الأخوَّة في الإيمان

الأخوَّة في الإيمان

ونبقى مع القرآن في العناصر الحيوية لشخصية الإنسان المؤمن التي تمثل عمق الإيمان في معناه في الشخصيّة، وفي معناه في العلاقات، من خلال ما تختزنه الشخصية من هذه القاعدة الروحيّة، فنلتقي بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات؛ 10)، هذه الفقرة من الآية تؤكِّد أنَّ من العناصر الأساسيَّة لشخصيَّة المؤمن، هي أن يعيش الإحساس بالأخوّة مع المؤمن الآخر، بحيث يدرس ما هي علاقته بأخيه، ويستعرض طبيعة هذه العلاقة.

العلاقة النسبيّة

ونحن نعرف أنّ العلاقة في معناها المادّي هي النّسب، وعلاقة الدّم الذي يشترك فيه الناس في علاقة القرابة، أمّا العناصر الأخرى التي ينفتح فيها الإنسان على أخيه عاطفياً، أو التي يألف فيها الإنسان أخاه، أو التي يشعر فيها بالعلاقة الواقعيّة التي تربطه بأخيه، فهي عناصر طارئة وليست عميقة، فالبيت الواحد الذي يضمّ الإخوة هو الذي يصنع الألفة فيما بينهم، والمصير الواحد بحسب الظروف الموضوعيَّة هو الذي يجمع الإخوة على التّناصر وعلى التعاون، وتلعب الأجواء العائليّة البيتيّة دوراً في التماس بين الأخ وأخيه تحت ظلال الوالدين اللّذين يحشدان في مشاعرهم معنى المحبّة والعاطفة.

هذا هو الذي يجعل علاقة الدم منفتحة على علاقة القلب والواقع، فلا بدّ للإنسان أن يدرس ذلك، وأن يعرف أنّ علاقة الدّم تختزن في داخلها معنى يربط الطّرفين، ولكنها لا تعني علاقة الروح والقلب والحياة، إلا من خلال ما تحيط به الظّروف الموضوعيّة هنا وهناك.

مشتركات الإيمان

أمّا علاقة الإيمان، فإنها في وعي الإنسان عندما يتمثّلها في وجدانه الإيماني، ذلك أنّ علاقة الإيمان تعني أنك ترتبط بأخيك من خلال الله، فالله الذي تؤمن به ويؤمن به هو ما يوحّده بك ويوحّدك به باعتبار أنّ إيمانكما به ينبع من كونه الخالق والمنعم والمحيي والمميت، ومن حيث هو سرّ وجودك وسرّ وجود أبويك اللَّذين ارتبط بهما وجودك، وسرّ الدَّم الّذي يجري في عروقك وعروق إخوانك.

فعندما تعتبر أنَّ الله هو الّذي يجمعك بأخيك، يكون هذا الإحساس المشترك بالله من خلال إيمانك به؛ الإيمان الذي يعيش في عقلك وقلبك ومشاعرك وأحاسيسك ومواقفك كما يعيش في الآخر، هو الذي يجمعكما.

وإذاً، فالإيمان هو الّذي يجمعكما من خلال سرّ الوجود، ومن خلال كلّ معانيه العقليّة والعاطفيّة والشعوريّة والحركيّة في الحياة، وإنّك تشعر بأنّك هو ويشعر بأنّه أنت من خلال هذا الإيمان الّذي يجري في مفاصل عقلك وقلبك وحياتك.

وتمتدّ بعد ذلك لتشعر بأنَّك ترتبط به من خلال رسول الله (ص)، ومن خلال رسالة الله التي تنفتح على كلِّ أنبياء الله، وكلِّ رسالات الله، والتي تلتقي ـ أنت وإيَّاه ـ على كتاب الله وعلى بيت الله في القبلة، وعلى كلّ ما يفرضه الإيمان عليك في كلّ عملك وعلاقاتك ومواقفك.

