من أدعية الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): "اللَّهُمّ صّلِّ علَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وصَيِّرْنَا إلى مَحْبُوبِكَ مِنَ التَّوْبَةِ، وأزِلْنا عَنْ مَكْروهِكَ مِنَ الإصْرار. اللّهُمّ ومتَى وقَفْنَا بَيْنَ نَقْصَيْن في دينٍ أو دُنْيَا، فأوْقِعِ النَّقْصَ بأسْرَعِهِما فَنَاءً، واجْعلِ التَّوبَةَ في أطْوَلِهِما بَقاءً".
* * *
إنّ شوقنا للحصول على مغفرتك يا رب يتحرك في وجداننا من الانفتاح على آفاق التوبة في حياتنا، من خلال الرفض الفكري للذنب الذي يعبّر عن حالة التمرّد العملي على أوامرك ونواهيك، والرغبة في التخفّف من النتائج السلبية التي تثيرها الخطايا في النفس في تأثيراتها الشعورية المضادّة على طهارة الذات، والهروب من أشباح المستقبل الأخروي الذي قد تضعنا المعاصي فيه أمام غضبك وسخطك، الذي يجرّنا إلى مواقع عذابك، ليواجه ـ بدلاً منه ـ الأجواء الحميمة التي ترفعنا إليها التوبة في رحاب محبتك ورضوانك.
إننا الخطّاؤون ـ يا رب ـ الذين التهبت دماؤهم بلهيب غرائزهم، واهتزّت مشاعرهم باهتزاز رغباتهم، وعصفت الخيالات السوداء في أجواء عقولهم، والأماني الحمراء في أعماق وجدانهم، ونحن نحبّ أن تنطلق حياتنا في اتجاه الحصول على محبّتك، والبعد عن مواقع كراهتك.
إننا في توقٍ روحي إلى الخلاص من الخطايا، ولكننا قد نضعف أمام ضغط النفس الأمّارة بالسوء، فامنحنا مساعدتك الإلهية، في تحويل واقعنا إلى واقعٍ للإيمان والتقوى، وذلك بالمصير إلى التوبة التي تحبها لعبادك كما تحب عبادك من خلالها، وبالبعد عن الإصرار الذي تتجمّد فيه الذات في دائرة المعصية فلا تخرج منها، فأنت تكره منا ذلك من خلال ما يوحيه من معنى التحجّر الروحي، والانحراف العملي.
حرّرنا ـ يا ربّ ـ من الضغط الهائل الذي يضغط به الشيطان على حياتنا، فينحرف بنا عن الخط المستقيم الذي يؤدّي إلى رضاك، لنكون الأحرار في إرادة الطاعة أمام الشيطان، فنؤكّد بذلك عبوديتنا لك.
يا ربّ، قد تتحرك بنا الحياة، فيستقيم لنا فيها العمل الصالح النافع الذي تجتمع فيه ـ لنا ـ سلامة الدين والدنيا، فيكتمل لنا النفع في هذا وتلك، فلا نشعر بحرج فيما نمارسه منهما، ولا نواجه أية مشكلة في ذلك.
ولكن قد نلتقي بموقف يفرض علينا الخيار الصعب، بين أن نقع في نقص الدين بالانحراف عن خط الاستقامة، والوقوع في ضغط المعصية، وأن نقع في نقص الدنيا بالخسارة في بعض مكاسبنا، والخلل في بعض أوضاعنا، والفشل في بعض خططنا، فلا نستطيع أن نتفادى أحدهما إلا على أساس الوقوع في الآخر. فكيف نتصرف أمام ذلك كله؟
إننا نتوسّل إليك ـ يا رب ـ أن تجعلنا نختار في إرادتنا نقص الدنيا ونبتعد عن نقص الدين، لأن نقص الدنيا يزول ويفنى، فلا يترك أيّ تأثير على قضية المصير، فيما يتركه النقص من النتائج السلبية، لأن الدنيا لا تبقى في كل أوضاعها وقضاياها. ووفقنا لأن نعيش النتائج الإيجابية من لطفك ورحمتك في الخط الذي يرتبط بالإيمان بك، ويمتد من الدنيا إلى الآخرة، لينفتح على مواقع رضاك يوم يقف الناس بين يديك.
وربما كان المراد بكلمة التوبة، هذا المعنى الذي ألمحنا إليه، باعتبار أنّه النتيجة الطبيعية لها، وربما كان المقصود من الكلمة، الانضباط في حركة المحافظة على الكمال في المسألة العملية في الخط الديني، وتفضيله على الكمال في المسألة الدنيوية. وربما فسّر البعض في الدّنيا النتائج السلبيّة التي تحدث من المعاصي، مما ينـزله الله بالإنسان من النقصان في القضايا المتعلقة بدنياه، أما النقص في الدين، فهو الحرمان من بعض الأعمال العبادية أو الخيرية التي تقرّبه إلى الله، وهذا ما تحدّث عنه السيد علي خان في كتابه "رياض السالكين"، قال: "والحاصل، أنه لما كان من الذنوب والمعاصي ما يستلزم إمّا خسراناً في الدّنيا، كما قال تعالى: {ومَا أصابَكُم مِنْ مُصيبةٍ فبِمَا كسَبَتْ أيديكُم} (الشورى: 30)، وكما روي عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: "وأيم الله، ما كان قوم قطُّ في خفض عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها".. أو خسراناً في الدين، كما روي عن النبي(ص) أنه قال: "إن العبد ليذنب الذنب، فينسى به العلم الذي كان قد علمه، وإن العبد ليذنب الذنب، فيمتنع به من قيام الليل". وعن أبي عبد الله(ع): "إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل".
فقد سأل(ع) ربّه أن يوقع الخسران في الدّنيا، ويتوب عليه من الخسران في الدّين".
وهذا المعنى غير واضح، لأن سياق الدعاء هو النقص الذي يقوم به العبد، لا النقص الذي يقضي به الله كعقوبةٍ للعبد على فعل الذنب، وذلك باعتبار التأكيد على الحصول على العصمة من نقص الدين الذي يمتدّ أثره إلى الآخرة بالابتعاد عنه إلى نقص الدنيا الذي يفنى بفناء الدنيا.
إن الفكرة هي أن يقف الإنسان ليوازن بين الدنيا والآخرة في أعماله وأقواله وعلاقاته التي قد تنقص دينه وقد تنقص دنياه، فلا بدّ له من أن يختار التضحية ببعض أوضاع دنياه، لمصلحة بعض أوضاع دينه، لأن ذلك هو علامة الإخلاص لله، والاستغراق في الرغبة العميقة المخلصة بالحصول على رضوانه ومغفرته.
[من كتاب "آفاق الروح" ،ج 1، ص 206- 208].