ينزل فإنّه لا ينزل بدون سبب.
أنتم زرعتم في حياتكم العناصر التي أدَّت إلى النتائج السلبية، {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}، بعد أن تبتم، {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 152].
ثمَّ يحدّثنا الله بعد ذلك عن أجواء الرسالة، وكيف كانوا يتحدّثون في ما بينهم وكيف انطلقوا. ويحدّثنا الله في هذا المجال عن بعض الناس الذين كانوا في المدينة {... يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران : 154]. إنَّ الله يقول لكلّ الذين يتحدّثون عن إخوانهم الذين يسقطون في ساحات الجهاد بهذه الطريقة، إنّ الله يقول لكلّ هؤلاء، إنَّ مسألة الأجل بيد الله فإذا لم تقتل في الموقع الجهادي فإنّك لن تستطيع أن تدفع القتل عن نفسك، لأنَّ الله إذا قدّر القتل على شخص فإنَّ الذين يكتب عليهم القتل، سيأتيهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيّدة، ثمّ يقول الله بعد ذلك {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} إنَّ الشيطان يحاول أن يكتشف نقاط الضعف من خلال ذنوبك التي تمارسها في حياتك، ويحاول أن يوضّحها في ساحة القتال ليبعدك عن ساحة القتال، {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران : 155].
النصر لا يكون إلاّ بأسبابه
في هذا المجال نريد أن نطلّ بعض الشيء على دروس "أُحُد" التي نستطيع أن نأخذ منها الكثير من الدروس في المستقبل في كلّ مجالاتها. إنَّ الذين عاشوا المشكلة في "أُحُد" كانوا يفكِّرون كيف نهزم ونحن مسلمون ونهزم مع رسول الله. ولكنَّ الله يريد أن يقول للمسلمين ما قاله هناك وما يقوله لكلّ المسلمين في الحياة، إنَّ الله لم يلتزم للمسلمين أن ينصرهم دون الأخذ بأسباب النصر، وإلاّ لو شاء الله لجعل الناس أُمّةً واحدة، ويخلقهم جميعاً مؤمنين كما يخلق للإنسان عينين وشفتين، يخلق للإنسان إيماناً لا يتزعزع، وعند ذلك لا يحتاج الأنبياء إلى الدعوة وإلى الجهاد، ولا يحتاج المجاهدون إلى الجهاد، ويعيش الناس مؤمنين. ولكنَّ الله أراد للأنبياء أن يقولوا كلمتهم {... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...} [الأنفال : 42]، وأراد للحياة أن تأخذ مداها في سنن الله في الكون، في ما هي قضايا الصراع بين الحقّ والباطل، ليجاهد المجاهدون فيقتل منهم مَن يقتل ويجرح مَن يجرح وينتصر من ينتصر وينهزم مَن ينهزم. وأراد الله للناس أن يأخذوا بأسباب النصر، ثمّ قال لهم: إذا نصرتم الله وأخذتم بأسباب النصر فإنَّ الله ينصركم ويهيّئ رعايته ولطفه ولكنَّ الله لا يقاتل بالنيابة عنكم، والملائكة لا يقاتلون بالنيابة عنكم، ولكنَّ الله لا يريد أن يجعل الحياة كلّها بشكلٍ لا يملك الناس فيه الاختيار، لهذا يقول الله للمسلمين عندما تنهزمون في معركة أو عندما تجرحون في معركة، أو عندما تتألّمون في موقف، فلا تسقطوا ولا تضعفوا ولا تحزنوا، راقبوا مشاعركم، لا تكن مشاعركم مشاعر الحزن التي تجعل صاحبها يبكي ويسقط من خلال دموعه، راقبوا أفكاركم. لا تجعلوا أفكاركم أفكار الهزيمة ولكن حاولوا أن تعتبروا أنّ الإنسان يهزم في معركة ولكنّه لا يهزم في الحرب كلّها. إذا كانت الفرص موجودة في المستقبل، راقبوا نظرتكم إلى مواقعكم. إنَّ الله يريد للإنسان المؤمن أن يشعر بعزّة الإيمان في موقفه وأن يشعر بقوّة الإسلام في قوّته وأن يشعر بالانفتاح على الله عندما يسير مع الله، ليشعر بأنّ مَن كان مع الله لا يهزم، حتّى إذا هزم جسده فإنَّ روحه تظلّ في موقف الحريّة، تنفتح على الله في ذلك كلّه.
