"حركة الإيمان في مواجهة الفتنة"(*)
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ـــ 157].
في هذا الجوّ القرآني الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّد للناس ـــ كلّ الناس، ولاسيّما المؤمنين منهم ـــ أنّ الحياة التي يعيشون فيها أوضاعهم وعلاقاتهم وتحرّكاتهم، ليست نزهة يتلذَّذون فيها ويعيشون فيها حياة الرّخاء وحياة الطمأنينة من دون أيّة صدمة، ودون أيّ بلاء، ودون أيّة مشكلة. فهناك في الحياة إلى جانب الفرح حزن وهناك إلى جانب اللّذة ألم، وإلى جانب الأمن خوف، وإلى جانب الغنى فقر وإلى جانب الحياة موت. ولهذا فإنَّ عليهم أن يستعدّوا في حياتهم لمواجهة ذلك كلّه ليعرفوا أنّ عليهم أن يواجهوا حالات السرور والأمن والغنى وغير ذلك، بطريقة معقولة هادئة، كما أنّ عليهم أن يواجهوا ما يصادفهم من الخوف والفقر والحرمان والألم والحزن بطريقة معقولة؛ ألاّ يغطّيك الفرح عندما تكون الحياة من حولك تضجّ بالفرح، وألاّ يسقطك الحزن عندما يأتي الحزن إلى قلبك ويستولي على كلّ حياتك، ادرس أسباب الفرح في حياتك وحاول أن تستفيد منها وتعلَّم كيف تكثّر فرصها، وادرس أسباب الحزن في حياتك واعرف كيف تستطيع أن تقلِّل منها، أن تواجه الحياة بطريقة عقلانية هادئة، وتعرف أنّ الله نظَّم الحياة على أساس وجعل لكلّ شيءٍ سبباً، وجعل نتائج الواقع في حياة الإنسان خاضعة لأعمال الإنسان؛ فكما تزرع تحصد، وكما تتحرّك في الحياة تجد، من يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، ومن يزرع الجريمة فلا بدّ أن يحصد المشكلة، ومَن يزرع الفوضى فلا بدّ أن يحصد الدمار، ولهذا فلا بدّ للناس من أن يدرسوا سبب مشاكلهم في طبيعة أعمالهم وفي طبيعة أوضاعهم، لأنَّنا إذا حاولنا أن نجلس حول المأساة لنبكي نتائجها من دون أن ندرس أسبابها وطبيعة الظروف التي تحيط بها، فإنَّ معنى ذلك أنّ الذين يصنعون المأساة في وقتٍ ما سوف يصنعون مآسي أخرى في أوقات أخرى. ولكنَّنا إذا درسنا المأساة وحاولنا أن نتعاون على أساس أن نقضي على الجذور التي تخلق الألم والمأساة، عند ذلك، لن يستطيع المغامرون والمفتنون والمجرمون أن يصنعوا مأساة جديدة، هذا ما يريدنا الله أن نتعلَّمه في البلاء، وهكذا قال الله {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، أيّة قرية كان فيها من الاطمئنان في الحياة ولكنّ أهل القرية ـــ أيّاً كانوا ـــ تحرَّكوا من أجل أن يصنعوا لأنفسهم المشاكل وتحرّكوا من أجل أن يكونوا حياديّين أمام المنكر وحياديين أمام المفسدين، وحياديين أمام المجرمين أو أنّهم يخافون المجرمين، والمفسدين فيعملون على أن يغطّوهم وأن يجاملوهم وأن يعملوا كلّ ما يريدون في سبيل إعطائهم غطاءً شرعياً تارًة أو غطاءً سياسياً أخرى أو غطاءً اقتصادياً أو اجتماعياً، لأنَّ لهذا مصلحة عند ذاك ولأنَّ لهذا قضية عند ذاك. وعندما يمتنع الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليسلّطنَّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"(1)، عندما يصنع الناس ذلك فسيأتي الخوف بعد الأمن، وسيأتي الجوع بعد الشبع {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. في كثيرٍ من المصائب قد يكون المجتمع هو الذي يحرّكها وهو الذي يثيرها في كلّ حياة الناس العامّة والخاصّة عندما ينطلق المجتمع ليعيش المصيبة، فيتعصَّب كلّ إنسان لفريقه حتّى لو كان فريقه مخطئاً، فإذا كان فريقك مع الحق فأنتَ مع الحقّ لأنّه من خلال فريقك، وإذا كان فريقك مع الباطل فأنتَ مستعد لأن تسير مع الباطل ولستَ مستعداً لأن تنقد فريقك أو قيادتك، لأنَّ المسألة هي أنّك تلتزم الأشخاص وتلتزم المحور ولا تلتزم الحقّ في ما يريده الله لك أن تلتزمه من حقّ، المسألة كانت ولا تزال أنّ العصبية تجعل الإنسان يتعصَّب للباطل ويحاول أن يوحي أنّه الحقّ، وهكذا نشأت عندنا العصبية للعائلة والعصبية للطائفة والعصبية للحزب والعصبية للحركة والعصبية للأشخاص وللقيادات، على أساس أنّ الإنسان يلتزم الشخص ويلتزم الإطار ولا يلتزم المعنى والمضمون في ما يوحي به الإيمان من خلال ذلك، عندما تتحرّك العصبية يهرب الحقّ، وعندما تتحرّك العصبية تسقط العدالة وعندما تتحرّك العصبية تنطلق الفوضى في الناس ويعيش الناس في عمىً عن الحقيقة، لأنَّ الإنسان المتعصّب، أيّاً كان الشيء الذي يتعصَّب له، هو إنسان لا ينظر إلاّ بعينٍ واحدة، ولا بدّ للمؤمن أن ينظر بعينين حتّى يستطيع أن يعرف ميزان الحقّ كيف يتحرّك وميزان العدل كيف يتحرّك.
جوٌّ محكوم بالعصبيّة
ولعلَّ المشكلة في كلّ الواقع الذي نعيشه في هذه الفتنة اللبنانية المدمّرة على مستوى الطوائف وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى القيادات، أنّ الجوّ تحكمه العصبية ولا تحكمه المبادئ وأنّ الجوّ تحكمه الغرائز ولا تحكمه العقول، لهذا فإنَّ ذلك سينعكس على حياتنا {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] والله يبتلي الناس كلّهم ولاسيّما المؤمنين، يبتليهم ليكون البلاء صدمة لهم، يبتليهم حتّى يظهر الإيمان الثابت المستقرّ من الإيمان المستودع القلق، يبتليهم حتّى يقوّي فيهم المعاناة في مواجهة التحدّيات {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ليست الجنّة مجّاناً للذين يريدون أن يدخلوها، ليست الجنّة مجرّد ركعات تؤدّيها وصوم تصومه وحجٍ تسعى إليه، ولكنّ الجنّة موقف؛ أن تأتيك البأساء لتجعلك تنحرف عن طريق الله ويهجم عليك الحرمان ليزحزحك عن موقفك وتظلّ ثابتاً في موقفك، أن تأتيك الضرّاء حتّى تزحزح صمودك وروحك وقوّتك، تضر في جسدك وفي أهلك وفي مالك وفي حريّتك، تسجن، تعذّب، تشتم، تُسب، وتظلّ ثابتاً، وإذا جاءك الزلزال تلجأ إلى الله {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ} والله يقول لهم إذا ثبتّم وإذا وقفتم وإذا عانيتم وإذا تحمّلتم وإذا صبرتم وإذا صمدتم، فإنَّ النصر ليس عطية تُعطاها، ولكنَّ الله يعطيك النصر عندما تكون في مواقع النصر ويعطيك النتائج الكبيرة عندما تكون في المواقع الكبيرة، وهكذا ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخياركم، إنَّ الله يريد أن يقول للمؤمنين، إنَّ الإيمان الذي تلتزمونه بكلّ معانيه، الذي يحمل في البداية وحدانية الله لتقول كمؤمن في كلّ مواقف الحياة: ربّي الله وحده وكلّ أرباب الأرض لا يمثّلون عندي شيئاً، أن تلتزم الإيمان لتقول إنَّ أمر الله وحده هو الذي أنفّذه، نهي الله وحده هو الذي انتهي به، أمّا أوامر الطغاة، أمّا أوامر الذين يعتبرون أنفسهم آلهة وينظر إليهم الناس كآلهة، فليس لي شغل بهم من قريب أو بعيد. أن تكون مؤمناً؛ تلتزم الإيمان، أن تلتزم قضايا الحريّة في الحياة لأنّ الله خَلَقَ الإنسان حرّاً ولا يرضى له أن يكون عبداً إلاّ له، أن تلتزم الإيمان لأنّه على أساس أنّك تحمل قضية العدالة في الحياة في كلّ مواقعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لأنَّ الله أنزل الرسالات ليقوم الناس بالقسط، أن تكون مؤمناً؛ أن تلتزم خطّ الإيمان والإسلام ليكون الإسلام عنواناً لكلّ حياتك في كلّ مجالات حياتك وأن تحرّكه وتسير عليه حتّى لو رَجَمَكَ الناس بالحجارة، حتّى لو قال الناس عنك ما قالوا، حتّى لو شَتَمَكَ الناس، تقول {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131].
الصبر في الشدّة وعلى البلاء
إنَّ المسألة هي أنّك عندما تكون مؤمناً فمعنى ذلك أنّك تقف ضدّ التيّار؛ تيّار العبودية الذي يراد له أن يفرض على الناس، وتقف ضدّ تيّار الظلم عندما يُراد فرضه على الناس، وتقف ضدّ تيّار الانحراف عندما يراد فرضه على الناس، معنى أن تكون مؤمناً أنّك تسبح ضدّ التيّار، التيّار الذي يتحرّك في نطاق الشهوات، والتيّار الذي يتحرّك في نطاق الأطماع، والتيّار الذي يتحرّك ضدّ القوى الظالمة هنا وهناك. ما معنى أن تكون مؤمناً؟ أن تكون حالة شاذّة في المجتمع، حالة شاذّة لا تنطلق من أنّك شاذ عن حركة الحياة، ولكنّك شاذ عن حركة الواقع السيّئ الذي يحاول أن يجعل الانحراف طبيعة والظلم طبيعة والعبودية طبيعة. من الطبيعي جداً أن يكون الحقّ في كلّ مكان شذوذاً عن كلّ حالة الباطل التي قد تسيطر على أساس وضعٍ معيّن أو على أساس قوّة معيّنة.
هناك حديث مرويّ إمّا عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أو عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ينطقون عن النبيّ، يتوجّه إلى المؤمنين الملتزمين الواعين الصامدين "لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا"(1)، الفتن والمشاكل والأحداث التي تأتي هنا وهناك سوف تكون غربالاً لكثير من الناس الذين كانوا في زمن الرَّخاء وفي زمن الطمأنينة أبطالاً وثوّاراً.. وكانوا وكانوا.. حتّى إذا جاء الغربال، كان الكثير من الناس يعيشون في الأعالي وتأتي الفتنة لتسقطهم، وكثيرون من الناس كانوا يعيشون في الأسافل وتأتي الفتنة لترفعهم..
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ تبيَّنَ مَن بكى ممَّن تباكى
إذا أردت أن تميِّز بين الذين يبكون من قلوبهم وبين الذين يتباكون من عيونهم، انظر إلى الدموع كيف تجري، مَن كانت الدموع تملأ وجهه وتنزل على جسده فهو الذي يبكي من قلبه وهو الصادق في بكائه، أمّا الذي يعتصر عينيه لتسقط دمعة هنا ودمعة هناك، فهو المتباكي، اسمعوا حديثاً آخر، ماذا ينتظر المؤمنون {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} [البقرة : 214] لقد كان قبلكم قومٌ يُقتَلون ويُحرَقون ويُنشَرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم في ما هم عليه شيء ممّا هم فيه من تِرَة (من غير ذنب) وتروا بها من فعل ذلك بهم ولا أذى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج : 8] تلك هي تهمتهم؛ أنّهم مؤمنون وملتزمون، وأنّهم يريدون أن يطيعوا الله ولا يطيعوا غيره، "فاسألوا ربّكم درجاتكم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيكم"، عندما تريد أن تلتزم الحياة كرسالة وعندما تريد أن تكون قريباً من الله ومن رحمته ورضوانه، وعندما تسعى من أجل أن تستحقّ جنّته، لا بدّ لك من أن تصبر بكلّ ما للصبر من معنى، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ــ 157].
