معاني المفردات
{ يكْتُمُون } : الكتمان: ترك إظهار الشّيء مع الحاجة إليه، وحصول الدّاعي إلى إظهاره، وما لم يكن كذلك لا يعدُّ كتمانًا.
{ الْبيِّناتِ } : جمع بيِّنة، وهي الدّلالة الواضحة، عقليّةً كانت أو حسِّيّةً. والمراد بها هنا - كما قيل - «الآيات الشّاهدة على أمر محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم »1 .
{ و الْهُدى } : الهداية: دلالةٌ بلطف. وهو الخطُّ الّذي يمثِّل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان، وانفتاحها على الخطِّ المستقيم.
{و يلْعنُهُمُ} : اللّعنة: الإبعاد عن الرّحمة.
{ تابُوا } : التّوبة: الإنابة والرُّجوع عن المعصية إلى الطّاعة، وقد يدخل فيها معنى النّدم.
{و أصْلحُوا} : إصلاح العمل: إخلاصه من قبيح ما يشوبه.
{ و بيّنُوا } : التّبيين: هو التّعريض للعلم الّذي يمكن به صحّة التّمييز.
أمانة العلم بذلُه
ربّما يكون المقصود بهؤلاء الّذين يكتمون ما أنزل الله، أهل الكتاب، أو اليهود منهم خاصّةً، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التّفاسير المتنوِّعة، كما عن ابن عبّاس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم2. ولكنّنا نرى الآية لا تتجمّد عند النّماذج الّتي نزلت فيهم أو انطلقت منهم؛ لأنّ أسباب النُّزول تُعتبر منطلقًا للفكرة من خلال النّموذج الحيِّ في عصر نزول الآية، لتتحرّك الفكرة من خلال الواقع الّذي يقتحم على النّاس حياتهم في نطاق المشكلة الحيّة البارزة. وفي ضوء ذلك، نقرِّر أنّ الآية واردةٌ لتقرير المبدأ العامِّ الشّامل لكلِّ النّاس الّذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيِّنات، وسُبُل الهدى، في ما بيّنه الله للنّاس في كتابه، سواءً كان من الكتب الأولى الّتي أُنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم، أو كان المراد به الكتاب الأخير الّذي هو القرآن؛ فإنّ الإنسان الّذي يملك المعرفة يحمل مسؤوليّتها أمام الله، بأن يبيِّنها للنّاس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها؛ لأنّ في ذلك إخفاءً للحقيقة، وكتمانًا للرِّسالة، ما يوجب وقوع النّاس في الضّلال أو انحرافهم عن خطِّ الحقِّ وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة. وهذا مخالفٌ للسُّنّة الإلهيّة الّتي درجت على إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، ليفتحوا عيون النّاس وقلوبهم على الحقيقة، وليخطِّطوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم.
ولمّا كانت أعمار الأنبياء محدودةً، وكانت وسائل وصول الرِّسالات والكتب السّماويّة مرتبطةً بالظُّروف الموضوعيّة الّتي تتحرّك فيها الرِّسالات، كان لزامًا على أتباع الأنبياء والرِّسالات أن يحملوا هذه الأمانة الّتي حملها الأنبياء، ويبلّغوها من جيلٍ إلى جيلٍ، لتتّصل الحلقات في سلسلةٍ واحدةٍ، ولترتكز المراحل المتعدِّدة على أساس خطّةٍ ثابتةٍ ممتدّةٍ، ولتتحرّك الحياة في خطوات الرِّسالات خطوةً خطوةً. ولولا ذلك لماتت الرِّسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الظُّروف بانطلاقة مصلحٍ أو متحمِّسٍ تدفعه نزعته الإصلاحيّة، أو حماسته الإيمانيّة، إلى حمل الرِّسالة من جديدٍ. وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة.
ملعونٌ من كتم حقًّا
{إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ} الدّالّة على نبوّة النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى كلِّ الحقائق العقيديّة والشّرعيّة والمنهجيّة، الّتي أراد الله للنّاس أن يعتقدوها، أو يعملوا بها، أو ينفتحوا عليها، ممّا يمثِّل صلاح دنياهم وآخرتهم، { و الْهُدى } وهو الخطُّ الّذي يمثِّل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان وانفتاحها على الخطِّ المستقيم الّذي أنزله الله على رسله، {مِنْ بعْدِ ما بيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ} ، وهو التّوراة والإنجيل، «وقيل: في الكتب المنزلة من عند الله»3 ، الشّاملة للقرآن، فإنّ القضيّة المطروحة لدينا هي أنّ الوحي يبيِّن الحقيقة للنّاس ليحملوها ويبلِّغوها إلى من حولهم ومن بعدهم، حتّى تنتشر في الوجدان العامِّ للنّاس من جيلٍ إلى جيل؛ لأنّ الله لم يُنزل وحيه لجماعةٍ معيّنةٍ أو لمرحلةٍ معيّنةٍ، بل أنزله للحياة كلِّها في كلِّ زمانٍ ومكان.
ولا معنى لأن تكون القضيّة خاضعةً لسؤال السّائلين وفحص الباحثين؛ لأنّ النّاس قد يخضعون لغفلةٍ مطبقةٍ أو لتوجيهٍ سيِّئٍ يُبعد التّفكير عن مساره الطّبيعيِّ، بما يثير من قضايا أو يواجه من علامات الاستفهام. ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّ مسؤوليّة العلماء بالله وبشريعته الإسلاميّة كبيرةٌ جدًّا في مجالات التّبليغ الإسلاميِّ، تبعًا للحجم الّذي يمثِّلونه في المعرفة العلميّة، وفي المساحة الإعلاميّة الّتي يملكونها في حياة المجتمع، وفي القوّة الاجتماعيّة الّتي يستطيعون أن يستخدموها في مجال الدّعوة إلى الله، ولا سيّما في الحالات الّتي يتعرّض فيها الفكر الإسلاميُّ أو الشّريعة الإسلاميّة للخطر من قِبل أعداء الله؛ فإنّ الاستسلام للاسترخاء الفكريِّ والعمليِّ الّذي يغريهم بالبحث عن المبرِّرات للتّقاعس عن الانطلاق، ولكتمان الحقِّ عمّن يحتاجه من الجاهلين والغافلين، يُعتبر خيانةً للإسلام وللمسلمين، ومصداقًا لقوله تعالى في هذه الآية: {أُولئِك يلْعنُهُمُ اللّهُ} ، وذلك بأن يبعدهم عن رحمته ويطردهم من ساحة رضوانه، {و يلْعنُهُمُ اللاّعِنُون} بالدُّعاء عليهم بإبعاد الله لهم عن الرّحمة؛ لأنّ ذلك هو الّذي تقتضيه خيانتهم لأمانة المعرفة الرِّساليّة، من خلال ما توحيه من ابتعادهم العمليِّ عن خطِّ المسؤوليّة، ورغبتهم عن مواقع رضوانه، واستهانتهم بالرِّسالة الّتي يريد الله لها الانتشار والشُّمول في النّاس جميعًا.
وقد يؤكِّد ذلك الحديث الشّريف المأثور: «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»4. وجاء عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام قال: «قرأت في كتاب عليٍّ عليه السلام : إنّ الله لم يأخذ على الجُهّال عهدًا بطلب العلم، حتّى أخذ على العلماء عهدًا ببذل العلم للجُهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»5. وجاء عن النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه الله عزّ وجلّ بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة»6.
التّوبة وتصحيح المسار
وقد جاءت الآية الثّانية لتوحي للسّائرين في هذا السّبيل بالتّراجع عن هذا الخطِّ المنحرف، وبالعودة إلى الله، والتّوبة عن هذا الخطأ الكبير، وذلك بالسّير من جديدٍ في طريق الإبلاغ والدّعوة والبيان، ولتعرِّفهم أنّ الله يتقبّل التّائبين الصّالحين المصلحين، فيقبل توبتهم ويجزل ثوابهم على العمل الصّالح الجديد؛ لأنّه التّوّاب الّذي لا يحرم أيّ تائبٍ من قبول التّوبة، ولا يمنع أحدًا من رحمته الّتي سبقت غضبه وأحاطت بكلِّ شيءٍ.
{إِلاّ الّذِين تابُوا} ، وأنابوا إلى الله، وغيّروا، وبدّلوا، وبدؤوا بحمل الرِّسالة والدّعوة إليه تعالى. {و أصْلحُوا} أمرهم في سرِّهم وعلانيتهم، فكان الصّلاح في النِّيّة والعمل هو الطّابع الجديد للحياة الّتي يعيشونها. { و بيّنُوا } للنّاس الحقائق الإلهيّة الّتي كتموها، وانطلقوا من جديدٍ في خطوةٍ تصحيحيّةٍ ليكونوا الدُّعاة إلى الله، الأدلاّء على دينه، القادة إلى سبيله، {فأُولئِك أتُوبُ عليْهِمْ} ، فأغفر لهم ما أسلفوه من الذُّنوب، {و أنا التّوّابُ} على المذنبين { الرّحِيمُ } للخاطئين المنيبين.
المعرفة مسؤوليّةٌ لا امتيازٌ
وهكذا نقف في هاتين الآيتين على أحد المبادئ الإسلاميّة الّتي تعتبر المعرفة مسؤوليّةً وليست امتيازًا، وتدعو النّاس إلى أن يخلصوا لهذه المسؤوليّة بالعمل على أن تتحرّك المعرفة في كلِّ المجالات الإنسانيّة، فلا إخفاء لحقيقة، ولا كتمان لأيِّ حقٍّ، بل هو الوضوح الكامل من خلال الدّعوة الشّاملة. والله العالم.
1.الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 325.
2.انظر: الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 2، ص 45 - 46. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج1، ص 446.
3.الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 446.
4.الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 54، ح 2.
5.م. ن، ص 41، ح 1.
6.أحمد بن حنبل، مسند أحمد، م. س، ج 2، ص 344.
معاني المفردات
{ يكْتُمُون } : الكتمان: ترك إظهار الشّيء مع الحاجة إليه، وحصول الدّاعي إلى إظهاره، وما لم يكن كذلك لا يعدُّ كتمانًا.
{ الْبيِّناتِ } : جمع بيِّنة، وهي الدّلالة الواضحة، عقليّةً كانت أو حسِّيّةً. والمراد بها هنا - كما قيل - «الآيات الشّاهدة على أمر محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم »1 .
{ و الْهُدى } : الهداية: دلالةٌ بلطف. وهو الخطُّ الّذي يمثِّل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان، وانفتاحها على الخطِّ المستقيم.
{و يلْعنُهُمُ} : اللّعنة: الإبعاد عن الرّحمة.
{ تابُوا } : التّوبة: الإنابة والرُّجوع عن المعصية إلى الطّاعة، وقد يدخل فيها معنى النّدم.
{و أصْلحُوا} : إصلاح العمل: إخلاصه من قبيح ما يشوبه.
{ و بيّنُوا } : التّبيين: هو التّعريض للعلم الّذي يمكن به صحّة التّمييز.
أمانة العلم بذلُه
ربّما يكون المقصود بهؤلاء الّذين يكتمون ما أنزل الله، أهل الكتاب، أو اليهود منهم خاصّةً، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التّفاسير المتنوِّعة، كما عن ابن عبّاس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم2. ولكنّنا نرى الآية لا تتجمّد عند النّماذج الّتي نزلت فيهم أو انطلقت منهم؛ لأنّ أسباب النُّزول تُعتبر منطلقًا للفكرة من خلال النّموذج الحيِّ في عصر نزول الآية، لتتحرّك الفكرة من خلال الواقع الّذي يقتحم على النّاس حياتهم في نطاق المشكلة الحيّة البارزة. وفي ضوء ذلك، نقرِّر أنّ الآية واردةٌ لتقرير المبدأ العامِّ الشّامل لكلِّ النّاس الّذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيِّنات، وسُبُل الهدى، في ما بيّنه الله للنّاس في كتابه، سواءً كان من الكتب الأولى الّتي أُنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم، أو كان المراد به الكتاب الأخير الّذي هو القرآن؛ فإنّ الإنسان الّذي يملك المعرفة يحمل مسؤوليّتها أمام الله، بأن يبيِّنها للنّاس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها؛ لأنّ في ذلك إخفاءً للحقيقة، وكتمانًا للرِّسالة، ما يوجب وقوع النّاس في الضّلال أو انحرافهم عن خطِّ الحقِّ وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة. وهذا مخالفٌ للسُّنّة الإلهيّة الّتي درجت على إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب، ليفتحوا عيون النّاس وقلوبهم على الحقيقة، وليخطِّطوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم.
ولمّا كانت أعمار الأنبياء محدودةً، وكانت وسائل وصول الرِّسالات والكتب السّماويّة مرتبطةً بالظُّروف الموضوعيّة الّتي تتحرّك فيها الرِّسالات، كان لزامًا على أتباع الأنبياء والرِّسالات أن يحملوا هذه الأمانة الّتي حملها الأنبياء، ويبلّغوها من جيلٍ إلى جيلٍ، لتتّصل الحلقات في سلسلةٍ واحدةٍ، ولترتكز المراحل المتعدِّدة على أساس خطّةٍ ثابتةٍ ممتدّةٍ، ولتتحرّك الحياة في خطوات الرِّسالات خطوةً خطوةً. ولولا ذلك لماتت الرِّسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الظُّروف بانطلاقة مصلحٍ أو متحمِّسٍ تدفعه نزعته الإصلاحيّة، أو حماسته الإيمانيّة، إلى حمل الرِّسالة من جديدٍ. وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة.
ملعونٌ من كتم حقًّا
{إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزلْنا مِن الْبيِّناتِ} الدّالّة على نبوّة النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى كلِّ الحقائق العقيديّة والشّرعيّة والمنهجيّة، الّتي أراد الله للنّاس أن يعتقدوها، أو يعملوا بها، أو ينفتحوا عليها، ممّا يمثِّل صلاح دنياهم وآخرتهم، { و الْهُدى } وهو الخطُّ الّذي يمثِّل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان وانفتاحها على الخطِّ المستقيم الّذي أنزله الله على رسله، {مِنْ بعْدِ ما بيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ} ، وهو التّوراة والإنجيل، «وقيل: في الكتب المنزلة من عند الله»3 ، الشّاملة للقرآن، فإنّ القضيّة المطروحة لدينا هي أنّ الوحي يبيِّن الحقيقة للنّاس ليحملوها ويبلِّغوها إلى من حولهم ومن بعدهم، حتّى تنتشر في الوجدان العامِّ للنّاس من جيلٍ إلى جيل؛ لأنّ الله لم يُنزل وحيه لجماعةٍ معيّنةٍ أو لمرحلةٍ معيّنةٍ، بل أنزله للحياة كلِّها في كلِّ زمانٍ ومكان.
ولا معنى لأن تكون القضيّة خاضعةً لسؤال السّائلين وفحص الباحثين؛ لأنّ النّاس قد يخضعون لغفلةٍ مطبقةٍ أو لتوجيهٍ سيِّئٍ يُبعد التّفكير عن مساره الطّبيعيِّ، بما يثير من قضايا أو يواجه من علامات الاستفهام. ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّ مسؤوليّة العلماء بالله وبشريعته الإسلاميّة كبيرةٌ جدًّا في مجالات التّبليغ الإسلاميِّ، تبعًا للحجم الّذي يمثِّلونه في المعرفة العلميّة، وفي المساحة الإعلاميّة الّتي يملكونها في حياة المجتمع، وفي القوّة الاجتماعيّة الّتي يستطيعون أن يستخدموها في مجال الدّعوة إلى الله، ولا سيّما في الحالات الّتي يتعرّض فيها الفكر الإسلاميُّ أو الشّريعة الإسلاميّة للخطر من قِبل أعداء الله؛ فإنّ الاستسلام للاسترخاء الفكريِّ والعمليِّ الّذي يغريهم بالبحث عن المبرِّرات للتّقاعس عن الانطلاق، ولكتمان الحقِّ عمّن يحتاجه من الجاهلين والغافلين، يُعتبر خيانةً للإسلام وللمسلمين، ومصداقًا لقوله تعالى في هذه الآية: {أُولئِك يلْعنُهُمُ اللّهُ} ، وذلك بأن يبعدهم عن رحمته ويطردهم من ساحة رضوانه، {و يلْعنُهُمُ اللاّعِنُون} بالدُّعاء عليهم بإبعاد الله لهم عن الرّحمة؛ لأنّ ذلك هو الّذي تقتضيه خيانتهم لأمانة المعرفة الرِّساليّة، من خلال ما توحيه من ابتعادهم العمليِّ عن خطِّ المسؤوليّة، ورغبتهم عن مواقع رضوانه، واستهانتهم بالرِّسالة الّتي يريد الله لها الانتشار والشُّمول في النّاس جميعًا.
وقد يؤكِّد ذلك الحديث الشّريف المأثور: «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»4. وجاء عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام قال: «قرأت في كتاب عليٍّ عليه السلام : إنّ الله لم يأخذ على الجُهّال عهدًا بطلب العلم، حتّى أخذ على العلماء عهدًا ببذل العلم للجُهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»5. وجاء عن النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه الله عزّ وجلّ بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة»6.
التّوبة وتصحيح المسار
وقد جاءت الآية الثّانية لتوحي للسّائرين في هذا السّبيل بالتّراجع عن هذا الخطِّ المنحرف، وبالعودة إلى الله، والتّوبة عن هذا الخطأ الكبير، وذلك بالسّير من جديدٍ في طريق الإبلاغ والدّعوة والبيان، ولتعرِّفهم أنّ الله يتقبّل التّائبين الصّالحين المصلحين، فيقبل توبتهم ويجزل ثوابهم على العمل الصّالح الجديد؛ لأنّه التّوّاب الّذي لا يحرم أيّ تائبٍ من قبول التّوبة، ولا يمنع أحدًا من رحمته الّتي سبقت غضبه وأحاطت بكلِّ شيءٍ.
{إِلاّ الّذِين تابُوا} ، وأنابوا إلى الله، وغيّروا، وبدّلوا، وبدؤوا بحمل الرِّسالة والدّعوة إليه تعالى. {و أصْلحُوا} أمرهم في سرِّهم وعلانيتهم، فكان الصّلاح في النِّيّة والعمل هو الطّابع الجديد للحياة الّتي يعيشونها. { و بيّنُوا } للنّاس الحقائق الإلهيّة الّتي كتموها، وانطلقوا من جديدٍ في خطوةٍ تصحيحيّةٍ ليكونوا الدُّعاة إلى الله، الأدلاّء على دينه، القادة إلى سبيله، {فأُولئِك أتُوبُ عليْهِمْ} ، فأغفر لهم ما أسلفوه من الذُّنوب، {و أنا التّوّابُ} على المذنبين { الرّحِيمُ } للخاطئين المنيبين.
المعرفة مسؤوليّةٌ لا امتيازٌ
وهكذا نقف في هاتين الآيتين على أحد المبادئ الإسلاميّة الّتي تعتبر المعرفة مسؤوليّةً وليست امتيازًا، وتدعو النّاس إلى أن يخلصوا لهذه المسؤوليّة بالعمل على أن تتحرّك المعرفة في كلِّ المجالات الإنسانيّة، فلا إخفاء لحقيقة، ولا كتمان لأيِّ حقٍّ، بل هو الوضوح الكامل من خلال الدّعوة الشّاملة. والله العالم.
1.الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 325.
2.انظر: الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 2، ص 45 - 46. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج1، ص 446.
3.الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 446.
4.الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 1، ص 54، ح 2.
5.م. ن، ص 41، ح 1.
6.أحمد بن حنبل، مسند أحمد، م. س، ج 2، ص 344.