الفراغ وآثاره

الفراغ وآثاره

غالباً ما يكون الفراغ أرضية للانحراف، ودافعاً للتوجهات السيئة، حيث لا يشعر الإنسان بوجوده وقيمته، إلا إذا كان له تفاعل ما مع قضايا الحياة من حوله، فإن لم يتوافر له ما يمنحه هذا الشعور إيجابياً، فسيعاني حالة فراغ نفسي، تتولّد منها هواجس وتصورات غير منضبطة، كما قد تتحرّك لديه بعض النوازع والرغبات غير السّليمة، والتي هي تحت السيطرة في الأوضاع العاديّة السويّة.

وأخطر ما يكون الفراغ في مرحلة الشّباب، حيث يمتلك الشابّ قوّة فائضة، تبحث عن قنوات للتصريف، وحماساً كبيراً، يدفع نحو الفاعليّة والنّشاط. فإذا كانت أمامه برامج وأدوار، وخيارات مناسبة، تشغل اهتمامه، وتنمّي شخصيّته، وتفعّل قدراته بالاتجاه الصّحيح، فإنّ ذلك سيكون لصالحه وصالح المجتمع.

أمّا في حالة الفراغ، فإنّه يكون الشابّ فريسة لمشاعر الملل والإحباط، ولقمة سائغة لتيارات الفساد والانحراف، وهذا ما تعاني منه كثير من المجتمعات المعاصرة.

وكما اشتهر على الألسن قول الشّاعر أبو العتاهية:

إنّ الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

وقال شاعر آخر:

لقد هاج الفراغ عليه شُغلاً وأسباب البلاء من الفراغ

وينقل عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنّه قال لعامله: «إنّ هذه الأيدي لا بدّ أن تشغل، فاشغلها بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصيته».

وروى البيهقي عن عبد الله بن الزبير قال: أشرّ شيء في العالم البطالة.

ومن أخطر السلبيات التي تنتج من الفراغ، حالة الملل والسأم، وهي مؤذية للنفس، مربكة لشخصية الإنسان، وهناك مقولة متداولة هي: "أن تشعر بالملل هو أن تقبل الموت". والملل قد يدفع الإنسان إلى تصرفات عبثية ضارة، من أجل التخلص من الملل والخروج من عبء وطأته.

إن عدم التخطيط لاستثمار وقت الفراغ، وخصوصاً في العطلة الصيفية والإجازات، وعدم الاهتمام بتوفير البرامج المناسبة من قبل الفرد والمجتمع، هو الذي ينتج العديد من الظواهر السلبية التي تعانيها مجتمعاتنا، ونلحظها في حياة الكثيرين في أوقات فراغهم، ومن أبرزها، الظواهر التالية:

كثرة النوم:

يجد البعض في العطلة والإجازة فرصة جيدة لزيادة ساعات نومه، والتي قد تصل إلى عشر ساعات أو أكثر، بينما يكون معدّل نومه أيام الدراسة والعمل في حدود ستّ ساعات أو سبع ساعات في أقصى حد.

لا شك أن النوم حالة طبيعية، وضرورة بيولوجية للإنسان، كما لسائر الكائنات الحيّة، وأنه يخدم وظائف أساسية، مهمتها استعادة الإنسان لنشاطه، وللمقومات التي يعتمد عليها هذا النشاط، وإعادة التوازن الذي اختل أثناء ساعات اليقظة.

ومن الواضح أن النائم يفقد إدراكه بما يحيط به، ويتوقف إحساسه بالحياة، وتفاعله معها. حيث تتضاءل جميع أنشطته، وترتخي عضلاته، وتتباطأ ضربات القلب، وينخفض معدّل التنفّس.

فالنوم في مظهره يشكّل شبه خروج مؤقت للإنسان عن معادلة الحياة. وإذا كان الإنسان ينام ثماني ساعات، في كلّ أربع وعشرين ساعة، فمعنى ذلك أنّ ثلث عمره يكون خارج دائرة الإحساس والتفاعل مع الحياة، ومن يحبّ الحياة، ويتبنّى فيها أهدافاً وتطلّعات، عليه أن يحرص على كسب أيّ ساعة ولحظة منها، والنّوم فيما يزيد منه على الحاجة والضّرورة، بمثابة هدر وتضييع لجزء من العمر.