استمعوا إلى القرآن الكريم في سورة (آل عمران) كيف يعطينا الدروس وعندما نأخذ دروس القرآن، أتعرفون ما معنى أن تجلسوا وتستمعوا القرآن وتأخذوا دروس القرآن، أتعرفون ما معنى ذلك؟ الله في عليائه يعلِّمكم. مَنْ كان أستاذه الله ومَن كان معلّمه الله ومَن كان الذي يعطيه الدروس الله. فأين الأساتذة وأين المعلِّمون وأين المدرِّسون وأين الكلمات التي تأتي من هؤلاء وأولئك الذين أعطاهم الشيطان دروساً من الضعف والخيانة ومن النفاق وغير ذلك؟ الله يعلِّمكم، أتعرفون أنّ دروس الله في كتابه هي التي جعلت من محمّد رسول الله، محمدٌ الذي يقف أمام العالم كلّه، ليواجه العالم كلّه بقلبٍ قوي لا يتزعزع ليقول: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا"(1) أتعرفون أنّ دروس القرآن هذه هي التي جعلت الصحابة المخلصين والمؤمنين الملتزمين بخطّ رسول الله ينتصرون في معاركهم وهم قلّة، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} [آل عمران : 123]، كانوا قليلين ولكنّهم انتصروا من خلال أنّهم تعلَّموا القوّة من القرآن، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا الإنسان الذي لا يزال العالَم يعيش على فكره ويتطلَّع إلى بطولته ويدرس مواقفه في الحقّ ويدرس قوّته أمام كلّ العالم، عندما يقول: "لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة"(2) لأنّي قويّ بالحقّ ولأنّي قويّ بالله، عليّ (عليه السلام) هذا الذي كان قوّة من خلال فكره وروحه وشجاعته وبطولته، عليّ (عليه السلام) تعلَّم القرآن على يد رسول الله فكان قويّاً من خلال القرآن، ولهذا إنّنا عندما نستمع إلى دروس الله، دروس القرآن، فإنّنا نلتقي بالحقيقة الصافية التي لا أصفى منها ولا أنقى، ونلتقي بالروح المشرقة، بالحياة التي لا يمكن أن يقترب إليها ظلام. الله يعلِّمنا فلنتعلَّم ولنأخذ القوّة منه، وعليكم أن تراقبوا كلّ الذين يريدون أن يضعفوكم باسم تفسيرات في القرآن {... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ...} [المائدة : 13]، [النساء: 46] وتطلَّعوا إلى كلّ الذين يريدون أن يُجَبِّنوكم ويبعدوكم عن كلّ ساحات الحقّ وعن كلّ ساحات الجهاد باسم الآيات المتشابهة، لأنّهم يريدون أن يضيّعوا الناس باسم القرآن؛ انتبهوا جيّداً لأنَّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ القوّة، لأنّه قال لنا إنّ الله قويّ، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ العزّة لأنَّ الله قال إنّه العزيز، ولأنّ القرآن لا يعلِّمنا إلاّ كلّ المعاني التي ترتفع بحياتنا، لأنّ الحديث قال: "تَخَلَّقوا بأخلاق الله". لأنّ الله رحيم فكونوا رحماء، ولأنَّ الله قويّ فكونوا الأقوياء ولأنَّ الله عزيز فكونوا الأعزّة، ولأنَّ الله العليم فكونوا العلماء، ولأنَّ الله هو الحليم فكونوا الحلماء.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ...} [آل عمران : 140] إذا جرحتم، إذا نكبتم، إذا حدث لكم ما حدث، تذكَّروا لستم وحدكم الذين تجرحون ولستم وحدكم الذين تتألَّمون، ولكنّكم تألّمتم وتألَّم القوم قبلكم. وجرحتم وجرح القوم قبلكم، وقتل منكم وقتل من القوم قبلكم.
قولوها في كلّ معارك الإسلام، قولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة "إسرائيل" وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الاستكبار العالمي، وقولوها عندما تواجهون المشاكل في مواجهة الظلم الداخلي، قولوا كما قال الله للمسلمين بعد "أُحُد" {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.
ولا تيأسوا لأنّ الحياة لا تثبت على خطٍّ واحد فقد جعل الله الحياة متغيّرة {... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140] فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساء ويوم نُسَرّ؛ لهذا الهزيمة ليست خالدة، فلا تيأسوا أمام الهزائم؛ والنصر ليس خالداً فلا تبطروا أمام النصر، لأنَّ المنتصر قد ينهزم إذا لم يأخذ بأسباب النصر في مجالاتٍ أخرى، ولأنَّ المنهزم قد ينتصر إذا أخذ بأسباب النصر وتعلَّم من الهزيمة، لهذا لا تيأسوا في الحياة ولا تتركوا الاستعداد في الحياة. ليكن رجاؤكم بالله في كلّ مواقف الضعف، لتأخذوا من الله القوّة ولتكن حياتكم استعداداً دائماً في مواجهة كلّ أعداء الله.