عمق العلاقة الإيمانيّة

هنا، عندما تتعمق في الإحساس بذلك، فإنك تشعر بأنّ علاقتك به هي علاقة عقل بعقل، وإحساس بإحساس، وحركة بحركة، وخطّ بخطّ، وغاية بغاية، وانفتاح على اليوم الآخر، من خلال ما يؤدّي إليه هذا الإيمان في ذلك الحلم الكبير الّذي تعيشه أنت، كما يعيشه هو، من حيث التطلّع إلى رضا الله ونعيمه.

إذاً، فالعلاقة الإيمانيّة تنطلق في كلّ كيانك، بينما العلاقة النسبيّة تتحرّك من خلال الجانب المادي في جسدك، وبهذا كانت علاقة الأخوّة الإيمانيّة أعمق من علاقة الأخوّة النسبيّة، وهذا ما نلاحظه في علاقة أعمق من علاقة الأخوّة، وهي علاقة الأب بابنه، وعلاقة الابن بأبيه، فنحن نقرأ في القرآن الكريم في حديث الله عن نوح عندما قال: {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}(هود؛ 45)، فعندما اصطدمت علاقة النّسب بعلاقة الإيمان، سقطت علاقة النّسب وألغتها علاقة الإيمان {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود؛ 46].

وفي المقابل: "سلمان منّا أهل البيت" ، فما أبعد العلاقة النسبية بين "سلمان" وبين أهل البيت (ع)، ولكن العلاقة الإيمانيّة جعلته يرتبط ارتباطاً عضويّاً بأهل البيت.

كانت مودّة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ

وهذه العلاقة هي التي أراد الله لكلّ مؤمن ومؤمنة أن يتحمّل مسؤوليّتها، بحيث تبقى الأخوّة ممتدّة في حياتهم، حتى إنها إذا تعرّضت لأيّ اهتزاز، كانت مسؤوليّة المؤمنين أن ينفروا جميعاً من أجل أن يثبّتوها وأن يمنعوا هذا الاهتزاز.

حقّ الأخوَّة

وهنا نعرف لماذا اقتصر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على نقطة واحدة، وهي توجيه المؤمنين إلى حقّ المؤمن على المؤمن، فما أكثر حقوق المؤمنين على بعضهم البعض! فهي تتّسع لكلّ حياتهم، ولكن جرى الحديث هنا عن الأخوَّة، والله يريد من خلال الإيحاء بها، أن يجعل حركيّتها وحيويّتها وعمقها ممتدّة في المؤمنين، بحيث يحافظ كلّ واحد عليها، فما الذي يوجب اهتزاز الأخوّة فيما بين المؤمنين؟ إنّه النزاع والخلاف فيما بينهم، لأنّ النزاع والخلاف ـ كما ورد في بعض التّعابير النبويّة الشّريفة "حالقة الدّين"، لا حالقة الشّعر، فهذا التباغض والتباعد هو حالقة الدين الذي لا يبقي منه شيئاً.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، فإذا كان هناك أيّ نوع من أنواع الخلاف والنزاع والعداوة بين المؤمنين، فإنَّ عليكم أن تتحمّلوا مسؤوليّة الإصلاح بين أخويكم، حتى لا تدمّر هذه النزاعات والخلافات الأخوَّة.

نستنتج من هاتين الفقرتين، أنّ الله يريدنا أن نعيش الإحساس بالأخوَّة الإيمانيَّة فيما بيننا، ويريدنا أن نتحمَّل مسؤوليَّة رعاية هذه الأخوَّة وامتدادها في حياتنا، بحيث نتحمَّل جميعاً مسؤوليَّة الإصلاح بين الأخوَّة، لتبقى الأخوَّة في واقعها الفعلي والعملي كما هي في خطّها الفكري الإيماني.

علاقة أهمّ من كلّ العلاقات

فلا بدّ لنا ـ أيها الأحبة ـ كمؤمنين، أن نعيش هذه الأخوّة الإيمانيّة كأساس وقاعدة، وأن نطرح كلّ العلاقات الأخرى، فهناك علاقات عائليّة يختلف فيها الناس، وهناك علاقات جغرافية يختلف فيها الناس، وهناك علاقات قوميّة يختلف فيها الناس، وهناك علاقات عرقيّة يختلف فيها الناس، كما هي العلاقات اللّونيّة وما إلى ذلك.