لقد افترض الكثيرون أن الحاجة اليوميّة للنوم، هي ثلث ساعات اليوم الواحد، أو ما معدَّله 8 ساعات، في كلّ 24 ساعة، واعتبر البعض: أنّ الإخلال بهذا المعدل، يلحق الأذى بصاحبه، لكن بحوث العلماء، والتجارب الميدانيّة والاختباريّة، أظهرت: أنّ معظم الناس ينامون لمعدَّل زمني يقع بين 5 إلى 6 ساعات في اليوم الواحد، بينما ينام البعض لمدّة أقلّ من ذلك، حدّها الأدنى 4 ساعات، وأنّ التفاوت في معدَّل النوم بين الناس يتأثر بعوامل شخصيّة تتعلّق بالفرد نفسه.

وقد لوحظ أنّ أولئك الذين يعيشون حياة نشطة وخلّاقة ومجدية، وخالية من الهمّ، فإنّ حاجتهم للنوم، هي أقلّ من حاجة أقرانهم، ممن لا يظهرون مثل هذه الصّفات.

ويقرّر باحثون اختصاصيون: أنّ الحدّ الأدنى للحاجة إلى النّوم في الفرد النامي، ذكراً أو أنثى، يقع ما بين 4 إلى 5 ساعات في اليوم، وقد يكون فيما يزيد على هذا الحدّ إضافة لا حاجة مهمّة لها، وأنّ بإمكان الفرد أن يستغني عنها.

وتحديد مدّة النوم وزمنه، يخضع لما يعوّد الفرد عليه نفسه، ضمن الظروف والحالة الطبيعية، فإذا برمج وضعه على مدّة معيّنة للنوم، فسينتظم عليها، وقد ينزعج للإخلال بها.

ويتّضح من دراسات علميّة عديدة، للمقارنة بين سمات وصفات فئة الأفراد طويلي النوم، وفئة الأفراد قصيري النوم: أن قصيري النوم هم أكثر نشاطاً وفعالية، وأكثر طموحاً، واتخاذاً للقرار، وأكثر رضى عن أنفسهم وحياتهم، وأكثر اجتماعية، وهم قليلو التشكّي بشأن دراستهم وظروف حياتهم، وهم يتّصفون بالانفتاح، وقلّة القلق، ويشغلون أنفسهم بصورة دائمة بفعالية أو أخرى، وقلّما يعانون مشاكل نفسيّة. ويتضح من هذه الخصائص، أن قصر النوم يتوافق عادةً مع مقوّمات أفضل في الشخصية، ومع حياة نفسية واجتماعية وإنتاجية أفضل. وهذا يدلّل على أن النوم، وإلى حد ما، هو أقلّ ضرورة أو فائدة لصاحبه مما كان يظن.

إنه ينبغي التعامل مع النوم ضمن حالة الحاجة والضرورة، وليس كهواية يستمتع بها الإنسان فيستكثر منها.

وما نراه عند البعض، من زيادة وقت نومهم أيام العطلة والإجازة، يعتبر ظاهرة سلبية، تحرم الإنسان من الاستفادة المناسبة من وقت فراغه.

ونجد في النصوص والتعاليم الدينية ما يؤكّد أهمية التقليل من النوم، ويلفت نظر الإنسان إلى سلبيات الإكثار منه.

جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إيّاكم وكثرة النَّوم، فإنَّ كثرة النوم يدع صاحبه فقيراً يوم القيامة". ومعنى الحديث واضح، لأنّ كثرة النوم ستكون على حساب العمل الصّالح، والذي هو غنى الإنسان وثروته في الدّنيا والآخرة.

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "إنَّ الله يبغض كثرة النّوم وكثرة الفراغ".

وعنه في حديث آخر: "كثرة النّوم مذهبة للدّين والدّنيا".

هدر الأوقات:

لضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه الزمن، وللتصور الخاطئ عن وظيفة وقت الفراغ، فإن البعض يهدرون أوقاتهم خلال العطلة الصيفية والإجازات بشكل مؤسف، ويتحدثون بكل صراحة عن قتل وقت الفراغ، إما عبر جلسات فارغة، تستمرّ ساعات طويلة، دون فائدة أو قيمة، أو بالتسكّع على أرصفة الشوارع والطرقات.

إنّ لقاء الأصدقاء والجلوس معهم أمر جيّد، شريطة أن يكون ضمن الحدود الطبيعية، وأن يستثمر في تعميق أواصر المودة، والاستفادة الفكرية والعملية، بمناقشة موضوع مفيد، أو تنمية موهبة وكفاءة.

لكنّ جلسات قتل الوقت تأخذ منحى آخر، إذ تطول ساعات دون مبرّر، ولا يتخلّلها إلا كلام تافه، قد يكون سبباً للمشاكل والآثام.

التلقّي السلبي:

أصبحت وسائل الإعلام المتقدّمة، وتكنولوجيا الاتصالات المتطوّرة، كقنوات البثّ الفضائي، وشبكة الإنترنت، تستهلك جزءاً كبيراً من وقت الإنسان المعاصر، وهي تفتح أفقاً معرفيّاً واسعاً أمام الإنسان، وتقدِّم له خدمات عالية، آخذة في الاتّساع.

وفي أيام إجازات الدّراسة والعمل، يتضاعف الإقبال على هذه الوسائل، حيث يقضي أمامها الكثيرون ساعات طويلة كلّ يوم.

وتتمثّل سلبيّة التعاطي مع وسائل الإعلام والاتّصالات في جانبين:

الأوّل: استهلاك الوقت دون حدود، وعلى حساب سائر المهام والأبعاد من شخصيّة الإنسان والتزاماته، حتى أشار تقرير نشر قبل عشر سنوات، إلى أنّ بعض الطلاب عندما يتخرّج من المرحلة الثانوية، يكون قد أمضى أمام جهاز التليفزيون قرابة «15» ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في فصول الدراسة أكثر من «10800» ساعة على أقصى تقدير، أي في حالة كونه مواظباً على الدّراسة، محدود الغياب. ومعدَّل حضور بعض الطلاب في الجامعة «600» ساعة سنوياً، بينما متوسط جلوسه أمام التليفزيون «1000» ساعة سنوياً.

وقد سبّب الانجذاب غير المقنَّن إلى وسائل الإعلام والاتصالات، انخفاضاً في الأداء التعليمي، عند شريحة واسعة من الطلاب والطالبات، كما سبب تدنياً في مستوى العلاقات العائلية، واهتمام الزوجين ببعضهما البعض، واهتمامهما بالأبناء. ويحصل كثيراً أن تهمل الأم أطفالها، من أجل متابعة أحد الأفلام أو المسلسلات.

أمّا قراءة الكتب، وبرنامج التثقيف الذاتي، فقد أصبح في خبر كان، عند أكثر أبناء هذا الجيل، المستقطب إعلامياً ومعلوماتياً.

الثاني: سوء الاختيار وسلبية التلقي، فهناك أكثر من 500 قناة عالمية تبث مختلف البرامج ليل نهار، وهناك ملايين المواقع على شبكة الإنترنت، تعرض كل شيء دون حدود أو قيود، فإذا لم تكن للإنسان قيم وضوابط في اختياره لما يشاهد ويتابع، فإنه سيكون فريسة سهلة، ولقمة سائغة، للتوجهات الفاسدة، التي تحرّض الغرائز والشهوات، وتشجّع على العنف والإجرام، وتروّج لأنماط سلوكيّة مخالفة للمحيط الاجتماعي، وهي في مجملها أدوات للعولمة الثقافية، التي تريد إلغاء الهويّات الحضارية لمختلف الشعوب والأمم، لتذويبها في بوتقة الحضارة الغربية المادية.

