[كان من دعاء الإمام زين العابدين (ع) إذا ذكر الشّيطانُ فاستعاذ منه ومن عداوته وكيده:]
"اللّهُمَّ اخْسَأهُ عنّا بعِبَادتِكَ، واكْبِتْهُ بدُؤوبِنا في محبّتِكَ، واجْعَلْ بيْنَنا وبيْنَهُ سِتْراً لا يهْتِكُهُ، وردْماً مُصْمِتاً لا يفْتُقُه".
كيف نستطيع أن ندفع الشيطان عنّا، عن ساحاتنا، ونطرده من عقولنا وقلوبنا؟
إنّ الشيطان يشغلنا بلهوه وعبثه وتخيّلاته وأوهامه، بحيث نغيب - معه - في مشاعر الإحساس الغريزيّ، وفي آفاق الفكر العبثي، وفي مجالات النّشاط اللاهي، إنّه يستفيد من غفلتنا عنك [يا ربّ]، ومن أوقات الفراغ الذي يحيط بالواقع، فيجرّده من كلّ مسؤوليّة وجديّة، ليدفع به إلى عبثيّة التفكير والسلوك التي يعمل الشيطان على أن يحرّكها بطريقةٍ ماكرةٍ خادعةٍ، بحيث تتعمّق إيحاءاتها في وجداننا، لتسيطر على مواقع حركتنا.
إنّه يعمل على أن يجعل حياتنا في خطّ الانحدار لا في خطّ الارتفاع، وفي الأسافل من الأمور بدلاً من أعاليها، وفي دائرة الاستغراق في خلقك، لنمنحهم المحبّة الصنمية بدلاً من الاستغراق في ألوهيّتك لننفتح عليك في آفاق الربوبية.
إنّنا نريد الانفتاح على عبادتك من خلال عبوديّتنا لك، التي توحي إلينا بالإخلاص والخضوع لك والخشوع بين يديك، والانجذاب إلى ساحة رضوانك، لتكون عبادتنا لك نهجاً تربويّاً يمنحنا الفكرة في مفرداتها، والإيحاء الروحي في حركاتها، والإحساس الطاهر في آفاقها، حتى تمتلئ عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا بك، وتتحرّك أعضاؤنا في طاعتك، فيقترب الشيطان من تلك المواقع والأجواء، فلا يجد مجالاً للدخول إلى ساحاتنا، لأنّ الساحة التي تمتلئ بك - يا ربّ - لا يمكن أن يجد الشيطان فيها مكاناً له، بل يعود خاسئاً حقيراً مطروداً.
إنّ الشيطان يستغرقنا - يا ربّ - في الحديث الطويل عن الناس من حولنا، ممن أبعدهم الكفر والضّلال عن ساحة الحقّ الذي يطلّ على رحاب القدس عندك، ويغرينا بما يصدر عنهم من الأفعال والأقوال الّتي تحمل بعض الظواهر الخادعة، في محاولةٍ منه لإيجاد حالةٍ من الخضوع النفسي في وجداننا لهم، لنقع تحت تأثير ضخامة الموقع الّذي يصوَّر لنا بعيداً من الحجم الطبيعي للواقع، ونفتح قلوبنا لهم في مشاعر حميمة مبهورة بمظاهر العظمة، لتمتلئ بمحبتهم بعصبيّةٍ تؤدّي إلى ما يشبه عبادة الشخصيّة على خطّ الوثنيّة، فنبتعد - بذلك - عن عمق محبّتك، فيضلّنا عن الطريق المستقيم.
إنّنا نعمل على الاجتهاد الفكريّ والشعوريّ للوصول إلى حالة الاستغراق في محبّتك، فتكون أفكارنا في آفاق وحيك، ومشاعرنا في إيحاءات عظمتك ونعمتك، وخطواتنا في خطِّ رضاك، تماماً كما هي روحيّة المحبّ لحبيبه، لأنَّ الحبَّ الذي نرفعه إلى رحاب قدسك، ليس مجرّد انفعال في الذات، ولا خفقةٍ في القلب، ولا هزّةٍ في الشعور، بل هو التزام بك في كلّ أوامرك ونواهيك، وانفتاح عليك في كلِّ المفاهيم التي تتّصل بمواقع الحقّ عندك، وانطلاق مع دينك في الطّريق المستقيم الذي يؤدّي إليك.
إنّ حركتنا نحو محبّتك سوف تردّه وتعطّل كلّ خططه الرامية إلى إبعادنا عنك، وتحوّل كلّ خطواتنا إلى خطوات رحمانيّةٍ لا شيطانيّة.
إنّ الشيطان - يا ربّ - يأخذ حريته في الدخول إلى نفوسنا وبيوتنا وساحاتنا العامة ودروبنا التي نتحرّك فيها نحو غاياتنا، إنّه يجري منّا مجرى الدماء في العروق، فيثير الحرارة في دمائنا، والشّهوة في غرائزنا، والنزوة في أفكارنا، والهزّة في إحساسنا، والرغبة في أعضائنا.
إنَّ المشكلة هي أنّ كلّ ساحاتنا مفتوحةٌ له ولجنوده، وأنّ أرضنا مملوءة بحباله ومصائده، وأنّ أوضاعنا خاضعةٌ لكيده ومكره، ونحن هنا - يا ربّ - لنستعين بك على أن تجعل بيننا وبينه ستراً يحمينا من تحديقه الطّويل بنا، وتأثيره الشيطاني فينا، بحيث لا يكون من القوّة بالمستوى الذي يملك أن يزيله أو يفتح فيه ثغرة يطلّ بها علينا.
ونتوسَّل إليك أن تنصب في مواقعنا جداراً عالياً حصيناً، وسدّاً قويّاً يفصل بيننا وبينه، بحيث يمنعه ذلك من اختراق ساحاتنا بوسائله المتنوّعة.
إنَّه ستر المناعة الروحيّة التي تعيش في روحياتنا، وجدار العصمة الّذي يعصمنا عن الانجذاب إليه والخضوع لضغوطه.
*من كتاب "آفاق الرّوح، ج1".