المسألة هي أن تصبر على الإغراء وعلى الترهيب وأن تصبر أيضاً على نوازع نفسك وأن تصبر على الشياطين الذين يريدون أن يحرفوك، لأنَّ المشكلة أنّك قد تصبر أمام عدوّ في الخارج ولكنّك لا بدّ أن تصبر على عدوّك في داخل كيانك حتّى تستطيع أن تقف أمام نوازع نفسك وأمام شهوات نفسك؛ فقد ورد في بعض الأحاديث، "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، ونفس تنازعه، وشيطان يضلّه". لهذا لا يكفي أن تكون المؤمن في ساحة القتال، بل لا بدّ أن تكون المؤمن في ساحة الإيمان والصراع الداخلي، وهو الجهاد الأكبر، أن تجعل الإيمان عنواناً لتصرّفاتك مع الآخرين، أن تحمي الناس من نفسك، ألاّ تظلم الناس وأنتَ تحارب ظلم الحكم أو ظلم الطغاة، ألاّ تؤذي الناس، ألاّ تعمل على أساس إذلال الناس عندما تكون لك سلطة وقوّة، ألاّ تعمل على أساس أن تتصرّف بما لا يجوز لك بأموال الناس عندما تكون أموالهم تحت تصرّفك، أو أعراضهم تحت تصرّفك، أو نفوسهم تحت تصرّفك، أن تتّقي الله في ذلك. إنَّ البطولة في هذا الجانب أعظم من البطولة في ذاك الجانب، وإنَّ الانتصار على النفس حتّى تتوازن النفس في طاعة الله وحتّى تثبت النفس في مواقع المزالق، هي أعظم من البطولة في معركة الحرب الحارّة الساخنة.
هذا ما نريد أن ننطلق فيه، عندما نواجه كلّ الواقع الذي يريد أن يجعل من المؤمنين شيئاّ شاذّاً، ويجعل منهم حالة عدوانية، ويجعل من المؤمنين حالة تآمرية، ويتحدّث عن أصحاب المسابح والجباه المعفّرة بطريقة السخرية، لا أدري كيف يتحدّث الناس في هذا المجال، لا بدّ للمؤمن من أن يثبت عندما يكون إيمانه حقيقياً وعلينا أن نفهم جيّداً أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يواجه هجمة إعلامية حاصرته من كلّ جانب، كان يقدّم نفسه للنّاس كنبي وقالوا إنّه ليس نبيّاً، بل هو ساحر، عامله أهل مكّة كما يعاملون السحرة، وقالوا عنه عندما لم تنجح هذه التهمة، قالوا عنه وهو يريد أن يعطيهم كلمة الصدق، إنّه كاذب فلا تصدّقوه في ما يقول، وعندما سقطت هذه التهمة قالوا عنه إنّه كاهن يفعل ما يفعله الكهَّان من الحديث عن بعض الغيب من دون أن يكون له عمق في وحي السماء، قالوا عنه ذلك وسقطت التهمة، بعد ذلك قالوا إنّه مجنون، في عقله خلل، لا يفكّر باتّزان، ولا يتحرّك باتّزان، وقال لهم بكلّ وداعته وبكلّ محبّته التي يفيض بها على الناس كلّهم، قال لهم ما قاله الله له: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46] هذا هو الزاد الذي نتزوَّد به، قالوا عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنّ فيه دعابة، وكان معاوية في ما يروى يقول لأهل الشام: إنَّنا نقاتِل عليّاً لأنّه لا يصلّي ونحن نقاتله حتّى يصلّي، ورأى أنّ المسألة لا تنطلي، ماذا يفعل؟ كان يربّي الناس على سبّ عليّ (عليه السلام) وفرضها في خطبة الجمعة وفرضها على كلّ المنابر، على كلّ الذين يصلُّون في المساجد من خلال دائرته التي يعيّن فيها أئمّة المساجد، ليحبسهم في دائرة ضيّقة، كان يريد لهم أن يسبُّوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان يحبس ويضيق هو وغيره على كلّ مَن يلتزم ولاية عليّ، وكان يضطهد كلّ مّن يحبّه وكلّ مَن يتحدّث عن فضائله، وجاء الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل عندما قال: "ما أقول في رجل جهد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً وجهد مبغضوه في إخفاء فضائله حسداً فظهر بين ذين ما ملأ الخافقين" لأنَّ المسألة أنَّ عليّاً كان مع الحقّ، وكان الحقّ معه، ولذلك فمهما اشتدّ الباطل ليحارب عليّاً فإنّ الحقّ لا بدّ أن يفضح الباطل في أيّ وقت. لهذا ليست المشكلة هي ما يقول الناس في خطّ الإيمان والإسلام، بل المشكلة كيف يحفظ المؤمنون إيمانهم في أنفسهم، لا تشغلوا أنفسكم في الحديث عمّا يقوله الناس عنكم.
يُراد إسقاط روحيّة الإيمان
أيُّها المؤمنون، أيّاً كنتم إنّني لا أتحدّث عن حالة حزبية، ولكنّي أتحدّث عن حالة إيمانية في كلّ مواقع الإيمان، لأنَّ الإيمان أصبح تهمة في كلّ موقع سياسي، فكلّ مَن كان مؤمناً فلا بدّ أن يُزال ولا بدّ أن يُبعد عن الساحة، لا تنشغلوا بكلام الناس، أقولها لكلّ المؤمنين، المؤمنين في حزب الله والمؤمنين في حركة أمل والمؤمنين خارج النقطتين إذا كانا تنظيمين، إنَّ المسألة هي أنّ الجو السياسي والإعلامي يُراد له أن يسقط روحية الإيمان وصحوة الإيمان ويراد له أن يفصل بين المؤمنين وبين قيادتهم الإسلامية التي يمثّلها الإمام الخميني (حفظه الله)(1)، إنَّنا نقول لكم جميعاً، انشغلوا في أنفسكم إذا كان هناك نقص في إيمانكم فأكملوه، وإذا كان هناك نقص في التزامكم فتمِّموه، وإذا كان هناك انحراف في سلوككم أو في كلامكم فقوّموه، إنَّ انتصاركم هو أن تنتصروا على كلّ نقاط الضعف في شخصيّتكم، إنَّ قوّتكم هي أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام ومؤمنين كما هو الإيمان، ألاّ تكونوا حالة حزبية تتحرّك في نطاق المكاتب وتتحرّك في نطاق العصبيّات، بل أن تكونوا حالة إسلامية كما كان المسلمون في مكّة حالة إسلامية، وكما كان المسلمون في المدينة حالة إسلامية، أن يكون الإسلام هو الهواء الذي تتنفَّسونه والماء الذي تشربونه، والغذاء الذي تتغذّون به لتكون حياتكم كلّها إسلاماً، فإذا رآكم الناس رأوا الإسلام في عيونكم وهي تحدّق، ورأوا الإسلام في شفاهكم وهي تتكلَّم، ورأوا الإسلام في أيديكم وهي تتحرّك، ورأوا الإسلام في أرجلكم وهي تسير، ليكون كلّ واحدٍ منكم كما كان رسول الله أُسوةٌ حَسَنة، لا تكونوا الدُّعاة بالكلمة ولكن كونوا الدُّعاة بالقدوة، فقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو القدوة التي أراد الله للنّاس أن يتأسّوا بها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] افعلوا كما يفعل، قولوا كما يقول، تحرَّكوا كما يتحرّك، أنشئوا العلاقات كما ينشئ العلاقات. انتصاركم أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام(1)، قوّتكم أن تكونوا مؤمنين كما هو الإيمان، لأنَّ المسألة هي أنّكم إذا كنتم تريدون الدنيا فالدنيا موجودة، ولكن إذا أردتم الدنيا المرتبطة بالآخرة والآخرة التي تطلّ على الدنيا، فإنَّ عليكم أن تقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201]، ألاّ تستغرقوا في خصوصيّاتكم وفي أوضاعكم التنظيميّة ولكن استغرقوا في أجوائكم الرساليّة.
عندما تضيق بكم الحياة، ارجعوا إلى الله فستجدون السعة كلّ السعة والرحابة كلّ الرحابة، عندما يراد أن يفرض عليكم اليأس انطلقوا إلى الله لتجدوا الأمل الكبير بالله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]، إذا خوَّفكم الناس في كلّ مجال فقولوا حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، إذا أراد الناس أن يهوِّلوا عليكم بكلّ شيء، قولوا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36] كونوا مع الله قلباً وروحاً وعقلاً وضميراً وحركة وسلوكاً في كلّ مجالات الحياة، فإنّ مَن كان مع الله كان الله معه {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ...} [آل عمران : 160]، {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7] وليقل كلّ إنسان لصاحبه كما قال رسول الله لصاحبه: {... لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وسينزل الله سكينته على كلّ المؤمنين الذين يخلصون في إيمانهم والمسلمين الذين يخلصون في إسلامهم، سينزل الله سكينته عليهم كما أنزلها على رسوله لأنَّ المسيرة واحدة، ولأنَّ الخطّ واحد، ولأنّنا عندما نريد أن نحرّك الإسلام في حياتنا ونريد أن نتآخى مع كلّ المسلمين في العالم ونريد أن ننطلق مع القيادة الإسلامية الواعية، فإنَّنا نسير حيث سارَ رسول الله ونجاهد حيث جاهَدَ رسول الله ونعمل حيث عمل رسول الله.
الفتنة نتيجة لضعف المواقع
وفي هذا المجال نحبّ أن نطلّ أمام الأحداث التي لا تزال تطبق علينا من كلّ جانب والفتنة التي لا نزال نحترق فيها جميعاً ممّا لم يكن نتوهّمه ولم نكن نتصوّره ولم نكن نفكِّر أن يحدث، ولكنّه حدث من خلال الضعف الذي يعيش في كثير من مواقعنا في أيّ جانب من الجوانب، ومن خلال الأجهزة التي دأبت منذ انطلقت المسيرة الإسلامية الحاسمة على أن تشحن النفوس حقداً وعداوة وبغضاء وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين الناس، لأنَّ المسألة هي أنّهم كانوا يلعبون على النعرات وكانوا يلعبون على الأحقاد وكانوا يلعبون على العصبيات، ولبنان هو مطبخ المنطقة الذي يحتاج إلى كثير من الوقود ولم ينجحوا في تجميع الوقود للطبخة إلاّ إذا أشعلوا دواخل النفوس بالنار، عندما تكون طرياً مع أخيك فلن تستطيع أن تحرقه أو يحرقك، ولكن عندما تكون ملتهباً ويكون هو ملتهباً عندما يغذّيك الحقد ضدّه وعندما يغذّيه الحقد ضدّك، فإنَّ معنى ذلك أنّ اللّهيب عندما يدنو من اللّهيب فسوف لا ينتج إلاّ الحريق الكبير، المسألة أنّه كانت كلّ الأجهزة وكان الذين زرعتهم الأجهزة في صفوفنا والذين حرّكتهم الأجهزة ليتّخذوا مواقع متقدّمة في السّاحة، كانوا يعملون على إشعال النار بالعصبيّات وبغير العصبيّات، وكانت الاختراقات من كلّ مكان من أميركا إلى أوروبا إلى "إسرائيل" إلى العناصر المحليّة والإقليمية، الاختراقات تدخل من أجل أن تخترق الساحة لينطلق هذا الجهاز حتّى يزرع في داخل الساحة فريقاً له، هكذا كانت المسألة. ويبدو أنّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ الضمانات واستطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ المحرّمات، واستطاعوا أن يعلنوا إسقاط كلّ المحرّمات، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، ونحن لا نصدّق أعيننا ولا نصدّق واقعنا، هل نحن في حلم أم نحن في يقظة؟ الإخوان يتقاتلون، الرصاص هنا يُسَدَّد من مؤمن إلى صدر مؤمن، مسلم إلى مسلم، مستضعف إلى مستضعف، منكوب إلى منكوب، محروم إلى محروم، كيف حدث ذلك؟! إنَّ الذين أوقدوا النار عرفوا كيف يحدثونها، كنّا نقول قبل الفتنة للقيادات كلّها: اطردوا كلّ هؤلاء الذين سخّرتهم الأجهزة المخابراتية من أن يكونوا مسؤولين ومن أنْ يحرِّكوا الفتنة ومن أن يعيشوا كلّ هذا الواقع، ولكن كانت الأوضاع تحتاج إلى هيبة، والذين يصنعون الجريمة يعطون الهيبة، كانت المسألة هي هذه، ولهذا كان الوضع يتحرّك على أساس المجتمع قاهراً ومقهوراً، قاهراً يفرض عليك أن تسجن من دون أن تعرف لماذا سجنت، أو تُضرَب من دون أن تعرف لماذا ضُرِبت، أو تُنهب من دون أن تستطيع أن تدافع، لأنَّ المسألة هي أنّك إذا تحرّكت ضدّ مجرم أو سارق أو لص فمعنى ذلك أنّك تحرّكت ضدّ هذه الجهة وعليك أن تدخل في حرب مع هذه الجهة التي تغطّي هذا اللّص وتغطّي هذا القاتل وهذا المجرم أو تلك الجهة. كانت المسألة هي أنّ هناك واقعاً كان يختزن القهر، لأنّه ليست هناك ضوابط تربط العلاقات.
وكنّا نقول للجميع وقد سمعتموها منّي مراراً وتكراراً قبل أن تحدث مشكلة الجنوب وقبل أن تحدث مشكلة الضاحية، لقد سمعتم مراراً أنّي كنتُ أتوجَّه إلى الإخوة في حزب الله والإخوة في حركة أمل، إنّكم تعيشون في مكانٍ واحد وفي بيتٍ واحد وساحة واحدة، نظَّموا قضاياكم وأوجدوا صيغة للتلاقي وللتعاون في ما بينكم، كنّا نقول لهم إنّنا نطمح في تعاونكم وفي لقائكم أن تتحوّلوا في المستقبل إلى أن تكونوا حالة واحدة بدلاً من أن تكونوا حالتين متصارعتين، أن تتَّفقوا على ما تتّفقون عليه وأن تتحاوروا في ما تختلفون فيه، كنّا نقول ذلك، ولكن "على مَن تتلو مزاميرك يا داود"، كانت هناك أوضاع تدخل هنا وتدخل هناك لتعطّل هذا المسير ولتعطّل هذا الاتفاق ولتعطّل هذا الحوار على أساس أنّه لا يراد للساحة أن تكون موحّدة، ولا يراد للساحة أن تنطلق بقوّة، لأنَّ هذه القوّة تخيف الآخرين في الميزان الطائفي وتخيف الآخرين في الميزان السياسي كقوّة تحرُّريّة، وتخيف الآخرين في الميزان الجهادي كقوّة تقاتل "إسرائيل"، أُريد لهذه الساحة أن تختلف وأن تتناقض، وأريد لهذه الساحة أن تتوكَّل عن هذه الجهة أو تلك، وأريد لهذه الساحة أن تضعف حتّى لا تستطيع أن تطالب بحقّ من حقوقها وحتى تسقط كلّ قضاياها، أريد لها ذلك ولن تنفع كلّ تلك الكلمات.
لقد عملنا ـــ منذ أن انطلقت الفتنة في الجنوب، وبعد ذلك مع كلّ المخلصين ومع وفد الجمهورية الإسلامية ـــ على أن نصير إلى لقاء واتّفاق بين الإخوة، وانطلقت كثير من الأوضاع لتعطِّل ذلك، وعملنا منذ أن انطلقت الفتنة على الرغم من كلّ ما يقال، على أساس أن نغلق ملف الفتنة وعلى أساس أن نمنع الحرائق بكلّ ما عندنا من طاقة، عملنا في السرّ وعملنا في العلن، ولكنَّ المسألة كانت أكبر من جهدنا وكانت المسألة أكبر من قوّتنا، لأنَّ العوامل الخفيّة التي كانت تدفع الساحة إلى المحرقة، كانت كبيرة كبيرة وكانت صعبة صعبة، ربّما شعرنا أنّها فوق طاقتنا. لهذا نتوجّه إلى كلّ الناس في الساحة، وإلى كلّ الإخوة في الساحة، ونحن نرجو ألاّ يكون هذا القتال قد ألغى أُخوّتهم التي ترتكز على الإسلام، قد يتّهم هذا الأخ أخاه بأنّه بدأ، وقد يتّهم ذاك بأنّه بدأ، ولكنّ ذلك لا يمنع أن الجميع لا يزالون مسلمين، مسلمين قد يخطّئ بعضهم بعضاً، ولكنّهم مسلمون. ما نريد أن نقوله لكلّ الإخوة في هذه الساحة العامّة.
أوّلاً: إنَّ الامتداد في هذا الجوّ الإعلامي السياسي سوف يحرق كلّ القضايا، إنّكم تتحدّثون عن استحقاق رئاسة الجمهورية وتتحدّثون عن حقوق الطائفة وتتحدّثون عن مواقع القوّة، إنَّ إثارة الحقد والبغضاء بمختلف الأساليب التي قد تحمل كثيراً من الأكاذيب وكثيراً من الافتراءات وكثيراً من الظلم؛ لن تنفع أحداً، فقد جرّبت الفتنة اللبنانية في كلّ الطوائف وفي كلّ الأحداث هذه الأساليب الاستهلاكية التي تريد أن تشحن غرائز الناس وعواطفهم وتريد أن تضلِّل الناس، ولكنّها لم تستطع أن تسقط أحداً، بل إنّها أسقطت القضايا وجعلت الساحة تتنفَّس بالحقد والبغضاء، لهذا نقول: وفِّروا على أنفسكم الجهد، جهد المزيد من الأكاذيب، لأنَّ الناس قد يسمعون الكثير الآن، ولكنَّ الناس عادة يتطلَّعون إلى ما يحدث بعد ذلك. ولكن برغم ذلك، قولوا كلمة المحبّة أمام كلمة البغض، قولوا كلمة الرحمة أمام كلمة القسوة، قولوا كلمة العقل أمام كلمة العاطفة، قولوا كلمة الوجدان أمام كلمة الغريزة، قولوا كلمة الله بدلاً من كلمة الشيطان، انفتحوا على المستقبل بدلاً من أن تحشروا أنفسكم في زوايا الحاضر، لن ينفعكم أحدٌ إذا لم تنفعوا أنفسكم، لن ينصركم أحد إذا لم تنصروا أنفسكم، لن يتوكّل أحد لحسابكم بل كلّ وكيل يتوكّل لحسابه، لهذا أعيدوا نداء العقل بعد أن لَعْلَعَ صوت الرصاص حتّى يسكت العقل الرصاص، هذا من جهة.
اتّقوا الله في الهجمة الإعلامية الشرسة
ومن جهةٍ ثانية أريد أن أتوجّه للناس كلّهم، لكلّ الناس هنا ولكلّ الناس في الجنوب ولكلّ الناس في البقاع، إنّكم مسلمون بحمد الله وعليكم في هذه الهجمة الإعلامية الشرسة أنْ تتّقوا الله في ما تسمعون وأن تتَّقوا الله في ما تقولون، اعملوا بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6] وقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36]. الأذن وما سمعت والبصر وما رأى والفؤاد وما وعى، سيسألكم الله عن ذلك كلّه، قد تجلسون في سهراتكم وفي جلساتكم وفي نواديكم ليتحدّث هذا بحديث ضدّ إنسانٍ بريء ويُزايد عليه إنسانٌ آخر ليرضى عنه فلان وفلان، ولكنّكم إذا أجلستم إلى قبوركم كيف تتحدّثون، وإذا وقفتم أمام ربّكم كيف تتحدّثون، سيقف كلّ بريء مظلوم ليقول يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فإنّه سبّني بدون حقّ وشَتَمَني بدون حقّ وتحامَل عليَّ بدون حقّ، وإذا كنتم تستطيعون أن تجيبوا الله فتكلَّموا كما تشاؤون، اتّقوا الله في ما تتحدّثون وتتكلَّمون واذكروا يوماً تشخص فيه القلوب والأبصار {... وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان : 33].
ثمّ أريد أن أقول لكلّ الفعاليات التي تتحدّث على كلّ المستويات سواء كانت مستويات سياسية أو كانت مستويات دينية أو كانت مستويات إعلامية، ليس هذا الوقت وقت إيجاد حالات التشنُّج، وليس هذا الوقت وقت الاتّهامات غير المسؤولة، وليس هذا الوقت وقت الكلام الذي ليس فيه تقوى من الله، ستتحدّثون كثيراً وستحكمون على الناس كثيراً، وستنطلقون مع عواطفكم ومع انفعالاتكم كثيراً، ولكنَّ المسألة أنّ الجوّ يهدأ وسيظهر الحقائق فكيف تواجهون الحقائق؟ عندما تلهبون النار لفريق ضدّ فريق، على ماذا تحصلون من ذلك كلّه؟ اتّقوا الله في كلماتكم، اتّقوا الله في تصريحاتكم، اتّقوا الله في اتّهاماتكم، اتّقوا الله في ذلك كلّه. إذا أراد الناس أن يعرفوا الحقيقة: مَن البادئ ومَن المعتدي، إنّي أقول لا بدّ أن تكون محكمة شرعية مسؤولة حيادية ينطلق فيها أُناس من السّاحة نفسها لتحدّد المسألة كيف حدثت ولماذا وأين؟ لماذا نهرب من أن ننطلق إلى الله وإلى رسوله؟ كانت مشكلة إيران ولا تزال: أنْ حدِّدوا المعتدي وإنّني مستعدّة لكلّ شيء ونحن نقول إذا أردتم أن تحكموا لفريق على فريق أو لجهة على أخرى، وأنتم لم تحضروا كلّ الأمور أو إذا حضرتم كونوا الشهود وإذا كنتم الشهود، كونوا الشهود العدول، لتنطلق محكمة شرعية سياسية أمنية من خلال أشخاص يؤتمنون على حياة الناس وعلى حقيقة الناس ثمّ لنحدِّد ذلك كلّه وليأخذ كلّ فريق بدأ الجريمة حسابه وتقف الأُمّة كلّها ضدّه. أمّا أن تتبادل الاتّهامات عشوائياً بإمكانك أن تتّهم الآخرين وبإمكان الآخرين أن يتّهموك، وبإمكانك أن تكذب وبإمكان الآخرين أن يكذبوا، ما الحصيلة في ذلك كلّه؟ مزيد من المهاترات ومزيد من السباب ومزيد من الشتائم، وماذا يفيد ذلك كلّه والأرض كلّها تهتزّ تحتنا. فلننطلق في هذا المجال على أن نواجه الواقع المأساوي على أساس أن نكون جميعاً الإطفائيّين الذين يريدون إطفاء النار، أن نعمل جميعاً على تثبيت وقف إطلاق النار ليتحدّث الجميع في حلّ المشكلة بطريقة ليس فيها الكثير من التشنُّج، أن ننطلق ليرجع الناس إلى بيوتهم في غير مواقع القتال، لماذا تطلق الصواريخ على المواقع التي ليس فيها قتال، إنَّ الناس لا يستطيعون أن يعيشوا خارج بيوتهم، الفتنة في لبنان موجودة في كلّ مكان، والمشاكل السياسية هي التي تحلّ المشاكل الأمنية، والناس ليسوا مستعدّين لأن ينتظروا طويلاً خارج بيوتهم حتّى تحلّ المشكلة السياسية أو تحلّ المشكلة الأمنية.