إنّ الإنسان كما يحرص على صحة جسمه، فلا يتناول طعاماً ملوّثاً، فكذلك عليه أن يحرص على صحة فكره وسلوكه، فلا يتلقّى المشاهد والتوجهات السلبية الضارة. يقول الإمام الحسن بن عليّ (ع): "عجبت لمن يتفكّر في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنّب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه".

وإذ يتمتع الإنسان بنعمة السّمع والبصر من الله سبحانه وتعالى، فإنّه يتحمّل المسؤوليّة تجاه طريقة استخدامهما. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.

الفراغ والانحراف:

إنّ من أسوأ الظواهر التي تنتج من فراغ العطلة الصيفية، إذا لم تستثمر بالبرامج الصّالحة، هي ظاهرة التصرّفات الشاذّة، والسلوكيات المنحرفة، في وسط الجيل النّاشئ.

ذلك أنّ الشعور بالفراغ يدفع لتقبّل أيّ اهتمام، وعادةً ما يصحب التوجهات الخاطئة إغواء وإغراء، ولقلّة النضج والخبرة عند الشّباب والمراهقين، يكون انزلاقهم سهلاً.

وتؤكّد الأبحاث والتقارير، دور مشاهدة الأفلام والبرامج السيّئة، في الاندفاع نحو الانحرافات الجنسيّة، وأعمال العنف، لدى المراهقين والمراهقات، كما أنّ استخدام شبكة الإنترنت، كثيراً ما يكون وسيلة إغواء يستجيب لها الشّباب، وخصوصاً في فترة الفراغ، فيدخلون عبرها إلى مواقع إباحيّة، ويرتبطون بعلاقات ضارّة.

ويذكر عبد الرّحمن مصيقر في دراسته عن الشباب والمخدّرات في دول الخليج العربي: أنّ دراسات أجريت في بعض الدول العربية عن متعاطي المخدّرات، تبين أن أغلبهم كانوا يشغلون بها وقت فراغهم.

ونقل باحث آخر، نتائج بعض الدّراسات التي أجريت حول علاقة وقت الفراغ بالانحراف، وتوصلت إلى ما يلي:

أ - أن أغلبية الأفعال الانحرافية يرتكبها الفرد أثناء وقت الفراغ.

ب - أن نسبة كبيرة من الانحرافات ترتكب بقصد الاستمتاع بوقت الفراغ.

إنّ حالة الهدوء والاستقرار في كثير من الأحياء السكنية، تتعرض للاهتزاز والاضطراب عند أول يوم من أيام العطلة الصيفية، حيث يمارس عدد من الشباب هواية التفحيط بسياراتهم، والقيام بحركات بهلوانية حتى وسط الأحياء السكنية، ويمتطي بعضهم دراجات نارية ذات صوت مرتفع مزعج، وينتشر بعض الشباب في الطرقات والأماكن العامّة، ليقوموا بتصرّفات شاذّة، منافية للأدب والاحترام.

وتحسب العوائل ألف حساب للسيطرة على أبنائها عند تعطيل الدراسة، كما تستعدّ الأجهزة الأمنية للتعامل مع ارتفاع معدّل الحوادث والجرائم والمشاكل السلوكيّة، خلال العطل والإجازات.

وليس مبالغةً أن نقول: إنّ العطلة الصيفيّة تخرّج كلّ عام أفواجاً من الملتحقين بتيارات الفساد والانحراف. ورد عن الإمام عليّ أنّه قال: «من الفراغ تكون الصّبوة»، أي الممارسات الصبيانيّة. وعنه: «إن يكن الشّغل مجهدة فالفراغ مفسدة».

إنّ ذلك يؤكّد مسؤوليّة الجميع في الاهتمام بالتخطيط السليم لوقت الفراغ، والعمل على احتواء الطلاب والطالبات واستيعابهم خلال العطلة الصيفية، لمساعدتهم على استثمارها بما يخدم مستقبلهم ومصلحة الوطن.

لقد كان أرسطو على حقّ وبعيد النظر، حين رأى أنّ أهمّ أهداف التربية، هو تعليم الناس كيف يستطيعون تمضية أوقات فراغهم، واستغلالها بصورة إيجابيّة ومفيدة.