واعلموا أنّ هذا النوع من الاهتزاز، هذا النوع من تغيير الظروف، هذا النوع من أن يمسّك القرح من أن يمسّ عدوّك القرح هدفه التمحيص {... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} [آل عمران : 140]، إنّك تقول إنّي مؤمن وأنا أقول إنّي مؤمن والآخرون يقولون إنَّنا مؤمنون. تقول وأقول ويقولون، ولكن ما الدليل على أنّك مؤمن؟ الذين إذا أصابهم القرح سقطوا فسقط إيمانهم معهم والذين إذا أصابهم القرح ثبتوا فيثبت إيمانهم معهم، لأنَّ مسألة أن تكون مؤمناً، أن تستقبل شروط الإيمان وضريبة الإيمان بكلّ صدرٍ رحب، لتقول يا ربّي إذا كانت ضريبة الإيمان أن أُجرَح وأنتَ تراني فإنّها ضريبة سأدفعها، وإذا كانت ضريبة الإيمان أنْ أُشَرَّد وأنتَ تراني فما أحلى ذلك التشريد، وإذا كانت ضريبة الإيمان أن أُقْتَل في سبيل طاعتك فليست عندي مشكلة، أتعرفون مَن قالها، إنّكم تقرؤون كربلاء وتستمعون كربلاء، ولكنَّ المشكلة في كثيرٍ من الناس، أنّهم لا يحاولون أن يقرؤوا في كربلاء دروس الإيمان بالله، وكيف تجعل الإنسان يعيش في فرح روحي أمام كلّ الدماء التي تستنزف منه ومَن أحبّته. قالها الحسين (عليه السلام) قالها وهو يستقبل دماء ولده عبد الله الرضيع "هَوّن ما نزلَ بي أنّه بعين الله"(1)، وقد قال وهو يستقبل الموت "بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)"(2) وكانت روحه تتصاعد لله بكلّ محبّة ويصوِّر الشاعر لسان حاله:
إلهي تَرَكْتُ الخلْقَ طُرّاً في هواكا وأيتَمْتُ العيالَ لكي أَراكا
فلو قَطَّعْتَني بالحبّ إرْباً لَمَا مالَ الفؤادُ إلى سواكا
الارتباط بالله لا بالأشخاص
لهذا عندما نتّخذ المواقف أمام الضغوط والتحدّيات التي تريد أن تبعد الإنسان عن إيمانه، فعلينا أن نفكِّر أنّ الله يراقبنا. الله يقول لنا إنّكم تعيشون في التجربة فأروني تجربتكم في مسألة الإيمان، هذا الكلام ليس كلامي.
{... وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} ليس الشهداء بمعنى الشهادة بالقدر، لكن يتّخذ منكم إذا نجحتم بالإيمان ووقفتم مواقف الإيمان الصلبة بالرغم من كلّ التحدّيات فإنَّ الله سيجمعكم شهوداً على مجتمعكم، تقدِّمون الشهادة بين يديه يوم القيامة، لأنَّ الذين يشهدون على الناس يوم القيامة هم الصادقون في مواقفهم والصادقون في كلماتهم، {... وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران : 140].
فلا تكونوا الظالمين في مواقفكم {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141] في مواقف الصراع {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران : 143] كنتم تتمنُّونه في كلّ حالات ضعفكم وقوّتكم، وها هو الموت. كلّكم يريد الجنّة وكأنَّ الجنّة أرض مجّانية، مشاع، كما هو المشاع في حالة عدم وجود نظام ينظّمه للناس، مشاعات وكلّ إنسان يريد أن يأخذ حصّة من المشاع والجنّة مشاع.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142] لن نبلغ الجنّة إلاّ بالجهاد في كلّ مواقع الجهاد، ولن نبلغ الجنّة إلاّ بالصبر في كلّ مواقع الصبر. قال قائلهم لقد قتل محمّد، وتزلزل البعض، قال بعض الناس هناك مَن يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال بعض الناس لقد قتل محمّد فلنرجع إلى ما كنّا عليه. وكان هناك جريح يكاد يلفظ أنفاسه، ومرَّ عليه شخص وكان هذا الجريح يسمع دون أن يميِّز الكلمات قال له: ماذا هناك، قال: يقولون قتل محمّد. قال: إنْ كان قد قتل محمّد فقد بلَّغ، ولكنّ ربّ محمّد لم يمت. وعلى هذا لا بدّ أن نكمل المسيرة. وقال آخرون وكان الجوّ يعيش الخوف والضعف: تعالوا نتّخذ لأنفسنا مواقع أمن، لكنَّ هناك مَن قال: "مَن كان يعبد محمّداً فإنَّ محمّداً قد مات ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت"(1)، فتعالوا نقاتل على ما قاتَلَ عليه محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وجاءت السورة لتؤكّد الفكرة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} لم يبعث الله محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ليحكم الحياة كلّها وليكون الارتباط به مدّة حياته؛ محمّد الذي أرسله الله جاء يحمل رسالة الله وأراد الله لرسالته أن تبقى وأراد الله لرسوله أن يموت. فقد قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر : 30]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} يبلّغ الرسالة ويمضي كما مضى الأنبياء من قبله.
{... أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144] إذاً كيف نأخذ هذه الفكرة أيُّها الإخوة، إنّها تعلِّمنا أنّ القيادات، حتّى قيادات الأنبياء والأئمّة دورها أنّها تطلق الرسالة وتبلّغها وتحرّكها وتخلص لها وتجاهد في سبيلها، ليحتضن الناس الرسالة، ليؤمنوا بها وليتابعوا السير على أساسها؛ فإذا مات القائد فالرسالة باقية. لا تتجمَّدوا أمام القيادات، لتعتبروا أنّ الإسلام يموت بموت قيادة، حتّى لو كان بمستوى رسول الله، أو أنَّ الأُمّة تموت بموت قائد أو بطل. لا ترتبطوا بالأشخاص ولكن ارتبطوا برسالاتهم، إذا كانت رسالاتهم تؤدّي عن الله، لا ترتبطوا بالقيادات إلاّ من خلال حركة القيادات في مشاريعها.
الله لم يرد لنا أن نرتبط بالأشخاص بل نرتبط بالرسالة، وعلى هذا الأساس فإنَّ علينا أن نفهم أَنَّ الحياة لا تتجمَّد عند أيّ قائد، فلو مات، فعلى الأُمّة أن تبحث عن قيادة أخرى وأن تبحث عن الرسالة في موقع القيادة. لا قيمة للأشخاص، لا تتعصَّبوا للأشخاص، لا تجعلوا كلّ شيء في عهدة الأشخاص إلاّ إذا كان الشخص يؤدّي عن الله وعن رسوله، وإلاّ إذا كان الشخص يقود المسيرة، ومع ذلك لا تدعوا العصمة لمن لا عصمة له، ولا تعملوا على الدفاع عن المخطئ إذا أخطأ، وعن المجرم إذا تحوّلت القيادة إلى قيادة مجرمة. لتكن الرسالة هي الخطّ الذي تحاسبون كلّ قياداتكم على أساسه. إنَّ الرسالة التي جاء بها رسول الله هي الخطّ الذي يحكم الجميع وليس هناك من أحد يحكم الرسالة. وهذا ما يجب أن نتحرّك فيه، ولهذا فإنَّ على المسلمين أن يكفُّوا عن اللّغو في قضية أن تربط نفسك بشخص، أو تربط خطّك بشخص. ادرس الشخص من خلال خطّه، فإذا سارَ على الخطّ كن معه، وإذا انحرف عن الخطّ كن مع الله في الخطّ المستقيم، واتركه يعاني من انحرافه. قالها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) للنّاس وأظلّ أقولها لكم، بعض الناس يهتفون باسمه ويرجمون فكره، وبعض الناس يتعصَّبون له ويتعصَّبون على مَن يحمل خطّه، عليٌّ قال لبعض الناس إنّك "لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه"(1).
الجاهلون بالحقّ هم الذين يلتزمون الباطل ويخيَّل إليهم أَنّه الحقّ. اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله، إنَّ الحقّ لا يعرف بالرجال ولكنّ الرجال يعرفون بالحقّ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 144]، أتخافون من الموت وتتركون كلّ مواقف الحقّ، لأنّكم تخافون من الموت، تتركون كلمة الحقّ دون أن تقال عندما يحرّك الباطل باطله، لأنّكم تخافون من الموت وتتركون أعداء الله يسيطرون عليكم. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا...} قدِّموا طلباتكم إلى الله، ماذا تريد؟ يا ربّ أريد مالاً وأُريد زوجة وأريد أولاداً وعقارات وزعامة وما إلى ذلك. تريد ذلك هل بقي لك طلب غير ذلك؟ فكِّر، اعصر فكرك ماذا تريد؟ أنا ربّك، الله يقول ما تريده سأعطيك إيّاه. تقول يا ربّي لا أريد غير هذا {... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}، ماذا تريد؟ يبرز قوم من الناس: يا ربّي إنّنا نعيش في الدنيا ونعلم أنّك لن تتركنا نموت قبل أن يأتي أجلنا، ستعطينا من رزقك لأنّك تعطي الكافر والمؤمن وستعطينا ما نحبّ أن نعيش فيه، لأنّك تعطي كلّ الناس. الشمس تشرق على الأرض التي تحتاجها ولا تحتاجها، المطر ينزل على الأرض التي لا تحتاجه، إذاً لماذا نطلب منك الدنيا يا ربّ، فمشكلتنا هي الآخرة، آتنا ثواب الآخرة. والله يقول لكَ سأوتيك ثواب الآخرة.
{... وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} بعد {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران : 145]؛ الذين يذكرون الله في نعمه بشكر الكلمة وشكر الفعل وشكر الموقف ثمّ يريد أن يقول لكلّ المؤمنين المجاهدين؛ فكِّروا في الأنبياء وأصحابهم لتكونوا مثلهم.
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ} وما وقفوا موقف الذلّ {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وما كان قولهم؟ ماذا كان يقول أصحاب الأنبياء عندما تشتدّ عليهم الضغوط وعندما يحاصرهم الطغيان وعندما يلقون في السجون وعندما يعذَّبون؟ إلى مَنْ كانوا يلجؤون؟ هل كانوا يلجؤون إلى وسيط يتوسّطونه أو أيّ شيء؟ { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عندما يعذّبون يخافون من عذاب النار يتذكّرونها {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} قد نخطئ يا ربّ {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} حتّى لا نتزلزل {وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وعلى أتباع الكافرين وعلى عملاء الكافرين وعلى حلفاء الكافرين؛ ثمّ {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 ـــ 148] ويختم الله الدرس.
يا أيُّها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ستأتيكم المغريات وستأتيكم التهويلات وسيأتيكم من يخوِّفكم. الله يقول لكم يا جماعة انتبهوا، لتكن عقولكم معكم ليكن إيمانكم معكم {... إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران : 149]. لا مولى لكم إلاّ الله لا توالوا غيره ولا تطيعوا غيره {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران : 150].
مواجهة الحياة من موقع التحدّي
وتبقى معركة "أُحُد" بكلّ دروسها تعرِّفنا كيف نواجه الحياة من موقع التحدّي وكيف نواجه الحياة من موقع المسؤولية وكيف نحرّك كلّ أوضاعنا من أجل أن نجعلها في طريق الله وتعرّفنا أنّ علينا أن لا نسير إلى الهزيمة بأقدامنا، لأنَّنا نترك الانضباط بالمواقع التي يريد الله منّا أن ننضبط فيها ونترك الصبر في المواقع التي يريد الله منّا أن نصبر فيها. قد يتحوَّل أيّ عنصر إلى هزيمة إذا لم يعرف الإنسان كيف يحافظ على أسباب النصر. وعندما نتحدّث عن حروب الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، نرى أنّ حروب الإسلام كانت من أجل عزَّة الإسلام وقوّته وكرامة المسلمين ومن أجل الناس كلّهم. وهذا ما نريد أن نفكِّر فيه، أن لا تكون عقلية الحرب عندنا عقلية مزاجية، نتحرّك فيها من خلال شهوة القتال ونتحرّك فيها من خلال بعض أطماع الدنيا أو بعض أفكار الدنيا، لأنَّ الله لا يريد للحرب في أيّ موقع أن تخاض إلاّ بشروطه وإلاّ من خلال أحكامه وإلاّ من خلال حلاله وحرامه، وعندما نفكّر في قوّة المسلمين وعزّتهم فإنّنا نفكّر في ما عشنا من بلاء ومن تعقيدات في الواقع الاجتماعي، الذي تحوَّل إلى محرقة على أكثر من مستوى.