في هذا المجال، قلنا مراراً إنّنا لسنا ضدّ أيّ أمن متوازن يحاول أن يحقّق للناس الأمن قبل أن يحدث القتال، كنّا نتحدّث مع كلّ الفعاليات أيّ أمن هو هذا الأمن؟ أمن الضاحية الذي ينطلق فيه المسلَّح ليخطف ويدخل على المرأة في بيتها ليسلب حليّها في وضح النهار وليعبث هذا ويعبث ذاك؟ كنّا نقول لكلّ الناس ـــ وقد سمعتموه منّي مراراً ـــ إنَّ هذا الفلتان الأمني لا يطاق، أَلَم تذكروا ما قلته لكم مرّة: إنّكم إذا دخل عليكم اللّص إلى بيوتكم ولم تستطيعوا أن تقمعوه بطريقة الرّفق أطلقوا عليه الرصاص، لماذا كنّا نقول ذلك، لأنَّ الأمن كان سائباً بكلّ ما للكلمة من معنى، كان الذين يتحمّلون مسؤولية الأمن لا يحفظون الأمن كما يجب أن يحفظ.
مَن يحفظ الأمن في الضاحية
ولهذا كان الجميع يشكون بطريقةٍ أو بأخرى، ليست عندنا مشكلة أن تحكم أيّ جهة تحفظ الأمن، ولكن على أساس ألاّ تأتي هذه الجهة في جوّ نفسي لا يحاول أن يثير الانفعالات وردود الفعل. ما المشكلة؟ إنّهم يتحدّثون عن مسألة دخول السوريين إلى الضاحية(1)، قلنا من البداية إنّ الناس يتعايشون مع الجيش السوري في البقاع ولا مشاكل، والناس يتعايشون مع الجيش السوري في بيروت وليست هناك مشاكل، لكن عندما طرحت مسألة الضاحية خرج تصريح بأنّ هناك حالة شاذّة ويجب أن نقمعها من جذورها، طرحت القضية على أساس أن يوحى لبعض الناس بأنّ سوريا تدخل لمصلحة فريق دون فريق، طرحت المسألة سياسياً من خلال الإعلام الدولي والمحلي؛ أنّ هناك ثمناً يدفع في قبال ضرب الحالة الإسلامية، هذه التهاويل هي التي خلقت المشكلة وإلاّ أيّة مشكلة هي هذه المشكلة، إنَّ الحالة الإسلامية تتعايش مع الإخوة السوريين في البقاع وليست هناك مشاكل إلاّ المشاكل الصغيرة، وفي بيروت أيضاً الناس يتحرّكون ويعيشون ويخطبون ويعظون ويتجمَّعون من دون مشكلة، لهذا قلنا للمعنيين إنَّ عليكم أن تعالجوا المسألة نفسياً قبل أن تعالجوها ميدانياً لأنَّ المسألة النفسية ربّما تحرّك أوضاعاً تجعل الكثيرين يصطادون في الماء العكر، ونحن لا نريد لأحد أن يصطاد في الماء العكر، نحن لا نؤمن بالفوضى، ولكنّنا نريد الأمن العادل المتوازن الذي ينظر إلى الجميع بعينين متساويتين ويزن الواقع بميزانٍ واحد ليعاون الجميع على أن يلتقوا بدلاً من أن يستثيرهم ليتفرَّقوا، ولهذا قلنا ليست هناك مشكلة وليست هناك عقبة، وقلنا إنَّ القضايا عندما تدرس بطريقة واقعية عادلة فمن الممكن أن يحلّ كلّ شيء وليست هناك مشكلة في عداد أيّ شيء، نحن نريد للنّاس الأمن ونريد للمجرمين كلّهم في كلّ مكان أن يعزلهم المجتمع، ولكن إذا لم يستطع المجتمع أن يعزلهم فلا مانع عندنا من أن تأتي أيّة قوّة على أساس أن تعزلهم أو تجمّدهم في كلّ مجال من المجالات، ونحن نعتقد أنّ طبيعة المحادثات التي تتحرّك على المستويات بين القيادة الإسلامية الإيرانية والقيادة العربية السورية في سبيل توفير الجوّ النفسي الذي يجعل المسألة مسألة لا تحمل أيّ نوع من أنواع التشنُّج، إنّنا نعتقد أنّها تمثّل ضمانة كبيرة إذا أُريد للقضية أن تصل إلى نهاياتها، إنّنا نفكّر بهذه الطريقة، ولاسيّما ونحن نعرف شيئاً أساسياً هو أنّ سوريا لا تزال تطرح مقاومة الانعزالية الطائفية في لبنان، ولا تزال تطرح مقاومة "إسرائيل" ولا تزال تطرح مقاومة الاستكبار الأميركي. ولذا، فنحن عندما نطرح هذه القضايا فإنّنا نطرحها ونحن نستطيع أن نؤكّد أنّ هناك تسهيلات كبيرة سابقة كانت من قِبَل القيادة السورية للمقاومة الإسلامية في أكثر من موقع من المواقع على مستوى تسهيل عملية وصول السلاح وعلى مستويات أخرى، ولهذا فإنَّنا، في ضمن وضع متوازن مدروس، ليست عندنا مشكلة من هذه الناحية.
لن أدخل في مهاترات
وهناك ناحية أخرى أحبّ أن أتحدَّث عنها، أمرّ بها مرور الكرام، إنَّ هناك كثيراً من الناس، من الفعاليات ومن الصحافة ومن الناس المضلّلين، يتحدّثون عنّي بطريقة غير مسؤولة عن فتاوى هنا وعن تحليل وتحريم هناك(1)، وقد واجهت هذه الحالة فإنَّ هؤلاء ومن وراءهم صبّوا كلّ حقدهم عليَّ بمختلف الوسائل وقصف بيتي بعشرات القذائف ولولا لطف الله لكانت الكارثة، وكان القصف مركَّزاً، وكانت هناك اعترافات من جهات مسؤولة وغير مسؤولة بأنَّ البيت كان مستهدفاً وأنَّ هجوماً ما، كان يهدف لاحتلال البيت، وهذه أمور تثبت عندي بطريقة كبيرة من الصحّة، إنّني أريد أن أقول أمام كلّ هؤلاء الذين يتحدّثون بهذه الطريقة من فعاليات دينية، أو فعاليات سياسية، أو فعاليات تنظيمية، أو فعاليات حزبية أقول لهم: لن أردّ عليكم بكلمة، لن أُكلِّف نفسي أن أردَّ عليكم، لن أُكلِّف نفسي أن أدخل في نقاش، لن أكلِّف نفسي أن أدخل في مهاترات، لن أكلِّف نفسي أن أقف لأبرّئ نفسي، الله وحده هو الذي يعلم ما تخفي الصدور وهو يعلم كلّ شيء، إنّني أترك حسابكم على الله. لقد واجهت الهجمة الأميركية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الإسرائيلية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الكتائبية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت هجمات عربية على سمعتي وعلى حياتي، ما ضرّ أن نضيف إلى كلّ هؤلاء جماعة هنا وجماعة هناك... سأترك حسابكم لله وسأتأسَّى برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما واجهوه بكلّ الكلمات، سأقول كما قال وسأضرع إلى الله كما ضرع، اللّهم اغفر لقومي فهم لا يعلمون، سأستغفر لكم في اللّيل والنهار وسأطلب من الله ألاّ يعاقبكم على ذلك، أمّا قضية الموقع وأمّا قضية كلّ ذلك، دائماً أقرأ معكم وتقرؤون معي، "إلهي إنْ وَضَعْتني فَمَن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني".
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خراب
أريد أن أقول لكلّ الفاعليات ولكلّ الناس المستضعفين ولكلّ الناس الطيّبين في الجنوب وفي البقاع وفي بيروت، لقد عشت معكم منذ النبعة، لم أُفارقكم لحظة؛ لقد عشت معكم في النبعة حتّى سقطت النبعة، وعشت الخوف معكم كما عشتموه، وقد عشت معكم في الضاحية أيّام الاجتياح وقد عشت معكم في كلّ الأوضاع، لأنّي لم أتطلّب في هذا البلد موقعاً سياسياً ولم أتطلّب في هذا البلد موقعاً رسمياً ولن أتطلّب، سأظلّ معكم... اشتموني وسأظلّ معكم، سبّوني وسأظلّ أخدمكم وأعظكم، إنّي أحبّكم من كلّ قلبي، إنّي أتحمّل كلّ الأخطار من أجل قضية الحريّة التي أحملها وأحمل خشبتي على كتفي، ليقل كلّ الناس ما يقولون، سأظلّ معكم أيُّها المؤمنون المستضعفون حتّى لو رجمتموني بالحجارة، لأنّني أعرف أنّكم ستكتشفون غداً مَن الذي يريد أن يستغلّكم، ومَن الذي يريد أن يبلغ بكم، حيث يريد الله أن تبلغوا، رضوان الله ومحبّة الله في ذلك كلّه.
أغلقوا هذا الملف
وأخيراً، أريد أن أقول لكم أيُّها الإخوة، اغلقوا هذا الملف، أتوسَّل إلى كلّ المقاتلين أن يعملوا بكلّ طرقهم إلى قياداتهم أن يدرسوا المسألة دراسة واعية وأن يخفّفوا هذا النزف، إنَّ قلبنا يدمى كلّ يوم عندما يسقط قتيل من هذا الطرف أو قتيل من ذاك الطرف، أو جريح من ذاك الطرف أو جريح من هذا الطرف، إنَّنا نريد أن تريحونا من ذلك، ادرسوا المسألة جيّداً، عجِّلوا، نقول لكلّ المتفاوضين عجِّلوا في المفاوضات حتى نصل إلى نتيجة وحتّى نستطيع أن نمنع هذا الدم من الجريان، إنّنا ونحن نريد أن نقول للنّاس خارج الضاحية من موقع مسؤول، ارجعوا للضاحية فليست هناك مشكلة أمنية خارج خطوط التماس الحالية التي نرجو أن تغلق، لا تعيشوا التشريد، إنّكم إذا رجعتم إلى الضاحية فستحرجون الجميع وستستطيعون أن تحلُّوا المشكلة قبل أن تحلّها المفاوضات، لا تستمعوا إلى كلّ الذين يريدون لكم ألاّ ترجعوا، لأنَّ المسألة أنّهم يريدون أن يجعلوا منكم ورقة في اللّعبة السياسية ونحن لا نريد للشعب أن يكون ورقة في اللّعبة السياسية، إنّكم أيُّها الذين ستعيشون في الضاحية، تعيشون بدون مشاكل، إنّهم يقولون للنّاس أشياء كثيرة ولكنَّنا نريد لكم أن تأتوا إلى الضاحية لتعرفوا أنّ كلّ ما تسمعونه هو أوهام وأنَّ كثيراً ممّا تسمعونه أكاذيب، إنّنا ندعوكم من موقع المسؤول، وندعو أيضاً الذين يجلسون وراء المدافع ألاّ يجرّبوا أن يقصفوا الآمنين حتّى يمنعوهم من أن يستقرّوا في الضاحية، إنَّنا لا نعتبر خروج الناس من الضاحية ـــ كما يحاول الإعلام أن يقول ـــ موقفاً سياسياً، ولكنَّنا نعتبره موقفاً أمنيّاً حاولت جهات كثيرة أن تحشد الخوف في نفوس الناس، وعلى الناس أن يأتوا ليروا أنّه ليست هناك إلاّ مشاكل بسيطة في هذا المجال.
نسأل الله أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأُمّة وأن يغيِّر سوء حالنا بحسن حاله، وأن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يجمعنا على الخير والهدى وكلمة التقوى إنّه أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
"حركة الإيمان في مواجهة الفتنة"(*)
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل : 112]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ـــ 157].
في هذا الجوّ القرآني الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّد للناس ـــ كلّ الناس، ولاسيّما المؤمنين منهم ـــ أنّ الحياة التي يعيشون فيها أوضاعهم وعلاقاتهم وتحرّكاتهم، ليست نزهة يتلذَّذون فيها ويعيشون فيها حياة الرّخاء وحياة الطمأنينة من دون أيّة صدمة، ودون أيّ بلاء، ودون أيّة مشكلة. فهناك في الحياة إلى جانب الفرح حزن وهناك إلى جانب اللّذة ألم، وإلى جانب الأمن خوف، وإلى جانب الغنى فقر وإلى جانب الحياة موت. ولهذا فإنَّ عليهم أن يستعدّوا في حياتهم لمواجهة ذلك كلّه ليعرفوا أنّ عليهم أن يواجهوا حالات السرور والأمن والغنى وغير ذلك، بطريقة معقولة هادئة، كما أنّ عليهم أن يواجهوا ما يصادفهم من الخوف والفقر والحرمان والألم والحزن بطريقة معقولة؛ ألاّ يغطّيك الفرح عندما تكون الحياة من حولك تضجّ بالفرح، وألاّ يسقطك الحزن عندما يأتي الحزن إلى قلبك ويستولي على كلّ حياتك، ادرس أسباب الفرح في حياتك وحاول أن تستفيد منها وتعلَّم كيف تكثّر فرصها، وادرس أسباب الحزن في حياتك واعرف كيف تستطيع أن تقلِّل منها، أن تواجه الحياة بطريقة عقلانية هادئة، وتعرف أنّ الله نظَّم الحياة على أساس وجعل لكلّ شيءٍ سبباً، وجعل نتائج الواقع في حياة الإنسان خاضعة لأعمال الإنسان؛ فكما تزرع تحصد، وكما تتحرّك في الحياة تجد، من يزرع الريح فلا بدّ أن يحصد العاصفة، ومن يزرع الجريمة فلا بدّ أن يحصد المشكلة، ومَن يزرع الفوضى فلا بدّ أن يحصد الدمار، ولهذا فلا بدّ للناس من أن يدرسوا سبب مشاكلهم في طبيعة أعمالهم وفي طبيعة أوضاعهم، لأنَّنا إذا حاولنا أن نجلس حول المأساة لنبكي نتائجها من دون أن ندرس أسبابها وطبيعة الظروف التي تحيط بها، فإنَّ معنى ذلك أنّ الذين يصنعون المأساة في وقتٍ ما سوف يصنعون مآسي أخرى في أوقات أخرى. ولكنَّنا إذا درسنا المأساة وحاولنا أن نتعاون على أساس أن نقضي على الجذور التي تخلق الألم والمأساة، عند ذلك، لن يستطيع المغامرون والمفتنون والمجرمون أن يصنعوا مأساة جديدة، هذا ما يريدنا الله أن نتعلَّمه في البلاء، وهكذا قال الله {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، أيّة قرية كان فيها من الاطمئنان في الحياة ولكنّ أهل القرية ـــ أيّاً كانوا ـــ تحرَّكوا من أجل أن يصنعوا لأنفسهم المشاكل وتحرّكوا من أجل أن يكونوا حياديّين أمام المنكر وحياديين أمام المفسدين، وحياديين أمام المجرمين أو أنّهم يخافون المجرمين، والمفسدين فيعملون على أن يغطّوهم وأن يجاملوهم وأن يعملوا كلّ ما يريدون في سبيل إعطائهم غطاءً شرعياً تارًة أو غطاءً سياسياً أخرى أو غطاءً اقتصادياً أو اجتماعياً، لأنَّ لهذا مصلحة عند ذاك ولأنَّ لهذا قضية عند ذاك. وعندما يمتنع الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر أو ليسلّطنَّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"(1)، عندما يصنع الناس ذلك فسيأتي الخوف بعد الأمن، وسيأتي الجوع بعد الشبع {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ويقول الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. في كثيرٍ من المصائب قد يكون المجتمع هو الذي يحرّكها وهو الذي يثيرها في كلّ حياة الناس العامّة والخاصّة عندما ينطلق المجتمع ليعيش المصيبة، فيتعصَّب كلّ إنسان لفريقه حتّى لو كان فريقه مخطئاً، فإذا كان فريقك مع الحق فأنتَ مع الحقّ لأنّه من خلال فريقك، وإذا كان فريقك مع الباطل فأنتَ مستعد لأن تسير مع الباطل ولستَ مستعداً لأن تنقد فريقك أو قيادتك، لأنَّ المسألة هي أنّك تلتزم الأشخاص وتلتزم المحور ولا تلتزم الحقّ في ما يريده الله لك أن تلتزمه من حقّ، المسألة كانت ولا تزال أنّ العصبية تجعل الإنسان يتعصَّب للباطل ويحاول أن يوحي أنّه الحقّ، وهكذا نشأت عندنا العصبية للعائلة والعصبية للطائفة والعصبية للحزب والعصبية للحركة والعصبية للأشخاص وللقيادات، على أساس أنّ الإنسان يلتزم الشخص ويلتزم الإطار ولا يلتزم المعنى والمضمون في ما يوحي به الإيمان من خلال ذلك، عندما تتحرّك العصبية يهرب الحقّ، وعندما تتحرّك العصبية تسقط العدالة وعندما تتحرّك العصبية تنطلق الفوضى في الناس ويعيش الناس في عمىً عن الحقيقة، لأنَّ الإنسان المتعصّب، أيّاً كان الشيء الذي يتعصَّب له، هو إنسان لا ينظر إلاّ بعينٍ واحدة، ولا بدّ للمؤمن أن ينظر بعينين حتّى يستطيع أن يعرف ميزان الحقّ كيف يتحرّك وميزان العدل كيف يتحرّك.
جوٌّ محكوم بالعصبيّة
ولعلَّ المشكلة في كلّ الواقع الذي نعيشه في هذه الفتنة اللبنانية المدمّرة على مستوى الطوائف وعلى مستوى الأحزاب وعلى مستوى القيادات، أنّ الجوّ تحكمه العصبية ولا تحكمه المبادئ وأنّ الجوّ تحكمه الغرائز ولا تحكمه العقول، لهذا فإنَّ ذلك سينعكس على حياتنا {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] والله يبتلي الناس كلّهم ولاسيّما المؤمنين، يبتليهم ليكون البلاء صدمة لهم، يبتليهم حتّى يظهر الإيمان الثابت المستقرّ من الإيمان المستودع القلق، يبتليهم حتّى يقوّي فيهم المعاناة في مواجهة التحدّيات {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ليست الجنّة مجّاناً للذين يريدون أن يدخلوها، ليست الجنّة مجرّد ركعات تؤدّيها وصوم تصومه وحجٍ تسعى إليه، ولكنّ الجنّة موقف؛ أن تأتيك البأساء لتجعلك تنحرف عن طريق الله ويهجم عليك الحرمان ليزحزحك عن موقفك وتظلّ ثابتاً في موقفك، أن تأتيك الضرّاء حتّى تزحزح صمودك وروحك وقوّتك، تضر في جسدك وفي أهلك وفي مالك وفي حريّتك، تسجن، تعذّب، تشتم، تُسب، وتظلّ ثابتاً، وإذا جاءك الزلزال تلجأ إلى الله {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ} والله يقول لهم إذا ثبتّم وإذا وقفتم وإذا عانيتم وإذا تحمّلتم وإذا صبرتم وإذا صمدتم، فإنَّ النصر ليس عطية تُعطاها، ولكنَّ الله يعطيك النصر عندما تكون في مواقع النصر ويعطيك النتائج الكبيرة عندما تكون في المواقع الكبيرة، وهكذا ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخياركم، إنَّ الله يريد أن يقول للمؤمنين، إنَّ الإيمان الذي تلتزمونه بكلّ معانيه، الذي يحمل في البداية وحدانية الله لتقول كمؤمن في كلّ مواقف الحياة: ربّي الله وحده وكلّ أرباب الأرض لا يمثّلون عندي شيئاً، أن تلتزم الإيمان لتقول إنَّ أمر الله وحده هو الذي أنفّذه، نهي الله وحده هو الذي انتهي به، أمّا أوامر الطغاة، أمّا أوامر الذين يعتبرون أنفسهم آلهة وينظر إليهم الناس كآلهة، فليس لي شغل بهم من قريب أو بعيد. أن تكون مؤمناً؛ تلتزم الإيمان، أن تلتزم قضايا الحريّة في الحياة لأنّ الله خَلَقَ الإنسان حرّاً ولا يرضى له أن يكون عبداً إلاّ له، أن تلتزم الإيمان لأنّه على أساس أنّك تحمل قضية العدالة في الحياة في كلّ مواقعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لأنَّ الله أنزل الرسالات ليقوم الناس بالقسط، أن تكون مؤمناً؛ أن تلتزم خطّ الإيمان والإسلام ليكون الإسلام عنواناً لكلّ حياتك في كلّ مجالات حياتك وأن تحرّكه وتسير عليه حتّى لو رَجَمَكَ الناس بالحجارة، حتّى لو قال الناس عنك ما قالوا، حتّى لو شَتَمَكَ الناس، تقول {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـــ 163]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131].
الصبر في الشدّة وعلى البلاء
إنَّ المسألة هي أنّك عندما تكون مؤمناً فمعنى ذلك أنّك تقف ضدّ التيّار؛ تيّار العبودية الذي يراد له أن يفرض على الناس، وتقف ضدّ تيّار الظلم عندما يُراد فرضه على الناس، وتقف ضدّ تيّار الانحراف عندما يراد فرضه على الناس، معنى أن تكون مؤمناً أنّك تسبح ضدّ التيّار، التيّار الذي يتحرّك في نطاق الشهوات، والتيّار الذي يتحرّك في نطاق الأطماع، والتيّار الذي يتحرّك ضدّ القوى الظالمة هنا وهناك. ما معنى أن تكون مؤمناً؟ أن تكون حالة شاذّة في المجتمع، حالة شاذّة لا تنطلق من أنّك شاذ عن حركة الحياة، ولكنّك شاذ عن حركة الواقع السيّئ الذي يحاول أن يجعل الانحراف طبيعة والظلم طبيعة والعبودية طبيعة. من الطبيعي جداً أن يكون الحقّ في كلّ مكان شذوذاً عن كلّ حالة الباطل التي قد تسيطر على أساس وضعٍ معيّن أو على أساس قوّة معيّنة.
هناك حديث مرويّ إمّا عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أو عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ينطقون عن النبيّ، يتوجّه إلى المؤمنين الملتزمين الواعين الصامدين "لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا"(1)، الفتن والمشاكل والأحداث التي تأتي هنا وهناك سوف تكون غربالاً لكثير من الناس الذين كانوا في زمن الرَّخاء وفي زمن الطمأنينة أبطالاً وثوّاراً.. وكانوا وكانوا.. حتّى إذا جاء الغربال، كان الكثير من الناس يعيشون في الأعالي وتأتي الفتنة لتسقطهم، وكثيرون من الناس كانوا يعيشون في الأسافل وتأتي الفتنة لترفعهم..
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ تبيَّنَ مَن بكى ممَّن تباكى
إذا أردت أن تميِّز بين الذين يبكون من قلوبهم وبين الذين يتباكون من عيونهم، انظر إلى الدموع كيف تجري، مَن كانت الدموع تملأ وجهه وتنزل على جسده فهو الذي يبكي من قلبه وهو الصادق في بكائه، أمّا الذي يعتصر عينيه لتسقط دمعة هنا ودمعة هناك، فهو المتباكي، اسمعوا حديثاً آخر، ماذا ينتظر المؤمنون {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} [البقرة : 214] لقد كان قبلكم قومٌ يُقتَلون ويُحرَقون ويُنشَرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم في ما هم عليه شيء ممّا هم فيه من تِرَة (من غير ذنب) وتروا بها من فعل ذلك بهم ولا أذى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج : 8] تلك هي تهمتهم؛ أنّهم مؤمنون وملتزمون، وأنّهم يريدون أن يطيعوا الله ولا يطيعوا غيره، "فاسألوا ربّكم درجاتكم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيكم"، عندما تريد أن تلتزم الحياة كرسالة وعندما تريد أن تكون قريباً من الله ومن رحمته ورضوانه، وعندما تسعى من أجل أن تستحقّ جنّته، لا بدّ لك من أن تصبر بكلّ ما للصبر من معنى، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 ــ 157].
المسألة هي أن تصبر على الإغراء وعلى الترهيب وأن تصبر أيضاً على نوازع نفسك وأن تصبر على الشياطين الذين يريدون أن يحرفوك، لأنَّ المشكلة أنّك قد تصبر أمام عدوّ في الخارج ولكنّك لا بدّ أن تصبر على عدوّك في داخل كيانك حتّى تستطيع أن تقف أمام نوازع نفسك وأمام شهوات نفسك؛ فقد ورد في بعض الأحاديث، "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، ونفس تنازعه، وشيطان يضلّه". لهذا لا يكفي أن تكون المؤمن في ساحة القتال، بل لا بدّ أن تكون المؤمن في ساحة الإيمان والصراع الداخلي، وهو الجهاد الأكبر، أن تجعل الإيمان عنواناً لتصرّفاتك مع الآخرين، أن تحمي الناس من نفسك، ألاّ تظلم الناس وأنتَ تحارب ظلم الحكم أو ظلم الطغاة، ألاّ تؤذي الناس، ألاّ تعمل على أساس إذلال الناس عندما تكون لك سلطة وقوّة، ألاّ تعمل على أساس أن تتصرّف بما لا يجوز لك بأموال الناس عندما تكون أموالهم تحت تصرّفك، أو أعراضهم تحت تصرّفك، أو نفوسهم تحت تصرّفك، أن تتّقي الله في ذلك. إنَّ البطولة في هذا الجانب أعظم من البطولة في ذاك الجانب، وإنَّ الانتصار على النفس حتّى تتوازن النفس في طاعة الله وحتّى تثبت النفس في مواقع المزالق، هي أعظم من البطولة في معركة الحرب الحارّة الساخنة.
هذا ما نريد أن ننطلق فيه، عندما نواجه كلّ الواقع الذي يريد أن يجعل من المؤمنين شيئاّ شاذّاً، ويجعل منهم حالة عدوانية، ويجعل من المؤمنين حالة تآمرية، ويتحدّث عن أصحاب المسابح والجباه المعفّرة بطريقة السخرية، لا أدري كيف يتحدّث الناس في هذا المجال، لا بدّ للمؤمن من أن يثبت عندما يكون إيمانه حقيقياً وعلينا أن نفهم جيّداً أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يواجه هجمة إعلامية حاصرته من كلّ جانب، كان يقدّم نفسه للنّاس كنبي وقالوا إنّه ليس نبيّاً، بل هو ساحر، عامله أهل مكّة كما يعاملون السحرة، وقالوا عنه عندما لم تنجح هذه التهمة، قالوا عنه وهو يريد أن يعطيهم كلمة الصدق، إنّه كاذب فلا تصدّقوه في ما يقول، وعندما سقطت هذه التهمة قالوا عنه إنّه كاهن يفعل ما يفعله الكهَّان من الحديث عن بعض الغيب من دون أن يكون له عمق في وحي السماء، قالوا عنه ذلك وسقطت التهمة، بعد ذلك قالوا إنّه مجنون، في عقله خلل، لا يفكّر باتّزان، ولا يتحرّك باتّزان، وقال لهم بكلّ وداعته وبكلّ محبّته التي يفيض بها على الناس كلّهم، قال لهم ما قاله الله له: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : 46] هذا هو الزاد الذي نتزوَّد به، قالوا عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنّ فيه دعابة، وكان معاوية في ما يروى يقول لأهل الشام: إنَّنا نقاتِل عليّاً لأنّه لا يصلّي ونحن نقاتله حتّى يصلّي، ورأى أنّ المسألة لا تنطلي، ماذا يفعل؟ كان يربّي الناس على سبّ عليّ (عليه السلام) وفرضها في خطبة الجمعة وفرضها على كلّ المنابر، على كلّ الذين يصلُّون في المساجد من خلال دائرته التي يعيّن فيها أئمّة المساجد، ليحبسهم في دائرة ضيّقة، كان يريد لهم أن يسبُّوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان يحبس ويضيق هو وغيره على كلّ مَن يلتزم ولاية عليّ، وكان يضطهد كلّ مّن يحبّه وكلّ مَن يتحدّث عن فضائله، وجاء الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل عندما قال: "ما أقول في رجل جهد محبُّوه في إخفاء فضائله خوفاً وجهد مبغضوه في إخفاء فضائله حسداً فظهر بين ذين ما ملأ الخافقين" لأنَّ المسألة أنَّ عليّاً كان مع الحقّ، وكان الحقّ معه، ولذلك فمهما اشتدّ الباطل ليحارب عليّاً فإنّ الحقّ لا بدّ أن يفضح الباطل في أيّ وقت. لهذا ليست المشكلة هي ما يقول الناس في خطّ الإيمان والإسلام، بل المشكلة كيف يحفظ المؤمنون إيمانهم في أنفسهم، لا تشغلوا أنفسكم في الحديث عمّا يقوله الناس عنكم.
يُراد إسقاط روحيّة الإيمان
أيُّها المؤمنون، أيّاً كنتم إنّني لا أتحدّث عن حالة حزبية، ولكنّي أتحدّث عن حالة إيمانية في كلّ مواقع الإيمان، لأنَّ الإيمان أصبح تهمة في كلّ موقع سياسي، فكلّ مَن كان مؤمناً فلا بدّ أن يُزال ولا بدّ أن يُبعد عن الساحة، لا تنشغلوا بكلام الناس، أقولها لكلّ المؤمنين، المؤمنين في حزب الله والمؤمنين في حركة أمل والمؤمنين خارج النقطتين إذا كانا تنظيمين، إنَّ المسألة هي أنّ الجو السياسي والإعلامي يُراد له أن يسقط روحية الإيمان وصحوة الإيمان ويراد له أن يفصل بين المؤمنين وبين قيادتهم الإسلامية التي يمثّلها الإمام الخميني (حفظه الله)(1)، إنَّنا نقول لكم جميعاً، انشغلوا في أنفسكم إذا كان هناك نقص في إيمانكم فأكملوه، وإذا كان هناك نقص في التزامكم فتمِّموه، وإذا كان هناك انحراف في سلوككم أو في كلامكم فقوّموه، إنَّ انتصاركم هو أن تنتصروا على كلّ نقاط الضعف في شخصيّتكم، إنَّ قوّتكم هي أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام ومؤمنين كما هو الإيمان، ألاّ تكونوا حالة حزبية تتحرّك في نطاق المكاتب وتتحرّك في نطاق العصبيّات، بل أن تكونوا حالة إسلامية كما كان المسلمون في مكّة حالة إسلامية، وكما كان المسلمون في المدينة حالة إسلامية، أن يكون الإسلام هو الهواء الذي تتنفَّسونه والماء الذي تشربونه، والغذاء الذي تتغذّون به لتكون حياتكم كلّها إسلاماً، فإذا رآكم الناس رأوا الإسلام في عيونكم وهي تحدّق، ورأوا الإسلام في شفاهكم وهي تتكلَّم، ورأوا الإسلام في أيديكم وهي تتحرّك، ورأوا الإسلام في أرجلكم وهي تسير، ليكون كلّ واحدٍ منكم كما كان رسول الله أُسوةٌ حَسَنة، لا تكونوا الدُّعاة بالكلمة ولكن كونوا الدُّعاة بالقدوة، فقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو القدوة التي أراد الله للنّاس أن يتأسّوا بها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] افعلوا كما يفعل، قولوا كما يقول، تحرَّكوا كما يتحرّك، أنشئوا العلاقات كما ينشئ العلاقات. انتصاركم أن تكونوا مسلمين كما هو الإسلام(1)، قوّتكم أن تكونوا مؤمنين كما هو الإيمان، لأنَّ المسألة هي أنّكم إذا كنتم تريدون الدنيا فالدنيا موجودة، ولكن إذا أردتم الدنيا المرتبطة بالآخرة والآخرة التي تطلّ على الدنيا، فإنَّ عليكم أن تقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة : 201]، ألاّ تستغرقوا في خصوصيّاتكم وفي أوضاعكم التنظيميّة ولكن استغرقوا في أجوائكم الرساليّة.
عندما تضيق بكم الحياة، ارجعوا إلى الله فستجدون السعة كلّ السعة والرحابة كلّ الرحابة، عندما يراد أن يفرض عليكم اليأس انطلقوا إلى الله لتجدوا الأمل الكبير بالله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87]، إذا خوَّفكم الناس في كلّ مجال فقولوا حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، إذا أراد الناس أن يهوِّلوا عليكم بكلّ شيء، قولوا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36] كونوا مع الله قلباً وروحاً وعقلاً وضميراً وحركة وسلوكاً في كلّ مجالات الحياة، فإنّ مَن كان مع الله كان الله معه {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ...} [آل عمران : 160]، {... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد : 7] وليقل كلّ إنسان لصاحبه كما قال رسول الله لصاحبه: {... لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وسينزل الله سكينته على كلّ المؤمنين الذين يخلصون في إيمانهم والمسلمين الذين يخلصون في إسلامهم، سينزل الله سكينته عليهم كما أنزلها على رسوله لأنَّ المسيرة واحدة، ولأنَّ الخطّ واحد، ولأنّنا عندما نريد أن نحرّك الإسلام في حياتنا ونريد أن نتآخى مع كلّ المسلمين في العالم ونريد أن ننطلق مع القيادة الإسلامية الواعية، فإنَّنا نسير حيث سارَ رسول الله ونجاهد حيث جاهَدَ رسول الله ونعمل حيث عمل رسول الله.
الفتنة نتيجة لضعف المواقع
وفي هذا المجال نحبّ أن نطلّ أمام الأحداث التي لا تزال تطبق علينا من كلّ جانب والفتنة التي لا نزال نحترق فيها جميعاً ممّا لم يكن نتوهّمه ولم نكن نتصوّره ولم نكن نفكِّر أن يحدث، ولكنّه حدث من خلال الضعف الذي يعيش في كثير من مواقعنا في أيّ جانب من الجوانب، ومن خلال الأجهزة التي دأبت منذ انطلقت المسيرة الإسلامية الحاسمة على أن تشحن النفوس حقداً وعداوة وبغضاء وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين القيادات وتمنع كلّ لقاء بين الناس، لأنَّ المسألة هي أنّهم كانوا يلعبون على النعرات وكانوا يلعبون على الأحقاد وكانوا يلعبون على العصبيات، ولبنان هو مطبخ المنطقة الذي يحتاج إلى كثير من الوقود ولم ينجحوا في تجميع الوقود للطبخة إلاّ إذا أشعلوا دواخل النفوس بالنار، عندما تكون طرياً مع أخيك فلن تستطيع أن تحرقه أو يحرقك، ولكن عندما تكون ملتهباً ويكون هو ملتهباً عندما يغذّيك الحقد ضدّه وعندما يغذّيه الحقد ضدّك، فإنَّ معنى ذلك أنّ اللّهيب عندما يدنو من اللّهيب فسوف لا ينتج إلاّ الحريق الكبير، المسألة أنّه كانت كلّ الأجهزة وكان الذين زرعتهم الأجهزة في صفوفنا والذين حرّكتهم الأجهزة ليتّخذوا مواقع متقدّمة في السّاحة، كانوا يعملون على إشعال النار بالعصبيّات وبغير العصبيّات، وكانت الاختراقات من كلّ مكان من أميركا إلى أوروبا إلى "إسرائيل" إلى العناصر المحليّة والإقليمية، الاختراقات تدخل من أجل أن تخترق الساحة لينطلق هذا الجهاز حتّى يزرع في داخل الساحة فريقاً له، هكذا كانت المسألة. ويبدو أنّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ الضمانات واستطاعوا أن يتغلَّبوا على كلّ المحرّمات، واستطاعوا أن يعلنوا إسقاط كلّ المحرّمات، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، ونحن لا نصدّق أعيننا ولا نصدّق واقعنا، هل نحن في حلم أم نحن في يقظة؟ الإخوان يتقاتلون، الرصاص هنا يُسَدَّد من مؤمن إلى صدر مؤمن، مسلم إلى مسلم، مستضعف إلى مستضعف، منكوب إلى منكوب، محروم إلى محروم، كيف حدث ذلك؟! إنَّ الذين أوقدوا النار عرفوا كيف يحدثونها، كنّا نقول قبل الفتنة للقيادات كلّها: اطردوا كلّ هؤلاء الذين سخّرتهم الأجهزة المخابراتية من أن يكونوا مسؤولين ومن أنْ يحرِّكوا الفتنة ومن أن يعيشوا كلّ هذا الواقع، ولكن كانت الأوضاع تحتاج إلى هيبة، والذين يصنعون الجريمة يعطون الهيبة، كانت المسألة هي هذه، ولهذا كان الوضع يتحرّك على أساس المجتمع قاهراً ومقهوراً، قاهراً يفرض عليك أن تسجن من دون أن تعرف لماذا سجنت، أو تُضرَب من دون أن تعرف لماذا ضُرِبت، أو تُنهب من دون أن تستطيع أن تدافع، لأنَّ المسألة هي أنّك إذا تحرّكت ضدّ مجرم أو سارق أو لص فمعنى ذلك أنّك تحرّكت ضدّ هذه الجهة وعليك أن تدخل في حرب مع هذه الجهة التي تغطّي هذا اللّص وتغطّي هذا القاتل وهذا المجرم أو تلك الجهة. كانت المسألة هي أنّ هناك واقعاً كان يختزن القهر، لأنّه ليست هناك ضوابط تربط العلاقات.
وكنّا نقول للجميع وقد سمعتموها منّي مراراً وتكراراً قبل أن تحدث مشكلة الجنوب وقبل أن تحدث مشكلة الضاحية، لقد سمعتم مراراً أنّي كنتُ أتوجَّه إلى الإخوة في حزب الله والإخوة في حركة أمل، إنّكم تعيشون في مكانٍ واحد وفي بيتٍ واحد وساحة واحدة، نظَّموا قضاياكم وأوجدوا صيغة للتلاقي وللتعاون في ما بينكم، كنّا نقول لهم إنّنا نطمح في تعاونكم وفي لقائكم أن تتحوّلوا في المستقبل إلى أن تكونوا حالة واحدة بدلاً من أن تكونوا حالتين متصارعتين، أن تتَّفقوا على ما تتّفقون عليه وأن تتحاوروا في ما تختلفون فيه، كنّا نقول ذلك، ولكن "على مَن تتلو مزاميرك يا داود"، كانت هناك أوضاع تدخل هنا وتدخل هناك لتعطّل هذا المسير ولتعطّل هذا الاتفاق ولتعطّل هذا الحوار على أساس أنّه لا يراد للساحة أن تكون موحّدة، ولا يراد للساحة أن تنطلق بقوّة، لأنَّ هذه القوّة تخيف الآخرين في الميزان الطائفي وتخيف الآخرين في الميزان السياسي كقوّة تحرُّريّة، وتخيف الآخرين في الميزان الجهادي كقوّة تقاتل "إسرائيل"، أُريد لهذه الساحة أن تختلف وأن تتناقض، وأريد لهذه الساحة أن تتوكَّل عن هذه الجهة أو تلك، وأريد لهذه الساحة أن تضعف حتّى لا تستطيع أن تطالب بحقّ من حقوقها وحتى تسقط كلّ قضاياها، أريد لها ذلك ولن تنفع كلّ تلك الكلمات.
لقد عملنا ـــ منذ أن انطلقت الفتنة في الجنوب، وبعد ذلك مع كلّ المخلصين ومع وفد الجمهورية الإسلامية ـــ على أن نصير إلى لقاء واتّفاق بين الإخوة، وانطلقت كثير من الأوضاع لتعطِّل ذلك، وعملنا منذ أن انطلقت الفتنة على الرغم من كلّ ما يقال، على أساس أن نغلق ملف الفتنة وعلى أساس أن نمنع الحرائق بكلّ ما عندنا من طاقة، عملنا في السرّ وعملنا في العلن، ولكنَّ المسألة كانت أكبر من جهدنا وكانت المسألة أكبر من قوّتنا، لأنَّ العوامل الخفيّة التي كانت تدفع الساحة إلى المحرقة، كانت كبيرة كبيرة وكانت صعبة صعبة، ربّما شعرنا أنّها فوق طاقتنا. لهذا نتوجّه إلى كلّ الناس في الساحة، وإلى كلّ الإخوة في الساحة، ونحن نرجو ألاّ يكون هذا القتال قد ألغى أُخوّتهم التي ترتكز على الإسلام، قد يتّهم هذا الأخ أخاه بأنّه بدأ، وقد يتّهم ذاك بأنّه بدأ، ولكنّ ذلك لا يمنع أن الجميع لا يزالون مسلمين، مسلمين قد يخطّئ بعضهم بعضاً، ولكنّهم مسلمون. ما نريد أن نقوله لكلّ الإخوة في هذه الساحة العامّة.
أوّلاً: إنَّ الامتداد في هذا الجوّ الإعلامي السياسي سوف يحرق كلّ القضايا، إنّكم تتحدّثون عن استحقاق رئاسة الجمهورية وتتحدّثون عن حقوق الطائفة وتتحدّثون عن مواقع القوّة، إنَّ إثارة الحقد والبغضاء بمختلف الأساليب التي قد تحمل كثيراً من الأكاذيب وكثيراً من الافتراءات وكثيراً من الظلم؛ لن تنفع أحداً، فقد جرّبت الفتنة اللبنانية في كلّ الطوائف وفي كلّ الأحداث هذه الأساليب الاستهلاكية التي تريد أن تشحن غرائز الناس وعواطفهم وتريد أن تضلِّل الناس، ولكنّها لم تستطع أن تسقط أحداً، بل إنّها أسقطت القضايا وجعلت الساحة تتنفَّس بالحقد والبغضاء، لهذا نقول: وفِّروا على أنفسكم الجهد، جهد المزيد من الأكاذيب، لأنَّ الناس قد يسمعون الكثير الآن، ولكنَّ الناس عادة يتطلَّعون إلى ما يحدث بعد ذلك. ولكن برغم ذلك، قولوا كلمة المحبّة أمام كلمة البغض، قولوا كلمة الرحمة أمام كلمة القسوة، قولوا كلمة العقل أمام كلمة العاطفة، قولوا كلمة الوجدان أمام كلمة الغريزة، قولوا كلمة الله بدلاً من كلمة الشيطان، انفتحوا على المستقبل بدلاً من أن تحشروا أنفسكم في زوايا الحاضر، لن ينفعكم أحدٌ إذا لم تنفعوا أنفسكم، لن ينصركم أحد إذا لم تنصروا أنفسكم، لن يتوكّل أحد لحسابكم بل كلّ وكيل يتوكّل لحسابه، لهذا أعيدوا نداء العقل بعد أن لَعْلَعَ صوت الرصاص حتّى يسكت العقل الرصاص، هذا من جهة.
اتّقوا الله في الهجمة الإعلامية الشرسة
ومن جهةٍ ثانية أريد أن أتوجّه للناس كلّهم، لكلّ الناس هنا ولكلّ الناس في الجنوب ولكلّ الناس في البقاع، إنّكم مسلمون بحمد الله وعليكم في هذه الهجمة الإعلامية الشرسة أنْ تتّقوا الله في ما تسمعون وأن تتَّقوا الله في ما تقولون، اعملوا بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6] وقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء : 36]. الأذن وما سمعت والبصر وما رأى والفؤاد وما وعى، سيسألكم الله عن ذلك كلّه، قد تجلسون في سهراتكم وفي جلساتكم وفي نواديكم ليتحدّث هذا بحديث ضدّ إنسانٍ بريء ويُزايد عليه إنسانٌ آخر ليرضى عنه فلان وفلان، ولكنّكم إذا أجلستم إلى قبوركم كيف تتحدّثون، وإذا وقفتم أمام ربّكم كيف تتحدّثون، سيقف كلّ بريء مظلوم ليقول يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فإنّه سبّني بدون حقّ وشَتَمَني بدون حقّ وتحامَل عليَّ بدون حقّ، وإذا كنتم تستطيعون أن تجيبوا الله فتكلَّموا كما تشاؤون، اتّقوا الله في ما تتحدّثون وتتكلَّمون واذكروا يوماً تشخص فيه القلوب والأبصار {... وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان : 33].
ثمّ أريد أن أقول لكلّ الفعاليات التي تتحدّث على كلّ المستويات سواء كانت مستويات سياسية أو كانت مستويات دينية أو كانت مستويات إعلامية، ليس هذا الوقت وقت إيجاد حالات التشنُّج، وليس هذا الوقت وقت الاتّهامات غير المسؤولة، وليس هذا الوقت وقت الكلام الذي ليس فيه تقوى من الله، ستتحدّثون كثيراً وستحكمون على الناس كثيراً، وستنطلقون مع عواطفكم ومع انفعالاتكم كثيراً، ولكنَّ المسألة أنّ الجوّ يهدأ وسيظهر الحقائق فكيف تواجهون الحقائق؟ عندما تلهبون النار لفريق ضدّ فريق، على ماذا تحصلون من ذلك كلّه؟ اتّقوا الله في كلماتكم، اتّقوا الله في تصريحاتكم، اتّقوا الله في اتّهاماتكم، اتّقوا الله في ذلك كلّه. إذا أراد الناس أن يعرفوا الحقيقة: مَن البادئ ومَن المعتدي، إنّي أقول لا بدّ أن تكون محكمة شرعية مسؤولة حيادية ينطلق فيها أُناس من السّاحة نفسها لتحدّد المسألة كيف حدثت ولماذا وأين؟ لماذا نهرب من أن ننطلق إلى الله وإلى رسوله؟ كانت مشكلة إيران ولا تزال: أنْ حدِّدوا المعتدي وإنّني مستعدّة لكلّ شيء ونحن نقول إذا أردتم أن تحكموا لفريق على فريق أو لجهة على أخرى، وأنتم لم تحضروا كلّ الأمور أو إذا حضرتم كونوا الشهود وإذا كنتم الشهود، كونوا الشهود العدول، لتنطلق محكمة شرعية سياسية أمنية من خلال أشخاص يؤتمنون على حياة الناس وعلى حقيقة الناس ثمّ لنحدِّد ذلك كلّه وليأخذ كلّ فريق بدأ الجريمة حسابه وتقف الأُمّة كلّها ضدّه. أمّا أن تتبادل الاتّهامات عشوائياً بإمكانك أن تتّهم الآخرين وبإمكان الآخرين أن يتّهموك، وبإمكانك أن تكذب وبإمكان الآخرين أن يكذبوا، ما الحصيلة في ذلك كلّه؟ مزيد من المهاترات ومزيد من السباب ومزيد من الشتائم، وماذا يفيد ذلك كلّه والأرض كلّها تهتزّ تحتنا. فلننطلق في هذا المجال على أن نواجه الواقع المأساوي على أساس أن نكون جميعاً الإطفائيّين الذين يريدون إطفاء النار، أن نعمل جميعاً على تثبيت وقف إطلاق النار ليتحدّث الجميع في حلّ المشكلة بطريقة ليس فيها الكثير من التشنُّج، أن ننطلق ليرجع الناس إلى بيوتهم في غير مواقع القتال، لماذا تطلق الصواريخ على المواقع التي ليس فيها قتال، إنَّ الناس لا يستطيعون أن يعيشوا خارج بيوتهم، الفتنة في لبنان موجودة في كلّ مكان، والمشاكل السياسية هي التي تحلّ المشاكل الأمنية، والناس ليسوا مستعدّين لأن ينتظروا طويلاً خارج بيوتهم حتّى تحلّ المشكلة السياسية أو تحلّ المشكلة الأمنية.
في هذا المجال، قلنا مراراً إنّنا لسنا ضدّ أيّ أمن متوازن يحاول أن يحقّق للناس الأمن قبل أن يحدث القتال، كنّا نتحدّث مع كلّ الفعاليات أيّ أمن هو هذا الأمن؟ أمن الضاحية الذي ينطلق فيه المسلَّح ليخطف ويدخل على المرأة في بيتها ليسلب حليّها في وضح النهار وليعبث هذا ويعبث ذاك؟ كنّا نقول لكلّ الناس ـــ وقد سمعتموه منّي مراراً ـــ إنَّ هذا الفلتان الأمني لا يطاق، أَلَم تذكروا ما قلته لكم مرّة: إنّكم إذا دخل عليكم اللّص إلى بيوتكم ولم تستطيعوا أن تقمعوه بطريقة الرّفق أطلقوا عليه الرصاص، لماذا كنّا نقول ذلك، لأنَّ الأمن كان سائباً بكلّ ما للكلمة من معنى، كان الذين يتحمّلون مسؤولية الأمن لا يحفظون الأمن كما يجب أن يحفظ.
مَن يحفظ الأمن في الضاحية
ولهذا كان الجميع يشكون بطريقةٍ أو بأخرى، ليست عندنا مشكلة أن تحكم أيّ جهة تحفظ الأمن، ولكن على أساس ألاّ تأتي هذه الجهة في جوّ نفسي لا يحاول أن يثير الانفعالات وردود الفعل. ما المشكلة؟ إنّهم يتحدّثون عن مسألة دخول السوريين إلى الضاحية(1)، قلنا من البداية إنّ الناس يتعايشون مع الجيش السوري في البقاع ولا مشاكل، والناس يتعايشون مع الجيش السوري في بيروت وليست هناك مشاكل، لكن عندما طرحت مسألة الضاحية خرج تصريح بأنّ هناك حالة شاذّة ويجب أن نقمعها من جذورها، طرحت القضية على أساس أن يوحى لبعض الناس بأنّ سوريا تدخل لمصلحة فريق دون فريق، طرحت المسألة سياسياً من خلال الإعلام الدولي والمحلي؛ أنّ هناك ثمناً يدفع في قبال ضرب الحالة الإسلامية، هذه التهاويل هي التي خلقت المشكلة وإلاّ أيّة مشكلة هي هذه المشكلة، إنَّ الحالة الإسلامية تتعايش مع الإخوة السوريين في البقاع وليست هناك مشاكل إلاّ المشاكل الصغيرة، وفي بيروت أيضاً الناس يتحرّكون ويعيشون ويخطبون ويعظون ويتجمَّعون من دون مشكلة، لهذا قلنا للمعنيين إنَّ عليكم أن تعالجوا المسألة نفسياً قبل أن تعالجوها ميدانياً لأنَّ المسألة النفسية ربّما تحرّك أوضاعاً تجعل الكثيرين يصطادون في الماء العكر، ونحن لا نريد لأحد أن يصطاد في الماء العكر، نحن لا نؤمن بالفوضى، ولكنّنا نريد الأمن العادل المتوازن الذي ينظر إلى الجميع بعينين متساويتين ويزن الواقع بميزانٍ واحد ليعاون الجميع على أن يلتقوا بدلاً من أن يستثيرهم ليتفرَّقوا، ولهذا قلنا ليست هناك مشكلة وليست هناك عقبة، وقلنا إنَّ القضايا عندما تدرس بطريقة واقعية عادلة فمن الممكن أن يحلّ كلّ شيء وليست هناك مشكلة في عداد أيّ شيء، نحن نريد للنّاس الأمن ونريد للمجرمين كلّهم في كلّ مكان أن يعزلهم المجتمع، ولكن إذا لم يستطع المجتمع أن يعزلهم فلا مانع عندنا من أن تأتي أيّة قوّة على أساس أن تعزلهم أو تجمّدهم في كلّ مجال من المجالات، ونحن نعتقد أنّ طبيعة المحادثات التي تتحرّك على المستويات بين القيادة الإسلامية الإيرانية والقيادة العربية السورية في سبيل توفير الجوّ النفسي الذي يجعل المسألة مسألة لا تحمل أيّ نوع من أنواع التشنُّج، إنّنا نعتقد أنّها تمثّل ضمانة كبيرة إذا أُريد للقضية أن تصل إلى نهاياتها، إنّنا نفكّر بهذه الطريقة، ولاسيّما ونحن نعرف شيئاً أساسياً هو أنّ سوريا لا تزال تطرح مقاومة الانعزالية الطائفية في لبنان، ولا تزال تطرح مقاومة "إسرائيل" ولا تزال تطرح مقاومة الاستكبار الأميركي. ولذا، فنحن عندما نطرح هذه القضايا فإنّنا نطرحها ونحن نستطيع أن نؤكّد أنّ هناك تسهيلات كبيرة سابقة كانت من قِبَل القيادة السورية للمقاومة الإسلامية في أكثر من موقع من المواقع على مستوى تسهيل عملية وصول السلاح وعلى مستويات أخرى، ولهذا فإنَّنا، في ضمن وضع متوازن مدروس، ليست عندنا مشكلة من هذه الناحية.
لن أدخل في مهاترات
وهناك ناحية أخرى أحبّ أن أتحدَّث عنها، أمرّ بها مرور الكرام، إنَّ هناك كثيراً من الناس، من الفعاليات ومن الصحافة ومن الناس المضلّلين، يتحدّثون عنّي بطريقة غير مسؤولة عن فتاوى هنا وعن تحليل وتحريم هناك(1)، وقد واجهت هذه الحالة فإنَّ هؤلاء ومن وراءهم صبّوا كلّ حقدهم عليَّ بمختلف الوسائل وقصف بيتي بعشرات القذائف ولولا لطف الله لكانت الكارثة، وكان القصف مركَّزاً، وكانت هناك اعترافات من جهات مسؤولة وغير مسؤولة بأنَّ البيت كان مستهدفاً وأنَّ هجوماً ما، كان يهدف لاحتلال البيت، وهذه أمور تثبت عندي بطريقة كبيرة من الصحّة، إنّني أريد أن أقول أمام كلّ هؤلاء الذين يتحدّثون بهذه الطريقة من فعاليات دينية، أو فعاليات سياسية، أو فعاليات تنظيمية، أو فعاليات حزبية أقول لهم: لن أردّ عليكم بكلمة، لن أُكلِّف نفسي أن أردَّ عليكم، لن أُكلِّف نفسي أن أدخل في نقاش، لن أكلِّف نفسي أن أدخل في مهاترات، لن أكلِّف نفسي أن أقف لأبرّئ نفسي، الله وحده هو الذي يعلم ما تخفي الصدور وهو يعلم كلّ شيء، إنّني أترك حسابكم على الله. لقد واجهت الهجمة الأميركية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الإسرائيلية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت الهجمة الكتائبية على سمعتي وعلى حياتي، وقد واجهت هجمات عربية على سمعتي وعلى حياتي، ما ضرّ أن نضيف إلى كلّ هؤلاء جماعة هنا وجماعة هناك... سأترك حسابكم لله وسأتأسَّى برسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما واجهوه بكلّ الكلمات، سأقول كما قال وسأضرع إلى الله كما ضرع، اللّهم اغفر لقومي فهم لا يعلمون، سأستغفر لكم في اللّيل والنهار وسأطلب من الله ألاّ يعاقبكم على ذلك، أمّا قضية الموقع وأمّا قضية كلّ ذلك، دائماً أقرأ معكم وتقرؤون معي، "إلهي إنْ وَضَعْتني فَمَن ذا الذي يرفعني، وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني".
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خراب
أريد أن أقول لكلّ الفاعليات ولكلّ الناس المستضعفين ولكلّ الناس الطيّبين في الجنوب وفي البقاع وفي بيروت، لقد عشت معكم منذ النبعة، لم أُفارقكم لحظة؛ لقد عشت معكم في النبعة حتّى سقطت النبعة، وعشت الخوف معكم كما عشتموه، وقد عشت معكم في الضاحية أيّام الاجتياح وقد عشت معكم في كلّ الأوضاع، لأنّي لم أتطلّب في هذا البلد موقعاً سياسياً ولم أتطلّب في هذا البلد موقعاً رسمياً ولن أتطلّب، سأظلّ معكم... اشتموني وسأظلّ معكم، سبّوني وسأظلّ أخدمكم وأعظكم، إنّي أحبّكم من كلّ قلبي، إنّي أتحمّل كلّ الأخطار من أجل قضية الحريّة التي أحملها وأحمل خشبتي على كتفي، ليقل كلّ الناس ما يقولون، سأظلّ معكم أيُّها المؤمنون المستضعفون حتّى لو رجمتموني بالحجارة، لأنّني أعرف أنّكم ستكتشفون غداً مَن الذي يريد أن يستغلّكم، ومَن الذي يريد أن يبلغ بكم، حيث يريد الله أن تبلغوا، رضوان الله ومحبّة الله في ذلك كلّه.
أغلقوا هذا الملف
وأخيراً، أريد أن أقول لكم أيُّها الإخوة، اغلقوا هذا الملف، أتوسَّل إلى كلّ المقاتلين أن يعملوا بكلّ طرقهم إلى قياداتهم أن يدرسوا المسألة دراسة واعية وأن يخفّفوا هذا النزف، إنَّ قلبنا يدمى كلّ يوم عندما يسقط قتيل من هذا الطرف أو قتيل من ذاك الطرف، أو جريح من ذاك الطرف أو جريح من هذا الطرف، إنَّنا نريد أن تريحونا من ذلك، ادرسوا المسألة جيّداً، عجِّلوا، نقول لكلّ المتفاوضين عجِّلوا في المفاوضات حتى نصل إلى نتيجة وحتّى نستطيع أن نمنع هذا الدم من الجريان، إنّنا ونحن نريد أن نقول للنّاس خارج الضاحية من موقع مسؤول، ارجعوا للضاحية فليست هناك مشكلة أمنية خارج خطوط التماس الحالية التي نرجو أن تغلق، لا تعيشوا التشريد، إنّكم إذا رجعتم إلى الضاحية فستحرجون الجميع وستستطيعون أن تحلُّوا المشكلة قبل أن تحلّها المفاوضات، لا تستمعوا إلى كلّ الذين يريدون لكم ألاّ ترجعوا، لأنَّ المسألة أنّهم يريدون أن يجعلوا منكم ورقة في اللّعبة السياسية ونحن لا نريد للشعب أن يكون ورقة في اللّعبة السياسية، إنّكم أيُّها الذين ستعيشون في الضاحية، تعيشون بدون مشاكل، إنّهم يقولون للنّاس أشياء كثيرة ولكنَّنا نريد لكم أن تأتوا إلى الضاحية لتعرفوا أنّ كلّ ما تسمعونه هو أوهام وأنَّ كثيراً ممّا تسمعونه أكاذيب، إنّنا ندعوكم من موقع المسؤول، وندعو أيضاً الذين يجلسون وراء المدافع ألاّ يجرّبوا أن يقصفوا الآمنين حتّى يمنعوهم من أن يستقرّوا في الضاحية، إنَّنا لا نعتبر خروج الناس من الضاحية ـــ كما يحاول الإعلام أن يقول ـــ موقفاً سياسياً، ولكنَّنا نعتبره موقفاً أمنيّاً حاولت جهات كثيرة أن تحشد الخوف في نفوس الناس، وعلى الناس أن يأتوا ليروا أنّه ليست هناك إلاّ مشاكل بسيطة في هذا المجال.
نسأل الله أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأُمّة وأن يغيِّر سوء حالنا بحسن حاله، وأن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يجمعنا على الخير والهدى وكلمة التقوى إنّه أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين