وهذا حديثٌ عن الأساليب التي كان المشركون يمارسونها مع النبيّ (ص)، من أجل الانحراف به عن الخطّ الصّادق في تبليغ وحي الله إلى النّاس بكلّ دقّة، من دون زيادةٍ أو نقصان.
فقد كان الصّادق الأمين الدّقيق في قول الحقّ والانسجام معه، مهما كانت طبيعة هذا الحقّ الذي يريد نقله إلى النّاس، من ناحيةٍ مضمونيّةٍ أو عاطفيّةٍ أو ذاتيّةٍ، فكيف لا يكون صادقاً في كلام الله؟! ولكنّ المشركين كانوا يجادلونه كي ينحرف عمّا أنزله الله، ليسلك اتجاهاً آخر في كلمات يصوغها لتقترب من أفكارهم.
وكانت المحاولة تفشل، ولكنّهم ـ على ما يظهر ـ لم يتراجعوا، بل كانوا يصرّون على تجديد المحاولة، بتغيير الأساليب التي تخاطب فيه الجانب العاطفيّ الحميم، وكانوا يعملون على الضّغط عليه بواسطة أقربائه، ومنهم عمّه أبو طالب، الذي كان السّفير بينه وبينهم، ولكنّ النبيّ لم يتراجع عن موقفه، بل تابع الصّلابة في الموقف، إلى جانب المرونة في الأسلوب، بالكلمة الحلوة، واللّفتة والنظرة، والبسمة والحركة، من دون أن يقدّم أيّ تنازلٍ، وذلك ما توحي به الكلمة الحاسمة التي قالها لعمّه (أبي طالب):
«والله ـ يا عمّ ـ لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}، فيواجهونك بالأساليب التي تثير الاهتزاز والانحراف في مسيرتك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ليصرفوك عنه، {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتزيد فيه، فتقول علينا ما لم نقله ولم ننزله إليه، {وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} وصديقاً، لانسجامك معهم واستجابتك لهم، كما ينسجم الإنسان مع صديقه ويستجيب له.
وهذا هو الأسلوب الإغرائي الّذي يحاولون من خلاله أن يستميلوا النبيّ أو الداعية في ما يمكن أن يحقّقه من نتائج، أو يبلغه من غايات.
وهذا ما نجده في الأساليب المتّبعة في واقعنا، فالدعوات الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي تريد أن تؤكّد امتدادها في الساحة، توحي للآخرين بأساليب المودّة الحميمة من أجل تقديم بعض التّنازلات هنا، وبعض المواقف هناك، ليكون ذلك سبيلاً للاستفادة منهم في بعض المواقف والأهداف، باعتبار أنّ الأجواء الحميمة تستطيع أن تحقّق للإنسان ما لا تحقّقه الأجواء الفكريّة من نتائج على صعيد الأهداف.
وهذا ما يجب أن يتنبّه له العاملون في سبيل الله، لأنّ هؤلاء لن يفتحوا قلوبهم لهم حتى يكونوا معهم في كلّ شيء، ولن يحصلوا منهم على شيءٍ بهذه الطريقة.
وقد نستطيع استيحاء قاعدة عامّة من أجواء الآية، وهي أنّ الإسلام لا يريد للمسلم أن يفكّر في الصداقة بطريقة ذاتيّة، بل يريد له أن يفكّر فيها ويمارسها على أساس اتصالها بالخطّ الفكريّ والعمليّ له، بحيث لا تؤثّر فيه تأثيراً سلبياً من أيّ جهة كانت، لأن الله يريد من المؤمن أن يخلص له ولرسوله ولدينه أكثر من إخلاصه لأيّ شخص، فالإيمان يتحرّك في الجانب الشعوري من شخصيّة الإنسان، كما يتحرّك في الجانب العقيدي والعملي لديه.
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}. إنها العصمة الإلهية التي وضعت في شخصيّتك الخصائص الفكريّة والعمليّة التي تمنعك من التأثُّر بأيّ حالة من حالات الخديعة والإغراء والانحراف... ولولاها، لكان لهذه الأساليب، التي أثاروها أمامك، تأثيرٌ كبيرٌ في شخصيّتك كإنسانٍ، لأنّ الإنسان يتأثر بالأساليب العاطفية التي تخاطب فيه العاطفة، وتثير لديه حالات الانفعال. ونلاحظ أنّ الآية عبّرت بكلمة «كدت» التي تعني القرب والدنوّ، ما يوحي بأنّ الثبات سابقٌ عليها، وأنّ المسألة تتصل بالأسلوب في قرب التّأثير.
{إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}، أي ضعف العذاب في حال الحياة أو الموت، أي لو أنّك ركنت إليهم، لعذّبناك ضعف ما نعذّب به المجرمين في حياتهم، وكذلك بعد مماتهم، أي في الدّنيا والآخرة.
{ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينصرك منا ليخلّصك من العذاب الأليم.
*المصدر: كتاب "تفسير من وحي القرآن".