ليس من شكٍّ في أنَّ الإنسان يحبُّ لنفسه أن يكون في أفضل الحالات من كافَّة النَّواحي، لذلك تراه دوماً، ووفق ما هو متاحٌ له، يسعى لتحسين أوضاعه، والحصول على المكانة المقبولة أو العالية في المجتمع، وتحقيق الإنجازات، وهو ما يؤمِّن له الرِّضا النَّفسيّ، والاستقرار الاجتماعيّ، ويحفِّزه على طلب المزيد، مدفوعاً برغبةٍ غريزيَّةٍ ليكون في الوضع الأفضل والأنجح.
وهو حقٌّ لكلِّ إنسان، بل هو مسؤوليَّة تقع على عاتقه، في أن يعمل ليكون في حالٍ أفضل، وألاّ يستسلم للخنوع والتَّكاسل والقبول بالواقع المحدود.
ولكنَّ هذا السَّعي من قبل الفرد للتفوّق والتطوّر، قد يواجَه بالحسد من قبل ضعاف النّفوس، الَّذين يتعاطون مع كلِّ نجاحٍ بعقدةٍ نفسيّةٍ، تنطلق من الشّعور بالاستفزاز من كلّ نجاحٍ يعيشه الآخرون، والرَّغبة في تدميرهم، واستخدام كلِّ الوسائل لعرقلة مسيرهم، مهما بدت غير أخلاقيَّة أو لا إنسانيَّة، لا لشيءٍ إلا لإرضاء الذَّات المريضة والمعقَّدة الّتي تتحكَّم بسلوكهم وأفعالهم، وتحبسهم في زوايا أنانيَّاتهم وتفكيرهم السَّلبيّ.
وقد عرَّف علم النَّفس الحسد بأنَّه "مؤشِّرٌ لاضطرابٍ في الشّخصيَّة، ومحصّلة تحكم العديد من الانفعالات السَّلبيَّة، كالغضب، والخوف، والكراهيه، وعدم المقدرة على المواجهة، والضَّعف، والشّعور بالعجز، وعدم الثِّقه بالنَّفس"[1]... وأنَّه أيضاً "محاولة سلبيَّة لتعويض مركَّب نقصٍ مادّيٍّ أو اجتماعيٍّ أو تعليميٍّ أو ثقافيّ".
ورأى فيه علم الاجتماع "تعبيراً ذاتيّاً فرديّاً عن اختلال موضوعيّ اجتماعيّ للتَّوازن في العلاقه بين الفرد والمجتمع، وأنَّ الأصل في العلاقه بين النَّاس في المجتمع قد أصبح هو الصِّراع لا المشاركة .[2]"
وبعيداً عن التَّعريف، فالحسد شعورٌ قديمٌ قدم الإنسان، حتّى إنَّه بدأ قبل أن تطأ قدما الإنسان الأرض، فذاك إبليس يتمرَّد على أمر الله بالسّجود لآدم حسداً له، فيخرج من الجنَّة ملعوناً إلى يوم الدِّين، وعلى الأرض، دفع الحسد إلى ارتكاب أوَّل جريمةٍ في التّاريخ البشريّ، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، بعد أن تقبَّل الله من أخيه قربانه ولم يتقبَّل منه، وهو الّذي جعل أخوة يوسف يرمون أخاهم في البئر بسبب مكانته عند أبيه... والأمثلة كثيرة أكثر من أن تحصى حول هذا السّلوك المدمِّر لصاحبه قبل غيره.
أمَّا الإسلام، فقد اعتنى بهذا الموضوع، معتبراً الحسد سلوكاً مرفوضاً، لما له من آثارٍ سلبيَّةٍ في الفرد والمجتمع، وخصوصاً أنَّه يؤدِّي إلى نشر العداوة والبغضاء بين النَّاس، وإلى تشتّتهم وتفرّقهم، وتمنّي الأذى بعضهم لبعض، وحثَّت الشَّريعة على الابتعاد عنه، والتحلّي بالإيمان والتَّقوى في العلاقة بالآخرين.
[3]، حذَّرت الأحاديث منه ومن نتائجه الوخيمة، فقد ورد عن رسول الله(ص) الكثير من الأحاديث حول هذا الأمر، منها قوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا..."، وقوله: "لا يجتمع في جوف عبدٍ الإيمان والحسد". وجاء عن الرِّضا(ع) محذِّراً من عواقب الحسد على المجتمع الإسلاميّ، قوله: "حدَّثني أبي عن آبائه عن عليّ(ع) قال: قال رسول الله(ص): دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ البغضاء والحسد"... إلى غيرها من الأحاديث.
والحسد يؤذي صاحبه قبل أن يؤذي غيره، وهو سببٌ من أسباب تعاسته، كما عبّر الفيلسوف راسل الَّذي قال: "الحسد أقوى أسباب التَّعاسة"؛ والفيلسوف هيغل الّذي رأى أنّ الحسد "أغبى الرّذائل إطلاقاً، لأنّه لا يعود على صاحبه بأيّة فائدة"، وكما أشار الشّاعر إلى ذلك عندما قال:
اِصبرْ على مضض الحَسودِ فَإنَّ صَبْرَكَ قاتِلُه
فالنَّارُ تأكلُ بعضَها إنْ لمْ تجِدْ ما تأكْلُه
وإذا كان الحسد مرضاً نفسيّاً يتجذَّر في نفس صاحبه، فإنَّ الشِّفاء منه قد لا يكون أمراً مستحيلاً، ولا سيَّما إذا ما أدرك الحسود خطر المرض عليه وعلى غيره، وسعى في طريق الشِّفاء بجرأةٍ وشجاعة، وعمل على تحويل الطَّاقة السَّلبيَّة الّتي تتحكَّم به إلى طاقةٍ إيجابيَّة، وأوَّل العلاج، سلوك سبيل التَّقوى والإيمان والخشية من الله، وخصوصاً إذا عرف الإنسان أنَّ في الحسد شقاءً في الدّنيا والآخرة، كما ورد عن أمير المؤمنين(ع): "ثمرة الحسد شقاء الدّنيا والآخرة".
[إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّماعن وجهة نظر صاحبها].
[1] من مقال بعنوان: "ظاهره الحسد بين العلم والفلسفه والدين"، عن الإنترنت.
[2] من المقال نفسه.
[3] وهي قوله تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً}[النّساء: 54]، وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}، وقوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: 5].