"الفقه" من أجلّ العلوم الإسلاميّة وأهمّها، ويعني العلم بالشّيء والفهم الدّقيق له، وهو في اصطلاح الفقهاء، علم نظريّ استدلاليّ اجتهاديّ، يسعى من خلاله الفقيه لتحديد الحكم الشّرعي تجاه مجمل القضايا، والّذي يجب على المكلّف اتّباعه ليكون مبرأ الذمّة أمام الله تعالى. وكما هو معلوم، فإنّ الحكم الشّرعيّ هو التّشريع الصادر عن الله تعالى لتنظيم حياة النّاس على المستويات كافّة، عامّةً وخاصّة.
وهناك من الأحكام الشّرعيّة ما هو إلزامي بالمعنى الفقهيّ، وهو الّذي يدلّ على الوجوب والحرمة، كوجوب الصّلاة والصّوم وغير ذلك، وكحرمة شرب الخمر وقتل النفس المحترمة وغيرها.
والبعض يرى أنّ من وظيفة الفقيه، البحث والنّظر في الفقه الإلزاميّ، بما يختصّ بتبيان الحلال والحرام من الأحكام دون الفقه الترخيصي، أي الأحكام التي تندرج تحت عناوين الاستحباب والكراهة والإباحة، لا بل يتطرّف هذا البعض ليقول بأنَّ الأخذ بالفقه الترخيصي يعتبر خروجاً عن الدّين وأساسه، باعتبار أنّ ذلك يفتح المجال أمام المكلّف للخوض في المباحات والاستحبابات، على حساب بالحلال والحرام، وهو ما يترك أيضاً أثراً نفسيّاً على المكلّف، لجهة عدم توطين النّفس وتعويدها على التقيّد بالأحكام الإلزاميّة من حرمة ووجوب، أو على الأقلّ استسهال التّفريط بهذه الأحكام!
ولكن، مَن قال ذلك؟ فالمكلّف الواعي أوّلاً، لا يستسهل حكم الله الإلزامي، لا بل يحرص على التزامه به، إذ يعرف ما عليه من مسؤوليّة داخلة في ذمّته، لجهة فعل الواجب وترك المحرّم. وثانياً: ما المانع من معرفته بالفقه الترخيصي وأخذه به، ما دام ثابتاً وواضحاً في الشرّع، والله تعالى منحه هذا الترخيص كي يخفِّف عنه، ويرفع عنه العسر، ويحبّبه إلى طريق الدّين والشّريعة السّهلة السمحاء..
فليس صحيحاً الادّعاء بأنّه لا بدّ من حصر وظيفة الفقيه في التركيز على الفقه الإلزامي وتبليغه بكلّ الوسائل للمكلّفين، وإهمال الفقه الترخيصي، إذ أغلب ما جاء في الشّرع هو ترخيصيّ للمكلّف.
العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، في ردِّه على سؤال حول وظيفة الفقيه، بأنَّ عليه بيان الفقه الإلزامي وليس الترخيصي، وأنّ الفقيه إذا أخذ من الفقه الأحكام الترخيصيّة، يكون ذلك خروجاً عن الدين؟ يقول:
"أنا لا أفهم هذا الكلام، فالماء حلال، هذا فقه ترخيصي، وكذلك فإنّ الإنسان يعيش مع زوجته، فهذا أيضاً حلال، وهو فقه ترخيصي، والإنسان يشتري بيتاً، هذا حلال، وهذا فقه ترخيصي، ففي الإسلام 70% من الفقه مباحات، والنبيّ(ص) يقول: "أتيتكم بالشّريعة السّهلة السّمحاء"،
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
ففي علم الأصول، هناك مصطلح (دليل الانسداد)، فالأصوليّون يفترضون أنه لو سدّ عندنا باب العلم بالأحكام، ولم يبقَ طريق آخر، بمعنى أنّه ليس لدينا طرق يقينيّة 100%، وليس لدينا حجج شرعيّة تبيّن لنا الأحكام الشرعيّة، بحيث سدّ باب العلم والعلم اليقيني وعلم الحجج الشرعية الخاصّة.. ففي بعض الفروض يمكن أن ترجع إلى (البراءة)، فكلّ شيء تشكّ فيه حرام هو أم حلال، فالأصل الإباحة، وإذا صار كلّ شيء تشكّ فيه مباحاً، فإنّ ذلك يستلزم الخروج من الدّين، هذا صحيح في مقام الشّكّ في الأحكام الشرعيّة، وهو عدم وجود دليل علميّ ثابت، أمّا إذا اجتهد المجتهدون من خلال كتاب الله وسنّة نبيّه، وثبت لهم أنّ هذا الشّيء حلال وهذا حرام، فقالوا بالحلال لأنّ الحجّة قالت بالحليّة والدين فيه حلال وحرام..
لذلك، فأنا لا أفهم كيف تكون الفتيا في الأحكام الترخيصيّة خروجاً عن الدّين، في الوقت الّذي يُضاف لهذه الأحكام الترخيصيّة ما ثبت من الأحكام الإلزاميّة، سواء كانت واجبة أو محرّمة".
[النّدوة، ج:1، ص:512-513].
والسؤال: هل علينا أن نلغي 70% من الفقه، ونحصره في دائرة 30% من الأحكام الإلزاميّة؟ وعلى أيّ أساس علميّ يجوز لنا ذلك؟
إنَّ على الّذين يطلقون المواقف في الدَّائرة العلميَّة، أن يكونوا على علمٍ كامل وإحاطة شاملة لما يدَّعونه من آراء، منعاً لحصول الالتباس وإثارة الشّبهات الّتي لا تصمد أمام النّقد العلميّ.
من هنا، لا بدّ من توخي الإحاطة والدقّة في طرح الرأي العلمي مهما كان، والتّعبير عنه بحكمة ومسؤوليّة، لأنّ دين الله يستدعي وجود من يرعاه ويحفظ حدوده وأصوله، بعيداً من الآراء المتطرفة وغير المتّزنة...
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.