وقد تنطلق بعض العلاقات الطّارئة السياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، فالتّأكيد على الأخوّة الإيمانية يعني أن لا يعتبر المؤمنُ المؤمنَ غريباً، حتى لو كانت العلاقة الماديّة من العلاقات المشار إليها تبعده عن الآخر، أي لا يمكن أن يتعقّد المؤمن الأبيض من الأسود، ولا يمكن أن يتعقَّد المؤمن العربي من غير العربي، ولا يمكن أن يتعقَّد المؤمن الذي هو من جغرافية معيّنة من شخص من جغرافية أخرى، وهكذا ينبغي أن لا تعتبر المؤمن أجنبيّاً عنك أو أنّه غريب عنك، وبذلك تلتقي المسألة الإيمانيّة بالمسألة الإنسانيّة، فأنت بقدر ما تؤكّد الجانب الإنساني الذي يخترق كلّ الفوارق ليقف عند قاعدة الإيمان، لا بدّ لك من أن تنفتح على الإنسان كلّه وعلى المؤمن في المجال العام من حيث إنسانيّته ومن حيث إيمانه.

أقوى العلاقات

فلا بدّ أن نلاحظ هذا الجانب في عمق إحساسنا بإيماننا، لأنّك عندما تعيش إيمانك بالله وبرسوله وكتبه واليوم الآخر، فإنّ معنى ذلك أنّ الناس الذين يلتقون معك في الإيمان كلّهم سواسية، وهنا لا بدَّ أن نؤكِّد أنّه ليس معنى ذلك أنَّ الاسلام يتعقَّد من الخصوصيَّات، لأنَّنا نعيش حياتنا في ظلّها، فهذا أسود والآخر أبيض، وهذا عربي وهذا أعجمي، فالخصوصيّات واقعيّة، ولكنَّ الله يقول إنّ هذه الخصوصيّات خلقها الله لتنوّع للإنسان مواقعه وخبراته وتجاربه، لا لتكون حواجز بين الإنسان وأخيه، فالخصوصيّات المتنوّعة في الإنسان تغني الإنسان من خلال التعارف {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ}(الحجرات؛ 13)، فالإسلام اعترف بأنّ هناك شعوباً من خلال الخصوصيّة الّتي يتميّز بها شعبٌ عن شعب، واعترف بأنَّ هناك قبائل من خلال الخصوصيّة التي تتميَّز بها قبيلةٌ عن قبيلة، ولكنّه قال إنّ هذه الميزات لا تمثّل حواجز، بل تمثّل خصوصيّات تنفتح على بعضها البعض، وتغني بعضها البعض، فالخصوصيّات هنا لا تتعادى ولا تتنافر، بل تتعارف،{لِتَعَارَفُو}، ليعطي كلّ واحد منكم الآخر ما يختزنه من معرفة ومن تجربة ومن كثير من عناصر الخصوصيّة التي تكمن في داخل شخصيّته، حتى يشعر كل شعب من الشعوب بأنّه بحاجة إلى الشعب الآخر فينفتح عليه، كما يشعر ذلك الشعب بنفس الشعور.

وإذاً، فالذي يقول نحن كمسلمين وكإسلاميين لا نعترف بالعروبة ولا بالفارسية أو بالطورانية وغيرها، نقول له إننا نعترف بها كخصوصيات إنسانية، ونحن ننكرها كحواجز تفصل الإنسان عن الإنسان، ونحن ننكرها عندما تتحوّل إلى أيديولوجية بحيث تكون القومية ديناً يدين به الإنسان، هناك عروبة إنسانية، وفارسية إنسانية، وتركية إنسانية، بحيث أنها لا تنغلق على نفسها، بل يمكن أن تمثل هذه الخصوصيات الإنسانية المتفرقة مثل الدوائر المنفتحة على بعضها البعض، أي أن القبيلة مثلاً منفتحة على الوطن، والوطن منفتح على الأمة، والأمة منفتحة على الإنسان كله، وهكذا، فلا مانع أن تكون لكلّ واحد منا دائرته، ولكن بشرط أن تكون منفتحة، حتى تنفتح الدّوائر الصّغرى على الأخرى المتوسّطة، وهذه على الكبرى الإنسانيّة التي إذا ما التقينا عليها، نكون قد التقينا على كلّ الدّوائر الأخرى، كما هي السواقي عندما تنطلق لتصبّ في البحر الكبير، ولما كانت الإنسانيّة لا تتعمّق إلا بالإيمان بالله الواحد، لذلك كانت قيمة الإنسانيّة بمقدار ما تختزن من قيمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

العلاقة الإيمانيّة والعقل

أيّها الأحبَّة: هذه الآية تعطينا منهجاً للعقل، فحتى عقلانيّتنا تعيش العلاقة الإيمانيّة، كعلاقة عقلٍ بعقل، وهي في الوقت نفسه تعطينا علاقة في القلب، فهناك عاطفة تشدّ المؤمن إلى المؤمن الآخر "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى" ، وتعطينا أيضاً علاقة حركيّة حياتيّة في كلّ المشاكل التي تعيش في حياة المسلمين، بحيث تكون اهتمامات كلّ مسلم منفتحة على اهتمامات المسلم الآخر: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم" .

وعلى ذلك، فهي علاقة في العقل، من خلال عقليّة الإيمان، وعلاقة في القلب من خلال روحيّة الإيمان، وعلاقة في الحركة من خلال حركيّة الإيمان في مشكلات المؤمنين وفي مواقع الصّراع مع الآخرين، وعلى هذا، فإنّ الأخوّة لا تعود مجرّد نبضة قلب، ولكنها تتحول إلى عقل يتآخى وقلب يتآخى وحياة تتآخى.

هل تجمعنا الأخوّة فعلاً؟!

أيها الأحبة: هذه هي إيحاءات الآية الكريمة، فهل نحن في واقعنا الإسلاميّ الذي يكفّر فيه المسلمون بعضهم بعضاً، ويُضلّل فيه المسلمون بعضهم بعضاً، ويتحرّك فيه المسلمون ليحاربوا بعضهم بعضاً، وليدمّروا مصالح بعضهم البعض، هل هذه هي الأخوَّة الإيمانيّة؟

في الحقيقة، إننا بعدنا كثيراً عن الإسلام، وأصبحنا نقتل بعضنا البعض بالإسلام، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(النساء؛ 59)، وقد سمعناه تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وقد سمعنا الرسول (ص) يقول: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم". لذلك تعالوا من جديد حتى نتآخى في الله في الدنيا، لأن مسألة الحبّ في الله والبغض في الله هي عمق الإيمان، وعندما نطلب الجنّة لنتذكّر أنّه لن يعيش فيها إلا الّذين عاشوا الأخوّة التي لا غلّ فيها ولا حقد ولا عداوة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، لأنها كانت تعيش الغلّ ونزعها الله، ولكنّه جعلهم في حركة الإيمان به لا يعيشون الغلّ {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(الحجر؛ 47).

التدرّب على أخلاق الجنّة

أيّها الأحبّة، فلنتدرّب على أخلاق أهل الجنَّة حتى نستحقّها، لأننا نخشى أنّ الذي يعيش مثل هذه الأخلاق إذا دخل الجنَّة، فإنه سوف يخرّبها ويجعلها شيعاً وأحزاباً، والله لا يخدع عن جنّته، وهو ليس مستعدّاً لأن يخرّب جنّته، فعلينا أن نحوِّل الدّنيا جنَّة مصغّرة على الأرض، لنتعلّم فيها كيف نعيش روحيّة أهل الجنّة في الجنّة التي نرجو الله أن يرزقنا إيّاها {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(الحشر؛ 20).

والحمد لله ربِّ العالمين.

* فكر وثقافة، السنة الثانية، 16 جمادى الآخرة 1418هـ/ الموافق: 18/10/1997م، العدد:(62).

ونبقى مع القرآن في العناصر الحيوية لشخصية الإنسان المؤمن التي تمثل عمق الإيمان في معناه في الشخصيّة، وفي معناه في العلاقات، من خلال ما تختزنه الشخصية من هذه القاعدة الروحيّة، فنلتقي بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات؛ 10)، هذه الفقرة من الآية تؤكِّد أنَّ من العناصر الأساسيَّة لشخصيَّة المؤمن، هي أن يعيش الإحساس بالأخوّة مع المؤمن الآخر، بحيث يدرس ما هي علاقته بأخيه، ويستعرض طبيعة هذه العلاقة.

العلاقة النسبيّة

ونحن نعرف أنّ العلاقة في معناها المادّي هي النّسب، وعلاقة الدّم الذي يشترك فيه الناس في علاقة القرابة، أمّا العناصر الأخرى التي ينفتح فيها الإنسان على أخيه عاطفياً، أو التي يألف فيها الإنسان أخاه، أو التي يشعر فيها بالعلاقة الواقعيّة التي تربطه بأخيه، فهي عناصر طارئة وليست عميقة، فالبيت الواحد الذي يضمّ الإخوة هو الذي يصنع الألفة فيما بينهم، والمصير الواحد بحسب الظروف الموضوعيَّة هو الذي يجمع الإخوة على التّناصر وعلى التعاون، وتلعب الأجواء العائليّة البيتيّة دوراً في التماس بين الأخ وأخيه تحت ظلال الوالدين اللّذين يحشدان في مشاعرهم معنى المحبّة والعاطفة.

هذا هو الذي يجعل علاقة الدم منفتحة على علاقة القلب والواقع، فلا بدّ للإنسان أن يدرس ذلك، وأن يعرف أنّ علاقة الدّم تختزن في داخلها معنى يربط الطّرفين، ولكنها لا تعني علاقة الروح والقلب والحياة، إلا من خلال ما تحيط به الظّروف الموضوعيّة هنا وهناك.

مشتركات الإيمان

أمّا علاقة الإيمان، فإنها في وعي الإنسان عندما يتمثّلها في وجدانه الإيماني، ذلك أنّ علاقة الإيمان تعني أنك ترتبط بأخيك من خلال الله، فالله الذي تؤمن به ويؤمن به هو ما يوحّده بك ويوحّدك به باعتبار أنّ إيمانكما به ينبع من كونه الخالق والمنعم والمحيي والمميت، ومن حيث هو سرّ وجودك وسرّ وجود أبويك اللَّذين ارتبط بهما وجودك، وسرّ الدَّم الّذي يجري في عروقك وعروق إخوانك.

فعندما تعتبر أنَّ الله هو الّذي يجمعك بأخيك، يكون هذا الإحساس المشترك بالله من خلال إيمانك به؛ الإيمان الذي يعيش في عقلك وقلبك ومشاعرك وأحاسيسك ومواقفك كما يعيش في الآخر، هو الذي يجمعكما.

وإذاً، فالإيمان هو الّذي يجمعكما من خلال سرّ الوجود، ومن خلال كلّ معانيه العقليّة والعاطفيّة والشعوريّة والحركيّة في الحياة، وإنّك تشعر بأنّك هو ويشعر بأنّه أنت من خلال هذا الإيمان الّذي يجري في مفاصل عقلك وقلبك وحياتك.

وتمتدّ بعد ذلك لتشعر بأنَّك ترتبط به من خلال رسول الله (ص)، ومن خلال رسالة الله التي تنفتح على كلِّ أنبياء الله، وكلِّ رسالات الله، والتي تلتقي ـ أنت وإيَّاه ـ على كتاب الله وعلى بيت الله في القبلة، وعلى كلّ ما يفرضه الإيمان عليك في كلّ عملك وعلاقاتك ومواقفك.

عمق العلاقة الإيمانيّة

هنا، عندما تتعمق في الإحساس بذلك، فإنك تشعر بأنّ علاقتك به هي علاقة عقل بعقل، وإحساس بإحساس، وحركة بحركة، وخطّ بخطّ، وغاية بغاية، وانفتاح على اليوم الآخر، من خلال ما يؤدّي إليه هذا الإيمان في ذلك الحلم الكبير الّذي تعيشه أنت، كما يعيشه هو، من حيث التطلّع إلى رضا الله ونعيمه.

إذاً، فالعلاقة الإيمانيّة تنطلق في كلّ كيانك، بينما العلاقة النسبيّة تتحرّك من خلال الجانب المادي في جسدك، وبهذا كانت علاقة الأخوّة الإيمانيّة أعمق من علاقة الأخوّة النسبيّة، وهذا ما نلاحظه في علاقة أعمق من علاقة الأخوّة، وهي علاقة الأب بابنه، وعلاقة الابن بأبيه، فنحن نقرأ في القرآن الكريم في حديث الله عن نوح عندما قال: {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}(هود؛ 45)، فعندما اصطدمت علاقة النّسب بعلاقة الإيمان، سقطت علاقة النّسب وألغتها علاقة الإيمان {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود؛ 46].

وفي المقابل: "سلمان منّا أهل البيت" ، فما أبعد العلاقة النسبية بين "سلمان" وبين أهل البيت (ع)، ولكن العلاقة الإيمانيّة جعلته يرتبط ارتباطاً عضويّاً بأهل البيت.

كانت مودّة سلمان لهم رحماً ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ

وهذه العلاقة هي التي أراد الله لكلّ مؤمن ومؤمنة أن يتحمّل مسؤوليّتها، بحيث تبقى الأخوّة ممتدّة في حياتهم، حتى إنها إذا تعرّضت لأيّ اهتزاز، كانت مسؤوليّة المؤمنين أن ينفروا جميعاً من أجل أن يثبّتوها وأن يمنعوا هذا الاهتزاز.

حقّ الأخوَّة

وهنا نعرف لماذا اقتصر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على نقطة واحدة، وهي توجيه المؤمنين إلى حقّ المؤمن على المؤمن، فما أكثر حقوق المؤمنين على بعضهم البعض! فهي تتّسع لكلّ حياتهم، ولكن جرى الحديث هنا عن الأخوَّة، والله يريد من خلال الإيحاء بها، أن يجعل حركيّتها وحيويّتها وعمقها ممتدّة في المؤمنين، بحيث يحافظ كلّ واحد عليها، فما الذي يوجب اهتزاز الأخوّة فيما بين المؤمنين؟ إنّه النزاع والخلاف فيما بينهم، لأنّ النزاع والخلاف ـ كما ورد في بعض التّعابير النبويّة الشّريفة "حالقة الدّين"، لا حالقة الشّعر، فهذا التباغض والتباعد هو حالقة الدين الذي لا يبقي منه شيئاً.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، فإذا كان هناك أيّ نوع من أنواع الخلاف والنزاع والعداوة بين المؤمنين، فإنَّ عليكم أن تتحمّلوا مسؤوليّة الإصلاح بين أخويكم، حتى لا تدمّر هذه النزاعات والخلافات الأخوَّة.

نستنتج من هاتين الفقرتين، أنّ الله يريدنا أن نعيش الإحساس بالأخوَّة الإيمانيَّة فيما بيننا، ويريدنا أن نتحمَّل مسؤوليَّة رعاية هذه الأخوَّة وامتدادها في حياتنا، بحيث نتحمَّل جميعاً مسؤوليَّة الإصلاح بين الأخوَّة، لتبقى الأخوَّة في واقعها الفعلي والعملي كما هي في خطّها الفكري الإيماني.

علاقة أهمّ من كلّ العلاقات

فلا بدّ لنا ـ أيها الأحبة ـ كمؤمنين، أن نعيش هذه الأخوّة الإيمانيّة كأساس وقاعدة، وأن نطرح كلّ العلاقات الأخرى، فهناك علاقات عائليّة يختلف فيها الناس، وهناك علاقات جغرافية يختلف فيها الناس، وهناك علاقات قوميّة يختلف فيها الناس، وهناك علاقات عرقيّة يختلف فيها الناس، كما هي العلاقات اللّونيّة وما إلى ذلك.

وقد تنطلق بعض العلاقات الطّارئة السياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، فالتّأكيد على الأخوّة الإيمانية يعني أن لا يعتبر المؤمنُ المؤمنَ غريباً، حتى لو كانت العلاقة الماديّة من العلاقات المشار إليها تبعده عن الآخر، أي لا يمكن أن يتعقّد المؤمن الأبيض من الأسود، ولا يمكن أن يتعقَّد المؤمن العربي من غير العربي، ولا يمكن أن يتعقَّد المؤمن الذي هو من جغرافية معيّنة من شخص من جغرافية أخرى، وهكذا ينبغي أن لا تعتبر المؤمن أجنبيّاً عنك أو أنّه غريب عنك، وبذلك تلتقي المسألة الإيمانيّة بالمسألة الإنسانيّة، فأنت بقدر ما تؤكّد الجانب الإنساني الذي يخترق كلّ الفوارق ليقف عند قاعدة الإيمان، لا بدّ لك من أن تنفتح على الإنسان كلّه وعلى المؤمن في المجال العام من حيث إنسانيّته ومن حيث إيمانه.

أقوى العلاقات

فلا بدّ أن نلاحظ هذا الجانب في عمق إحساسنا بإيماننا، لأنّك عندما تعيش إيمانك بالله وبرسوله وكتبه واليوم الآخر، فإنّ معنى ذلك أنّ الناس الذين يلتقون معك في الإيمان كلّهم سواسية، وهنا لا بدَّ أن نؤكِّد أنّه ليس معنى ذلك أنَّ الاسلام يتعقَّد من الخصوصيَّات، لأنَّنا نعيش حياتنا في ظلّها، فهذا أسود والآخر أبيض، وهذا عربي وهذا أعجمي، فالخصوصيّات واقعيّة، ولكنَّ الله يقول إنّ هذه الخصوصيّات خلقها الله لتنوّع للإنسان مواقعه وخبراته وتجاربه، لا لتكون حواجز بين الإنسان وأخيه، فالخصوصيّات المتنوّعة في الإنسان تغني الإنسان من خلال التعارف {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ}(الحجرات؛ 13)، فالإسلام اعترف بأنّ هناك شعوباً من خلال الخصوصيّة الّتي يتميّز بها شعبٌ عن شعب، واعترف بأنَّ هناك قبائل من خلال الخصوصيّة التي تتميَّز بها قبيلةٌ عن قبيلة، ولكنّه قال إنّ هذه الميزات لا تمثّل حواجز، بل تمثّل خصوصيّات تنفتح على بعضها البعض، وتغني بعضها البعض، فالخصوصيّات هنا لا تتعادى ولا تتنافر، بل تتعارف،{لِتَعَارَفُو}، ليعطي كلّ واحد منكم الآخر ما يختزنه من معرفة ومن تجربة ومن كثير من عناصر الخصوصيّة التي تكمن في داخل شخصيّته، حتى يشعر كل شعب من الشعوب بأنّه بحاجة إلى الشعب الآخر فينفتح عليه، كما يشعر ذلك الشعب بنفس الشعور.

وإذاً، فالذي يقول نحن كمسلمين وكإسلاميين لا نعترف بالعروبة ولا بالفارسية أو بالطورانية وغيرها، نقول له إننا نعترف بها كخصوصيات إنسانية، ونحن ننكرها كحواجز تفصل الإنسان عن الإنسان، ونحن ننكرها عندما تتحوّل إلى أيديولوجية بحيث تكون القومية ديناً يدين به الإنسان، هناك عروبة إنسانية، وفارسية إنسانية، وتركية إنسانية، بحيث أنها لا تنغلق على نفسها، بل يمكن أن تمثل هذه الخصوصيات الإنسانية المتفرقة مثل الدوائر المنفتحة على بعضها البعض، أي أن القبيلة مثلاً منفتحة على الوطن، والوطن منفتح على الأمة، والأمة منفتحة على الإنسان كله، وهكذا، فلا مانع أن تكون لكلّ واحد منا دائرته، ولكن بشرط أن تكون منفتحة، حتى تنفتح الدّوائر الصّغرى على الأخرى المتوسّطة، وهذه على الكبرى الإنسانيّة التي إذا ما التقينا عليها، نكون قد التقينا على كلّ الدّوائر الأخرى، كما هي السواقي عندما تنطلق لتصبّ في البحر الكبير، ولما كانت الإنسانيّة لا تتعمّق إلا بالإيمان بالله الواحد، لذلك كانت قيمة الإنسانيّة بمقدار ما تختزن من قيمة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