البحث عن أسباب الخلل
ما نريد أن نفكِّر فيه هو أن نبحث جيّداً عن أسباب هذا الخلل في مجتمعنا الإسلامي وعن أسباب هذا الضعف، الذي يقودنا عندما نختلف كمسلمين إلى أن نتقاتل وإلى أن يعمل كلّ واحدٍ ليجد في الآخر عدوّاً له وكلاهما يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، لماذا ذلك كلّه؟ لأنّنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا ممّن لا يتحرّكون في خطّ المسؤولية، في ما تتحرّك فيه المسؤولية على أساس الموقف الإسلامي في مواجهة التحدّيات، فأضلُّونا السبيل. إنَّنا نعيش أيُّها الإخوة في عقلية انفعالية والله أرادنا أن نعيش الهدوء في العقل والهدوء في المشاعر والهدوء في الكلمات، فأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس وأن نحسِن إليهم وأن نعرض عن الجاهلين، وأن ندفع بالتي هي أحسن، وأن نقول التي هي أحسن، وأن نجادل بالتي هي أحسن، لأنَّ القتال لا يستطيع أن يحلّ مشكلة بل يعقِّد المشاكل ولأنَّ القتال لا يمكن أن ينتهي إلى نتيجة حاسمة بل يعمل على إحباط كلّ النتائج. لهذا كنّا نقول ولا نزال نقول: لا بدّ لكلّ الناس، لاسيّما في المجتمع الواحد ولاسيّما الذين يجتمعون في البيت الواحد، لا بدّ للناس أن يتّفقوا على أساس أن يتحاوروا في ما يختلفون فيه، ليصلوا إلى قاعدة ثابتة متوازنة تحكم علاقاتهم مع بعضهم، ليعرف كلّ إنسان ما له وما عليه فيأخذ ما له ولا يحاول أن يتنكَّر ممّا عليه من مسؤولية، ولا يتجاوز حدوده.
الاجتماع على الكلمة السّواء
قلنا مراراً أيُّها الناس تَحاوَروا، إنّ الله يقول لنا أن نقول لأهل الكتاب {... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران : 64]، فلماذا لا نقول لأهل القرآن تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم. إنَّ الله يريدنا أن نعمل على أن نكون الواعين، ولهذا إنّني أقول لكلّ الناس وأقولها لنفسي قبلكم: إنَّ علينا جميعاً أن لا نجعل عقولنا في آذاننا وإنّما نجعل عقولنا في رؤوسنا، لأنَّ عقلك عندما يعيش في أذنك فإنَّ الآخرين سيدخلون إلى أذنك ما يخرّب على عقلك حكمه، لأنَّ الكلمات تتنوّع في كذبها وصدقها وفي خيرها وشرّها وحقّها وباطلها. أيُّها الناس إنَّ علينا أن ندرس هذه التجربة المريرة الصعبة، حتى لا نعود إلى مثلها وحتّى لا تتدخَّل الأجهزة إلى أن تقودنا إلى مثلها، راقبوا الواقع من حولكم، لأنَّ الأجهزة المخابراتية من محليّة وإقليمية ودولية تعمل على أن توقد النار من جديد في هذا الاتّجاه أو ذاك، لهذا إنّنا نقول للقيادات ـــ كلّ القيادات ونقولها لأنفسنا إذا كنّا نملك موقعاً قياديّاً ـــ إنَّ عليكم أن تخفّفوا من الانفعال في كلماتكم، لتنطلقوا مع العقل والإيمان في هذه الكلمات، وإنَّ عليكم أن لا تفكِّروا بطموحاتكم الذاتية ولكن فكِّروا بطموحات الأُمّة الرسالية، وإنَّ عليكم أن لا تعيشوا الخوف في مواقعكم ولكن حاولوا أن تعيشوا الخوف على الأُمّة في مواقعها. لأنّه لا قيمة لقيادة تسقط الأُمّة من حسابها ولا قيمة لقيادة إذا ذهبت الأُمّة. ونقول للأُمّة ـــ كلّ الأُمّة ـــ كونوا الواعين، لا تندفعوا للأجواء التي يحاول الإعلام المخابراتي أن يحرِّكها في حياتكم. عندما تتكلَّمون، فكِّروا أنَّ الكلمة ستصعد إلى الله، وكيف تكون كلماتكم التي تصعد إلى الله. وعندما تسمعون فكِّروا في ما تسمعون لأنَّ الله سيقول لكم كيف سمعتم؟ فكِّروا بأنّكم المسؤولون أمام الله وحاولوا أن تبحثوا عن الحقائق من خلال الإمكانات التي تملكونها ممّا عرفكم الله في ذلك؟ لماذا؟ لأنّكم إذا عشتم حياتكم على أساس أن ترفعكم إشاعة وتسقطكم أخرى وتنطلق كلمة لتلهب مشاعركم وتنطلق أخرى لتبرّدها. فماذا تفعلون في مستقبلكم وكلّ أجهزة الإعلام تعمل على اللّعب بكلّ قضايا المصير؟.
لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية
ثمّ ما أُريد أن أقوله لأهلنا في الضاحية، لكلّ الشباب، سواء كان الشباب من هذا الفريق أو من ذلك الفريق، إنّي أُريد للجميع وللنّاس جميعاً أن لا تسيؤوا إلى الخطّة الأمنية، لأنّ بديل الخطّة الأمنية في ظروفنا الحاضرة ومن خلال الذي تعيشه هو التقاتل لأنَّ الجميع يراهنون على ذلك، لهذا لا بدّ من الانضباط، ولا بدّ من الانفتاح على طبيعة الأخطار والمشاكل التي تحصل على أساس أن تدرس دراسة هادئة ولا تدرس دراسة منفعلة. إنَّ أمامنا قضايا كثيرة نحتاج أن نواجهها ونحتاج أن نلاحقها، حتّى نستطيع أن نملك القرار وحتّى نستطيع أن نملك المواقف، التي نستطيع فيها أن نمنع كلّ هؤلاء الذين يريدون أن يبيعوا كلّ دماء الشهداء وكلّ دماء الضحايا باتّفاقات، تعمل على إرجاع البلد كلّه إلى نقطة الصفر.

أمن الجنوب في مواجهة "إسرائيل"
لهذا لا تستغرقوا في خلافاتكم مع بعضكم، جمِّدوا خلافاتكم. لا تتحدَّثوا فقط عن أمن الجنوب في الداخل، ولكن تحدَّثوا عن أمن الجنوب(1) في مواجهة "إسرائيل"، تحدَّثوا عن الشريط الحدودي الذي أرادت "إسرائيل" أن تجعل منه تجربة لكيفية ضمّها قسماً من الجنوب إلى ما اعتادت عليه من أرض فلسطين، لتُطبِّع الناس ولتجعل الناس يقاتلون بالنيابة عنها ولتجعل الناس يعملون على محاصرة المجاهدين بالنيابة عنها، لماذا لا نتّفق على أساس أن نحرِّر الشريط الحدودي ونحرِّر المواقع التي تحتلها "إسرائيل" بطريقة غير مباشرة؟ إذا كان كثير من الناس يتشنَّجون من مسألة تحرير القدس، لأنّهم لا يريدون هذه الفكرة أو يخافون منها أو يهوّلون بها على الناس، فليس هناك من يفكِّر بتحرير القدس عشوائياً، وليس هناك من يفكِّر في أن يحرِّر العامليّون أو اللبنانيّون القدس لأنّهم لا يملكون ذلك. ولكنّنا نفكّر أن يكون هذا هدفاً لنا في المستقبل، نتكامل فيه مع كلّ المسلمين في العالم، كما كان الوصول إلى القدس هدفاً لليهود واستطاعوا أن يصلوا إليه، لماذا ترفضون أن تحلموا بالحريّة؟ لماذا يرفض الكثير من الناس أن يتمنّى الإنسان أن يكون حرّاً؟ بعض الناس أدمنوا العبوديّة حتّى أصبحوا لا يطيقون كلمة الحريّة. وأنا أقول إنّ بعض الناس الذين يتحدّثون بطريقة إعلامية عن شعار تحرير القدس بهذا الشكل الاستهلاكي، هؤلاء الناس لو دخلت إلى قلوبهم وإلى ارتباطاتهم، لرأيت أنّهم ضدّ تحرير جنوب لبنان أيضاً، لأنّهم لا يريدون للجنوب أن يتحرَّر وإنّما يريدون للجنوب أن يخضع "لإسرائيل" على أساس الترتيبات الأمنية. هذا هو المطروح في الساحة الأميركية وفي الساحة السياسية اللبنانية، المطروح في العمق هو أن يكون هناك نصف صلح مع "إسرائيل" في الترتيبات الأمنية لمصلحة "إسرائيل" بانتظار انعقاد المؤتمر الدولي. لا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل، لكن أريد أن أقول تعالوا لنتّفق على أن نحرِّر الشريط الحدودي، تعالوا نتّفق على أن لا نجعل بلادنا تعيش تحت وطأة الهجمة الإسرائيلية، التي لا تجد منّا ـــ كما يحبّ البعض ـــ إلاّ أُناساً يصفّقون لإسرائيل ويقدّمون لها التبريكات. إنّ الشعب الذي يسكت أمام الاحتلال هو شعب سيظلّ يعيش طويلاً تحت أقدام المحتلين، هل تريدون لأولادكم أن يعيشوا تحت أقدام الاحتلال الإسرائيلي؟
دولة الإنسان
وهكذا نريد أن نقول للجميع إنَّ هناك مَن يتحدّث في هذه الأيام عن مشاريع لحلّ المشكلة اللبنانية وليس هناك أيّ حلّ للمشكلة اللبنانية في المستقبل المنظور. إنَّ هناك استحقاقاً رئاسياً، كما يقولون، وهو لا يمثّل أيّ حلّ بل أيّة حلحلة. لاحظوا أنّ الجميع لا يتحدّثون عن لبنان ولا يتحدّثون عن الجنوب وإنّما يتحدّثون عن بيروت الإدارية. وبيروت الإدارية هي مشكلة دولية وإقليمية ومحليّة لا بدّ أن تجتمع كلّ سياسة العالَم بما يوحي به الوضع اللبناني المتحرّك على أكثر من صعيد، حتّى يفكِّروا كيف تكون بيروت الإدارية. لكن نقول أيُّها الناس نقولها لكلّ مَن يسمّون بالصف الإسلامي سواء كان صفّاً لا يؤمن بالإسلام أو كان صفّاً إسلامياً يؤمن بالإسلام بطريقة معيّنة أو ما إلى ذلك.
