يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
آيةُ التَّطهير
تتحدَّث هذه الآية عن حديث الكساء الَّذي يرويه المسلمون من سائر المذاهب، ويروون أنَّه عندما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) وهو في بيت أمّ سلمة، دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السَّلام)، ولفَّهم بثوبٍ أو بكساء، وقال: "اللَّهمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ، وَطَهِّرْهُم تَطْهيراً".
وكان النَّبيّ (ص) في كلِّ صباح عندما يخرج إلى صلاة الفجر، ينادي في بيت فاطمة: "السَّلامُ علَيْكُم أَهْلَ البَيْتِ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، ويدعوهم ليخرجوا للصَّلاة.
هذا حديثٌ لم يختلف المسلمون فيه، فحديث الكساء في هذا المعنى هو حديثٌ مستفيضٌ مسلَّمٌ به بينَ المسلمين جميعاً، وإنَّ هذه الآية، وإن كان ما قبلها وما بعدها من آيات في سياق الحديث عن أزواج النَّبيّ (ص)، إلّا أنّها نزلت وحدها، وضُمَّتْ إلى تلك الآيات للمناسبة.
الصدّيقةُ الطَّاهرة
ونحن نقف مع هذه الآية، لأنَّنا نلتقي في هذه الأيَّام، على بعض الرّوايات، بذكرى وفاة الصدّيقة الطَّاهرة فاطمة الزَّهراء (ع)، سيِّدة نساء العالمين. ونحن ننطلق في ذكرى هذه الإنسانة العظيمة، لأنَّنا قلَّما نجد في التَّأريخ إنسانةً كمثل فاطمة (ع)، عاشت الفضائل كأعلى ما تكون الفضائل، وعاشت الرّوحانيَّة كأكثر ما تفيض الرّوحانيَّة، وعاشت الجهادَ في سبيل الله كأفضل ما تقف المرأة مجاهدةً في سبيل الحقّ، وعاشت طفولتها مع أبيها، واحتضنته في رسالته كما احتضنته في أبوَّته، وعاشت مع عليّ (ع) الَّذي تلمّذت معه على رسول الله (ص)، عاشت معه (ع) كزوجة من أفضل الزَّوجات، بشهادة عليّ (ع) نفسه، وعندما ولدت حسناً وحسيناً وزينب وأمّ كلثوم، كانت مِنْ أفضل الأمَّهات في رعايتها لهم، وفي جهدها ومشقَّتها، حتَّى كانت في بيتها متعبةً كأشدّ ما يكون التَّعب، مثقلةً كأشدّ ما يكون الثّقل، حتَّى أثَّر ذلك في صحَّتها، بشهادة أمير المؤمنين (ع)، عندما كان يحدِّث بعض أصحابه عن ذلك، وعندما جاء إلى رسول الله يطلب منه خادماً يساعدها (ع) في ذلك.
النَّموذجُ الأعلى للمرأة
وهكذا رأينا فاطمة الزَّهراء (ع) في الواقع الإسلاميّ تعلِّم وتوجِّه وتُرشِد، وتقف بكلّ قوّةِ المرأةِ الصّدّيقةِ الطَّاهرةِ في ذلك. وهي في دراستنا لحياتها، في كلّ ما نقله الرّواة عن حياتها - ولم ينقلوا إلينا الشَّيء الكثير - لم ينقل أحد منهم، سواء كانوا من الموالين أو من غير الموالين، أنَّها أخطأت في كلمة، أو في فكرة، أو أنَّها انحرفت في عمل، كانت سيرتها التأريخيَّة سيرة العصمة في كلّ ما قالت وفي كلّ ما فعلت. ونحن نقرأ في آية التَّطهير الَّتي هي دليل عصمة أهل هذا البيت، أنَّها المعصومة الَّتي أذهب الله عنها الرّجس وطهَّرها تطهيراً، كما أنَّ الأحاديث الَّتي تنوَّعت بين صفتها كسيّدة نساء العالمين، وصفتها كسيّدة نساء أهل الجنَّة، تؤكّد ذلك، لأنَّه لا يمكن أن تكون سيّدةُ نساء العالمين، وسيّدةُ نساء أهل الجنَّة، إنسانةً تنحرف في الكلمة وفي الفعل وفي الفكر.
ولذلك، تمثّل السيّدة الزّهراء (ع) النّموذجَ الأعلى للإنسان وللمرأة، لأنَّها استطاعت أن تجمع في عقلها علماً تعلَّمته من رسول الله، وفي قلبها حبّاً للنَّاس كلّهم، وأن تجمع في سيرتها وفي سلوكها كلّ حركيَّة المسؤوليَّة للإنسان المسلم.
وهكذا كانت عبادتها كأفضل ما تكون العبادة، وقد ورد عن الحسن البصري قوله: "ما كَانَ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَعْبَدُ مِنْ فَاطِمَة"، وقالت زوجة أبيها عائشة عنها: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ فَاطِمَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذي وَلَّدَهَا".
وكانت (ع) تشبه رسول الله (ص)، كما تتحدَّث عائشة عنها، كانت تشبهه في كلامها وحديثها، حتَّى كانت إذا تكلَّمت، فكأنَّ النَّاس يسمعون رسول الله في كلامها، وكانت أشبه الناس بالرّسول (ص)، كما تقول أمّ سلمة عنها، في إشراقة وجهها.
علاقتُها المميَّزةُ بالرَّسول (ص)
وكانت علاقتها برسول الله علاقة مميَّزة، بحيث إنَّها تتجاوز العلاقة العاديَّة بين كلّ أب وابنته، وبين كلّ ابنة وأبيها، وهي الَّتي خسرت أمَّها وكانت في طفولتها الأولى، فكان رسول الله أمَّها وأباها، فيما أعطاها من روحه وعاطفته، كما كانت هي في عاطفتها الطَّاهرة الواعية، تراقبُ رسول الله (ص) في كلّ أحزانه وآلامه، وهي طفلة تدرج، فكانت إذا رأت المشركين يضعون القذارات على ظهره وهو ساجد، تأتي وتدفع ذلك عنه، فكانت (ع) تعيش عقليَّة الشَّباب وهي طفلة، وتبكي حزناً على أبيها الَّذي يعاني في رسالته.
وتنقل كتب التفسير، أنَّها عندما سمعت من هنا وهناك، أنَّ القوم يخطّطون لقتل رسول الله (ص)، جاءت إليه وهي تبكي، قال لها: ما يبكيك يا بنيَّة؟ فقالت ما مضمونه، إنَّ القوم يخطّطون ليقتلوك، ولكنَّ النَّبيّ (ص) طمأنها، وأخبرها أنَّ الله سوف يمنعهم من ذلك.