العلاقة الإيمانيّة والعقل

أيّها الأحبَّة: هذه الآية تعطينا منهجاً للعقل، فحتى عقلانيّتنا تعيش العلاقة الإيمانيّة، كعلاقة عقلٍ بعقل، وهي في الوقت نفسه تعطينا علاقة في القلب، فهناك عاطفة تشدّ المؤمن إلى المؤمن الآخر "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى" ، وتعطينا أيضاً علاقة حركيّة حياتيّة في كلّ المشاكل التي تعيش في حياة المسلمين، بحيث تكون اهتمامات كلّ مسلم منفتحة على اهتمامات المسلم الآخر: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم" .

وعلى ذلك، فهي علاقة في العقل، من خلال عقليّة الإيمان، وعلاقة في القلب من خلال روحيّة الإيمان، وعلاقة في الحركة من خلال حركيّة الإيمان في مشكلات المؤمنين وفي مواقع الصّراع مع الآخرين، وعلى هذا، فإنّ الأخوّة لا تعود مجرّد نبضة قلب، ولكنها تتحول إلى عقل يتآخى وقلب يتآخى وحياة تتآخى.

هل تجمعنا الأخوّة فعلاً؟!

أيها الأحبة: هذه هي إيحاءات الآية الكريمة، فهل نحن في واقعنا الإسلاميّ الذي يكفّر فيه المسلمون بعضهم بعضاً، ويُضلّل فيه المسلمون بعضهم بعضاً، ويتحرّك فيه المسلمون ليحاربوا بعضهم بعضاً، وليدمّروا مصالح بعضهم البعض، هل هذه هي الأخوَّة الإيمانيّة؟

في الحقيقة، إننا بعدنا كثيراً عن الإسلام، وأصبحنا نقتل بعضنا البعض بالإسلام، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(النساء؛ 59)، وقد سمعناه تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وقد سمعنا الرسول (ص) يقول: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم". لذلك تعالوا من جديد حتى نتآخى في الله في الدنيا، لأن مسألة الحبّ في الله والبغض في الله هي عمق الإيمان، وعندما نطلب الجنّة لنتذكّر أنّه لن يعيش فيها إلا الّذين عاشوا الأخوّة التي لا غلّ فيها ولا حقد ولا عداوة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، لأنها كانت تعيش الغلّ ونزعها الله، ولكنّه جعلهم في حركة الإيمان به لا يعيشون الغلّ {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}(الحجر؛ 47).

التدرّب على أخلاق الجنّة

أيّها الأحبّة، فلنتدرّب على أخلاق أهل الجنَّة حتى نستحقّها، لأننا نخشى أنّ الذي يعيش مثل هذه الأخلاق إذا دخل الجنَّة، فإنه سوف يخرّبها ويجعلها شيعاً وأحزاباً، والله لا يخدع عن جنّته، وهو ليس مستعدّاً لأن يخرّب جنّته، فعلينا أن نحوِّل الدّنيا جنَّة مصغّرة على الأرض، لنتعلّم فيها كيف نعيش روحيّة أهل الجنّة في الجنّة التي نرجو الله أن يرزقنا إيّاها {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(الحشر؛ 20).

والحمد لله ربِّ العالمين.

* فكر وثقافة، السنة الثانية، 16 جمادى الآخرة 1418هـ/ الموافق: 18/10/1997م، العدد:(62).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية