الانفعالية في حركة الحرب والفتنة(*)
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء : 1].
هذا اليوم الذي يصادف آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، هو اليوم الذي أراده قائد الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) يوم القدس العالمي، اليوم الذي ينطلق فيه الناس في كلّ أنحاء العالم، من أجل أن يعبّروا عن غضبتهم على احتلال اليهود فلسطين وتحوّلهم من خلال ذلك إلى خطر على كلّ مواقع الإسلام والمسلمين، لا في المنطقة فحسب، ولكن في كلّ موقع من مواقع العالَم، حيث أصبحت كلّ الساحات في العالم ساحات صراع بين الصهيونية وبين الإسلام.
واختياره لهذا اليوم كان من خلال الاستراتيجية الإسلامية، التي تعرف جيّداً مدى خطورة الواقع الذي يمثّله الاحتلال اليهودي لفلسطين ولبعض ما حولها، باعتبار أنّ كلّ تاريخ المنطقة الحديث سواء كان هذا التاريخ تاريخاً سياسياً أو كان تاريخاً أمنياً، يراد له أن يجعل كلّ المواقع الموجودة في المنطقة في دائرة الصراع ضدّ "إسرائيل" وفي دائرة كلّ المخطّطات الدولية التي تعمل على أساس أن تعطي "إسرائيل" قوّة، بحيث لا تسمح بتوحّد المنطقة في كيانٍ واحد وفي مصالح واحدة، وحتّى تمنع المنطقة الإسلامية من أن تتكامل ومن أن تتحرّك من أجل أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، ومن أجل أن تفسح في المجال لكلّ دول العالم، من خلال هذه القضية، أن تتدخّل في كلّ الشؤون الداخلية والخارجية، من اقتصادية وسياسية، بغية ضرب وحدتها وقوّتها.
القدس مسؤولية إسلامية عامّة
ولهذا فإنَّ القدس، في ما تمثّله هذه الكلمة، ليست مجرّد بلد قدَّسه الله سبحانه وتعالى، وجعله في مقابل البيت الحرام، إنّما هو في العمق دلالة على هذا الترابط بين المسجدين في مسؤولية المسلمين عن حمايتهما وعن رعايتهما ودراسة كلّ الأخطار التي تتوجَّه إليهما.
في هذا اليوم، يوم القدس، نستطيع أن نبصر المؤامرة الكبيرة التي خطَّط لها الاستكبار العالمي في كلّ بلاد المسلمين وفي كلّ واقعهم وذلك كي يمنع نموَّ المسلمين، سواء على مستوى الحريّة أو على مستوى العدالة. وعندما ندرس كلّ المشاكل الموجودة في المنطقة فإنَّنا نرى فيها فرعاً من هذه المشكلة الأُم، وعندما نرى كلّ ما يحصل من القتل والدمار والفتن في هذه المنطقة فإنَّنا نستطيع أن نعرف المدخلية الكبيرة للوضع الإسرائيلي في حركة الوضع السياسي في المنطقة. إنَّنا نريد أن يحتفل المسلمون وكلّ طلاّب الحريّة بهذا اليوم العالمي، ولاسيّما بعد أن انطلقت الانتفاضة الإسلامية المجاهدة في فلسطين والتي بلغ عمرها ما يقارب الستّة أشهر، وهي تقدّم في كلّ يوم الشهيد تلو الشهيد، وتتحرّك في كلّ يوم في مواقع الجهاد. كنّا نريد أن نتكامل مع هذه الانتفاضة في خطّ المقاومة الإسلامية وفي خطّ المقاومة المؤمنة وفي كلّ خطوط المقاومة، سواء كانت وطنية أو أيّ خطٍّ آخر يسعى مخلصاً لمقاومة العدوّ. كنّا نتمثَّل ذلك وكنّا نتمنّى أن تنطلق صيحات الجهاد في الجنوب في مثل هذا اليوم، كما تنطلق صيحات الجهاد هناك في الضفّة الغربية وفي غزّة؛ كنّا نريد أن تتجاوب كلّ صرخات المسلمين، التي تحمل شعار الجهاد وعنوانه في مساجد بيروت والجنوب والبقاع والشمال، لتتلاقى مع صرخات المسلمين هناك في المسجد الأقصى وفي كلّ المساجد الموجودة في فلسطين. كنّا نتمنّى ذلك وكنّا نعمل لذلك، لأنّنا نشعر بأنّنا نتكامل مع كلّ الأحرار في العالم ونتكامل مع كلّ المسلمين المجاهدين هناك، ونشعر بأنَّ الخطر هناك والخطر هنا واحد، باعتبار أنّ الخطّة هي أن يسقط كلّ صوت ينادي بالحريّة وأن يخرس كلّ صوت ينادي بالحقّ وأن يسقط كلّ عمل ينطلق من خلال الإسلام.
صوت الفتنة
كنّا نريد للسّاحة أن تتكامل ولكن ماذا حدث؟ لقد دخلت الفتنة في الساحة التي تمثّل خزّان المقاومة، وانطلقت الدماء لتجري أنهاراً هنا وفي الجنوب على أساس ما تخطِّط له الفتنة(1) وتتحرّك فيه، ولذلك تعمل الفتنة على إسقاط الموقف وعلى إسقاط القضية وعلى إسقاط الخطّ وعلى جعل الناس، كلّ الناس، ينظرون إلى السّاحة الجهادية على أنّها ساحة تخلق المشاكل، بدلاً من أن تنأى عن هذه المشاكل، لأنَّ المشاكل الداخلية عندما تتحرّك في حياة الناس فإنَّ الناس لا يبصرون غالباً لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ؟ ومن أين انطلقت الفتنة؟ وأين دخلت؟ الناس يتحرّكون دائماً من خلال قضاياهم وإحساساتهم ولا يطيقون الدخول إلى عمق الأشياء. ومن هنا فإنَّنا نلاحظ أنّ الفتنة دخلت الجنوب واستطاعت أن تحجّم المقاومة وعمودها الفقري، المقاومة الإسلامية، وانطلقت الفتنة وكنّا نقول ونراهن على أنْ لا تتحرّك الفتنة في الضاحية، التي هي ضاحية الجهاد والبؤس والحرمان، والضاحية التي تمثّل خزَّان المقاومة في كلّ مجال من مجالات العمل المقاوم. كنّا نراهن على أن لا ينطلق الانفعال في الضاحية، كما انطلق في الجنوب وأن لا تكون المشاكل الصغيرة تتحرّك من أجل أن تحرق القضايا الكبيرة، وأن نتحلّى بالوعي وبالصَّبر في ذلك كلّه. كنّا نراهن على أن لا تدخل الفتنة، لتحرق الناس الذين أُحْرِقوا بفعل أكثر من فتنة، والناس الذين قُصِفوا من أكثر من موقع في تاريخ هذه الفتنة، والناس الذين شرّدوا ولا يزالون يشرّدون من مكانٍ إلى مكان؛ كنّا نتمنّى ونعمل على أن لا تكون، ولكن لا أدري لِمَ حَدَث ذلك؟ لقد قلنا في ما سبق إنَّ هناك عناصر في طبيعة هذه الأحداث، تنطلق من مواقع العقلية التي تدار بها أمور الناس في الساحة السياسية. إنّنا لا نفهم كيف يتحوّل خلاف فردي أو إشكال أمني في مكان ما بين اثنين وبين آخرين إلى قضية فتنة كبيرة(1)؟ قد يكون هذا مذنباً وقد يكون ذاك مذنباً، وقد يكون الجميع مذنبين. إنَّنا نواجه في كلّ هذه الغابة المسلّحة مشاكل، تتحرّك على أساس أنّ القضايا الصغيرة يمكن أن تحلّ في دائرتها الخاصّة ولا نجعل منها مشكلة كبيرة مسلّحة، ولكنَّ الأسلوب الذي تربَّت عليه القيادات السياسية في لبنان والتي لا تتحلَّى بالتقوى ومخافة الله، تحوِّل دائماً الحرائق الصغيرة إلى حرائق كبيرة. وهكذا رأينا أنّ إشكالاً حدث في حاروف(2) أدَّى إلى حرب الجنوب، وأنَّ إشكالاً حَدَثَ في الضاحية أدّى إلى حرب الضاحية. كنّا نقول هناك ونقول هنا وعملنا بكلّ ما عندنا من طاقة من أجل أن تُحْصَر هذه القضية في دائرتها الخاصّة. كنّا نقول لا تتحرَّكوا بأيّ عمل سلبي ولا تعملوا على أساس أن يتوتَّر الجوّ لمجرّد أنّ هناك حادثة فيها عدّة ضحايا، ثمّ لم نعرف كيف انطلقت هذه القضية. كنّا نقول انطلقوا من أجل أن يكون الحكم الشرعي هو الأساس في هذا المجال، ولكن ماذا حدث؟ الذي حَدَث أنّ هناك تصرُّفاً انطلق، ليطلب إغلاق المدارس وليتحرّك في الجوّ على أساس أنّ هناك عملاً ما، وبدأت الفتنة وبدأت القضايا، التي كان الإعلام يحضّر لها وكانت التحليلات السياسية تحضّر لها وكانت الخطط الإقليمية والدولية تحضّر لها، كان هناك شيء ما يقول إنَّ هناك عملاً يراد للحالة الإسلامية أن تسقط بين يديه، كان هناك كلام يقال في التحليلات الصحافية وفي المواقف السياسية وفي التعليقات الدولية، وبذلك انطلقت هذه الأجواء وتحرَّكت مع الأجواء التي صارت على الأرض، وبدأت المسألة تتحرّك على أساس أن ينطلق الحريق هنا وينطلق الحريق هناك، وبذلك كانت الفتنة وكانت الفاجعة وكانت الكارثة.
هذا النوع من التخلُّف في تحريك العمل الأمني والسياسي، الذي ينطلق من مواقع العقلية التي لا تصبر على الصغير فتهرب منه إلى الكبير وتعمل ما لا يعمل، وتتحرّك في ما لا يتحرَّك.
العنصر الثاني الذي نلاحظه، هو أنّ هناك عقليات قيادية انفعالية تتحرّك من موقع الانفعال وبذلك تثير الانفعال في كلّ من حولها وما حولها وتنطلق من أجل أن توتّر الأعصاب وتثير الحماسة وتخاطب غرائز الناس وتحرّك الذين لا يخافون الله في عباده وفي بلاده، من أجل أن يتحرّك الناس في غرائزهم دون أن يتحرَّكوا في عقولهم: الكلمات غير محسوبة والتصرُّفات غير محسوبة والعلاقات غير محسوبة، وعندما يضيع حساب العقل وحساب الوجدان وحساب التقوى، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الخراب سيعمّ البلد.
إنَّ الله سبحانه وتعالى علَّمنا في كتابه وفي سنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن نفكّر بعقولنا ولا نفكّر بغرائزنا، وعلَّمنا أن لا نعيش الانفعال في حياتنا بل نعيش التفكير فيها. هذا ما أراده الله لنا، وأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس، وقال لنا إنّه يحبّ المحسنين؛ ولكن هناك مَن لا يريد أن يكظم غيظه، وينفعل ويجعل السّاحة ساحة انفعال من قريب أو بعيد. إنَّ السياسي الكفؤ الناجح هو، الذي يعرف كيف يتفادى الحروب لا الذي يعمل على أساس أن ينتقل من حرب إلى حرب. تصوَّروا أنتم، يمكن لكلِّ واحدٍ منكم أن يخرج من المسجد ويفتعل مشكلة مع إنسانٍ آخر، من السهل أن تصنع حرباً ومن السهل أن تخلق فتنة، ولكن ليس من السهل أن تمنع الحرب. إنَّ ذلك يحتاج إلى إيمان وإلى تقوى وإلى عقل. لا ندري كيف دخلت هذه الحروب المتحرّكة من مكانٍ إلى مكان في عمق واقعنا، لماذا لم تمنع الحرب؟ هذا من فريق يقتل أربعة وذاك من فريق يقتل أربعة، كان بإمكاننا أن لا نزيد على الأربعة واحداً، عندما نفكِّر بأعصاب هادئة وبعقلية شرعية، وعندما نحصر المسألة في دائرتها الخاصّة، كان من الممكن ذلك، ولكن تتحوّل الأربعة إلى مئة وأكثر، وتكرّ السبحة في عدد القتلى والجرحى وفي الدماء والخراب والتشريد. ماذا استفاد الذي حرَّك الفتنة، هل استفاد شيئاً؟ إنَّ عليه أن يراجع حساباته جيّداً. هذه نقطة.
ضرورة إيجاد قواعد مشتركة
وهناك عنصر ثالث، هو أنّنا ندّعي تمثّلنا وحدانية الله. ولكنّ المشكلة أنّ هناك في الساحة مَن يتمثّل بوحدانية الزعامة ووحدانية المحور السياسي ووحدانية الموقع؛ إنَّ هناك مَن تتضخَّم شخصيّته، بحيث لا يستطيع أن يتحمَّل الآخرين معه في الساحة نفسها، وعندما يقال له إنّك موجود والآخرون موجودون والسّاحة يمكن أن تتّسع لكما معاً، لماذا تريد أن تلغي دور الآخر ولماذا يريد الآخر أن يلغي دورك؟ لماذا لا تنسّقان وتتكاملان وتتعاونان؟ لا تحصل على الجواب الذي يقنعك ويكون فيه رضى الله. فالسّاحة ساحة العقلية الوحدانية، الله واحد وأنا واحد. الله واحد وهذا المحور واحد ولا مجال للآخر؛ فكما أنّه لا مجال لشراكة الله فكذلك لا مجال لشراكة الزعامة والسياسة والواقع. هذا المعنى هو الذي جرَّ علينا كثيراً من الحرائق في الماضي ويجرّ علينا الحرائق التي سنبقى نعيش في داخلها، ولا ندري ماذا يخبّئ لنا المستقبل. لماذا تكون وحدك وأنتَ لا تستطيع أن تملك الساحة كلّها؟ الله وحده، لأنّه هو الذي خلق السموات والأرض، لم يشاركه أحد في خلق السموات والأرض ولم يشاركه أحد في تدبير السموات والأرض، الله وحده لأنّه الخالق وحده، ولكن مَن أنت، سواء كنتَ شخصاً أو حزباً أو حركة أو منظّمة أو مؤسّسة أو أيّ شيء، مَن أنت حتّى تتصوَّر نفسك بحجم كلّ السّاحة؟ الآخرون موجودون، يمكن لك أن تتفاهم معهم وأن تتعاون معهم، ولكنَّ المشكلة هي أنّ الذي يعيش أنانية الموقع، لا يمكن أن يرى أنّ هناك غيره في هذا الموقع، وبذلك تتحوّل الأنانية السياسية وغير السياسية إلى حالة عدوانية، وتتحوّل الحالة العدوانية إلى حالة قتالية. وهذا ما نعيش في دائرته السياسية، وهذا ما جعل كلّ الأطراف في هذه المنطقة تتقاتل على أساس أنّ أحداً لا يريد أن يعترف بوجود الآخر.
وهناك عنصر آخر في هذا المجال، وهو أنّ الناس لا يحبُّون أن يتفاهم بعضهم مع بعض. عندما يكون هناك اثنان مختلفان في البيت، زوج وزوجته، أو يكون هناك جماعة مختلفون في حارة أو في بلد وهم محكومون بأن يبقوا في هذه الحالة أو في هذا البيت، إذا كانت هناك خلافات في ما بينهم ولا يمكن لأيّ واحد من الطرفين أن يترك مكانه للآخر، لأنَّ ظروفه لا تساعده على ذلك فما الحلّ؟ الحلّ هو أن يقال للطرفين إنّكما تتّفقان في عدّة أمور وتختلفان في أمورٍ أخرى، اتّفقا على ما تلتقيان عليه، والتقيا على ما تتّفقان فيه، وحاولا أن ترتِّبا طريقة الخلاف بالحوار وبالمناقشة وبمحاولة تجميد بعض الخلافات في حالة وتحريكها في حالة بشرط أن لا يسقط البيت. إنَّ طبيعة الاختلاف في كلّ مواقع التعايش، تفرض على الناس أن يضعوا لأنفسهم ضوابط وقواعد، يمكن لهم أن يرجعوا إليها وأن يتحرّكوا من خلالها، بحيث يقول كلّ فريق للفريق الآخر: تعال لنتفاهم كيف نتحرّك هنا وكيف نقف هناك وكيف نثير هذه المسألة وكيف نجمّد هذه المسألة؟ أليست هي الحالة الطبيعية في كلّ المواقع التي يكون فيها الجميع محكومين للتعايش؟ المسألة كذلك، لماذا لم ينطلق الموقع في هذه الساحة التي يتّخذ فيها الطرفان خطوط تماس في كلّ المجالات؟ إنَّ هناك خطوط تماس في البيت الواحد وفي المحلّة الواحدة وفي البلد الواحد، هذا من جهة وذاك من جهة، لماذا لم يفكّر أحد باللّقاء على ما يُتّفق عليه وبالحوار في ما يختلف فيه، ما دامت الشعارات التي تتحرّك شعارات واحدة في أغلب الأمور، وما دامت القضايا التي يُختلف فيها من القضايا التي يمكن أن يتحرّك الاجتهاد السياسي من خلال الاجتهاد الشرعي فيها، ليجمع الفريقين عليها أو لينظّم خلافاتهما؟ المسألة هي أنّ الساحة كانت لا تحمل هذه الضوابط وقد عملنا مع كلّ المخلصين منذ أكثر من ثلاث أو أربع سنوات على أن نوجِد لجاناً أساسية لهذه الغاية، وعملت الجمهورية الإسلامية على أساس أن يوجد هناك نقاط اتّفاق أساسية تحكم الساحة كلّها، حتّى إذا اختلفنا في أيّ شيء فإنّهما يرجعان إلى نقاط الاتّفاق وإلى قاعدته. ولكن كانت هناك أيدٍ كثيرة ومداخلات كثيرة وخلفيات سياسية وأنانيّات ذاتية جمَّدت هذه الاتّفاقات وجعلتها حبراً على ورق، وانطلق الناس يشحنون التعصُّب ويشحنون الغرائز ويتحرّكون في غير اتّجاه التقوى. وقد قلنا ولا نزال نقول بعد كلّ هذه الأحداث المفجعة الدامية، التي عاش الناس المستضعفون كلّ آلامها وعاش الناس الفقراء كلّ مشاكلها، كنّا نقول ونحن نعيش الآن في قلب المشكلة وفي قلب المأساة وفي داخل حركة الفتنة، حيث يقتل الأخ أخاه ويقتل الجار جاره، وحيث يتحرّك المتصارعون ليربح هذا موقعاً على أساس ضحايا هنا وضحايا هناك، كنا نقول منذ البداية عندما حدثت أحداث الجنوب وعملنا مع المخلصين، قبل أن تحدث أحداث الضاحية، عملنا على أن نجمع الأطراف في سبيل حوار، يضع ضوابط معيّنة تعمل على أساس أن لا تتجدَّد المشاكل في غير الجنوب. كنّا نعمل على هذا الأساس، وكانت هناك مشاكل وعقبات في الطريق، وكان من الممكن في يوم الجمعة الماضي الذي انطلقت فيه الفتنة الجديدة، كان من الممكن أن يصار إلى اتّفاق، ولكن لا ندري كيف انطلقت الفتنة في الصباح وكان المفروض أن يكون التوقيع في المساء؟ كيف حدث ذلك؟ ما هي الخفايا والخبايا؟ الله أعلم بذلك، لا نعلم الغيب، ولكن نعرف كثيراً من ملامح حركات الغيب في الساحة، عندما تنطلق الأجهزة في كلّ مكان لتخرّب كثيراً ممّا يريد المصلحون أن يعمّروه. إنَّنا نتحدّث إليكم بذلك حتّى نقول لكم إنّنا كنّا مع مسؤوليّتنا، لم نجلس على الحياد ولم نقف لنتفرَّج. كنّا في اللّيل والنهار نعمل مع كلّ المخلصين، على أساس إيجاد علاقات متوازنة بين الطرفين، من أجل أن ينطلق الطرفان في غرفة عمليات مشتركة في الجنوب ضمن شروط تحفظ للمقاومة الإسلامية وللمقاومة المؤمنة ولكلّ مقاومة أخرى سلامتها وقوّتها وصلابتها، وكان هناك اتّفاق على ذلك. وكنّا نعمل أيضاً على دراسة ما هي حدود أمن الجنوب وما هو معناه وما هي طبيعته وما هي الضوابط الشرعية له؟ كنّا نعمل على الحوار في ذلك، وكاد الحوار أن يصل إلى نتيجة حسنة، لهذا لم تكن هناك حالة حياد، ولكن يبدو أنّ الأجهزة الخفيّة التي تعمل بإيعاز الاستخبارات تارة وعلى أساس العصبيّة تارةً أخرى في داخل البلد وخارجه وتزرع في كلّ موقع من مواقعنا حرَّاساً للفتنة وزرَّاعاً لها وتوظّف الكثيرين ليخدموا مخطَّطاتها، شعرنا بأنَّ هذه الأجهزة أقوى منّا في ذلك، لأنَّنا عملنا على أن نمنع الفتنة واستطاعت أن تغلبنا بكلّ أجهزتها الموجودة في صفوفنا وخارج صفوفنا، استطاعت أن تصنع الفتنة وتحرقنا جميعاً.
إنَّنا نريد أن نقول بعد كلّ هذه المصائب والكوارث، إنَّ علينا في هذه الفتنة التي نعمل على أن تكون نهائية إنْ شاء الله، وعلى أساس أن لا تكون الحلول حلولاً طارئة علينا وارتجالية وانفعالية.
إنَّ هذا الخلل الذي كان موجوداً والذي توسَّع الآن، وهذه المشاكل النفسية التي كانت تثيرها العصبيّات الذاتية فأصبحت تثيرها الأنهار الدموية، لا بدّ من أن نشعر بأنّها تواجهنا جميعاً على مستوى قضايا الاستحقاق الداخلي وعلى مستوى القضايا المصيرية في الخارج. لهذا نقول إنّ المسألة هي أن يتكامل الناس بعضهم مع بعض. إذا كانت هناك خلافات في الساحة السياسية فلا يجوز أن يكون ثمن هذه الخلافات ومظهرها كلّ هذه الأنهار من الدماء، بل لا بدّ لنا من أن نعمل على إيجاد قواعد متوازنة للعلاقة بين الفريقين، وإذا أمكننا أن نوجِد علاقات بين كلّ الفئات الموجودة في الساحة فإنَّ هذا أفضل وأقرب، وعند ذلك لن تحتاج إلى قوى أمنية داخلية أو خارجية، لأنَّ الضوابط التي تحكمنا تحفظ لنا التنوّع في الوحدة؛ لأنَّ الوحدة في التنوّع يمكن أن تحمي هذا المجتمع كما حمته في السابق. لقد عشنا زمناً طويلاً ولم تحدث هناك مشاكل وكنّا نقول إنَّ هذه الحرب خطّ أحمر، ولكن يبدو أنّ الخطوط الحمراء تتحوّل فجأة إلى خطوط خضراء في هذا اللبنان الذي لا نعرف خضرته من حمرته.. إنَّنا يجب أن نعمل على هذا الأساس، لينطلق الجميع ليبحثوا كلّ القضايا وليبحثوا الموقف في الضاحية وفي الجنوب وفي البقاع وفي لبنان كلّه، من أجل أن يكون هناك اتّفاق على أساس معيّن، ومن أجل أن تنفتح القلوب ليعرف كلّ إنسان ما في قلب الآخر. لقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "لو تكاشفتم ما تدافنتم"(1) لأنَّ المسألة التي لا تزال تعيش هي أنّ الفريق هنا يخاف من الفريق هناك، وأنّ فريقاً هناك يخاف من فريق هنا، وأنَّ هناك نوعاً من عدم الثقة في هذا المجال.
المسألة في جوّ الخطر
من هنا، فإنَّ المسألة لا تزال تتحرّك في جوّ الخطر، إنّنا نقول للجميع: اجلسوا في ساحة واحدة وافتحوا قلوبكم فليس لدى كلّ منكم ما يربحه إذا خسِرَ أخاه، وليس لكلّ منكم ما ينتصر به إذا انطلقت الفتنة لأنَّ الفتنة تهزم الجميع، فليس هناك منتصر ومهزوم. لقد قيل بعد الجنوب إنَّ هناك انتصاراً ولكنّنا لا نريد لكلّ الأخوة هنا في الساحة أن يعيشوا جوّ الانتصار، لأنَّ المسألة أنّك تنتصر على مَن، وتهزِم مَن؟ ليس هناك انتصار إلاّ على العدوّ، الذي يجب أن ننطلق لنقف في وجهه، لا أن يوجّه بعضنا رصاصه إلى صدور البعض الآخر.
لا بدّ من علاقات متوازنة حتّى يمكن لنا أن نتجاوز ذلك، ولا بدّ لنا من أن نرجع إلى أخلاقيّاتنا الإسلامية التي علَّمنا الله إيَّاها. عندما قال لنا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53]. وعندما قال لنا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35].
إنَّ علينا كأفراد وكمجتمع وكقيادات أن ننفتح على تقوى الإسلام وعلى أخلاقيّة الإسلام، وعلينا أن نشعر، على أساس ثابت، بأنَّ الحالة الإسلامية التي انطلقت لتكون الامتداد لدعوة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الإسلام في قوّته وفي دعوته وفي جهاده وفي حكمه وفي تقواه، ليست حالة سياسية يمكن لك أن تلبسها اليوم وتخلعها غداً، بل معنى أن تكون جزءاً من الحالة الإسلامية، هو أن يكون الإسلام كلّ عقلك وكلّ شعورك في كلّ حكم إسلامي وفي كلّ مفهوم من مفاهيم الإسلام.
الإسلام هو المستهدف
وإنَّنا نقول لكلّ الإخوة المؤمنين الذين يشعرون بالإيمان كحقيقة في قلوبهم وفي حياتهم، إنَّ الحالة الإسلامية أمانة الله في أعناقكم وإنَّ هناك حديثاً لا يزال يدور، ولا تزال التحليلات السياسية تعمل على خلفيّات ما حدث في الضاحية، من خلال أنّ هناك وضعاً إقليمياً ووضعاً دولياً يعمل من أجل أن يحاصر الحالة الإسلامية وأن يجمّدها وأن يضربها وأن يقضي عليها. ولكن ما الثمن؟ أيّ ثمن يعطى في ذلك؟ الخلاف الآن على الثمن، فإذا اتّفق الجميع على الثمن فمعنى ذلك أنّ الحالة الإسلامية ستواجه وضعاً أصعب من الوضع الذي تعيشه، وستواجه مشاكل أكثر، لماذا؟ لأنّهم يقولون إنَّ هؤلاء متطرّفون، لا ينطلقون على أساس التسويات ولا يتحرّكون في ما وراء الكواليس ولا يقولون شيئاً من أجل خدمة واقع استكباري هنا وواقع استكباري هناك. إنَّ المسألة ليست مسألة حزب سياسي؛ إنَّ المسألة هي مسألة خطّ إسلامي، في هذا المجال نحن لا نعتبر أنّ الإسلام حزب، الإسلام هو لكلّ الناس. الإسلام هو للأُمّة. ليس الإسلام حزباً وليس الإسلام تنظيماً فالله سبحانه وتعالى خاطَبَ المسلمين كأُمّة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92]، {... وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52]. وإذا كان الله سمّى في قرآنه حزب الله فإنّه أراد لحزبه أن يكون كلّ المؤمنين، الذين يتحرّكون على أساس مفاهيمه وعلى أساس عقائده، لا أن يكون في دائرة ضيّقة تفصل نفسها عن الأُمّة، وتتحرّك بعيداً عنها، كلّ مسلم يؤمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر ويلتزم الخطّ الإسلامي في كلّ ما شرّعه الله، هو إنسان يتحرّك على أساس أنّه حزب الله، باعتبار أنّ الإنسان يكون حزب الله، تماماً كما يكون الإنسان عبد الله، تماماً كما يكون الإنسان وليُّ الله، يعمل بطاعة الله من دون بطاقة ومن دون انتماء ومن دون تنظيم، لتنطلق الأُمّة كلّها على أساس هذه المفاهيم الكبيرة.
ونحن نعتقد أنّ الإسلام ليس مقبولاً من المستكبرين في هذه السّاحة، لأنّه يسير عكس التيّار، لهذا يعمل الكثيرون على أساس مواجهة الإسلام في إيران، ويعمل الكثيرون الآن، وفي هذه الدائرة التي تتحرّك فيها الفتنة، على الإساءة إلى الجمهورية الإسلامية وإلى رموزها وعلى محاولة الحديث عنها بطريقة غير مسؤولة وغير إسلامية، كلّ ذلك لأنَّ الخطّة هي أن يسقط الإسلام في مواقعه القياديّة في نفوس الناس. هذا ما يجب أن ننتبه إليه عندما ننتبه إلى حركة الفتنة.
مواجهة حرب الإشاعات
وهناك نقطة لا بدّ لنا من أن نعيها جيّداً؛ إنَّ هذه الفتنة انطلقت من مواقع الإشاعات والتشنُّجات غير المسؤولة والتعقيدات والكلمات في دائرة الواقع الذي تتحرَّك فيه الصحف وتنطلق فيه أجهزة المخابرات لتعتبره كوضع يتحرّك في طريق الإشاعة، إنَّ هناك كلمات تدور وإشاعات تتحرّك في الساحة حول بعض الأوضاع وحول بعض التصرُّفات؛ هذا فعل كذا وهذا مثل بكذا وهذا انطلق كذا، وعلى أساس أن تشوّه صور بعض الرموز الإسلامية بطريقةٍ أو بأخرى(1). إنَّ هناك حرباً جديدة هي حرب الإشاعات، ولهذا فإنَّ علينا جميعاً أن نقف في وجه هذه الحرب، ونقولها لكلّ الأُمّة ولكلّ الأطراف، إنّ الله يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36].
إذا نقلت قصّة عن شخص أو إذا تحدّثت عن موقف لشخص أو إذا نقلت صورة عن أي وضعٍ معيّن، ولم تره بعينك، ولم تسمعه من ثقة فإنَّ الله يقول لكَ هل رأيت؟ تقول: لا يا ربّي، لم أرَ فلاناً يقتل فلاناً ولم أرَ فلاناً يشوِّه صورة فلان، ولم أرَ فلاناً يضرب بالساطور رأس فلان، لم أرَ هذا ولم أرَ ذاك. فيقول لك: إذا كنت لم ترَ فهل سمعت؟ تقول: سمعت. يقول لك: ممَّن سمعت هل حدَّثك ثقة، أم حدّثك إنسان موتور أم حدَّثك إنسان فاسق أو كاذب؟ حاول أن تجد جواباً، لأنَّك إذا استطعت أن تعطي من حولك جواباً فهل تستطيع أن تعطي الله جواباً؟!
فكِّروا في ذلك، عندما تتحدّثون بالإشاعات وعندما تتّهمون الناس هنا وهناك وعندما تتحدّثون عن المؤمنين بطريقة غير مسؤولة، إنَّ الله سيحاسبنا جميعاً على ذلك إذا لم نحسن أن نأخذ المصدر من مواقع الثقة. هذا ما يجب أن نلتفت إليه في هذا المجال.
كما أنَّ هناك نقطة أحبّ أن أُنبِّه إليها، أنّنا في كلّ مساعينا مع كلّ المخلصين، الذين يتحرّكون في الساحة، علينا أن نمتنع عن كلّ الكلمات التي تثير الأحقاد والبغضاء وتشحن العواطف وتبعث على التوتُّر، علينا أن نختزن هذه الآلام في صدورنا وأن نعمل على أن نقلِّل من الكلام الانفعالي الذي يثير كلّ طرف على الطرف الآخر، ليوتّر أعصابهم وليدفعهم إلى العصبية. لأنَّ هذه الأساليب قد تدفع الإنسان غير المتعصّب لأن يكون متعصِّباً. ولهذا فإنّ علينا أن نعمل على ضبط ألسنتنا وأن ننقذ الواقع، هناك ضرورة لأنْ ننقد الناس ولكن بطريقة عقلانية موضوعية وهادئة. إنَّ علينا أن نواجه المسألة على هذا الأساس بكلّ مسؤولية، حتّى لا نزيد على النار ناراً وحتّى لا نزيد على الفتنة فتنة، لأنَّ واقعنا الذي نعيش فيه هو واقع الناس الذين يعملون على إطفاء الحرائق، لا الذين يعملون على إثارة الحرائق. واعملوا بكلّ ما عندكم من جهة في سبيل أن تسيطروا على كلّ هذه الفتنة التي تتحرّك في ساحاتكم بكلّ طريقة عقلانية هادئة. وإنّنا في الوقت نفسه نقول لكلّ المسؤولين أن لا يطلقوا الكلمات بطريقة انفعالية في الحديث عن وجود خطّة، تريد أن تعمل على إنهاء فريق معيّن كما تتحرّك به بعض المؤسّسات. إنَّ علينا أن نفهم أنّ الفتنة أحرقت الجميع، لم يكن هناك في قصد الحالة الإسلامية أن تعمل على تصفية أيِّ فريق مهما كان وضعه، ولم يكن في فكر الحالة الإسلامية أن تدخل في أيّ حرب مسلّحة في هذا المجال. هذا ما أعرفه من خلال ما أعرفه من الخلفيات، لذلك فإنَّ الأحاديث في كلّ الاجتماعات عن أنّ المسألة تتحرّك من أجل تصفية فريق معيّن كان موجوداً في الساحة، هذا كلام غير مسؤول. ونريد من القيادات أن تتحدّث بطريقة مسؤولة ونريدها أن تتكامل مع كلّ الفعاليات في السّاحة، لأنَّ المسألة ليست أن تكون أنت أو أن يكون ذاك، ولكنّ المسألة هي أن تكون الأُمّة وأن يكون الناس المستضعفون. قد تطلق دعايات في هذه الساحة أن يخرج كلّ المسلّحين من الضاحية، هذا أمر نتمنَّاه؛ أن يعيش أهل الضاحية بوضع لا سلاح فيه وبشكل يعيش الأمن فيه، لأنَّ السلاح مشكلتنا جميعاً، مشكلة الناس الذين يملكونه ومشكلة الناس الذين يحرسهم، هو مشكلتنا جميعاً... قد يتحدّث بعض الناس بأنّني أقود حرباً أو أنّني أقود ميليشيا أو أقود حزباً أو ما إلى ذلك ممّا يتحدّث فيه الإعلام، أنا غير مرتاح، لأنّني أحتاج إلى حرَّاس يتحرّكون معي من مكان إلى آخر فأنا لا أحبّ السلاح، لأنّني كنت أحبّ ـــ ولا أزال ـــ أن أعيش في حياتي تماماً كما كنت أعيش في النبعة، أن أركب بسيارات الأجرة بطريقة عفوية شعبية مع الناس كلّهم؛ لكنّ المشكلة هي أن تتمنّى شيئاً وأن يكون الواقع في هذا المجال شيئاً آخر.
لبنان غابة مسلّحة، وفي ظلّ واقع لا دولة فيه وفي ظلّ دولة تمثّل فريقاً ضدّك، ما معنى أن تعطي سلاحك؟ السلاح ليس حالة طبيعية في حياتنا، لأنّ السلاح خطر على حامله، كما هو خطر على الناس من حوله. لقد عرفناه في كلّ الأوضاع الفردية، ولكن عندما يكون للناس الآخرين أنياب من مدافع وأنياب من قذائف وأنياب من دبابات وهم يتربَّصون بك الدوائر، عندما يكون للآخرين أنياب بهذا المستوى، فهل تعمل على أن تكون أنيابك حليبيّة؟ السلاح مشكلة للجميع، ولكن يا ترى ما البديل في هذه الحالة؟ هل البديل أن تأتي القوّة التي قصفتنا قبل سنين وقصفتنا قبل أيام؟ كيف يمكن أن يحميك مثل هذا السلاح الذي يقصفك بأمر من اليرزة تارةً وبأمر ممّن لا ندري أخرى؟ إنَّنا نتمنّى أن تكون هناك أوضاع سياسية معقولة متوازنة، تحفظ للأُمّة حريّتها وكرامتها وتحميها ممّن يكيد لها، عند ذلك لا مشكلة لنا مع أحد.. ولكن كيف يكون ذلك؟
هناك فرق بين التمنّيات وبين حركة الواقع. إنّنا نريد أن نكون واقعيّين ونريد أن نقول لكلّ الناس من حولنا: إنَّ هذا السلاح أمانة الله عندكم أن توجّهوه إلى صدور أعدائكم، لا أن توجّهوه إلى صدوركم؛ وإذا حاول أعداؤكم أن يستغلّوا بعضكم في ذلك فحاولوا أن لا تواجهوا المسألة بطريقة انفعالية، ولكن اعملوا على أساس مواجهة القضية بكلّ مسؤولية وبكلّ إيمان. إنَّنا ندعو الله سبحانه وتعالى وقد عشنا في كلّ هذه الليالي المباركة في هذه الأجواء الصعبة، ونحن نستقبل عيد الفطر، ندعو الله أن يكون عيد فطرنا، عيد المصالحة وعيد التعاون وعيد الموقف الواحد. المهم أن نتّقي الله في ذلك كلّه وبعد ذلك ليست هناك مشكلة.
والحمد لله ربّ العالمين
الانفعالية في حركة الحرب والفتنة(*)
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء : 1].
هذا اليوم الذي يصادف آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، هو اليوم الذي أراده قائد الأُمّة الإمام الخميني (حفظه الله) يوم القدس العالمي، اليوم الذي ينطلق فيه الناس في كلّ أنحاء العالم، من أجل أن يعبّروا عن غضبتهم على احتلال اليهود فلسطين وتحوّلهم من خلال ذلك إلى خطر على كلّ مواقع الإسلام والمسلمين، لا في المنطقة فحسب، ولكن في كلّ موقع من مواقع العالَم، حيث أصبحت كلّ الساحات في العالم ساحات صراع بين الصهيونية وبين الإسلام.
واختياره لهذا اليوم كان من خلال الاستراتيجية الإسلامية، التي تعرف جيّداً مدى خطورة الواقع الذي يمثّله الاحتلال اليهودي لفلسطين ولبعض ما حولها، باعتبار أنّ كلّ تاريخ المنطقة الحديث سواء كان هذا التاريخ تاريخاً سياسياً أو كان تاريخاً أمنياً، يراد له أن يجعل كلّ المواقع الموجودة في المنطقة في دائرة الصراع ضدّ "إسرائيل" وفي دائرة كلّ المخطّطات الدولية التي تعمل على أساس أن تعطي "إسرائيل" قوّة، بحيث لا تسمح بتوحّد المنطقة في كيانٍ واحد وفي مصالح واحدة، وحتّى تمنع المنطقة الإسلامية من أن تتكامل ومن أن تتحرّك من أجل أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، ومن أجل أن تفسح في المجال لكلّ دول العالم، من خلال هذه القضية، أن تتدخّل في كلّ الشؤون الداخلية والخارجية، من اقتصادية وسياسية، بغية ضرب وحدتها وقوّتها.
القدس مسؤولية إسلامية عامّة
ولهذا فإنَّ القدس، في ما تمثّله هذه الكلمة، ليست مجرّد بلد قدَّسه الله سبحانه وتعالى، وجعله في مقابل البيت الحرام، إنّما هو في العمق دلالة على هذا الترابط بين المسجدين في مسؤولية المسلمين عن حمايتهما وعن رعايتهما ودراسة كلّ الأخطار التي تتوجَّه إليهما.
في هذا اليوم، يوم القدس، نستطيع أن نبصر المؤامرة الكبيرة التي خطَّط لها الاستكبار العالمي في كلّ بلاد المسلمين وفي كلّ واقعهم وذلك كي يمنع نموَّ المسلمين، سواء على مستوى الحريّة أو على مستوى العدالة. وعندما ندرس كلّ المشاكل الموجودة في المنطقة فإنَّنا نرى فيها فرعاً من هذه المشكلة الأُم، وعندما نرى كلّ ما يحصل من القتل والدمار والفتن في هذه المنطقة فإنَّنا نستطيع أن نعرف المدخلية الكبيرة للوضع الإسرائيلي في حركة الوضع السياسي في المنطقة. إنَّنا نريد أن يحتفل المسلمون وكلّ طلاّب الحريّة بهذا اليوم العالمي، ولاسيّما بعد أن انطلقت الانتفاضة الإسلامية المجاهدة في فلسطين والتي بلغ عمرها ما يقارب الستّة أشهر، وهي تقدّم في كلّ يوم الشهيد تلو الشهيد، وتتحرّك في كلّ يوم في مواقع الجهاد. كنّا نريد أن نتكامل مع هذه الانتفاضة في خطّ المقاومة الإسلامية وفي خطّ المقاومة المؤمنة وفي كلّ خطوط المقاومة، سواء كانت وطنية أو أيّ خطٍّ آخر يسعى مخلصاً لمقاومة العدوّ. كنّا نتمثَّل ذلك وكنّا نتمنّى أن تنطلق صيحات الجهاد في الجنوب في مثل هذا اليوم، كما تنطلق صيحات الجهاد هناك في الضفّة الغربية وفي غزّة؛ كنّا نريد أن تتجاوب كلّ صرخات المسلمين، التي تحمل شعار الجهاد وعنوانه في مساجد بيروت والجنوب والبقاع والشمال، لتتلاقى مع صرخات المسلمين هناك في المسجد الأقصى وفي كلّ المساجد الموجودة في فلسطين. كنّا نتمنّى ذلك وكنّا نعمل لذلك، لأنّنا نشعر بأنّنا نتكامل مع كلّ الأحرار في العالم ونتكامل مع كلّ المسلمين المجاهدين هناك، ونشعر بأنَّ الخطر هناك والخطر هنا واحد، باعتبار أنّ الخطّة هي أن يسقط كلّ صوت ينادي بالحريّة وأن يخرس كلّ صوت ينادي بالحقّ وأن يسقط كلّ عمل ينطلق من خلال الإسلام.
صوت الفتنة
كنّا نريد للسّاحة أن تتكامل ولكن ماذا حدث؟ لقد دخلت الفتنة في الساحة التي تمثّل خزّان المقاومة، وانطلقت الدماء لتجري أنهاراً هنا وفي الجنوب على أساس ما تخطِّط له الفتنة(1) وتتحرّك فيه، ولذلك تعمل الفتنة على إسقاط الموقف وعلى إسقاط القضية وعلى إسقاط الخطّ وعلى جعل الناس، كلّ الناس، ينظرون إلى السّاحة الجهادية على أنّها ساحة تخلق المشاكل، بدلاً من أن تنأى عن هذه المشاكل، لأنَّ المشاكل الداخلية عندما تتحرّك في حياة الناس فإنَّ الناس لا يبصرون غالباً لمن الحقّ وعلى مَن الحقّ؟ ومن أين انطلقت الفتنة؟ وأين دخلت؟ الناس يتحرّكون دائماً من خلال قضاياهم وإحساساتهم ولا يطيقون الدخول إلى عمق الأشياء. ومن هنا فإنَّنا نلاحظ أنّ الفتنة دخلت الجنوب واستطاعت أن تحجّم المقاومة وعمودها الفقري، المقاومة الإسلامية، وانطلقت الفتنة وكنّا نقول ونراهن على أنْ لا تتحرّك الفتنة في الضاحية، التي هي ضاحية الجهاد والبؤس والحرمان، والضاحية التي تمثّل خزَّان المقاومة في كلّ مجال من مجالات العمل المقاوم. كنّا نراهن على أن لا ينطلق الانفعال في الضاحية، كما انطلق في الجنوب وأن لا تكون المشاكل الصغيرة تتحرّك من أجل أن تحرق القضايا الكبيرة، وأن نتحلّى بالوعي وبالصَّبر في ذلك كلّه. كنّا نراهن على أن لا تدخل الفتنة، لتحرق الناس الذين أُحْرِقوا بفعل أكثر من فتنة، والناس الذين قُصِفوا من أكثر من موقع في تاريخ هذه الفتنة، والناس الذين شرّدوا ولا يزالون يشرّدون من مكانٍ إلى مكان؛ كنّا نتمنّى ونعمل على أن لا تكون، ولكن لا أدري لِمَ حَدَث ذلك؟ لقد قلنا في ما سبق إنَّ هناك عناصر في طبيعة هذه الأحداث، تنطلق من مواقع العقلية التي تدار بها أمور الناس في الساحة السياسية. إنّنا لا نفهم كيف يتحوّل خلاف فردي أو إشكال أمني في مكان ما بين اثنين وبين آخرين إلى قضية فتنة كبيرة(1)؟ قد يكون هذا مذنباً وقد يكون ذاك مذنباً، وقد يكون الجميع مذنبين. إنَّنا نواجه في كلّ هذه الغابة المسلّحة مشاكل، تتحرّك على أساس أنّ القضايا الصغيرة يمكن أن تحلّ في دائرتها الخاصّة ولا نجعل منها مشكلة كبيرة مسلّحة، ولكنَّ الأسلوب الذي تربَّت عليه القيادات السياسية في لبنان والتي لا تتحلَّى بالتقوى ومخافة الله، تحوِّل دائماً الحرائق الصغيرة إلى حرائق كبيرة. وهكذا رأينا أنّ إشكالاً حدث في حاروف(2) أدَّى إلى حرب الجنوب، وأنَّ إشكالاً حَدَثَ في الضاحية أدّى إلى حرب الضاحية. كنّا نقول هناك ونقول هنا وعملنا بكلّ ما عندنا من طاقة من أجل أن تُحْصَر هذه القضية في دائرتها الخاصّة. كنّا نقول لا تتحرَّكوا بأيّ عمل سلبي ولا تعملوا على أساس أن يتوتَّر الجوّ لمجرّد أنّ هناك حادثة فيها عدّة ضحايا، ثمّ لم نعرف كيف انطلقت هذه القضية. كنّا نقول انطلقوا من أجل أن يكون الحكم الشرعي هو الأساس في هذا المجال، ولكن ماذا حدث؟ الذي حَدَث أنّ هناك تصرُّفاً انطلق، ليطلب إغلاق المدارس وليتحرّك في الجوّ على أساس أنّ هناك عملاً ما، وبدأت الفتنة وبدأت القضايا، التي كان الإعلام يحضّر لها وكانت التحليلات السياسية تحضّر لها وكانت الخطط الإقليمية والدولية تحضّر لها، كان هناك شيء ما يقول إنَّ هناك عملاً يراد للحالة الإسلامية أن تسقط بين يديه، كان هناك كلام يقال في التحليلات الصحافية وفي المواقف السياسية وفي التعليقات الدولية، وبذلك انطلقت هذه الأجواء وتحرَّكت مع الأجواء التي صارت على الأرض، وبدأت المسألة تتحرّك على أساس أن ينطلق الحريق هنا وينطلق الحريق هناك، وبذلك كانت الفتنة وكانت الفاجعة وكانت الكارثة.
هذا النوع من التخلُّف في تحريك العمل الأمني والسياسي، الذي ينطلق من مواقع العقلية التي لا تصبر على الصغير فتهرب منه إلى الكبير وتعمل ما لا يعمل، وتتحرّك في ما لا يتحرَّك.
العنصر الثاني الذي نلاحظه، هو أنّ هناك عقليات قيادية انفعالية تتحرّك من موقع الانفعال وبذلك تثير الانفعال في كلّ من حولها وما حولها وتنطلق من أجل أن توتّر الأعصاب وتثير الحماسة وتخاطب غرائز الناس وتحرّك الذين لا يخافون الله في عباده وفي بلاده، من أجل أن يتحرّك الناس في غرائزهم دون أن يتحرَّكوا في عقولهم: الكلمات غير محسوبة والتصرُّفات غير محسوبة والعلاقات غير محسوبة، وعندما يضيع حساب العقل وحساب الوجدان وحساب التقوى، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الخراب سيعمّ البلد.
إنَّ الله سبحانه وتعالى علَّمنا في كتابه وفي سنّة نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن نفكّر بعقولنا ولا نفكّر بغرائزنا، وعلَّمنا أن لا نعيش الانفعال في حياتنا بل نعيش التفكير فيها. هذا ما أراده الله لنا، وأرادنا الله أن نكظم غيظنا وأن نعفو عن الناس، وقال لنا إنّه يحبّ المحسنين؛ ولكن هناك مَن لا يريد أن يكظم غيظه، وينفعل ويجعل السّاحة ساحة انفعال من قريب أو بعيد. إنَّ السياسي الكفؤ الناجح هو، الذي يعرف كيف يتفادى الحروب لا الذي يعمل على أساس أن ينتقل من حرب إلى حرب. تصوَّروا أنتم، يمكن لكلِّ واحدٍ منكم أن يخرج من المسجد ويفتعل مشكلة مع إنسانٍ آخر، من السهل أن تصنع حرباً ومن السهل أن تخلق فتنة، ولكن ليس من السهل أن تمنع الحرب. إنَّ ذلك يحتاج إلى إيمان وإلى تقوى وإلى عقل. لا ندري كيف دخلت هذه الحروب المتحرّكة من مكانٍ إلى مكان في عمق واقعنا، لماذا لم تمنع الحرب؟ هذا من فريق يقتل أربعة وذاك من فريق يقتل أربعة، كان بإمكاننا أن لا نزيد على الأربعة واحداً، عندما نفكِّر بأعصاب هادئة وبعقلية شرعية، وعندما نحصر المسألة في دائرتها الخاصّة، كان من الممكن ذلك، ولكن تتحوّل الأربعة إلى مئة وأكثر، وتكرّ السبحة في عدد القتلى والجرحى وفي الدماء والخراب والتشريد. ماذا استفاد الذي حرَّك الفتنة، هل استفاد شيئاً؟ إنَّ عليه أن يراجع حساباته جيّداً. هذه نقطة.
ضرورة إيجاد قواعد مشتركة
وهناك عنصر ثالث، هو أنّنا ندّعي تمثّلنا وحدانية الله. ولكنّ المشكلة أنّ هناك في الساحة مَن يتمثّل بوحدانية الزعامة ووحدانية المحور السياسي ووحدانية الموقع؛ إنَّ هناك مَن تتضخَّم شخصيّته، بحيث لا يستطيع أن يتحمَّل الآخرين معه في الساحة نفسها، وعندما يقال له إنّك موجود والآخرون موجودون والسّاحة يمكن أن تتّسع لكما معاً، لماذا تريد أن تلغي دور الآخر ولماذا يريد الآخر أن يلغي دورك؟ لماذا لا تنسّقان وتتكاملان وتتعاونان؟ لا تحصل على الجواب الذي يقنعك ويكون فيه رضى الله. فالسّاحة ساحة العقلية الوحدانية، الله واحد وأنا واحد. الله واحد وهذا المحور واحد ولا مجال للآخر؛ فكما أنّه لا مجال لشراكة الله فكذلك لا مجال لشراكة الزعامة والسياسة والواقع. هذا المعنى هو الذي جرَّ علينا كثيراً من الحرائق في الماضي ويجرّ علينا الحرائق التي سنبقى نعيش في داخلها، ولا ندري ماذا يخبّئ لنا المستقبل. لماذا تكون وحدك وأنتَ لا تستطيع أن تملك الساحة كلّها؟ الله وحده، لأنّه هو الذي خلق السموات والأرض، لم يشاركه أحد في خلق السموات والأرض ولم يشاركه أحد في تدبير السموات والأرض، الله وحده لأنّه الخالق وحده، ولكن مَن أنت، سواء كنتَ شخصاً أو حزباً أو حركة أو منظّمة أو مؤسّسة أو أيّ شيء، مَن أنت حتّى تتصوَّر نفسك بحجم كلّ السّاحة؟ الآخرون موجودون، يمكن لك أن تتفاهم معهم وأن تتعاون معهم، ولكنَّ المشكلة هي أنّ الذي يعيش أنانية الموقع، لا يمكن أن يرى أنّ هناك غيره في هذا الموقع، وبذلك تتحوّل الأنانية السياسية وغير السياسية إلى حالة عدوانية، وتتحوّل الحالة العدوانية إلى حالة قتالية. وهذا ما نعيش في دائرته السياسية، وهذا ما جعل كلّ الأطراف في هذه المنطقة تتقاتل على أساس أنّ أحداً لا يريد أن يعترف بوجود الآخر.
وهناك عنصر آخر في هذا المجال، وهو أنّ الناس لا يحبُّون أن يتفاهم بعضهم مع بعض. عندما يكون هناك اثنان مختلفان في البيت، زوج وزوجته، أو يكون هناك جماعة مختلفون في حارة أو في بلد وهم محكومون بأن يبقوا في هذه الحالة أو في هذا البيت، إذا كانت هناك خلافات في ما بينهم ولا يمكن لأيّ واحد من الطرفين أن يترك مكانه للآخر، لأنَّ ظروفه لا تساعده على ذلك فما الحلّ؟ الحلّ هو أن يقال للطرفين إنّكما تتّفقان في عدّة أمور وتختلفان في أمورٍ أخرى، اتّفقا على ما تلتقيان عليه، والتقيا على ما تتّفقان فيه، وحاولا أن ترتِّبا طريقة الخلاف بالحوار وبالمناقشة وبمحاولة تجميد بعض الخلافات في حالة وتحريكها في حالة بشرط أن لا يسقط البيت. إنَّ طبيعة الاختلاف في كلّ مواقع التعايش، تفرض على الناس أن يضعوا لأنفسهم ضوابط وقواعد، يمكن لهم أن يرجعوا إليها وأن يتحرّكوا من خلالها، بحيث يقول كلّ فريق للفريق الآخر: تعال لنتفاهم كيف نتحرّك هنا وكيف نقف هناك وكيف نثير هذه المسألة وكيف نجمّد هذه المسألة؟ أليست هي الحالة الطبيعية في كلّ المواقع التي يكون فيها الجميع محكومين للتعايش؟ المسألة كذلك، لماذا لم ينطلق الموقع في هذه الساحة التي يتّخذ فيها الطرفان خطوط تماس في كلّ المجالات؟ إنَّ هناك خطوط تماس في البيت الواحد وفي المحلّة الواحدة وفي البلد الواحد، هذا من جهة وذاك من جهة، لماذا لم يفكّر أحد باللّقاء على ما يُتّفق عليه وبالحوار في ما يختلف فيه، ما دامت الشعارات التي تتحرّك شعارات واحدة في أغلب الأمور، وما دامت القضايا التي يُختلف فيها من القضايا التي يمكن أن يتحرّك الاجتهاد السياسي من خلال الاجتهاد الشرعي فيها، ليجمع الفريقين عليها أو لينظّم خلافاتهما؟ المسألة هي أنّ الساحة كانت لا تحمل هذه الضوابط وقد عملنا مع كلّ المخلصين منذ أكثر من ثلاث أو أربع سنوات على أن نوجِد لجاناً أساسية لهذه الغاية، وعملت الجمهورية الإسلامية على أساس أن يوجد هناك نقاط اتّفاق أساسية تحكم الساحة كلّها، حتّى إذا اختلفنا في أيّ شيء فإنّهما يرجعان إلى نقاط الاتّفاق وإلى قاعدته. ولكن كانت هناك أيدٍ كثيرة ومداخلات كثيرة وخلفيات سياسية وأنانيّات ذاتية جمَّدت هذه الاتّفاقات وجعلتها حبراً على ورق، وانطلق الناس يشحنون التعصُّب ويشحنون الغرائز ويتحرّكون في غير اتّجاه التقوى. وقد قلنا ولا نزال نقول بعد كلّ هذه الأحداث المفجعة الدامية، التي عاش الناس المستضعفون كلّ آلامها وعاش الناس الفقراء كلّ مشاكلها، كنّا نقول ونحن نعيش الآن في قلب المشكلة وفي قلب المأساة وفي داخل حركة الفتنة، حيث يقتل الأخ أخاه ويقتل الجار جاره، وحيث يتحرّك المتصارعون ليربح هذا موقعاً على أساس ضحايا هنا وضحايا هناك، كنا نقول منذ البداية عندما حدثت أحداث الجنوب وعملنا مع المخلصين، قبل أن تحدث أحداث الضاحية، عملنا على أن نجمع الأطراف في سبيل حوار، يضع ضوابط معيّنة تعمل على أساس أن لا تتجدَّد المشاكل في غير الجنوب. كنّا نعمل على هذا الأساس، وكانت هناك مشاكل وعقبات في الطريق، وكان من الممكن في يوم الجمعة الماضي الذي انطلقت فيه الفتنة الجديدة، كان من الممكن أن يصار إلى اتّفاق، ولكن لا ندري كيف انطلقت الفتنة في الصباح وكان المفروض أن يكون التوقيع في المساء؟ كيف حدث ذلك؟ ما هي الخفايا والخبايا؟ الله أعلم بذلك، لا نعلم الغيب، ولكن نعرف كثيراً من ملامح حركات الغيب في الساحة، عندما تنطلق الأجهزة في كلّ مكان لتخرّب كثيراً ممّا يريد المصلحون أن يعمّروه. إنَّنا نتحدّث إليكم بذلك حتّى نقول لكم إنّنا كنّا مع مسؤوليّتنا، لم نجلس على الحياد ولم نقف لنتفرَّج. كنّا في اللّيل والنهار نعمل مع كلّ المخلصين، على أساس إيجاد علاقات متوازنة بين الطرفين، من أجل أن ينطلق الطرفان في غرفة عمليات مشتركة في الجنوب ضمن شروط تحفظ للمقاومة الإسلامية وللمقاومة المؤمنة ولكلّ مقاومة أخرى سلامتها وقوّتها وصلابتها، وكان هناك اتّفاق على ذلك. وكنّا نعمل أيضاً على دراسة ما هي حدود أمن الجنوب وما هو معناه وما هي طبيعته وما هي الضوابط الشرعية له؟ كنّا نعمل على الحوار في ذلك، وكاد الحوار أن يصل إلى نتيجة حسنة، لهذا لم تكن هناك حالة حياد، ولكن يبدو أنّ الأجهزة الخفيّة التي تعمل بإيعاز الاستخبارات تارة وعلى أساس العصبيّة تارةً أخرى في داخل البلد وخارجه وتزرع في كلّ موقع من مواقعنا حرَّاساً للفتنة وزرَّاعاً لها وتوظّف الكثيرين ليخدموا مخطَّطاتها، شعرنا بأنَّ هذه الأجهزة أقوى منّا في ذلك، لأنَّنا عملنا على أن نمنع الفتنة واستطاعت أن تغلبنا بكلّ أجهزتها الموجودة في صفوفنا وخارج صفوفنا، استطاعت أن تصنع الفتنة وتحرقنا جميعاً.
إنَّنا نريد أن نقول بعد كلّ هذه المصائب والكوارث، إنَّ علينا في هذه الفتنة التي نعمل على أن تكون نهائية إنْ شاء الله، وعلى أساس أن لا تكون الحلول حلولاً طارئة علينا وارتجالية وانفعالية.
إنَّ هذا الخلل الذي كان موجوداً والذي توسَّع الآن، وهذه المشاكل النفسية التي كانت تثيرها العصبيّات الذاتية فأصبحت تثيرها الأنهار الدموية، لا بدّ من أن نشعر بأنّها تواجهنا جميعاً على مستوى قضايا الاستحقاق الداخلي وعلى مستوى القضايا المصيرية في الخارج. لهذا نقول إنّ المسألة هي أن يتكامل الناس بعضهم مع بعض. إذا كانت هناك خلافات في الساحة السياسية فلا يجوز أن يكون ثمن هذه الخلافات ومظهرها كلّ هذه الأنهار من الدماء، بل لا بدّ لنا من أن نعمل على إيجاد قواعد متوازنة للعلاقة بين الفريقين، وإذا أمكننا أن نوجِد علاقات بين كلّ الفئات الموجودة في الساحة فإنَّ هذا أفضل وأقرب، وعند ذلك لن تحتاج إلى قوى أمنية داخلية أو خارجية، لأنَّ الضوابط التي تحكمنا تحفظ لنا التنوّع في الوحدة؛ لأنَّ الوحدة في التنوّع يمكن أن تحمي هذا المجتمع كما حمته في السابق. لقد عشنا زمناً طويلاً ولم تحدث هناك مشاكل وكنّا نقول إنَّ هذه الحرب خطّ أحمر، ولكن يبدو أنّ الخطوط الحمراء تتحوّل فجأة إلى خطوط خضراء في هذا اللبنان الذي لا نعرف خضرته من حمرته.. إنَّنا يجب أن نعمل على هذا الأساس، لينطلق الجميع ليبحثوا كلّ القضايا وليبحثوا الموقف في الضاحية وفي الجنوب وفي البقاع وفي لبنان كلّه، من أجل أن يكون هناك اتّفاق على أساس معيّن، ومن أجل أن تنفتح القلوب ليعرف كلّ إنسان ما في قلب الآخر. لقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "لو تكاشفتم ما تدافنتم"(1) لأنَّ المسألة التي لا تزال تعيش هي أنّ الفريق هنا يخاف من الفريق هناك، وأنّ فريقاً هناك يخاف من فريق هنا، وأنَّ هناك نوعاً من عدم الثقة في هذا المجال.
المسألة في جوّ الخطر
من هنا، فإنَّ المسألة لا تزال تتحرّك في جوّ الخطر، إنّنا نقول للجميع: اجلسوا في ساحة واحدة وافتحوا قلوبكم فليس لدى كلّ منكم ما يربحه إذا خسِرَ أخاه، وليس لكلّ منكم ما ينتصر به إذا انطلقت الفتنة لأنَّ الفتنة تهزم الجميع، فليس هناك منتصر ومهزوم. لقد قيل بعد الجنوب إنَّ هناك انتصاراً ولكنّنا لا نريد لكلّ الأخوة هنا في الساحة أن يعيشوا جوّ الانتصار، لأنَّ المسألة أنّك تنتصر على مَن، وتهزِم مَن؟ ليس هناك انتصار إلاّ على العدوّ، الذي يجب أن ننطلق لنقف في وجهه، لا أن يوجّه بعضنا رصاصه إلى صدور البعض الآخر.
لا بدّ من علاقات متوازنة حتّى يمكن لنا أن نتجاوز ذلك، ولا بدّ لنا من أن نرجع إلى أخلاقيّاتنا الإسلامية التي علَّمنا الله إيَّاها. عندما قال لنا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء : 53]. وعندما قال لنا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 ـــ 35].
إنَّ علينا كأفراد وكمجتمع وكقيادات أن ننفتح على تقوى الإسلام وعلى أخلاقيّة الإسلام، وعلينا أن نشعر، على أساس ثابت، بأنَّ الحالة الإسلامية التي انطلقت لتكون الامتداد لدعوة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى الإسلام في قوّته وفي دعوته وفي جهاده وفي حكمه وفي تقواه، ليست حالة سياسية يمكن لك أن تلبسها اليوم وتخلعها غداً، بل معنى أن تكون جزءاً من الحالة الإسلامية، هو أن يكون الإسلام كلّ عقلك وكلّ شعورك في كلّ حكم إسلامي وفي كلّ مفهوم من مفاهيم الإسلام.
الإسلام هو المستهدف
وإنَّنا نقول لكلّ الإخوة المؤمنين الذين يشعرون بالإيمان كحقيقة في قلوبهم وفي حياتهم، إنَّ الحالة الإسلامية أمانة الله في أعناقكم وإنَّ هناك حديثاً لا يزال يدور، ولا تزال التحليلات السياسية تعمل على خلفيّات ما حدث في الضاحية، من خلال أنّ هناك وضعاً إقليمياً ووضعاً دولياً يعمل من أجل أن يحاصر الحالة الإسلامية وأن يجمّدها وأن يضربها وأن يقضي عليها. ولكن ما الثمن؟ أيّ ثمن يعطى في ذلك؟ الخلاف الآن على الثمن، فإذا اتّفق الجميع على الثمن فمعنى ذلك أنّ الحالة الإسلامية ستواجه وضعاً أصعب من الوضع الذي تعيشه، وستواجه مشاكل أكثر، لماذا؟ لأنّهم يقولون إنَّ هؤلاء متطرّفون، لا ينطلقون على أساس التسويات ولا يتحرّكون في ما وراء الكواليس ولا يقولون شيئاً من أجل خدمة واقع استكباري هنا وواقع استكباري هناك. إنَّ المسألة ليست مسألة حزب سياسي؛ إنَّ المسألة هي مسألة خطّ إسلامي، في هذا المجال نحن لا نعتبر أنّ الإسلام حزب، الإسلام هو لكلّ الناس. الإسلام هو للأُمّة. ليس الإسلام حزباً وليس الإسلام تنظيماً فالله سبحانه وتعالى خاطَبَ المسلمين كأُمّة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92]، {... وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون : 52]. وإذا كان الله سمّى في قرآنه حزب الله فإنّه أراد لحزبه أن يكون كلّ المؤمنين، الذين يتحرّكون على أساس مفاهيمه وعلى أساس عقائده، لا أن يكون في دائرة ضيّقة تفصل نفسها عن الأُمّة، وتتحرّك بعيداً عنها، كلّ مسلم يؤمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر ويلتزم الخطّ الإسلامي في كلّ ما شرّعه الله، هو إنسان يتحرّك على أساس أنّه حزب الله، باعتبار أنّ الإنسان يكون حزب الله، تماماً كما يكون الإنسان عبد الله، تماماً كما يكون الإنسان وليُّ الله، يعمل بطاعة الله من دون بطاقة ومن دون انتماء ومن دون تنظيم، لتنطلق الأُمّة كلّها على أساس هذه المفاهيم الكبيرة.
ونحن نعتقد أنّ الإسلام ليس مقبولاً من المستكبرين في هذه السّاحة، لأنّه يسير عكس التيّار، لهذا يعمل الكثيرون على أساس مواجهة الإسلام في إيران، ويعمل الكثيرون الآن، وفي هذه الدائرة التي تتحرّك فيها الفتنة، على الإساءة إلى الجمهورية الإسلامية وإلى رموزها وعلى محاولة الحديث عنها بطريقة غير مسؤولة وغير إسلامية، كلّ ذلك لأنَّ الخطّة هي أن يسقط الإسلام في مواقعه القياديّة في نفوس الناس. هذا ما يجب أن ننتبه إليه عندما ننتبه إلى حركة الفتنة.
مواجهة حرب الإشاعات
وهناك نقطة لا بدّ لنا من أن نعيها جيّداً؛ إنَّ هذه الفتنة انطلقت من مواقع الإشاعات والتشنُّجات غير المسؤولة والتعقيدات والكلمات في دائرة الواقع الذي تتحرَّك فيه الصحف وتنطلق فيه أجهزة المخابرات لتعتبره كوضع يتحرّك في طريق الإشاعة، إنَّ هناك كلمات تدور وإشاعات تتحرّك في الساحة حول بعض الأوضاع وحول بعض التصرُّفات؛ هذا فعل كذا وهذا مثل بكذا وهذا انطلق كذا، وعلى أساس أن تشوّه صور بعض الرموز الإسلامية بطريقةٍ أو بأخرى(1). إنَّ هناك حرباً جديدة هي حرب الإشاعات، ولهذا فإنَّ علينا جميعاً أن نقف في وجه هذه الحرب، ونقولها لكلّ الأُمّة ولكلّ الأطراف، إنّ الله يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36].
إذا نقلت قصّة عن شخص أو إذا تحدّثت عن موقف لشخص أو إذا نقلت صورة عن أي وضعٍ معيّن، ولم تره بعينك، ولم تسمعه من ثقة فإنَّ الله يقول لكَ هل رأيت؟ تقول: لا يا ربّي، لم أرَ فلاناً يقتل فلاناً ولم أرَ فلاناً يشوِّه صورة فلان، ولم أرَ فلاناً يضرب بالساطور رأس فلان، لم أرَ هذا ولم أرَ ذاك. فيقول لك: إذا كنت لم ترَ فهل سمعت؟ تقول: سمعت. يقول لك: ممَّن سمعت هل حدَّثك ثقة، أم حدّثك إنسان موتور أم حدَّثك إنسان فاسق أو كاذب؟ حاول أن تجد جواباً، لأنَّك إذا استطعت أن تعطي من حولك جواباً فهل تستطيع أن تعطي الله جواباً؟!
فكِّروا في ذلك، عندما تتحدّثون بالإشاعات وعندما تتّهمون الناس هنا وهناك وعندما تتحدّثون عن المؤمنين بطريقة غير مسؤولة، إنَّ الله سيحاسبنا جميعاً على ذلك إذا لم نحسن أن نأخذ المصدر من مواقع الثقة. هذا ما يجب أن نلتفت إليه في هذا المجال.
كما أنَّ هناك نقطة أحبّ أن أُنبِّه إليها، أنّنا في كلّ مساعينا مع كلّ المخلصين، الذين يتحرّكون في الساحة، علينا أن نمتنع عن كلّ الكلمات التي تثير الأحقاد والبغضاء وتشحن العواطف وتبعث على التوتُّر، علينا أن نختزن هذه الآلام في صدورنا وأن نعمل على أن نقلِّل من الكلام الانفعالي الذي يثير كلّ طرف على الطرف الآخر، ليوتّر أعصابهم وليدفعهم إلى العصبية. لأنَّ هذه الأساليب قد تدفع الإنسان غير المتعصّب لأن يكون متعصِّباً. ولهذا فإنّ علينا أن نعمل على ضبط ألسنتنا وأن ننقذ الواقع، هناك ضرورة لأنْ ننقد الناس ولكن بطريقة عقلانية موضوعية وهادئة. إنَّ علينا أن نواجه المسألة على هذا الأساس بكلّ مسؤولية، حتّى لا نزيد على النار ناراً وحتّى لا نزيد على الفتنة فتنة، لأنَّ واقعنا الذي نعيش فيه هو واقع الناس الذين يعملون على إطفاء الحرائق، لا الذين يعملون على إثارة الحرائق. واعملوا بكلّ ما عندكم من جهة في سبيل أن تسيطروا على كلّ هذه الفتنة التي تتحرّك في ساحاتكم بكلّ طريقة عقلانية هادئة. وإنّنا في الوقت نفسه نقول لكلّ المسؤولين أن لا يطلقوا الكلمات بطريقة انفعالية في الحديث عن وجود خطّة، تريد أن تعمل على إنهاء فريق معيّن كما تتحرّك به بعض المؤسّسات. إنَّ علينا أن نفهم أنّ الفتنة أحرقت الجميع، لم يكن هناك في قصد الحالة الإسلامية أن تعمل على تصفية أيِّ فريق مهما كان وضعه، ولم يكن في فكر الحالة الإسلامية أن تدخل في أيّ حرب مسلّحة في هذا المجال. هذا ما أعرفه من خلال ما أعرفه من الخلفيات، لذلك فإنَّ الأحاديث في كلّ الاجتماعات عن أنّ المسألة تتحرّك من أجل تصفية فريق معيّن كان موجوداً في الساحة، هذا كلام غير مسؤول. ونريد من القيادات أن تتحدّث بطريقة مسؤولة ونريدها أن تتكامل مع كلّ الفعاليات في السّاحة، لأنَّ المسألة ليست أن تكون أنت أو أن يكون ذاك، ولكنّ المسألة هي أن تكون الأُمّة وأن يكون الناس المستضعفون. قد تطلق دعايات في هذه الساحة أن يخرج كلّ المسلّحين من الضاحية، هذا أمر نتمنَّاه؛ أن يعيش أهل الضاحية بوضع لا سلاح فيه وبشكل يعيش الأمن فيه، لأنَّ السلاح مشكلتنا جميعاً، مشكلة الناس الذين يملكونه ومشكلة الناس الذين يحرسهم، هو مشكلتنا جميعاً... قد يتحدّث بعض الناس بأنّني أقود حرباً أو أنّني أقود ميليشيا أو أقود حزباً أو ما إلى ذلك ممّا يتحدّث فيه الإعلام، أنا غير مرتاح، لأنّني أحتاج إلى حرَّاس يتحرّكون معي من مكان إلى آخر فأنا لا أحبّ السلاح، لأنّني كنت أحبّ ـــ ولا أزال ـــ أن أعيش في حياتي تماماً كما كنت أعيش في النبعة، أن أركب بسيارات الأجرة بطريقة عفوية شعبية مع الناس كلّهم؛ لكنّ المشكلة هي أن تتمنّى شيئاً وأن يكون الواقع في هذا المجال شيئاً آخر.
لبنان غابة مسلّحة، وفي ظلّ واقع لا دولة فيه وفي ظلّ دولة تمثّل فريقاً ضدّك، ما معنى أن تعطي سلاحك؟ السلاح ليس حالة طبيعية في حياتنا، لأنّ السلاح خطر على حامله، كما هو خطر على الناس من حوله. لقد عرفناه في كلّ الأوضاع الفردية، ولكن عندما يكون للناس الآخرين أنياب من مدافع وأنياب من قذائف وأنياب من دبابات وهم يتربَّصون بك الدوائر، عندما يكون للآخرين أنياب بهذا المستوى، فهل تعمل على أن تكون أنيابك حليبيّة؟ السلاح مشكلة للجميع، ولكن يا ترى ما البديل في هذه الحالة؟ هل البديل أن تأتي القوّة التي قصفتنا قبل سنين وقصفتنا قبل أيام؟ كيف يمكن أن يحميك مثل هذا السلاح الذي يقصفك بأمر من اليرزة تارةً وبأمر ممّن لا ندري أخرى؟ إنَّنا نتمنّى أن تكون هناك أوضاع سياسية معقولة متوازنة، تحفظ للأُمّة حريّتها وكرامتها وتحميها ممّن يكيد لها، عند ذلك لا مشكلة لنا مع أحد.. ولكن كيف يكون ذلك؟
هناك فرق بين التمنّيات وبين حركة الواقع. إنّنا نريد أن نكون واقعيّين ونريد أن نقول لكلّ الناس من حولنا: إنَّ هذا السلاح أمانة الله عندكم أن توجّهوه إلى صدور أعدائكم، لا أن توجّهوه إلى صدوركم؛ وإذا حاول أعداؤكم أن يستغلّوا بعضكم في ذلك فحاولوا أن لا تواجهوا المسألة بطريقة انفعالية، ولكن اعملوا على أساس مواجهة القضية بكلّ مسؤولية وبكلّ إيمان. إنَّنا ندعو الله سبحانه وتعالى وقد عشنا في كلّ هذه الليالي المباركة في هذه الأجواء الصعبة، ونحن نستقبل عيد الفطر، ندعو الله أن يكون عيد فطرنا، عيد المصالحة وعيد التعاون وعيد الموقف الواحد. المهم أن نتّقي الله في ذلك كلّه وبعد ذلك ليست هناك مشكلة.
والحمد لله ربّ العالمين