للتاريخ في حياة كلّ أمّةٍ تريد أن تتقدّم وتنطلق في الركب الحضاري الصاعد، دوره الحيويّ في نموّها وتطوّرها، لكونه يجنِّبها كثيراً من المزالق والمخاطر والأخطاء، بما يقدّمه لها من تجاربها الماضية في مراحل نموّها الأولى، وما تحمله ـ تلك التجارب ـ من دروس عملية كثيرة، تستطيع بها أن تضع يديها ـ بوعي ـ على مواطن الضعف ومواطن القوّة في شخصيتها التي عاشتها في تلك الأدوار. وهنا، يكون الطريق أكثر إشراقاً، وأرحب آفاقاً، مما لو انطلقت فيه على غير هدى التاريخ.
أمّا إذا انعكست القضية، فحاولت أن تحتقر تاريخها، وترفضه، ولا تنظر إليه إلا كما تنظر إلى الآثار البالية، وانطلقت، بروح انفعالية حماسيّة، تحاول التمرّد عليه، والتحرّر منه، والتحوّل إلى حاضرها، لتجعل منه مبدأ نموها ومنطلق حياتها.. فإنها ـ لا شكّ ـ ستتعرّى، وتفقد شخصيّتها الأصيلة، لفقدانها الرّكيزة التي ارتكزت عليها حياتها، والمنطلق الذي انطلقت منه. وبذلك، فهي لا تملك ـ حينئذٍ ـ إلا التّذبذب والاتكاء على تجارب الآخرين، وتناول فتات موائدهم. ولا يجهل أحد ـ بعد هذا ـ ما في ذلك من ضياع وانهيار لكيانها وشخصيّتها الأصيلة.
على ضوء هذه الفكرة، نحاول الانطلاق إلى تاريخنا، فندرسه من خلال وجودنا الإسلاميّ، كأمّة إسلاميّة واعية أنشأت حضارة عظيمة تعتبر أمّ الحضارات الحديثة.
إنّنا نحاول الانطلاق إلى هذا التّاريخ، لنقرأه على هدي من وعيٍ وعمقٍ ومعرفة، في هذه المرحلة الّتي نحاول فيها العودة إلى الشّوط من جديد ـ بعد أن غبنا عنه مدّة طويلة ـ لنحمل مشعل الكرامة والعدالة الإنسانيّة في رسالة السّماء إلى الأرض.
وليست تلك المحاولة الّتي ندعو إليها مجرّد ترفٍ ذهنيّ، ودراسة مجرّدةٍ، وإنما هي ضرورة حتميّة وواجب حيويّ لمرحلتنا الحاضرة، بل نستطيع القول إنّها من أبرز الواجبات الملقاة على عاتق المسؤولين عن قضية الإسلام، بالنظر إلى أنه سجّل للمعركة التي خاضها الإسلام ضدّ خصومه وأعدائه، وقد علق به ما علق بكثير من مفاهيم الإسلام، من شوائب وألوان دخيلة، بسبب ما حلّ بالمسلمين من ارتباك واضطراب.
ولذلك، فقد وصل إلينا وهو يجرّ خطواته في وهنٍ وضعف، حاملاً أثقال الفترة المظلمة، والعهود السّود. وهذا ما ساعد كثيراً من متفلسفي التاريخ على تلوينه بالألوان الكثيرة المختلفة، حسب اختلاف لون التفكير الذي يعيشه أولئك المفكّرون.. فأصبحنا نقرأ الأسلوب المادّيّ للتاريخ، الذي يحاول أن يفلسف تاريخنا على أساس من الاقتصاد فحسب، كما بدأنا نسمع عن كثير من الحركات والدّعوات الاشتراكيّة في تاريخنا، وعن دور الصحابي الجليل "أبي ذرّ الغفاري" فيها، وعن ثورة صاحب الزّنج التقدميّة، وغير ذلك من الألوان التي انتشرت في البحوث التاريخيّة التي تتناول تاريخنا بالدّرس، بأسلوب بعيد عن الجوّ الإسلامي وواقعه.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عمّا يجب علينا عمله إزاء هذا الواقع الذي يعيشه تاريخنا في عصرنا الحاضر، لنستطيع أن نقدّمه إلى الجيل المسلم الواعي في إطاره الإسلاميّ الخالص، بعيداً عن المفاهيم الغريبة عنه، ليعيش جيلنا الصّاعد في جوّ إسلاميّ نقيّ، كسبيل من سبل المحافظة على شخصيّتنا الإسلاميّة المستقلّة.
ويبدو لنا أنَّ علينا ـ قبل كلّ شيء ـ أن نتخلّى عن الهالة القدسيّة، التي نحاول أن نحيط بها هذا التّاريخ بكلّ ما فيه من انحرافات وأخطاء، لأنّنا لن نحصل على فائدة من دراستنا له بدون ذلك، بل القضيّة تكون عكسيّة، لأنَّ هذا الأسلوب يؤدّي إلى تقديس الأخطاء، وفي هذا ما فيه من الانحراف عن الغاية الّتي نسعى إليها، والهدف الّذي نهدف إليه.
إنَّ تاريخنا ـ ككلّ تاريخ ـ كان حصيلة أدوار مختلفة من حياة الأمّة بين ارتفاع وانخفاض، فهو الصّورة التي تنعكس عليها الحياة، بما فيها من ارتباكات، فإذا أردنا أن نفهمه على أساس واقعيّ، فيجب علينا تعريته من كلّ لون من ألوان الخيال والدّعاية والزهو، وملاحظته كمادّةٍ خام، لدراسة عمليّة واقعيّة عميقة.
وشيء آخر يلزمنا ملاحظته عند دراستنا لهذا التّاريخ، هو أنَّ كثيراً من القضايا والملابسات، الّتي حدثت في الصّدر الأوّل في الإسلام، والانقسامات التي ابتُلي بها المسلمون، أثّرت في سير هذا التّاريخ في صدر الرسالة، لأنَّ تلك القضايا خلقت عندنا كثيراً من المؤرّخين والمرتزقة، الذي كانوا يعيشون على موائد الملوك، ليخلقوا لهم المآثر والفضائل والأحاديث، ويصوّروها بصورة جذّابة تلفت الأنظار في أيّ موضوع شاؤوا وأرادوا، حسب الحاجة السياسيّة والشخصيّة.
ولذلك، فلن نستغرب إذا قرأنا كثيراً من الوقائع التاريخيّة في صورتين متناقضتين، تعكسان الانقسامات الموجودة بين المسلمين، وتبرز كلّ منهما الواقعة التاريخيّة على ضوءٍ من اتجاهاتها وغاياتها، تماماً كما يحدث في عصرنا الحاضر، عندما تتضارب الصّحف السياسيّة في تصوير بعض القضايا الّتي نعيشها بأنفسنا، نتيجة تضارب الرّأي أو الاتجاه الذي تمثّله هذه الصّحيفة أو تلك.
إنَّ على الباحث الإسلامي أن يراعي هذا الواقع الّذي عاش فيه التاريخ الإسلامي، ليسير في بحثه بهدوء وحذر ويقظة متناهية، لئلاّ يقع في الخطأ من حيث لا يعلم، وينحرف عن الدّرب من حيث لا يريد.
وهناك ناحية ثالثة يلزمنا الانتباه إليها وتأكيد شجبها، لأنها تمسّ جوهر الإسلام في الصّميم، فقد دأب كثير من الباحثين، ولا سيّما المستشرقين منهم، على اعتبار كثير من التصرّفات ـ التي تقوم بها الجماعات التي تدين بالإسلام ـ ممثِّلةً لوجهة النظر الإسلاميّة، مهما كان لون تلك التصرّفات، ومهما كان نوعها، وهذا خطأ، فإنَّ الجماعات الإسلاميّة والمسؤولين المسلمين ـ الذين عاشوا في التاريخ الإسلامي ـ ليسوا إلا أناساً كبقيّة النّاس، لهم أخلاقهم الخاصّة، ولهم طباعهم وأذواقهم المعيّنة، ولهم أخطاؤهم البشريّة كبقيّة البشر، وليست تصرفاتهم إلا كتصرفات بقية إخوانهم من بني الإنسان، وليس لها علاقة بالإسلام، إلا بمقدار قربها من مبادئ الإسلام ومفاهيمه. ولهذا، فإننا لا نستطيع اعتبار أي تصرّف من تصرّفات المسلمين ـ مسؤولين كانوا أو غير مسؤولين ـ مرتبطاً بالإسلام، إلا بعد مقارنته بالمفاهيم والمبادئ الإسلاميّة، لنعلم مدى موافقته لها.
إنَّ مبادئ الإسلام ومفاهيمه هي المقياس الصّحيح الذي نقيس به تصرّفات المسلمين، لا العكس..
وهذه هي بعض النقاط التي حاولنا أن نعرضها ـ بصورة إجماليّة ـ في سبيل الوصول إلى أفضل الطّرق لدراسة تاريخنا الإسلاميّ بروح علميّة عميقة، على ضوءٍ من هدي الإسلام وأسلوبه. ولعلّنا نعود إلى هذا الموضوع في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
[كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام"]