غالباً ما يكون الفراغ أرضية للانحراف، ودافعاً للتوجهات السيئة، حيث لا يشعر الإنسان بوجوده وقيمته، إلا إذا كان له تفاعل ما مع قضايا الحياة من حوله، فإن لم يتوافر له ما يمنحه هذا الشعور إيجابياً، فسيعاني حالة فراغ نفسي، تتولّد منها هواجس وتصورات غير منضبطة، كما قد تتحرّك لديه بعض النوازع والرغبات غير السّليمة، والتي هي تحت السيطرة في الأوضاع العاديّة السويّة.

وأخطر ما يكون الفراغ في مرحلة الشّباب، حيث يمتلك الشابّ قوّة فائضة، تبحث عن قنوات للتصريف، وحماساً كبيراً، يدفع نحو الفاعليّة والنّشاط. فإذا كانت أمامه برامج وأدوار، وخيارات مناسبة، تشغل اهتمامه، وتنمّي شخصيّته، وتفعّل قدراته بالاتجاه الصّحيح، فإنّ ذلك سيكون لصالحه وصالح المجتمع.

أمّا في حالة الفراغ، فإنّه يكون الشابّ فريسة لمشاعر الملل والإحباط، ولقمة سائغة لتيارات الفساد والانحراف، وهذا ما تعاني منه كثير من المجتمعات المعاصرة.

وكما اشتهر على الألسن قول الشّاعر أبو العتاهية:

إنّ الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

وقال شاعر آخر:

لقد هاج الفراغ عليه شُغلاً وأسباب البلاء من الفراغ

وينقل عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنّه قال لعامله: «إنّ هذه الأيدي لا بدّ أن تشغل، فاشغلها بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصيته».

وروى البيهقي عن عبد الله بن الزبير قال: أشرّ شيء في العالم البطالة.

ومن أخطر السلبيات التي تنتج من الفراغ، حالة الملل والسأم، وهي مؤذية للنفس، مربكة لشخصية الإنسان، وهناك مقولة متداولة هي: "أن تشعر بالملل هو أن تقبل الموت". والملل قد يدفع الإنسان إلى تصرفات عبثية ضارة، من أجل التخلص من الملل والخروج من عبء وطأته.

إن عدم التخطيط لاستثمار وقت الفراغ، وخصوصاً في العطلة الصيفية والإجازات، وعدم الاهتمام بتوفير البرامج المناسبة من قبل الفرد والمجتمع، هو الذي ينتج العديد من الظواهر السلبية التي تعانيها مجتمعاتنا، ونلحظها في حياة الكثيرين في أوقات فراغهم، ومن أبرزها، الظواهر التالية:

كثرة النوم:

يجد البعض في العطلة والإجازة فرصة جيدة لزيادة ساعات نومه، والتي قد تصل إلى عشر ساعات أو أكثر، بينما يكون معدّل نومه أيام الدراسة والعمل في حدود ستّ ساعات أو سبع ساعات في أقصى حد.

لا شك أن النوم حالة طبيعية، وضرورة بيولوجية للإنسان، كما لسائر الكائنات الحيّة، وأنه يخدم وظائف أساسية، مهمتها استعادة الإنسان لنشاطه، وللمقومات التي يعتمد عليها هذا النشاط، وإعادة التوازن الذي اختل أثناء ساعات اليقظة.

ومن الواضح أن النائم يفقد إدراكه بما يحيط به، ويتوقف إحساسه بالحياة، وتفاعله معها. حيث تتضاءل جميع أنشطته، وترتخي عضلاته، وتتباطأ ضربات القلب، وينخفض معدّل التنفّس.

فالنوم في مظهره يشكّل شبه خروج مؤقت للإنسان عن معادلة الحياة. وإذا كان الإنسان ينام ثماني ساعات، في كلّ أربع وعشرين ساعة، فمعنى ذلك أنّ ثلث عمره يكون خارج دائرة الإحساس والتفاعل مع الحياة، ومن يحبّ الحياة، ويتبنّى فيها أهدافاً وتطلّعات، عليه أن يحرص على كسب أيّ ساعة ولحظة منها، والنّوم فيما يزيد منه على الحاجة والضّرورة، بمثابة هدر وتضييع لجزء من العمر.