الصّف الإسلامي بين قوسين. نقول لهذا الصّف: لماذا لا نتوحَّد على القواسم المشتركة؟ إنّكم تريدون أن تواجهوا الحكم وتواجهوا المعسكر الآخر، تعالوا نتّفق على أساس مشروع إذا لم يستطع أن يغيّر الوضع اللبناني كلّه ويغيّر النظام اللبناني كلّه فعلى الأقلّ يستطيع أن يضمن للبنانيين من مسلمين ومن مسيحيين إنسانيّتهم ليكون لبنان دولة الإنسان. إنَّنا نطرح الإسلام ولكن إذا لم تكن هناك ظروف لأن يكون الإسلام هو الحكم في هذه الظروف، فتعالوا نطرح دولة الإنسان، أن ينطلق الناس على أساس أن تكون إنسانيّتهم هي قوّة مواطنيّتهم، لا أن تكون طائفيّتهم هي أساس مواطنيّتهم، وعند ذلك، عندما يكون لبنان دولة الإنسان فإنّه يكون دولة الحرية والعدالة، بالطريقة التي يفهم فيها كثير من الناس الحريّة والعدالة، لأنَّ لنا مفهوماً آخر في هذا المجال، عندما تكون هناك حريّة ليطلق كلّ واحد رأيه وليكون الرأي الأقوى هو الذي يحكم الواقع. تعالوا إلى أن نتّفق على لبنان ألاّ يكون ممرّاً للاستعمار ولا مقرّاً له. تعالوا نتّفق على لبنان يكفل كلّ العدالة لبنيه ويكفل لهم القوّة كي لا يحتلّه أحد من هؤلاء الذين يسيؤون للأُمّة في كلّ حياتها. إنَّنا نقول إنّ الاختلاف والاقتتال والاستغراق في الخصوصيّات لا يفيد أحداً، ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن داخل الجنوب وتكون "إسرائيل" هي التي تحيط بالأمن كلّه؟ ماذا يفيدنا أن يكون هناك أمن في بيروت ويكون الاستعمار هو الذي يحرس الأمن كلّه، ماذا يفيدنا ذلك؟ إنّك عندما تقسم (الكبّة) في الصينية فلن نستفيد شيئاً من قطعة يأخذها هذا وقطعة يأخذها ذاك. المهمّ هو من الذي يملك الصينية؟ إذا كانت "إسرائيل" هي التي تملك الصينية فما قيمة أن يكون لك موقع في هذه الزاوية أو تلك؟
القمّة والقاصرون
ثمّ بعد ذلك أخيراً نقول، إنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا تحدَّثوا فيها في الكواليس، لأنَّ هناك قمّة لا ندري ماذا يراد منها. الآخرون يتولّون أمورنا، هم الأولياء والأوصياء ونحن القاصرون ونحن الذين نعطي قيادنا للآخرين. قد تكون هناك قوّة كبيرة على مستوى العالم وقد تكون هناك قوّة على مستوى المنطقة، ولكنَّ الشعوب عندما تأخذ بأسباب القوّة، سوف تربك القوى الطاغية والظالمة بكلّ ما عندها من وسائل وبكلّ ما عندها من إمكانات. إنَّ القمّة العربية تعمل من أجل أن تجعل مصر عضواً جديداً في الجامعة العربية ومعنى ذلك أنّها تجعل جزءاً من "إسرائيل" عضواً في الجامعة العربية. وكلّ جامعة عربية وأنتم بخير.
والحمد لله ربّ العالمين

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية