عندما تحدّث القرآن عن ولادة السيّد المسيح (ع)، إنّما تحدّث عنها لأنّها تمثّل مظهراً من مظاهر قدرة الله، لا على أساس خصوصيّة في ذكر الولادة. إنّ القرآن لم يحدّثنا عن ولادة إبراهيم، ولا عن ولادة موسى، ولا عن ولادة محمّد (ص)، حدّثنا فقط عن خلق آدم، وحدّثنا فقط عن ولادة عيسى، لأنَّ الله أراد أن يعطينا من خلال ولادة عيسى الفكرة في قدرة الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 59].
يريد الله أن يعطينا الفكرة عن قدرته، وهو أنّه قادر على أن يبعث الحياة في النّطفة، فيكون الولد من خلال الزّوجين، وهو قادر على أن يخلق إنساناً بدون أب وأُمّ، وقادر على أن يخلق إنساناً من دون أب.
عندما وُلِدَ الرسول (ص) وُلِدَ وهو طفل يتيم، مات أبوه قبل أن يولَد، وكان فقيراً يعيش الضّعف من خلال ظروفه الماليّة، تكفّله عمّه أبو طالب بوصيّة جدّه عبد المطّلب، فأصبح النّاس ينادونه يتيم أبي طالب. كان الله سبحانه وتعالى يربّيه بلطفه وبرحمته، فيلقي في قلبه كلّ إشراقات الإيمان، فيحرِّك الإيمان في قلبه من خلال تأمُّلاته، ومن خلال أفكاره، ومن خلال ابتهالاته لربّه. فقد التقى بربّه قبل أن يبعث نبيّاً رسولاً، وقد اعتزل النّاس في غار حراء قبل أن يبعث نبيّاً ورسولاً.
وقد ربَّى نفسه وألزمها بأن يكون الصَّادق في القضايا الصّغيرة والكبيرة، حتّى لم يستطع أحد أن يحصيَ عليه كذبة حتّى في حالة مزاح، كما ألزم نفسه أن يكون الأمين الذي يشعر من خلال روح الأمانة في حياته، أن يكون الإنسان الذي يعيش في المجتمع، فيحمّل نفسه مسؤوليّة أن يكون أميناً على المجتمع من حوله؛ أميناً على ماله، لا يأخذ مال أحد حتّى لو كان مشركاً أو كافراً، أميناً على أرواح الناس وأميناً على أعراضهم.. وهكذا انتقل اسمه من كلمة يتيم أبي طالب إلى كلمة الصّادق الأمين.
كان يعيش ويعيش الصّدق معه.. عندما يلتقي أيّ شخص ويحدّثه، فيرى ذلك الشخص أنّ الصّدق يتحدّث له، وكان يسير والأمانة تسير معه، كان قدوةً للنّاس في صدقه وأمانته، قبل أن يدعوَ الناس من خلال رسالته إلى الصّدق وإلى الأمانة، لأنَّ الله أراد أن يعدّه للرّسالة التي ترتكز على الحقّ. وهل يمكن أن يكون الحقّ لا صدق معه؟ وهل يمكن أن يكون الحقّ لا أمانة معه؟ إنَّ الكاذبين يتحرّكون مع الباطل، وإنَّ الخونة يطعنون الحقّ في قلبه. كان (ص) الصّادق الأمين.
كان يتعلَّم من خلال الفكرة ويتعلَّم من خلال تأمّلاته، وكان الله يفيض عليه علماً من علمه، ولطفاً من لطفه، ورحمة من رحمته، حتّى استطاع أن يتأدَّب بأدب الله قبل أن يبعث رسولاً لله.. قال (ص): "أدَّبني ربّي فأَحْسَنَ تأديبي".
بعث الله سبحانه وتعالى محمّداً رسولاً.. كان في غار حراء، وجاءه الملك: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: 1 ـــ 5].
سيعلِّمك الله، وستكون أنت محمّد بن عبد الله المعلِّم الأكبر للحياة كلّها من بعدك {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة: 2].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}[الأحزاب: 45 ـــ 46].
انطلق رسول الله وانطلقت الدّعوة معه وانطلقت الرّسالة معه.
انطلق رسول الله، وتجمّع المؤمنون معه، تجمّعت القوَّة من خلاله في حركيّة الرّسالة، جاء النبيّ (ص) من أجل أن يصنع الفكر المتعقّل الواعي، والمجتمع الذي ينشئ الحضارة ويواجه الحضارات بكلّ قوَّة.
** إجابة على تساؤل مفاده: قد يُطرح أنّه لماذا لم يحدّثنا القرآن عن ولادة رسول الله (ص)، كيف ولد وأين ولد، وفي أيّ الأجواء الروحيّة أو الغيبيّة، في حين تحدّث عن ولادة السيّد المسيح في أكثر من آية؟
*من كتاب "القائد القدوة".