لقد افترض الكثيرون أن الحاجة اليوميّة للنوم، هي ثلث ساعات اليوم الواحد، أو ما معدَّله 8 ساعات، في كلّ 24 ساعة، واعتبر البعض: أنّ الإخلال بهذا المعدل، يلحق الأذى بصاحبه، لكن بحوث العلماء، والتجارب الميدانيّة والاختباريّة، أظهرت: أنّ معظم الناس ينامون لمعدَّل زمني يقع بين 5 إلى 6 ساعات في اليوم الواحد، بينما ينام البعض لمدّة أقلّ من ذلك، حدّها الأدنى 4 ساعات، وأنّ التفاوت في معدَّل النوم بين الناس يتأثر بعوامل شخصيّة تتعلّق بالفرد نفسه.

وقد لوحظ أنّ أولئك الذين يعيشون حياة نشطة وخلّاقة ومجدية، وخالية من الهمّ، فإنّ حاجتهم للنوم، هي أقلّ من حاجة أقرانهم، ممن لا يظهرون مثل هذه الصّفات.

ويقرّر باحثون اختصاصيون: أنّ الحدّ الأدنى للحاجة إلى النّوم في الفرد النامي، ذكراً أو أنثى، يقع ما بين 4 إلى 5 ساعات في اليوم، وقد يكون فيما يزيد على هذا الحدّ إضافة لا حاجة مهمّة لها، وأنّ بإمكان الفرد أن يستغني عنها.

وتحديد مدّة النوم وزمنه، يخضع لما يعوّد الفرد عليه نفسه، ضمن الظروف والحالة الطبيعية، فإذا برمج وضعه على مدّة معيّنة للنوم، فسينتظم عليها، وقد ينزعج للإخلال بها.

ويتّضح من دراسات علميّة عديدة، للمقارنة بين سمات وصفات فئة الأفراد طويلي النوم، وفئة الأفراد قصيري النوم: أن قصيري النوم هم أكثر نشاطاً وفعالية، وأكثر طموحاً، واتخاذاً للقرار، وأكثر رضى عن أنفسهم وحياتهم، وأكثر اجتماعية، وهم قليلو التشكّي بشأن دراستهم وظروف حياتهم، وهم يتّصفون بالانفتاح، وقلّة القلق، ويشغلون أنفسهم بصورة دائمة بفعالية أو أخرى، وقلّما يعانون مشاكل نفسيّة. ويتضح من هذه الخصائص، أن قصر النوم يتوافق عادةً مع مقوّمات أفضل في الشخصية، ومع حياة نفسية واجتماعية وإنتاجية أفضل. وهذا يدلّل على أن النوم، وإلى حد ما، هو أقلّ ضرورة أو فائدة لصاحبه مما كان يظن.

إنه ينبغي التعامل مع النوم ضمن حالة الحاجة والضرورة، وليس كهواية يستمتع بها الإنسان فيستكثر منها.

وما نراه عند البعض، من زيادة وقت نومهم أيام العطلة والإجازة، يعتبر ظاهرة سلبية، تحرم الإنسان من الاستفادة المناسبة من وقت فراغه.

ونجد في النصوص والتعاليم الدينية ما يؤكّد أهمية التقليل من النوم، ويلفت نظر الإنسان إلى سلبيات الإكثار منه.

جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إيّاكم وكثرة النَّوم، فإنَّ كثرة النوم يدع صاحبه فقيراً يوم القيامة". ومعنى الحديث واضح، لأنّ كثرة النوم ستكون على حساب العمل الصّالح، والذي هو غنى الإنسان وثروته في الدّنيا والآخرة.

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "إنَّ الله يبغض كثرة النّوم وكثرة الفراغ".

وعنه في حديث آخر: "كثرة النّوم مذهبة للدّين والدّنيا".