كانت (ع) تعيش مع أبيها، وكانت تفهم كلَّ آلامه وأحزانه، وتعطيه كلَّ عاطفتها، حتَّى قال عنها، وهو يتحسَّس فيها عاطفة الأمّ، فيما افتقده من عاطفة أمّه: "أُمُّ أَبِيها"، لقد عوَّضتني في حنانها وعاطفتها ومحبَّتها، وفيما افتقدته من حنان أمّي. هذا ما استوحاه رسول الله (ص) من عاطفتها.
مظلوميَّةُ الزَّهراء (ع)
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، عاشت الزَّهراء (ع) المرارة كلّها والمظلوميَّة كلّها بعد رسول الله (ص)، عندما أقبل القوم يهدّدون بإحراق بيتها من أجل إخضاع أمير المؤمنين، ودارت هناك أحداث وأحداث اختلف المؤرّخون فيها، ولكنَّ المسألة في جميع ما يقوله المؤرّخون، أنّها عاشت الظّلامة في غصب حقّها في فدك، وفي الهجوم على بيتها والتَّهديد بإحراقه، وعاشت الظّلامة الكبرى في إبعاد عليّ (ع) عن حقّه، وقد كان كلُّ همّها، في كلّ ما تكلَّمت به في المسجد، وفي كلّ ما تكلَّمت به مع نساء المهاجرين والأنصار ومع رجالهنّ، وما تكلَّمت به هنا وهناك، كان كلّ همّها القضيَّة الكبرى الَّتي هي قضيَّة الإسلام والمسلمين، في المسألة الَّتي تمثّل مستقبل الإسلام والمسلمين، لأنَّها كانت ترى أنَّ عليّاً (ع) هو الَّذي يمثّل المستقبل كلَّه.
ونحن نتعلَّم من الزّهراء (ع) الَّتي كانت تعيش آلامها، وتعيش كلَّ ذلك الواقع، ولكنّها انطلقت من القضيَّة الكبرى؛ لم تتحدَّث عن آلامها، ولا عن ظلامتها، ولكنَّها تحدَّثت عن القضيَّة الكبرى، قضيَّة الإسلام والمسلمين، ولم تكن مسألة عليّ عندها مسألة زوج أُخِذَ حقُّه، أو مسألة قريب أُخِذَ حقُّه، ولكنَّ عليّاً كان إمامها وإمام المسلمين جميعاً، ولذلك كانت تفكّر في القضيَّة من منطلق موقع الإمامة في واقع المسلمين.
وهذا ما نتعلَّمه، أيُّها الأحبَّة، عندما نعيش القضايا الشَّخصيَّة فيما نتألَّم منه، أو فيما نحزن عليه، أو فيما يواجهه كلّ واحد منَّا من مشاكل؛ أن نجمّد كلَّ قضايانا الصَّغيرة من أجل قضايانا الكبيرة الَّتي تتحدَّى الإسلام والمسلمين، والَّتي تتحدَّى الواقع كلَّه هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، في ذكرى وفاة السيّدة الزَّهراء (ع)، نحن نكبر بها، ونحن ننطلق من خلال كلّ حياتها الغنيَّة بالرّوحانيَّة، والغنيَّة بالعلم، والغنيَّة بالعاطفة وبالجهاد، من أجل أن تكون القدوة للنّساء وللرّجال في ذلك، لأنَّ الزَّهراء (ع) كانت تعيش في عقلها عقلَ رسول الله، وكانت تعيش في قلبها قلبَ رسول الله، وكانت تعيش في روحانيَّتها روحانيَّةَ رسول الله (ص). لذلك، أن تكون (ع) النَّموذج، أن تكون المثل الأعلى، أن تكون القدوة، هذا ما يجب أن نفكّر فيه.
دعاءان للزَّهراء (ع)
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، ونحن نعيش روحانيَّة الزهراء (ع)، أن نستوحي دعاءين كانت تدعو بهما، دعاء علَّمها إيَّاه رسول الله (ص)، ودعاء كانت تدعو هي به، لنعرف من خلال هذه الأدعية، كيف كانت تدعو (ع)، وكيف كانت تعيش القيمة الروحيَّة الأخلاقيَّة، وتعيش حاجاتها الَّتي تدعو بها ربَّها:
"اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي - اجعلني، يا ربّ، في كلّ ما رزقتني إيَّاه، مما وهبتني إيّاه وهيَّأته لي بيسر، أو مما عملته أنا، اجعلني أقتنع به - واسْتُرْنِي - من كلّ ما يمكن أن يواجهني من مشاكل - وعَافِنِي أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي - عافني من البلاء - واغْفِرْ لِي – كلّ ما يمكن أن أذنب فيه - وارْحَمْنِي إِذَا تَوَفَّيْتَنِي - لأنَّ الإنسان عندما يغمض عينيه ويترك هذه الحياة، فهو أحوج ما يكون إلى رحمة الله، ليغفر ذنبه، وليدخله في رضوانه.
- اللَّهُمَّ لَا تُعْيِنِي فِي طَلَبِ مَا لَا تُقَدِّرُ لِي - لا تتعبني، يا ربّ، في سلوك الطّرق الَّتي تعرف أنَّها لن تحقّق لي نتيجة، ألهمني أن أعرف أنَّ هذا الطَّريق منتجٌ لأنطلق فيه، وأنَّ ذلك الطَّريق ليس منتجاً لأقف فيه - ومَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ، فَاجْعَلْهُ مُيَسَّراً سَهْلًا - في أعمالي الماديَّة، وفي كلّ أعمالي في الحياة.
- اللَّهُمَّ كَافِ عَنِّي وَالِدَيَّ - ويستحضرُ الإنسانُ والديه في الدّعاء، ويتذكَّر كيف أحسنا إليه، وكيف رعياه، وكيف ساهما في تنشئته، وكيف شقيا ليصعد، وكيف تألَّما ليفرح وليرتاح - وكُلَّ مَنْ لَهُ نِعْمَةٌ عَلَيَّ خَيْرَ مُكَافَاةٍ.
- اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلَقْتَنِي لَهُ - يا ربّ، لقد خلقتني من أجل أن أعبدك كما يجب أن يعبد الإنسان ربَّه، لقد خلقتني من أجل أن أقوم بمسؤوليَّتي فيما أمرتني به وفيما نهيتني عنه، لقد خلقتني وجعلت لي دوراً في الحياة، ففرّغني، يا ربّ، وفرّغ أوقاتي وطاقاتي لما خلقتني له، حتَّى أملأ كلَّ وقتي بمسؤوليَّاتي الَّتي حمَّلتني إيَّاها.
- ولَا تَشْغَلْنِي بِمَا تَكَفَّلْتَ لِي بِهِ - ممّا ترزقني إيَّاه - ولَا تُعَذِّبْنِي وأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ – والزّهراء (ع) تتكلَّم بلسان الإنسان الّذي يذنب، فإذا أذنبت، يا ربّ، فإنّي أسغفرك من ذنبي، وأنت، يا إلهي، لا تعذّب المستغفرين التَّائبين - ولَا تَحْرِمْنِي وأَنَا أَسْأَلُكَ.
اللَّهُمَّ ذَلِّلْ نَفْسِي فِي نَفْسِي - اجعلني، يا ربّ، عندما أعيش مع نفسي، أتحسَّس نقاط الضّعف فيها، حتَّى إذا ذكرت نقاط الضّعف، شعرت بالذلَّة الدَّاخليَّة الَّتي تمنعني من الاستكبار والتَّجبّر.
- وعَظِّمْ شَأْنَكَ فِي نَفْسِي - واجعلني أتحسَّس عظمتك يا ربّ - وأَلْهِمْنِي طَاعَتَكَ، والْعَمَلَ بِمَا يُرْضِيكَ، والتَّجَنُّبَ لِمَا يُسْخِطُكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ".
أمَّا دعاؤها الَّذي علَّمها إيَّاه رسول الله، ونحن نتعلَّمه أيضاً: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلّ شَيْءٍ، مُنْزلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجيلِ وَالفُرْقانِ، فَالِقُ الحَّبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِها، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الفَقْرِ، وَيسِّرْ لي كُلَّ أَمْرٍ، يَا أرْحَمَ الرَّاحمين".
الاقتداءُ بالزَّهراء (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه هي الآفاق الَّتي كانت تعيشها الزَّهراء (ع) في صلواتها، وفي تعقيباتها، وفي كلّ ابتهالاتها مع ربّها. وعلينا أن نتعلَّم من الزّهراء (ع) ما تعلَّمته من رسول الله (ص)، وما جاء به كتاب الله؛ أن نبقى مع الله، نجلس إليه، لنشكو إليه كلَّ همومنا وآلامنا، ولنطلب منه كلَّ أحلامنا وقضايانا.
أيُّها الأحبَّة، لنتعلَّم كيف نحبُّ الله كما أحبَّه النَّبيّ وأهل بيته، وكيف نجلس مع الله كما كان يجلس النَّبيّ وأهل بيته، ولنتعلَّم أن يكون الله عندنا كلَّ شيء، أن لا يكون مع الله أحد، أن لا يشغلنا شيء عن ذكر الله وعن طاعته ومحبَّته، لأنَّ الله هو الأوَّل والآخر، وهو الظَّاهر والباطن، وهو المهيمن على كلّ شيء، وهو رحمن الدّنيا والآخرة.
لقد كانت الزَّهراء (ع) مع الله، فعلينا إذا كنَّا نحبُّها أكثر، ونواليها أكثر، ونخلص لها أكثر، أن نكون كما كانت؛ مع الله، مع الإسلام، مع المسلمين، مع كلّ ما يرتفع بالنَّاس إلى الله.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ أموركم، وراقبوه في كلّ أعمالكم وأقوالكم، وتحمَّلوا مسؤوليَّة كلّ الواقع الَّذي تعيشونه، كلٌّ بحسب طاقته وقدرته. إنَّ الشَّيطانَ قد أعلن حربَه على المؤمنين من أجل أن ينحرف بهم عن الخطّ المستقيم، وإنَّ الكفرَ قد أعلن حربه على كلّ المسلمين من أجل أن يزلزلهم عن عقائدهم، ويبتعد بهم عن الخطّ المستقيم، وإنَّ الاستكبارَ كلَّه قد أعلن حربه على كلّ المستضعفين من أجل أن يصادر ثرواتهم، ومن أجل أن يجعلهم على هامش سياسته وأمنه.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا في الوعي لديننا، وفي تعلّم إسلامنا، وفي الوقوف مع المسلمين في كلّ قضاياهم السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والثَّقافيَّة، لأنَّ الإسلامَ، أيُّها الأحبَّة، في عقيدته وشريعته، ولأنَّ الإسلام في المسلمين، هو أمانة الله عندنا، و"مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ"، و"مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنادي يا لَلْمُسْلِمينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ". ولذلك، لا بدَّ أن نتابع أمور المسلمين مقارنةً بما يخطّط له المستكبرون في المناطق القريبة أو البعيدة.
نبدأ من المنطقة هنا، امتداداً إلى الواقع الدّوليّ فيما يدبَّر للمسلمين.
مخطَّطٌ مشبوهٌ للمنطقة
لقد كشف رئيس حكومة العدوّ، أنَّ العلاقات العسكريَّة بين إسرائيل وتركيا، تصلح – كما يقول - أساساً لمحور عسكريّ يكون إطاراً للأمن الإقليميّ في الشَّرق الأوسط، برعاية أمريكيَّة ومشاركة أردنيَّة. إنَّ هذا الإعلان للعلاقات الإسرائيليَّة التركيَّة، يؤكّد المخاوف العربيَّة والإيرانيَّة من طبيعة العمق الَّذي يتحرَّك في هذا المحور الجديد الَّذي يراد له محاصرة المنطقة لحساب الاستراتيجيَّة الإسرائيليَّة الأمريكيَّة، في السَّيطرة على مقدَّراتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، واستخدام تركيا والأردن في تنفيذ ذلك، لأنَّهما لن يحصلا على أكثر من أن يكونا مجرّد جسر للعبور في هذا المخطَّط المشبوه.
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب قد دخلوا في متاهات التمزّق السياسيّ، حتَّى إنَّهم لا يملكون أيَّ فرصة لعقد قمَّة عربيَّة لدراسة الأخطار المحدقة بهم، ولو عقدوها، لسقطت تحت تأثير خلافاتهم التّاريخيّة. ومن اللّافت أنَّ بعض الدّول العربيَّة وقفت في هذا المحور الجديد لتساهم في حراسة المصالح الإسرائيليَّة والأمريكيَّة بطريقة مباشرة على حساب المصالح العربيَّة والإسلاميَّة.
إنَّ أمريكا تتحرَّك، ومعها إسرائيل، من دون أن تخاف من أيّ ردّ فعل عربيّ أو إسلاميّ يهدّد المصالح الأمريكيَّة والأطماع الإسرائيليَّة في المنطقة، لأنَّ الأنظمة استطاعت أن تحاصر شعوبها بمختلف وسائل قوانين الطّوارئ والأساليب المخابراتيَّة، باسم محاربة التطرّف والإرهاب، في الوقت الَّذي نعرف أنَّ حالة الانهيار السياسيّ والأمنيّ، هي الَّتي أدَّت إلى كلّ هذا التوتّر الحركيّ في حياة شعوب العالم الثَّالث.
العدوانُ الأفغانيُّ على إيران
وفي موازاة ذلك، فإنَّنا نراقب باهتمام العلاقات الإيرانيَّة الأفغانيَّة في دائرة حركة طالبان، في الموقف العدوانيّ الَّذي وقفته الحركة، في احتجاز الدّبلوماسيّين وبعض المواطنين الإيرانيّين، خلافاً للقيم الإسلاميَّة والأعراف الدبلوماسيَّة الدّوليَّة. ونحن نعرف أنَّ إيران لا تريد الدّخول في أيّ عمل عسكريّ ضدّ أيّ دولة محاذية لها، ولا سيَّما أفغانستان، الَّتي عملت إيران كثيراً لإشاعة السَّلام فيها، واستقبال الملايين من اللَّاجئين الأفغانيّين في أراضيها، ما أثقل اقتصادَها بالكثير من الصّعوبات.
لذلك، فإنَّنا لا نجد في المناورات الإيرانيَّة على حدود أفغانستان أيَّ خطوة عسكريَّة عدوانيَّة، ولكنَّنا نجد فيها رسالةً إلى حركة طالبان، أنَّها لا تملك القدرة في تنفيذ الدَّور الأمريكيّ لإزعاج إيران من النَّاحيتين السياسيَّة والأمنيَّة. ونريد لهذه الحركة أن تفهم جيِّداً كيف تثبت للعالم، ولا سيَّما للمسلمين، أنَّها ليست حركةً إسلاميَّةً تشوّه صورة الإسلام في طروحاتها وأساليبها، وتنفّذ مخطَّطات الاستكبار العالميّ ضدّ ايران الَّتي تمثّل القاعدة الإسلاميَّة للتحرّر من الخطّة الأمريكيَّة في الهيمنة على مقدّرات الشعوب، وعليها أن تعرف أنَّ أمريكا الَّتي قصفت أفغانستان، لن تكون صديقةً للشَّعب الأفغاني، ولا لأيّ حركة إسلاميَّة في أيِّ وقت من الأوقات.
وبالمناسبة، فإنَّنا ننظر برعب إلى ما تحدَّثت عنه منظَّمة العفو الدَّوليَّة بشأن المذابح الَّتي قام بها جنود حركة طالبان ضدَّ المسلمين الشّيعة في مزار شريف، حيث كانوا، كما تقول منظّمة العفو، وعلى أساس شهود عيان، يهجمون على البيوت ليقتلوا الرّجال والنّساء والأطفال بشكلٍ وحشيّ، كما تحدَّثت منظَّمة العفو عن قتل الدّبلوماسيّين الإيرانيّين في داخل القنصليَّة الإيرانيَّة في مزار شريف.
إنَّنا نخشى أن تكون هذه الأخبار صحيحة، ونتساءل: هل قتل المدنيّين الأبرياء بشكل جماعيّ، تحت تأثير عصبيَّة متخلّفة، هو من الإسلام في شيء؟! إنَّ هذه الجرائم لا تشرّف أيَّ حركة إسلاميَّة أو أيّ شعب من الشّعوب، وإنَّنا نعتقد أنَّ من الضَّروريّ رفع الصَّوت عالياً للاحتجاج على هذه المذبحة الرَّهيبة الَّتي نخشى أن تتبعها مذابح أخرى في أماكن أخرى، بفعل التعصّب المذهبيّ الوحشيّ المتخلّف الَّذي يتحرَّك بذهنيَّة التَّكفير.
سلامٌ لمصلحةِ العدوّ!
وعلى صعيدٍ آخر، فقد انعقدَ مؤتمر دول عدم الانحياز الَّذي كان سابقاً يمثّل الخطَّ المتوازن بين القوَّتين الكبيرتين سابقاً، ولكنَّ هذه الدّول في غالبيَّتها، أصبحت مجرَّد دول تابعة لأمريكا، ولم يعد لعنوان عدم الانحياز أيّ مصداقيَّة سياسيَّة واقعيَّة. ولذلك، فإنَّ هذا المؤتمر يمثّل حائط مبكى، من دون أن يقوم بأيّ دور فاعل في مواجهة الظّلم الاستكباريّ اللّاحق بهذه الدول اقتصاديّاً وأمنيّاً، في سرقة ثرواتها، وإثارة الحروب في مواقعها.
وكان من اللَّافت هذا الأسبوع، تقرير مركز أبحاث الكونغرس الأمريكيّ، في اعتبار عمليَّات المقاومة الإسلاميَّة في لبنان عمليَّات عسكريَّة، وليست عمليَّات إرهابيَّة، كما كانت أمريكا تقول سابقاً.
إنَّنا لا نعتبر هذا الكلام جديداً على واقع المقاومة الَّتي انطلقت ولا تزال بطريقة جهاديَّة حضاريَّة في مواجهة المحتلّ لتحرير البلد من الاحتلال الإسرائيلي، ولكنَّنا نريد لأمريكا أن تعيد النَّظر في حديثها عن الحركات الإسلاميَّة، أو حركات التحرّر في العالم، بأنَّها حركات إرهابيَّة، واتّهام بعض الدّول الداعمة لقضايا التحرّر، كإيران وسوريا، بأنَّها تدعم الإرهاب، لنتساءل: كيف تفسِّر أمريكا دعم العدوّ الصّهيونيّ عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، وهو الكيان العدوانيّ الَّذي يقصف يوميّاً، وبشكل متواصل، القرى في الجنوب والبقاع الغربي بالسِّلاح الأمريكيّ، من دون الالتزام بقرارات الأمم المتَّحدة الَّتي تنصّ على انسحاب إسرائيل من لبنان من دون قيد أو شرط، ولا نرى أنَّ أمريكا تحرّك ساكناً لمنع هذا الإرهاب الوحشيّ، ولحماية المدنيّين من عدوانه. وإذا كانت أمريكا تتحدَّث عن رعايتها لعمليَّة السَّلام في الشَّرق الأوسط، فإنَّنا نعلم أنَّها تسعى للسَّلام لحساب إسرائيل، لا لحساب شعوب المنطقة المحتلَّة. وبهذا تكشف أمريكا عن وجهها البشع في التَّنكّر لحقوق الإنسان في قضايا الشّعوب الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة.
جمودٌ سياسيٌّ واقتصاديّ
وختاماً، إنَّ البلد يعيش في دائرة جمود سياسيّ واقتصاديّ قاتل، بحيث أصبح الشّغل الشّاغل للنَّاس هو ما يسمَّى الاستحقاق الرّئاسي، والَّذي لا يملك اللّبنانيّون أيَّ وضوح للرؤيَّة حوله، لأنَّه لا يمثّل إرادتهم الحقيقيَّة، حتَّى من خلال أصوات النوَّاب الَّذين ينتظرون في غالبيَّتهم كلمة السّرّ. والسّؤال الكبير: هل إنَّ هذا الاستحقاق القادم يمثّل استمراراً للماضي، أو أنَّه يحمل وعداً بمستقبل جديد، في دولة تحترم التَّطبيق والقانون والمسؤوليَّة، دولة الشَّعب لا دولة الطَّوائف؟! إنَّنا ننتظر ماذا يحدث، وإن كنَّا لا نتفاءل مما يحدث.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 04/09/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
آيةُ التَّطهير
تتحدَّث هذه الآية عن حديث الكساء الَّذي يرويه المسلمون من سائر المذاهب، ويروون أنَّه عندما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) وهو في بيت أمّ سلمة، دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السَّلام)، ولفَّهم بثوبٍ أو بكساء، وقال: "اللَّهمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخَاصَّتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ، وَطَهِّرْهُم تَطْهيراً".
وكان النَّبيّ (ص) في كلِّ صباح عندما يخرج إلى صلاة الفجر، ينادي في بيت فاطمة: "السَّلامُ علَيْكُم أَهْلَ البَيْتِ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، ويدعوهم ليخرجوا للصَّلاة.
هذا حديثٌ لم يختلف المسلمون فيه، فحديث الكساء في هذا المعنى هو حديثٌ مستفيضٌ مسلَّمٌ به بينَ المسلمين جميعاً، وإنَّ هذه الآية، وإن كان ما قبلها وما بعدها من آيات في سياق الحديث عن أزواج النَّبيّ (ص)، إلّا أنّها نزلت وحدها، وضُمَّتْ إلى تلك الآيات للمناسبة.
الصدّيقةُ الطَّاهرة
ونحن نقف مع هذه الآية، لأنَّنا نلتقي في هذه الأيَّام، على بعض الرّوايات، بذكرى وفاة الصدّيقة الطَّاهرة فاطمة الزَّهراء (ع)، سيِّدة نساء العالمين. ونحن ننطلق في ذكرى هذه الإنسانة العظيمة، لأنَّنا قلَّما نجد في التَّأريخ إنسانةً كمثل فاطمة (ع)، عاشت الفضائل كأعلى ما تكون الفضائل، وعاشت الرّوحانيَّة كأكثر ما تفيض الرّوحانيَّة، وعاشت الجهادَ في سبيل الله كأفضل ما تقف المرأة مجاهدةً في سبيل الحقّ، وعاشت طفولتها مع أبيها، واحتضنته في رسالته كما احتضنته في أبوَّته، وعاشت مع عليّ (ع) الَّذي تلمّذت معه على رسول الله (ص)، عاشت معه (ع) كزوجة من أفضل الزَّوجات، بشهادة عليّ (ع) نفسه، وعندما ولدت حسناً وحسيناً وزينب وأمّ كلثوم، كانت مِنْ أفضل الأمَّهات في رعايتها لهم، وفي جهدها ومشقَّتها، حتَّى كانت في بيتها متعبةً كأشدّ ما يكون التَّعب، مثقلةً كأشدّ ما يكون الثّقل، حتَّى أثَّر ذلك في صحَّتها، بشهادة أمير المؤمنين (ع)، عندما كان يحدِّث بعض أصحابه عن ذلك، وعندما جاء إلى رسول الله يطلب منه خادماً يساعدها (ع) في ذلك.
النَّموذجُ الأعلى للمرأة
وهكذا رأينا فاطمة الزَّهراء (ع) في الواقع الإسلاميّ تعلِّم وتوجِّه وتُرشِد، وتقف بكلّ قوّةِ المرأةِ الصّدّيقةِ الطَّاهرةِ في ذلك. وهي في دراستنا لحياتها، في كلّ ما نقله الرّواة عن حياتها - ولم ينقلوا إلينا الشَّيء الكثير - لم ينقل أحد منهم، سواء كانوا من الموالين أو من غير الموالين، أنَّها أخطأت في كلمة، أو في فكرة، أو أنَّها انحرفت في عمل، كانت سيرتها التأريخيَّة سيرة العصمة في كلّ ما قالت وفي كلّ ما فعلت. ونحن نقرأ في آية التَّطهير الَّتي هي دليل عصمة أهل هذا البيت، أنَّها المعصومة الَّتي أذهب الله عنها الرّجس وطهَّرها تطهيراً، كما أنَّ الأحاديث الَّتي تنوَّعت بين صفتها كسيّدة نساء العالمين، وصفتها كسيّدة نساء أهل الجنَّة، تؤكّد ذلك، لأنَّه لا يمكن أن تكون سيّدةُ نساء العالمين، وسيّدةُ نساء أهل الجنَّة، إنسانةً تنحرف في الكلمة وفي الفعل وفي الفكر.
ولذلك، تمثّل السيّدة الزّهراء (ع) النّموذجَ الأعلى للإنسان وللمرأة، لأنَّها استطاعت أن تجمع في عقلها علماً تعلَّمته من رسول الله، وفي قلبها حبّاً للنَّاس كلّهم، وأن تجمع في سيرتها وفي سلوكها كلّ حركيَّة المسؤوليَّة للإنسان المسلم.
وهكذا كانت عبادتها كأفضل ما تكون العبادة، وقد ورد عن الحسن البصري قوله: "ما كَانَ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَعْبَدُ مِنْ فَاطِمَة"، وقالت زوجة أبيها عائشة عنها: "مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ فَاطِمَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذي وَلَّدَهَا".
وكانت (ع) تشبه رسول الله (ص)، كما تتحدَّث عائشة عنها، كانت تشبهه في كلامها وحديثها، حتَّى كانت إذا تكلَّمت، فكأنَّ النَّاس يسمعون رسول الله في كلامها، وكانت أشبه الناس بالرّسول (ص)، كما تقول أمّ سلمة عنها، في إشراقة وجهها.
علاقتُها المميَّزةُ بالرَّسول (ص)
وكانت علاقتها برسول الله علاقة مميَّزة، بحيث إنَّها تتجاوز العلاقة العاديَّة بين كلّ أب وابنته، وبين كلّ ابنة وأبيها، وهي الَّتي خسرت أمَّها وكانت في طفولتها الأولى، فكان رسول الله أمَّها وأباها، فيما أعطاها من روحه وعاطفته، كما كانت هي في عاطفتها الطَّاهرة الواعية، تراقبُ رسول الله (ص) في كلّ أحزانه وآلامه، وهي طفلة تدرج، فكانت إذا رأت المشركين يضعون القذارات على ظهره وهو ساجد، تأتي وتدفع ذلك عنه، فكانت (ع) تعيش عقليَّة الشَّباب وهي طفلة، وتبكي حزناً على أبيها الَّذي يعاني في رسالته.
وتنقل كتب التفسير، أنَّها عندما سمعت من هنا وهناك، أنَّ القوم يخطّطون لقتل رسول الله (ص)، جاءت إليه وهي تبكي، قال لها: ما يبكيك يا بنيَّة؟ فقالت ما مضمونه، إنَّ القوم يخطّطون ليقتلوك، ولكنَّ النَّبيّ (ص) طمأنها، وأخبرها أنَّ الله سوف يمنعهم من ذلك.
كانت (ع) تعيش مع أبيها، وكانت تفهم كلَّ آلامه وأحزانه، وتعطيه كلَّ عاطفتها، حتَّى قال عنها، وهو يتحسَّس فيها عاطفة الأمّ، فيما افتقده من عاطفة أمّه: "أُمُّ أَبِيها"، لقد عوَّضتني في حنانها وعاطفتها ومحبَّتها، وفيما افتقدته من حنان أمّي. هذا ما استوحاه رسول الله (ص) من عاطفتها.
مظلوميَّةُ الزَّهراء (ع)
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، عاشت الزَّهراء (ع) المرارة كلّها والمظلوميَّة كلّها بعد رسول الله (ص)، عندما أقبل القوم يهدّدون بإحراق بيتها من أجل إخضاع أمير المؤمنين، ودارت هناك أحداث وأحداث اختلف المؤرّخون فيها، ولكنَّ المسألة في جميع ما يقوله المؤرّخون، أنّها عاشت الظّلامة في غصب حقّها في فدك، وفي الهجوم على بيتها والتَّهديد بإحراقه، وعاشت الظّلامة الكبرى في إبعاد عليّ (ع) عن حقّه، وقد كان كلُّ همّها، في كلّ ما تكلَّمت به في المسجد، وفي كلّ ما تكلَّمت به مع نساء المهاجرين والأنصار ومع رجالهنّ، وما تكلَّمت به هنا وهناك، كان كلّ همّها القضيَّة الكبرى الَّتي هي قضيَّة الإسلام والمسلمين، في المسألة الَّتي تمثّل مستقبل الإسلام والمسلمين، لأنَّها كانت ترى أنَّ عليّاً (ع) هو الَّذي يمثّل المستقبل كلَّه.
ونحن نتعلَّم من الزّهراء (ع) الَّتي كانت تعيش آلامها، وتعيش كلَّ ذلك الواقع، ولكنّها انطلقت من القضيَّة الكبرى؛ لم تتحدَّث عن آلامها، ولا عن ظلامتها، ولكنَّها تحدَّثت عن القضيَّة الكبرى، قضيَّة الإسلام والمسلمين، ولم تكن مسألة عليّ عندها مسألة زوج أُخِذَ حقُّه، أو مسألة قريب أُخِذَ حقُّه، ولكنَّ عليّاً كان إمامها وإمام المسلمين جميعاً، ولذلك كانت تفكّر في القضيَّة من منطلق موقع الإمامة في واقع المسلمين.
وهذا ما نتعلَّمه، أيُّها الأحبَّة، عندما نعيش القضايا الشَّخصيَّة فيما نتألَّم منه، أو فيما نحزن عليه، أو فيما يواجهه كلّ واحد منَّا من مشاكل؛ أن نجمّد كلَّ قضايانا الصَّغيرة من أجل قضايانا الكبيرة الَّتي تتحدَّى الإسلام والمسلمين، والَّتي تتحدَّى الواقع كلَّه هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، في ذكرى وفاة السيّدة الزَّهراء (ع)، نحن نكبر بها، ونحن ننطلق من خلال كلّ حياتها الغنيَّة بالرّوحانيَّة، والغنيَّة بالعلم، والغنيَّة بالعاطفة وبالجهاد، من أجل أن تكون القدوة للنّساء وللرّجال في ذلك، لأنَّ الزَّهراء (ع) كانت تعيش في عقلها عقلَ رسول الله، وكانت تعيش في قلبها قلبَ رسول الله، وكانت تعيش في روحانيَّتها روحانيَّةَ رسول الله (ص). لذلك، أن تكون (ع) النَّموذج، أن تكون المثل الأعلى، أن تكون القدوة، هذا ما يجب أن نفكّر فيه.
دعاءان للزَّهراء (ع)
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، ونحن نعيش روحانيَّة الزهراء (ع)، أن نستوحي دعاءين كانت تدعو بهما، دعاء علَّمها إيَّاه رسول الله (ص)، ودعاء كانت تدعو هي به، لنعرف من خلال هذه الأدعية، كيف كانت تدعو (ع)، وكيف كانت تعيش القيمة الروحيَّة الأخلاقيَّة، وتعيش حاجاتها الَّتي تدعو بها ربَّها:
"اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي - اجعلني، يا ربّ، في كلّ ما رزقتني إيَّاه، مما وهبتني إيّاه وهيَّأته لي بيسر، أو مما عملته أنا، اجعلني أقتنع به - واسْتُرْنِي - من كلّ ما يمكن أن يواجهني من مشاكل - وعَافِنِي أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي - عافني من البلاء - واغْفِرْ لِي – كلّ ما يمكن أن أذنب فيه - وارْحَمْنِي إِذَا تَوَفَّيْتَنِي - لأنَّ الإنسان عندما يغمض عينيه ويترك هذه الحياة، فهو أحوج ما يكون إلى رحمة الله، ليغفر ذنبه، وليدخله في رضوانه.
- اللَّهُمَّ لَا تُعْيِنِي فِي طَلَبِ مَا لَا تُقَدِّرُ لِي - لا تتعبني، يا ربّ، في سلوك الطّرق الَّتي تعرف أنَّها لن تحقّق لي نتيجة، ألهمني أن أعرف أنَّ هذا الطَّريق منتجٌ لأنطلق فيه، وأنَّ ذلك الطَّريق ليس منتجاً لأقف فيه - ومَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ، فَاجْعَلْهُ مُيَسَّراً سَهْلًا - في أعمالي الماديَّة، وفي كلّ أعمالي في الحياة.
- اللَّهُمَّ كَافِ عَنِّي وَالِدَيَّ - ويستحضرُ الإنسانُ والديه في الدّعاء، ويتذكَّر كيف أحسنا إليه، وكيف رعياه، وكيف ساهما في تنشئته، وكيف شقيا ليصعد، وكيف تألَّما ليفرح وليرتاح - وكُلَّ مَنْ لَهُ نِعْمَةٌ عَلَيَّ خَيْرَ مُكَافَاةٍ.
- اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلَقْتَنِي لَهُ - يا ربّ، لقد خلقتني من أجل أن أعبدك كما يجب أن يعبد الإنسان ربَّه، لقد خلقتني من أجل أن أقوم بمسؤوليَّتي فيما أمرتني به وفيما نهيتني عنه، لقد خلقتني وجعلت لي دوراً في الحياة، ففرّغني، يا ربّ، وفرّغ أوقاتي وطاقاتي لما خلقتني له، حتَّى أملأ كلَّ وقتي بمسؤوليَّاتي الَّتي حمَّلتني إيَّاها.
- ولَا تَشْغَلْنِي بِمَا تَكَفَّلْتَ لِي بِهِ - ممّا ترزقني إيَّاه - ولَا تُعَذِّبْنِي وأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ – والزّهراء (ع) تتكلَّم بلسان الإنسان الّذي يذنب، فإذا أذنبت، يا ربّ، فإنّي أسغفرك من ذنبي، وأنت، يا إلهي، لا تعذّب المستغفرين التَّائبين - ولَا تَحْرِمْنِي وأَنَا أَسْأَلُكَ.
اللَّهُمَّ ذَلِّلْ نَفْسِي فِي نَفْسِي - اجعلني، يا ربّ، عندما أعيش مع نفسي، أتحسَّس نقاط الضّعف فيها، حتَّى إذا ذكرت نقاط الضّعف، شعرت بالذلَّة الدَّاخليَّة الَّتي تمنعني من الاستكبار والتَّجبّر.
- وعَظِّمْ شَأْنَكَ فِي نَفْسِي - واجعلني أتحسَّس عظمتك يا ربّ - وأَلْهِمْنِي طَاعَتَكَ، والْعَمَلَ بِمَا يُرْضِيكَ، والتَّجَنُّبَ لِمَا يُسْخِطُكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ".
أمَّا دعاؤها الَّذي علَّمها إيَّاه رسول الله، ونحن نتعلَّمه أيضاً: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلّ شَيْءٍ، مُنْزلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجيلِ وَالفُرْقانِ، فَالِقُ الحَّبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِها، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الفَقْرِ، وَيسِّرْ لي كُلَّ أَمْرٍ، يَا أرْحَمَ الرَّاحمين".
الاقتداءُ بالزَّهراء (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه هي الآفاق الَّتي كانت تعيشها الزَّهراء (ع) في صلواتها، وفي تعقيباتها، وفي كلّ ابتهالاتها مع ربّها. وعلينا أن نتعلَّم من الزّهراء (ع) ما تعلَّمته من رسول الله (ص)، وما جاء به كتاب الله؛ أن نبقى مع الله، نجلس إليه، لنشكو إليه كلَّ همومنا وآلامنا، ولنطلب منه كلَّ أحلامنا وقضايانا.
أيُّها الأحبَّة، لنتعلَّم كيف نحبُّ الله كما أحبَّه النَّبيّ وأهل بيته، وكيف نجلس مع الله كما كان يجلس النَّبيّ وأهل بيته، ولنتعلَّم أن يكون الله عندنا كلَّ شيء، أن لا يكون مع الله أحد، أن لا يشغلنا شيء عن ذكر الله وعن طاعته ومحبَّته، لأنَّ الله هو الأوَّل والآخر، وهو الظَّاهر والباطن، وهو المهيمن على كلّ شيء، وهو رحمن الدّنيا والآخرة.
لقد كانت الزَّهراء (ع) مع الله، فعلينا إذا كنَّا نحبُّها أكثر، ونواليها أكثر، ونخلص لها أكثر، أن نكون كما كانت؛ مع الله، مع الإسلام، مع المسلمين، مع كلّ ما يرتفع بالنَّاس إلى الله.
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ أموركم، وراقبوه في كلّ أعمالكم وأقوالكم، وتحمَّلوا مسؤوليَّة كلّ الواقع الَّذي تعيشونه، كلٌّ بحسب طاقته وقدرته. إنَّ الشَّيطانَ قد أعلن حربَه على المؤمنين من أجل أن ينحرف بهم عن الخطّ المستقيم، وإنَّ الكفرَ قد أعلن حربه على كلّ المسلمين من أجل أن يزلزلهم عن عقائدهم، ويبتعد بهم عن الخطّ المستقيم، وإنَّ الاستكبارَ كلَّه قد أعلن حربه على كلّ المستضعفين من أجل أن يصادر ثرواتهم، ومن أجل أن يجعلهم على هامش سياسته وأمنه.
لذلك، لا بدَّ لنا أن نتحمَّل مسؤوليَّتنا في الوعي لديننا، وفي تعلّم إسلامنا، وفي الوقوف مع المسلمين في كلّ قضاياهم السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والثَّقافيَّة، لأنَّ الإسلامَ، أيُّها الأحبَّة، في عقيدته وشريعته، ولأنَّ الإسلام في المسلمين، هو أمانة الله عندنا، و"مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ"، و"مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنادي يا لَلْمُسْلِمينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ". ولذلك، لا بدَّ أن نتابع أمور المسلمين مقارنةً بما يخطّط له المستكبرون في المناطق القريبة أو البعيدة.
نبدأ من المنطقة هنا، امتداداً إلى الواقع الدّوليّ فيما يدبَّر للمسلمين.
مخطَّطٌ مشبوهٌ للمنطقة
لقد كشف رئيس حكومة العدوّ، أنَّ العلاقات العسكريَّة بين إسرائيل وتركيا، تصلح – كما يقول - أساساً لمحور عسكريّ يكون إطاراً للأمن الإقليميّ في الشَّرق الأوسط، برعاية أمريكيَّة ومشاركة أردنيَّة. إنَّ هذا الإعلان للعلاقات الإسرائيليَّة التركيَّة، يؤكّد المخاوف العربيَّة والإيرانيَّة من طبيعة العمق الَّذي يتحرَّك في هذا المحور الجديد الَّذي يراد له محاصرة المنطقة لحساب الاستراتيجيَّة الإسرائيليَّة الأمريكيَّة، في السَّيطرة على مقدَّراتها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، واستخدام تركيا والأردن في تنفيذ ذلك، لأنَّهما لن يحصلا على أكثر من أن يكونا مجرّد جسر للعبور في هذا المخطَّط المشبوه.
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب قد دخلوا في متاهات التمزّق السياسيّ، حتَّى إنَّهم لا يملكون أيَّ فرصة لعقد قمَّة عربيَّة لدراسة الأخطار المحدقة بهم، ولو عقدوها، لسقطت تحت تأثير خلافاتهم التّاريخيّة. ومن اللّافت أنَّ بعض الدّول العربيَّة وقفت في هذا المحور الجديد لتساهم في حراسة المصالح الإسرائيليَّة والأمريكيَّة بطريقة مباشرة على حساب المصالح العربيَّة والإسلاميَّة.
إنَّ أمريكا تتحرَّك، ومعها إسرائيل، من دون أن تخاف من أيّ ردّ فعل عربيّ أو إسلاميّ يهدّد المصالح الأمريكيَّة والأطماع الإسرائيليَّة في المنطقة، لأنَّ الأنظمة استطاعت أن تحاصر شعوبها بمختلف وسائل قوانين الطّوارئ والأساليب المخابراتيَّة، باسم محاربة التطرّف والإرهاب، في الوقت الَّذي نعرف أنَّ حالة الانهيار السياسيّ والأمنيّ، هي الَّتي أدَّت إلى كلّ هذا التوتّر الحركيّ في حياة شعوب العالم الثَّالث.
العدوانُ الأفغانيُّ على إيران
وفي موازاة ذلك، فإنَّنا نراقب باهتمام العلاقات الإيرانيَّة الأفغانيَّة في دائرة حركة طالبان، في الموقف العدوانيّ الَّذي وقفته الحركة، في احتجاز الدّبلوماسيّين وبعض المواطنين الإيرانيّين، خلافاً للقيم الإسلاميَّة والأعراف الدبلوماسيَّة الدّوليَّة. ونحن نعرف أنَّ إيران لا تريد الدّخول في أيّ عمل عسكريّ ضدّ أيّ دولة محاذية لها، ولا سيَّما أفغانستان، الَّتي عملت إيران كثيراً لإشاعة السَّلام فيها، واستقبال الملايين من اللَّاجئين الأفغانيّين في أراضيها، ما أثقل اقتصادَها بالكثير من الصّعوبات.
لذلك، فإنَّنا لا نجد في المناورات الإيرانيَّة على حدود أفغانستان أيَّ خطوة عسكريَّة عدوانيَّة، ولكنَّنا نجد فيها رسالةً إلى حركة طالبان، أنَّها لا تملك القدرة في تنفيذ الدَّور الأمريكيّ لإزعاج إيران من النَّاحيتين السياسيَّة والأمنيَّة. ونريد لهذه الحركة أن تفهم جيِّداً كيف تثبت للعالم، ولا سيَّما للمسلمين، أنَّها ليست حركةً إسلاميَّةً تشوّه صورة الإسلام في طروحاتها وأساليبها، وتنفّذ مخطَّطات الاستكبار العالميّ ضدّ ايران الَّتي تمثّل القاعدة الإسلاميَّة للتحرّر من الخطّة الأمريكيَّة في الهيمنة على مقدّرات الشعوب، وعليها أن تعرف أنَّ أمريكا الَّتي قصفت أفغانستان، لن تكون صديقةً للشَّعب الأفغاني، ولا لأيّ حركة إسلاميَّة في أيِّ وقت من الأوقات.
وبالمناسبة، فإنَّنا ننظر برعب إلى ما تحدَّثت عنه منظَّمة العفو الدَّوليَّة بشأن المذابح الَّتي قام بها جنود حركة طالبان ضدَّ المسلمين الشّيعة في مزار شريف، حيث كانوا، كما تقول منظّمة العفو، وعلى أساس شهود عيان، يهجمون على البيوت ليقتلوا الرّجال والنّساء والأطفال بشكلٍ وحشيّ، كما تحدَّثت منظَّمة العفو عن قتل الدّبلوماسيّين الإيرانيّين في داخل القنصليَّة الإيرانيَّة في مزار شريف.
إنَّنا نخشى أن تكون هذه الأخبار صحيحة، ونتساءل: هل قتل المدنيّين الأبرياء بشكل جماعيّ، تحت تأثير عصبيَّة متخلّفة، هو من الإسلام في شيء؟! إنَّ هذه الجرائم لا تشرّف أيَّ حركة إسلاميَّة أو أيّ شعب من الشّعوب، وإنَّنا نعتقد أنَّ من الضَّروريّ رفع الصَّوت عالياً للاحتجاج على هذه المذبحة الرَّهيبة الَّتي نخشى أن تتبعها مذابح أخرى في أماكن أخرى، بفعل التعصّب المذهبيّ الوحشيّ المتخلّف الَّذي يتحرَّك بذهنيَّة التَّكفير.
سلامٌ لمصلحةِ العدوّ!
وعلى صعيدٍ آخر، فقد انعقدَ مؤتمر دول عدم الانحياز الَّذي كان سابقاً يمثّل الخطَّ المتوازن بين القوَّتين الكبيرتين سابقاً، ولكنَّ هذه الدّول في غالبيَّتها، أصبحت مجرَّد دول تابعة لأمريكا، ولم يعد لعنوان عدم الانحياز أيّ مصداقيَّة سياسيَّة واقعيَّة. ولذلك، فإنَّ هذا المؤتمر يمثّل حائط مبكى، من دون أن يقوم بأيّ دور فاعل في مواجهة الظّلم الاستكباريّ اللّاحق بهذه الدول اقتصاديّاً وأمنيّاً، في سرقة ثرواتها، وإثارة الحروب في مواقعها.
وكان من اللَّافت هذا الأسبوع، تقرير مركز أبحاث الكونغرس الأمريكيّ، في اعتبار عمليَّات المقاومة الإسلاميَّة في لبنان عمليَّات عسكريَّة، وليست عمليَّات إرهابيَّة، كما كانت أمريكا تقول سابقاً.
إنَّنا لا نعتبر هذا الكلام جديداً على واقع المقاومة الَّتي انطلقت ولا تزال بطريقة جهاديَّة حضاريَّة في مواجهة المحتلّ لتحرير البلد من الاحتلال الإسرائيلي، ولكنَّنا نريد لأمريكا أن تعيد النَّظر في حديثها عن الحركات الإسلاميَّة، أو حركات التحرّر في العالم، بأنَّها حركات إرهابيَّة، واتّهام بعض الدّول الداعمة لقضايا التحرّر، كإيران وسوريا، بأنَّها تدعم الإرهاب، لنتساءل: كيف تفسِّر أمريكا دعم العدوّ الصّهيونيّ عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، وهو الكيان العدوانيّ الَّذي يقصف يوميّاً، وبشكل متواصل، القرى في الجنوب والبقاع الغربي بالسِّلاح الأمريكيّ، من دون الالتزام بقرارات الأمم المتَّحدة الَّتي تنصّ على انسحاب إسرائيل من لبنان من دون قيد أو شرط، ولا نرى أنَّ أمريكا تحرّك ساكناً لمنع هذا الإرهاب الوحشيّ، ولحماية المدنيّين من عدوانه. وإذا كانت أمريكا تتحدَّث عن رعايتها لعمليَّة السَّلام في الشَّرق الأوسط، فإنَّنا نعلم أنَّها تسعى للسَّلام لحساب إسرائيل، لا لحساب شعوب المنطقة المحتلَّة. وبهذا تكشف أمريكا عن وجهها البشع في التَّنكّر لحقوق الإنسان في قضايا الشّعوب الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة.
جمودٌ سياسيٌّ واقتصاديّ
وختاماً، إنَّ البلد يعيش في دائرة جمود سياسيّ واقتصاديّ قاتل، بحيث أصبح الشّغل الشّاغل للنَّاس هو ما يسمَّى الاستحقاق الرّئاسي، والَّذي لا يملك اللّبنانيّون أيَّ وضوح للرؤيَّة حوله، لأنَّه لا يمثّل إرادتهم الحقيقيَّة، حتَّى من خلال أصوات النوَّاب الَّذين ينتظرون في غالبيَّتهم كلمة السّرّ. والسّؤال الكبير: هل إنَّ هذا الاستحقاق القادم يمثّل استمراراً للماضي، أو أنَّه يحمل وعداً بمستقبل جديد، في دولة تحترم التَّطبيق والقانون والمسؤوليَّة، دولة الشَّعب لا دولة الطَّوائف؟! إنَّنا ننتظر ماذا يحدث، وإن كنَّا لا نتفاءل مما يحدث.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 04/09/1998م.