بالسند المتصل إلى محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي المغرا، عن
يزيد بن خليفة، قال: قال أبو عبد الله(ع): "كلّ رياء شرك؛ إنه من عمل للناس كان
ثوابه على الناس، ومن عمل لله، كان ثوابه على الله".
اعلم أنّ الرياء هو عبارة عن إظهار وإبراز شيء من الأعمال الصالحة أو الصفات
الحميدة أو العقائد الحقة الصحيحة، للناس، لأجل الحصول على منزلة في قلوبهم،
والاشتهار بينهم بالصلاح والاستقامة والأمانة والتدين، بدون نيّة إلهية صحيحة. وهذا
الأمر يتحقّق في عدة مقامات.
المقام الأوّل: وله درجتان:
الأولى: وهي أن يظهر العقائد الحقة والمعارف الإلهية، من أجل أن يشتهر بين الناس
بالديانة، ومن أجل الحصول على منزلة في القلوب، كأن يقول: «إني لا أعتبر أن هناك
مؤثراً في الوجود إلا الله»، أو أن يقول: «إني لا أتوكل على أحد سوى الله»، أو أن
يثني على نفسه كناية أو إشارة بامتلاك العقائد الحقة، وهذا الأسلوب هو الأكثر رواجاً.
فمثلاً، عندما يجري حديث عن التوكل أو الرضا بقضاء الله، يجعل الشخص المرائي نفسه
في سلك أولئك الجمع بواسطة تأوّهه أو هزّ رأسه.
الثانية: وهي أن يبعد عن نفسه العقائد الباطلة، وينزّه نفسه عنها، لأجل الحصول على
الجاه والمنزلة في القلوب، سواء أكان ذلك بصراحة القول أم بالاشارة والكناية.
المقام الثاني: وفيه أيضاً مرتبتان:
إحداهما: أن يظهر الخصال الحميدة والملكات الفاضلة، والأخرى: أن يتبرأ مما يقابلها،
وأن يزكّي نفسه للغاية نفسها التي أصبحت معلومة.
المقام الثالث:
وهو الرياء المعروف عند الفقهاء الماضين ـ رضوان الله عليهم ـ وله أيضاً نفس تلكما
الدرجتين، إحداهما: أن يأتي بالأعمال والعبادات الشرعية، أو أن يأتي بالأمور
الراجحة عقلاً، بهدف مراءاة الناس وجلب القلوب، سواء أن يأتي بالعمل نفسه بقصد
الرياء، أو بكيفيته، أو شرطه أو جزئه بقصد الرياء على الشكل المذكور في الكتب
الفقهية. ثانيهما: أن يترك عملاً محرماً أو مكروهاً بنفس الهدف المذكور.
ونحن نشرح في هذه الأوراق، بعضاً من مفاسد كلّ واحد من هذه المقامات الثلاثة، ونشير
إلى ما يبدو علاجاً لها على نحو الاختصار.
*المقام الأول (الرياء):
اِعلم أن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهيّة أشدّ من جميع أنواع الرياء
عذاباً وأسوأها عاقبة، وظلمته أعظم وأشدّ من ظلمات جميع أنواع الرياء. وصاحب هذا
العمل إذا كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الذي يظهره، فهو من المنافقين، أي أنه
مخلَّد في النار، وأن هلاكه أبدي، وعذابه أشد العذاب.
وأما إذا كان معتقداً بما يظهر، لكنه يظهره من أجل الحصول على المنزلة والرتبة في
قلوب الناس، فهذا الشخص وإن لم يكن منافقاً، إلا أنّ رياءه يؤدي إلى اضمحلال نور
الإيمان في قلبه، ودخول ظلمة الكفر إلى قلبه، فإنّ هذا الشخص يكون مشركاً، ولكن في
الخفاء، لأن المعارف الإلهية والعقائد الحقّة، التي يجب أن تكون خالصة لله، ولصاحب
تلك الذات المقدَّسة، قد حوَّلها ـ المرائي ـ إلى الناس، وأشرك فيها غيره، وجعل
الشيطان متصرفاً فيه، فهذا القلب ليس لله.
ونحن سنذكر في أحد الفصول؛ أن الإيمان من الأعمال القلبية، وليس هو مجرّد علم، وقد
جاء في الحديث الشريف: "كل رياء شرك".
ولكن هذه الفجيعة الموبقة، وهذه السريرة المظلمة، وهذه الملكة الخبيثة، تؤدّي
بالإنسان في النهاية، إلى أن تصبح دار قلبه مختصة بغير الله، وتؤدي ظلمة هذه
الرذيلة بالإنسان تدريجياً إلى الخروج من هذه الدنيا بدون إيمان.
وهذا الإيمان الخيالي الذي يمتلكه، هو صورة بلا معنى، وجسد بلا روح، وقشر بلا لبّ،
ولا يكون مقبولاً عند الله تعالى، كما أشير إليه في حديث مذكور في كتاب الكافي، عن
علي بن سالم، قال: «سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: قال الله عزّ وجل: أنا خير شريك، من
أشرك معي غيري في عمل عمله، لم أقبله إلا ما كان لي خالصاً».
وبديهي أنّ الأعمال القلبية في حال عدم خلوصها، لا تصبح مورداً لتوجه الحقّ تعالى،
ولا يتقبّلها، بل يوكلها إلى الشريك الآخر، الذي كان يعمل له ذلك الشّخص مراءاة.
إذاً، فالأعمال القلبية تصبح مختصّة بذلك الشخص، وتخرج من حدّ الشِّرك، وتدخل إلى
الكفر المحض، بل ويمكن القول إنَّ هذا الشخص هو من جملة المنافقين. وكما أنّ شركه
خفيّ، فنفاقه خفي أيضاً، فهذا المسكين يتصوّر أنه مؤمن، ولكنه مشرك منذ البداية،
وفي النتيجة، هو منافق، وعليه أن يذوق عذاب المنافقين، وويل للذي ينتهي عمله إلى
النفاق.