هدر الأوقات:

لضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه الزمن، وللتصور الخاطئ عن وظيفة وقت الفراغ، فإن البعض يهدرون أوقاتهم خلال العطلة الصيفية والإجازات بشكل مؤسف، ويتحدثون بكل صراحة عن قتل وقت الفراغ، إما عبر جلسات فارغة، تستمرّ ساعات طويلة، دون فائدة أو قيمة، أو بالتسكّع على أرصفة الشوارع والطرقات.

إنّ لقاء الأصدقاء والجلوس معهم أمر جيّد، شريطة أن يكون ضمن الحدود الطبيعية، وأن يستثمر في تعميق أواصر المودة، والاستفادة الفكرية والعملية، بمناقشة موضوع مفيد، أو تنمية موهبة وكفاءة.

لكنّ جلسات قتل الوقت تأخذ منحى آخر، إذ تطول ساعات دون مبرّر، ولا يتخلّلها إلا كلام تافه، قد يكون سبباً للمشاكل والآثام.

التلقّي السلبي:

أصبحت وسائل الإعلام المتقدّمة، وتكنولوجيا الاتصالات المتطوّرة، كقنوات البثّ الفضائي، وشبكة الإنترنت، تستهلك جزءاً كبيراً من وقت الإنسان المعاصر، وهي تفتح أفقاً معرفيّاً واسعاً أمام الإنسان، وتقدِّم له خدمات عالية، آخذة في الاتّساع.

وفي أيام إجازات الدّراسة والعمل، يتضاعف الإقبال على هذه الوسائل، حيث يقضي أمامها الكثيرون ساعات طويلة كلّ يوم.

وتتمثّل سلبيّة التعاطي مع وسائل الإعلام والاتّصالات في جانبين:

الأوّل: استهلاك الوقت دون حدود، وعلى حساب سائر المهام والأبعاد من شخصيّة الإنسان والتزاماته، حتى أشار تقرير نشر قبل عشر سنوات، إلى أنّ بعض الطلاب عندما يتخرّج من المرحلة الثانوية، يكون قد أمضى أمام جهاز التليفزيون قرابة «15» ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في فصول الدراسة أكثر من «10800» ساعة على أقصى تقدير، أي في حالة كونه مواظباً على الدّراسة، محدود الغياب. ومعدَّل حضور بعض الطلاب في الجامعة «600» ساعة سنوياً، بينما متوسط جلوسه أمام التليفزيون «1000» ساعة سنوياً.

وقد سبّب الانجذاب غير المقنَّن إلى وسائل الإعلام والاتصالات، انخفاضاً في الأداء التعليمي، عند شريحة واسعة من الطلاب والطالبات، كما سبب تدنياً في مستوى العلاقات العائلية، واهتمام الزوجين ببعضهما البعض، واهتمامهما بالأبناء. ويحصل كثيراً أن تهمل الأم أطفالها، من أجل متابعة أحد الأفلام أو المسلسلات.

أمّا قراءة الكتب، وبرنامج التثقيف الذاتي، فقد أصبح في خبر كان، عند أكثر أبناء هذا الجيل، المستقطب إعلامياً ومعلوماتياً.

الثاني: سوء الاختيار وسلبية التلقي، فهناك أكثر من 500 قناة عالمية تبث مختلف البرامج ليل نهار، وهناك ملايين المواقع على شبكة الإنترنت، تعرض كل شيء دون حدود أو قيود، فإذا لم تكن للإنسان قيم وضوابط في اختياره لما يشاهد ويتابع، فإنه سيكون فريسة سهلة، ولقمة سائغة، للتوجهات الفاسدة، التي تحرّض الغرائز والشهوات، وتشجّع على العنف والإجرام، وتروّج لأنماط سلوكيّة مخالفة للمحيط الاجتماعي، وهي في مجملها أدوات للعولمة الثقافية، التي تريد إلغاء الهويّات الحضارية لمختلف الشعوب والأمم، لتذويبها في بوتقة الحضارة الغربية المادية.

إنّ الإنسان كما يحرص على صحة جسمه، فلا يتناول طعاماً ملوّثاً، فكذلك عليه أن يحرص على صحة فكره وسلوكه، فلا يتلقّى المشاهد والتوجهات السلبية الضارة. يقول الإمام الحسن بن عليّ (ع): "عجبت لمن يتفكّر في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنّب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه".

وإذ يتمتع الإنسان بنعمة السّمع والبصر من الله سبحانه وتعالى، فإنّه يتحمّل المسؤوليّة تجاه طريقة استخدامهما. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.

الفراغ والانحراف:

إنّ من أسوأ الظواهر التي تنتج من فراغ العطلة الصيفية، إذا لم تستثمر بالبرامج الصّالحة، هي ظاهرة التصرّفات الشاذّة، والسلوكيات المنحرفة، في وسط الجيل النّاشئ.

ذلك أنّ الشعور بالفراغ يدفع لتقبّل أيّ اهتمام، وعادةً ما يصحب التوجهات الخاطئة إغواء وإغراء، ولقلّة النضج والخبرة عند الشّباب والمراهقين، يكون انزلاقهم سهلاً.

وتؤكّد الأبحاث والتقارير، دور مشاهدة الأفلام والبرامج السيّئة، في الاندفاع نحو الانحرافات الجنسيّة، وأعمال العنف، لدى المراهقين والمراهقات، كما أنّ استخدام شبكة الإنترنت، كثيراً ما يكون وسيلة إغواء يستجيب لها الشّباب، وخصوصاً في فترة الفراغ، فيدخلون عبرها إلى مواقع إباحيّة، ويرتبطون بعلاقات ضارّة.

ويذكر عبد الرّحمن مصيقر في دراسته عن الشباب والمخدّرات في دول الخليج العربي: أنّ دراسات أجريت في بعض الدول العربية عن متعاطي المخدّرات، تبين أن أغلبهم كانوا يشغلون بها وقت فراغهم.

ونقل باحث آخر، نتائج بعض الدّراسات التي أجريت حول علاقة وقت الفراغ بالانحراف، وتوصلت إلى ما يلي:

أ - أن أغلبية الأفعال الانحرافية يرتكبها الفرد أثناء وقت الفراغ.

ب - أن نسبة كبيرة من الانحرافات ترتكب بقصد الاستمتاع بوقت الفراغ.

إنّ حالة الهدوء والاستقرار في كثير من الأحياء السكنية، تتعرض للاهتزاز والاضطراب عند أول يوم من أيام العطلة الصيفية، حيث يمارس عدد من الشباب هواية التفحيط بسياراتهم، والقيام بحركات بهلوانية حتى وسط الأحياء السكنية، ويمتطي بعضهم دراجات نارية ذات صوت مرتفع مزعج، وينتشر بعض الشباب في الطرقات والأماكن العامّة، ليقوموا بتصرّفات شاذّة، منافية للأدب والاحترام.

وتحسب العوائل ألف حساب للسيطرة على أبنائها عند تعطيل الدراسة، كما تستعدّ الأجهزة الأمنية للتعامل مع ارتفاع معدّل الحوادث والجرائم والمشاكل السلوكيّة، خلال العطل والإجازات.

وليس مبالغةً أن نقول: إنّ العطلة الصيفيّة تخرّج كلّ عام أفواجاً من الملتحقين بتيارات الفساد والانحراف. ورد عن الإمام عليّ أنّه قال: «من الفراغ تكون الصّبوة»، أي الممارسات الصبيانيّة. وعنه: «إن يكن الشّغل مجهدة فالفراغ مفسدة».

إنّ ذلك يؤكّد مسؤوليّة الجميع في الاهتمام بالتخطيط السليم لوقت الفراغ، والعمل على احتواء الطلاب والطالبات واستيعابهم خلال العطلة الصيفية، لمساعدتهم على استثمارها بما يخدم مستقبلهم ومصلحة الوطن.

لقد كان أرسطو على حقّ وبعيد النظر، حين رأى أنّ أهمّ أهداف التربية، هو تعليم الناس كيف يستطيعون تمضية أوقات فراغهم، واستغلالها بصورة إيجابيّة ومفيدة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية