كتابات
16/03/2015

في عيد الغدير.. عليّ(ع) الإسلام كلّه

في عيد الغدير.. عليّ(ع) الإسلام كلّه

قبل أيّام، كنّا في غدير عليّ(ع)؛ هذا الغدير الَّذي ربّما كان في الصَّحراء من دون ماء، ولكنّ غدير عليّ(ع) في شخصيَّته يمثِّل النّبع الّذي يمنح الحياة عقلاً وروحاً وروحانيّةً ووعياً ويقظةً وحركيّةً وقوّة وصلابةً في الموقف، لأنّ علياً(ع) كان ذلك كلّه. وعندما نقف معه، فإنّنا من موقع دراسة كلّ تلك المرحلة وما بعدها، ومن خلال النّفاذ إلى عمق الناس الذين عايشهم وعايشوه بعد رسول الله(ص)، نرى أنَّ علياً(ع) هو وحده الّذي يجمع الإسلام كلّه، فلم يكن يعيش التخصّص في بعض الجوانب الإسلاميَّة، بل كان يعيش الإسلام كلَّه، لأنَّ الإسلام كلّه كان يتجسَّد في رسول الله(ص) الَّذي أراد الله للمسلمين أن يتطلَّعوا إليه ويقتدوا به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}[1]، لأنَّ رسول الله(ص) كان في قوله وفعله ومواقفه ونظراته إلى ما يقوم به النّاس الآخرون، ليعطي السَّلب تارةً والإيجاب أخرى، كان إسلاماً كلّه، وقد عاش عليّ(ع) رسول الله(ص) منذ طفولته في آفاقه الروحيَّة وتأمّلاته الفكريَّة قبل البعثة، وعاش رسول الله(ص) ـ بعد رحيله ـ في آفاقه الرّوحيَّة المنفتحة على الوحي والحركيَّة الإسلاميَّة والأخلاقيَّة الإسلاميَّة وعلى كلِّ المفاهيم الإسلامية، لأنّه كان، كما قال له رسول الله(ص): "إنَّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ"[2]. وهذا ما حدَّثنا عنه عليّ(ع) في (نهج البلاغة). لذلك، فقد كان عليّ(ع) يسمع الوحي كما يسمعه رسول الله(ص)، وكان يلتقي برسول الله(ص)، فيتحدّث معه عن تفاصيل الآيات وأبعادها وامتداداتها، لذلك كانت الآيات القرآنيّة في عقل عليّ(ع) كوناً ينفتح على الحياة كلِّها، وكانت امتداداً في الزمن كلِّه، وحركة في الإنسان كلِّه، ولذلك، فإنَّنا عندما نلتقي بعليّ(ع) الآن، فإنّنا نشعر بأنّه يعيش قضايا عصره كلِّها، بحيث نستطيع أن نستنطقه فيما نوجِّهه من أسئلةٍ، فنجد في كلماته جواباً لكلِّ سؤال.

عليّ(ع) الحق كلّه

وكان عليّ(ع) أوَّل من صلَّى بعد رسول الله(ص)، وهو القائل: "لم يسبقني إلاّ رسول الله بالصَّلاة"[3]، وكان يصلّي معه ويتعبَّد معه ويناجي ربّه معه، ولذلك، كانت روحانيَّته هي روحانيَّة رسول الله(ص)؛ عاشها في عقله قاعدةً للفكر، وفي قلبه قاعدةً للعاطفة، وفي حياته امتداداً للمنهج والحركة.

وتحرّك عليّ(ع) في ميادين الجهاد، ولم يكن قد تدرّب على أيَّ فنّ من فنون الحرب، فاستطاع من خلال وعيه للقوّة الّتي كانت من حيث طبيعتها قوّة ربّانيَّة، أن يحرّكها في قوّته البشريَّة، فكان فارس (بدر) و(أحد) و(الأحزاب) و(حنين) وغيرها من حروب الإسلام، حتى لم تخل أيّة معركة للإسلام في عصر رسول الله(ص) من بطولة عليّ(ع)، وقد استغرب عليّ(ع) أن لا يأخذه رسول الله(ص) معه في بعض أسفاره الجهاديّة، كما في موقعة (تبوك)، ولكنَّه قال له إنّ هذه لن تكون معركة حربيّة، وأريدك أن تبقى في المدينة لتشرف على توازن النِّظام فيها: "أما ترضى أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"[4]. وهذا مستوحى من قوله تعالى:  {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}[5].

وكان عليّ(ع) يعطي المسلمين من فكره الَّذي هو فكر الإسلام، ومن تجربته الغنيّة بعطاء الإسلام، فكان المعلّم والزّاهد والعامل، فقد كان يخرج للعمل من أجل أن يكسب رزقه، لا لأنّه كان يعيش ضائقةً ماليّةً ولا أقسى فحسب، بل ليعطي من نفسه المثل في أنّ موقع المسؤوليَّة لا يعفي صاحبها من العمل والكسب من كدّ يده، ولذلك تحدَّث رسول الله(ص) عن عليّ(ع) في المفاصل الأساسيَّة للإسلام بما لم يتحدَّث به عن أيّ صحابيّ آخر، مع احترامنا لكلّ الّذين عاشوا مع رسول الله(ص) بإخلاص: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[6]، "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[7]. وكانت كلمات رسول الله(ص) تتحرَّك لتعرّف المسلمين أنَّ الحقَّ هو الإسلام، فالله سبحانه وتعالى خلق السَّماوات والأرض بالحقّ، وهو الحقّ، والشَّريعة هي الحقّ، والقرآن كتاب الله هو الحقّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك، أراد رسول الله(ص) أن يقول للنَّاس، إنَّ عظمة عليّ(ع) في أنَّه الإنسان الّذي لا يقترب الباطل منه، فالدَّائرة الّتي يتحرَّك فيها عليّ(ع) هي دائرة الحقّ الّتي تمنع أيَّ شيء من الباطل أن ينفذ إليه، وهذا هو دليل عصمة عليّ(ع)، وهو أعلى من العصمة، لأنّها ـ أي العصمة ـ حالة في حركة الإنسان، ولكنَّ عليّاً(ع) كان العصمة مجسَّدةً، فليس في فكره شيء من الباطل، وليس في قلبه شيء من الباطل، وليس في حياته أيّة حركة من حركات الباطل.

التوجّه المطلق إلى الله

وسرّ عليّ(ع) أنّه باع نفسه لله تبارك وتعالى، وهذا ما نصّ عليه القرآن: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[8]، لأنَّ الآية الكريمة، كما يذكر المفسِّرون، نزلت في عليّ(ع) عندما بات في فراش النّبيّ(ص) ليلة الهجرة.. وهذا ما تحدَّث عنه عندما حكم المسلمين في خلافته: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"[9]، فلقد كان يريد أن يدفع النَّاس إلى الله، ليعيشوا مع الله فكراً وروحاً وحركةً ومنهجاً، وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، لأنّه كان يعيش مع الله بشكلٍ مطلق، وكان النّاس يعيشون مع أنفسهم بعيداً عن الله، وكانوا يريدونه لأنفسهم، وأن يعطي الكلمة الَّتي لا يؤمن بها حتى يستطيع أن يضمن لنفسه موقعاً، فقد قال له عبد الرّحمن بن عوف: "أبايعك على كتاب الله وسنَّة رسوله وسيرة الشّيخين"، فقال له: "بل على كتاب الله وسنَّة رسوله واجتهاد رأيي"، لأنَّني ـ أنا عليّ ـ قد أفهم كتاب الله وسنّة رسوله(ص) فهماً مختلفاً عنهما، وأفهم الواقع الموضوعيّ فيما يتحرّك به واقع النّاس فهماً مختلفاً، فعلى أيِّ أساس أبايعك على ما تريد؟!

وابتعدت عنه الخلافة من خلال ذلك، وقد قال لمن طلب منه أن يعيش اللّعب على الحبال، من خلال أنّ الغاية تبرّر الوسيلة: "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[10]، وقال لمن اتهمه أنّه يجهل السّياسة، أو أنّه لا يمتلك دهاء معاوية: "والله، ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس".[11] وقال لمن أراده أن يميِّز في العطاء: "أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولِّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجم في السّماء نجماً، لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله"[12]. لذلك، كان الإسلام أعصاب عليّ(ع) ودمه وكيانه، وكانت مأساته أنّه كان يريد للنّاس إسلاماً لا شرك فيه، وحقّاً لا باطل فيه، وعدلاً لا ظلم فيه، "والله، لو أعطيت الأقانيم السّبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت"[13].

عليّ(ع) نفس رسول الله(ص)

إنَّ عليّاً(ع) جمع ذلك كلَّه، ولم يجمع صحابيّ حتى بعض ذلك، ولقد قلنا أكثر من مرّة، إنّ الخلافة عن رسول الله(ص) تختلف عن أيّة خلافة أخرى، لأنَّ المسألة ليست حكماً يتطلَّب الإدارة، ولكنَّها رسالة تتطلَّب العمق والامتداد بما لم تسمح به الظّروف للرَّسول(ص) أن يصل إليه، لأنَّ المشركين شغلوه بالحروب والمشاكل والألغام الّتي زرعوها في طريقه، لذلك كان الواقع الإسلاميّ يحتاج إلى شخصٍ هو كلّ رسول الله(ص) ما عدا النبوَّة، وليس هناك من تتوافر فيه هذه الصّفة سوى عليّ(ع) {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}[14]، وكان عليّ(ع) نفس رسول الله(ص).

وتأسيساً على ذلك كلِّه، لم تكن مسألة الغدير تعيش على هامش الواقع الإسلاميّ، بل كانت تمثِّل مصير الإسلام: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. وكان الرّسول(ص) قد بلّغ كلّ ما جاء إليه من ربّه، ولكنَّ الولاية تمثِّل العمق في سلامة كلِّ ما أنزل إليه من ربّه في الامتداد والاستمرار، {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[15]. ولا تخف ـ يا رسول الله ـ أن يتحدَّث النّاس عنك بسلبيَّة، فالله يعصمك من النّاس في هذا كما عصمك منهم في غيره.

وكانت الكلمة الّتي أعطت عليّاً(ع) معنى الحكم في معنى الرِّسالة، عندما انطلق النبيّ(ص) ليؤكِّد القاعدة في شرعيَّة ما يفرضه على المسلمين، فالله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[16]، وهذا هو دليل الحاكميّة، كما كان قوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}[17]، دليل النبوّة والرّسالة.

ولذلك، فحينما قال الرَّسول(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!"، فإنّه أراد أن يقول لهم بأنّه يملك من أنفسهم ما لا يملكون منها، وهذا يعني أنَّ الدّولة تملك من الناس ـ بحسب القانون، وهو هنا إلهيّ ـ ما لا يملكونه من أنفسهم. ولمّا أقرّوا بذلك، قال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[18]، وبهذا أعطى رسول الله(ص) دوره في حاكميَّة المسلمين لعليّ(ع) في النّظرية والتّطبيق والأسلوب والغاية، لأنّها ليست مجرّد حاكميّة إداريّة، بل كانت الرّسالة تعيش في قلب الإدارة، وكانت الإدارة تتحرَّك في خطِّ الرّسالة.

إخلاص عليٍّ للإسلام

إنَّ عليّاً(ع)، وبعد أن دارت الدّائرة، لم يعتزل لمجرّد أنّه بات بلا دور، فالمسألة لم تكن مجرّد خلافةٍ يمنع من حقّه فيها، بل كانت مسألة رسالة حمَّله الله تبارك وتعالى ورسوله(ص) المسؤوليَّة فيها، وعندما نُحّيت الخلافة عنه، كان يحدِّق بالرّسالة، وعندما منعه بعض النّاس من حقِّه، كان يحدِّق بالواقع الإسلاميّ كلّه وبالمسلمين كلّهم، فكان من كلماته الكلمة الّتي خاطب فيها أهل مصر من خلال كتابه الّذي حمله عامله عليها (مالك الأشتر)، ولم يصل إليهم، لأنَّه وقع في أيدي أعوان معاوية الّذين اغتالوه: "فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلانٍ يبايعونه"، ويقصد أبا بكر، "فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، فخشيت"، وانظروا إلى هذا الجانب العاطفيّ الّذي يشدّ عليّاً(ع) إلى الإسلام، تماماً كما يتحدَّث الإنسان عن كارثةٍ تصيبه في نفسه وفي أهله، والعاطفة هنا أعمق عند عليّ(ع) لأنَّ الإسلام عنده فوق كلِّ شيء، "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ"، وما أعمق كلمة (المصيبة) هنا! فهي تبكي وتفيض دماً في المأساة، "أعظم من فوت ولايتكم هذه الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه"[19].

وقال(ع) في حالةٍ من أروع وأندر حالات نكران الذّات وأرقاها: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليَّ خاصّة"[20]، فلا مشكلة عندي في أن أُظلَمَ، ولكنّ المشكلة في أن يُظلَم المسلمون. وقال(ع) مؤكِّداً مسؤوليّته في تلك الظّروف العصيبة: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنـز"[21]. وقال لابن عباس الّذي دخل عليه فرآه يخصف نعله: "والله لهي أحبّ إليَّ من إمرتكم"، وكان في كرسيّ الخلافة آنذاك، "إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[22]. فمن مثل عليّ(ع) وهو مجرّد من كلّ شيء؟ ومنْ مثلُ عليّ(ع) وهو يملك الدّنيا كلّها؟

وعندما تسلّم الخلافة، كان كرسول الله(ص) في موقع مسؤوليَّة الحكم والرسالة، ولم يكتف بأن يحرّك خطوط الإدارة من أجل فرض النظام، بل كان يعمل على توعية المسلمين بالإسلام كلِّه، فعندما نقرأ تراث عليٍّ(ع) ـ و"نهج البلاغة" لا يمثّل إلاّ نزراً يسيراً جدّاً من تراثه، حيث كان همّ الشريف الرضي(رحمه الله) إبراز بلاغة عليّ(ع) وليس إبراز فكر عليّ(ع)، ولذلك، قطّع الكثير وحذف الكثير من خطبه ـ نرى أنّه تحدَّث في كلِّ شيء كان النّاس يتطلّعون إلى معرفته؛ فقد تحدَّث عن العقيدة الإسلاميَّة، وعن الشَّريعة الإسلاميَّة، وعن الأخلاقيَّة الإسلاميَّة، وعن المنهجيَّة الإسلاميَّة، والمشاكل الّتي كانت تعيش في واقع المسلمين، فأعطى لكلِّ واحدة منها حلاًّ.

وقد أعطى(ع) منهجاً للحاكم الإسلاميّ في أنّه لا يرفض الّذين يخالفونه ولا يقاتلهم، بل كان القتال عنده في حال إساءتهم إلى أمن المسلمين، ولذلك رأيناه في رسائله إلى معاوية كيف كان النّاصح والعالم الذي يتحدَّث إليه بالأسس الإسلاميَّة، وكان أسلوبه يعنف تارةً ويرقّ أخرى، تبعاً لما يحتاجه معاوية من التّأثير. وكان حديثه مع طلحة والزّبير كذلك حديث المشفق النّاصح، وصاحب الحجّة الذي يريد أن يناقشهم حجَّة بحجَّة، لذلك لم يعرض لأمّ المؤمنين عائشة، ولم يعرض لطلحة والزّبير عندما اعتزلوه، بل عرض إليهم عندما انتقلوا إلى البصرة واستغلّوا زوجة النّبيّ(ص)، وأساءوا إلى أمن المسلمين، وأرادوا أن يقسِّموا البلاد الإسلاميَّة، فنهض بمسؤوليَّة الحريص على الواقع الإسلاميّ لمواجهتهم.

أخلاق عليّ

وعندما انطلق في صفّين، فإنّه لم ينطلق بروحيَّة القائد الَّذي يريد أن يسفك الدّم، ولكن بروحيَّة الإمام والخليفة والقائد الّذي يعتبر الحرب وسيلة ضغط، وهذا ما عبّر عنه(ع) كما في (نهج البلاغة)، عندما استبطأ أصحابه إذنه لهم بالقتال، فقالوا: "أكان ذلك كراهيةً للموت؟"، أي هل كره عليّ(ع) الموت لأنَّ العمر قد تقدَّم به، كما جاء في الحديث المأثور: "يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان؛ الحرص، وطول الأمل"[23]، أي لم يعد يحبّ الموت، "أو شكّاً في أهل الشام؟"، وكان عليّ(ع) لا يتعقَّد من نقد، بل كان يطلب من النّاس أن ينقدوه في حكمه، وإن كان هو فوق مستوى أن يُنقَد، فقال لهم برحابة صدر: "أمَّا قولكم: أكلّ ذلك كراهية للموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأمَّا قولكم: شكّاً في أهل الشّام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي طائفة، فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[24]، فأنا لست محارباً أعيش الحرب كمزاج، ولكنّي رسالي يحرِّك الحرب في خطِّ الرّسالة.

وعندما سمع قوماً من أهل العراق، وهم جنده، يسبّون أهل الشَّام، فماذا قال لهم؟ اقرأوا (نهج البلاغة) جيّداً، وقلّ منّا من يقرأه ويفهمه ويعمل به، قال: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين"، فليس من خلق المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بالسبّ، لأنَّ السبَّ ينطلق من عقدة وليس من روحيَّة، "ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم"، وهذا هو منهج الإسلام في النَّقد والتَّقييم، حيث يريدك عندما تختلف مع إنسان، وتريد أن تقدِّم القضيَّة الّتي تختلف فيها معه، أن لا تسبّه، بل أن تصف أفعاله، "وذكرتم حالهم"، من الاستقامة أو الانحراف، "لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر"، فالإمام(ع) لا يريد لجنده أن يحقدوا على المسلمين حتى وهم في حالة حرب معهم، ولا يريد للمسلم أن يعيش روحاً تدميريّة ضدّ المسلم الآخر الذي يختلف معه، بل كان يريد له أن يعيش رحابة الصّدر حتى وهو يختلف مع المسلم الآخر، "وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به"[25]. فالمشكلة ليست ذاتيّةً، ولكنّها مشكلة الصّراع بين الحقّ والباطل، ونحن ندعو الله تبارك وتعالى إلى أن يهديهم إلى الحقّ، وأن يفتح عقولهم عليه. فأين نحن من عليّ(ع) في خلافاتنا كلِّها؛ المذهبيَّة والطائفيَّة والحزبيَّة وغيرها؟!

لكنَّ مجتمع المسلمين اليوم ـ على العكس من ذلك ـ يعيش روحيَّة التّدمير ضدّ بعضه البعض، وقد تحرَّك التَّدمير في خطِّ التّكفير لا في خطِّ الحوار، ولهذا عشنا كما كان اليهود {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[26]، ولقد كنَّا أشدّاء على الكفّار رحماء بيننا، فأصبحنا أشدَّاء على بعضنا البعض رحماء على الكفّار.

عليّ(ع) مالئ المرحلة

من هنا، فقد ملأ عليّ(ع) مرحلته إسلاماً كلّها، وكان كما قال بعض أصحابه: "يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا سكتنا"، لأنّه كان يعيش مسؤوليّة العلم: "إنَّ ها هنا لعلماً جمّاً ـ وأشار إلى صدره ـ لو أصبت له حملة"[27]، وكان يقول: "ما أخذ الله على الجهَّال أن يتعلّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا"[28].

ونفهم من سيرة عليّ(ع) كلّها، أنَّ على الَّذي يتسلّم قيادة المواقع الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة للإسلام، أن يملأ كلّ فراغ المسلمين بما يحتاجونه في حقل التّوعية الإسلاميّة، بحيث يجيب عن أسئلتهم كلّها، ويتحرَّك من أجل تطلّعاتهم كلّها، ولا سيّما عندما تنتشر البدع، فلا نكتفي بجانبٍ واحدٍ من المعرفة، وبخاصَّة في عصرنا الذي تحرّكت فيه التحدّيات الفكريَّة والروحيَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والأمنيّة لتربك الواقع الإسلاميّ، بحيث يبدو المسلمون كما في وصف الله تعالى للنّاس في يوم القيامة: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى}[29]، ولكنَّ التحدّيات كبيرة!

لذلك كلّه، لا يمكن أن يكون غير عليّ(ع) وصيّاً لرسول الله(ص)، من ناحية منطقيَّة وليس من ناحية عصبيّة، فادرسوا عليّاً(ع)، وادرسوا غيره دراسة مقارنة، لتروا كيف أنّ عليّاً(ع) كان في الموقع الذي كان فيه رسول الله(ص)، وكان غيره في الموقع المواجه له. وقد يقول قائل: لقد نجح المسلمون في غياب عليّ(ع)، ولم ينجح عليّ(ع) عندما تسلَّم الخلافة، ولكنَّهم نجحوا في الامتداد، وكان عليّ(ع) منفتحاً على كلِّ هذه النّجاحات، وكان يعطي المشورة والرأي، ويحمي المواقع القياديَّة للمسلمين ويحمي حياتهم، لكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه، حتى قال: "لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيَّرت أشياء"[30]. ولكنَّ المرحلة لم تنتج علماً وعمقاً وامتداداً، فالقضيَّة لم تكن قضيَّة أن تفتح أرضاً ولكن أن تفتح إنساناً، وكان عليّ(ع) يعمل على أن يفتح عقل الإنسان على الحقّ، وقلبه على المحبَّة، وحياته على العدل، ولذلك، فإنَّ عليّاً(ع) لم يفشل لخللٍ في خطَّته، ولكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه: "فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله، حيث قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[31]. بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنَّهم حليت الدّنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"[32].

رائد الوحدة الإسلاميَّة

وأختم كلمتي بالقول إنَّ علياً(ع) كان رائد الوحدة الإسلاميَّة، فلم يتنازل عن حقّه ولا عن خطّه، لكنَّه كان يتطلّع إلى أن لا تتحرّك الفتنة لإسقاط الإسلام في نفوس المسلمين، فمع أنّه كان صاحب الحقّ، لكنَّه امتنع عن المطالبة بحقّه في الولاية من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين.

وفي هذه الظّروف القاسية، يعمل الاستكبار العالميّ بالتّحالف مع الكفر العالميّ من أجل أن يستغلَّ خلافات المسلمين المذهبيّة، ليكفِّر بعضهم بعضاً، وليضلِّل بعضهم بعضاً، وليمتنعوا عن السير في الخطِّ الذي وجَّههم الله إليه في فضّ نزاعاتهم: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}[33]، ولذلك، استطاع الاستكبار العالميّ أن يسرق ثرواتنا ومواقعنا ومواقفنا، وأن يمنعنا من أن نؤسِّس مستقبلنا؛ مستقبل الحريّة والعزّة والكرامة.

أيّها الأحبّة، إنَّ علينا أن نستهدي عليّاً(ع) الذي استهدى الإسلام: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ـ فلا ترجعوا إليها ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[34].

 أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. والحمد لله ربّ العالمين.

*فكر وثقافة: 22 ذو الحجّة 1422ه‍/ 17 آذار 2001م.


[1] [الأحزاب: 21].

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص158.

[3] المصدر نفسه، ج 2، ص 14.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 21، ص 11.

[5] [طه: 29 ـ 34].

[6] بحار الأنوار، ج 28، ص 368.

[7] المصدر نفسه، ج 10، ص 121.

[8] [البقرة: 207].

[9]  نهج البلاغة، ج 2، ص 19.

[10] المصدر نفسه، ج 1، ص 93.

[11] المصدر نفسه، ج 2، ص 180.

[12] المصدر نفسه، ج 2، ص 7.

[13] المصدر نفسه، ج 2، ص 219.

[14] [آل عمران: 61].

[15] [المائدة: 67].

[16] [الأحزاب: 6].

[17] [الأحزاب: 45].

[18] بحار الأنوار، ج 28، ص 99.

[19] نهج البلاغة، ج 3، ص 119.

[20] المصدر نفسه، ج 1، 125.

[21] نهج البلاغة، ج 1، ص 37.

[22] المصدر نفسه، ج 1، ص 81.

[23] بحار الأنوار، ج 70، ص 23.

[24] نهج البلاغة، ج 1، ص 104.

[25] المصدر نفسه، ج 2، ص 186.

[26] [الحشر: 14].

[27] نهج البلاغة، د 4، ص 37.

[28] بحار الأنوار، ج 2، ص 78.

[29] [الحج: 2].

[30] نهج البلاغة، ج 4، ص 66.

[31] [القصص: 83].

[32] نهج البلاغة، ج 1، ص 36.

[33] [النساء: 59].

[34] [آل عمران: 103].

قبل أيّام، كنّا في غدير عليّ(ع)؛ هذا الغدير الَّذي ربّما كان في الصَّحراء من دون ماء، ولكنّ غدير عليّ(ع) في شخصيَّته يمثِّل النّبع الّذي يمنح الحياة عقلاً وروحاً وروحانيّةً ووعياً ويقظةً وحركيّةً وقوّة وصلابةً في الموقف، لأنّ علياً(ع) كان ذلك كلّه. وعندما نقف معه، فإنّنا من موقع دراسة كلّ تلك المرحلة وما بعدها، ومن خلال النّفاذ إلى عمق الناس الذين عايشهم وعايشوه بعد رسول الله(ص)، نرى أنَّ علياً(ع) هو وحده الّذي يجمع الإسلام كلّه، فلم يكن يعيش التخصّص في بعض الجوانب الإسلاميَّة، بل كان يعيش الإسلام كلَّه، لأنَّ الإسلام كلّه كان يتجسَّد في رسول الله(ص) الَّذي أراد الله للمسلمين أن يتطلَّعوا إليه ويقتدوا به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً}[1]، لأنَّ رسول الله(ص) كان في قوله وفعله ومواقفه ونظراته إلى ما يقوم به النّاس الآخرون، ليعطي السَّلب تارةً والإيجاب أخرى، كان إسلاماً كلّه، وقد عاش عليّ(ع) رسول الله(ص) منذ طفولته في آفاقه الروحيَّة وتأمّلاته الفكريَّة قبل البعثة، وعاش رسول الله(ص) ـ بعد رحيله ـ في آفاقه الرّوحيَّة المنفتحة على الوحي والحركيَّة الإسلاميَّة والأخلاقيَّة الإسلاميَّة وعلى كلِّ المفاهيم الإسلامية، لأنّه كان، كما قال له رسول الله(ص): "إنَّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبيّ"[2]. وهذا ما حدَّثنا عنه عليّ(ع) في (نهج البلاغة). لذلك، فقد كان عليّ(ع) يسمع الوحي كما يسمعه رسول الله(ص)، وكان يلتقي برسول الله(ص)، فيتحدّث معه عن تفاصيل الآيات وأبعادها وامتداداتها، لذلك كانت الآيات القرآنيّة في عقل عليّ(ع) كوناً ينفتح على الحياة كلِّها، وكانت امتداداً في الزمن كلِّه، وحركة في الإنسان كلِّه، ولذلك، فإنَّنا عندما نلتقي بعليّ(ع) الآن، فإنّنا نشعر بأنّه يعيش قضايا عصره كلِّها، بحيث نستطيع أن نستنطقه فيما نوجِّهه من أسئلةٍ، فنجد في كلماته جواباً لكلِّ سؤال.

عليّ(ع) الحق كلّه

وكان عليّ(ع) أوَّل من صلَّى بعد رسول الله(ص)، وهو القائل: "لم يسبقني إلاّ رسول الله بالصَّلاة"[3]، وكان يصلّي معه ويتعبَّد معه ويناجي ربّه معه، ولذلك، كانت روحانيَّته هي روحانيَّة رسول الله(ص)؛ عاشها في عقله قاعدةً للفكر، وفي قلبه قاعدةً للعاطفة، وفي حياته امتداداً للمنهج والحركة.

وتحرّك عليّ(ع) في ميادين الجهاد، ولم يكن قد تدرّب على أيَّ فنّ من فنون الحرب، فاستطاع من خلال وعيه للقوّة الّتي كانت من حيث طبيعتها قوّة ربّانيَّة، أن يحرّكها في قوّته البشريَّة، فكان فارس (بدر) و(أحد) و(الأحزاب) و(حنين) وغيرها من حروب الإسلام، حتى لم تخل أيّة معركة للإسلام في عصر رسول الله(ص) من بطولة عليّ(ع)، وقد استغرب عليّ(ع) أن لا يأخذه رسول الله(ص) معه في بعض أسفاره الجهاديّة، كما في موقعة (تبوك)، ولكنَّه قال له إنّ هذه لن تكون معركة حربيّة، وأريدك أن تبقى في المدينة لتشرف على توازن النِّظام فيها: "أما ترضى أن تكون منّي بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"[4]. وهذا مستوحى من قوله تعالى:  {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}[5].

وكان عليّ(ع) يعطي المسلمين من فكره الَّذي هو فكر الإسلام، ومن تجربته الغنيّة بعطاء الإسلام، فكان المعلّم والزّاهد والعامل، فقد كان يخرج للعمل من أجل أن يكسب رزقه، لا لأنّه كان يعيش ضائقةً ماليّةً ولا أقسى فحسب، بل ليعطي من نفسه المثل في أنّ موقع المسؤوليَّة لا يعفي صاحبها من العمل والكسب من كدّ يده، ولذلك تحدَّث رسول الله(ص) عن عليّ(ع) في المفاصل الأساسيَّة للإسلام بما لم يتحدَّث به عن أيّ صحابيّ آخر، مع احترامنا لكلّ الّذين عاشوا مع رسول الله(ص) بإخلاص: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[6]، "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[7]. وكانت كلمات رسول الله(ص) تتحرَّك لتعرّف المسلمين أنَّ الحقَّ هو الإسلام، فالله سبحانه وتعالى خلق السَّماوات والأرض بالحقّ، وهو الحقّ، والشَّريعة هي الحقّ، والقرآن كتاب الله هو الحقّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك، أراد رسول الله(ص) أن يقول للنَّاس، إنَّ عظمة عليّ(ع) في أنَّه الإنسان الّذي لا يقترب الباطل منه، فالدَّائرة الّتي يتحرَّك فيها عليّ(ع) هي دائرة الحقّ الّتي تمنع أيَّ شيء من الباطل أن ينفذ إليه، وهذا هو دليل عصمة عليّ(ع)، وهو أعلى من العصمة، لأنّها ـ أي العصمة ـ حالة في حركة الإنسان، ولكنَّ عليّاً(ع) كان العصمة مجسَّدةً، فليس في فكره شيء من الباطل، وليس في قلبه شيء من الباطل، وليس في حياته أيّة حركة من حركات الباطل.

التوجّه المطلق إلى الله

وسرّ عليّ(ع) أنّه باع نفسه لله تبارك وتعالى، وهذا ما نصّ عليه القرآن: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[8]، لأنَّ الآية الكريمة، كما يذكر المفسِّرون، نزلت في عليّ(ع) عندما بات في فراش النّبيّ(ص) ليلة الهجرة.. وهذا ما تحدَّث عنه عندما حكم المسلمين في خلافته: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّي أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"[9]، فلقد كان يريد أن يدفع النَّاس إلى الله، ليعيشوا مع الله فكراً وروحاً وحركةً ومنهجاً، وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، لأنّه كان يعيش مع الله بشكلٍ مطلق، وكان النّاس يعيشون مع أنفسهم بعيداً عن الله، وكانوا يريدونه لأنفسهم، وأن يعطي الكلمة الَّتي لا يؤمن بها حتى يستطيع أن يضمن لنفسه موقعاً، فقد قال له عبد الرّحمن بن عوف: "أبايعك على كتاب الله وسنَّة رسوله وسيرة الشّيخين"، فقال له: "بل على كتاب الله وسنَّة رسوله واجتهاد رأيي"، لأنَّني ـ أنا عليّ ـ قد أفهم كتاب الله وسنّة رسوله(ص) فهماً مختلفاً عنهما، وأفهم الواقع الموضوعيّ فيما يتحرّك به واقع النّاس فهماً مختلفاً، فعلى أيِّ أساس أبايعك على ما تريد؟!

وابتعدت عنه الخلافة من خلال ذلك، وقد قال لمن طلب منه أن يعيش اللّعب على الحبال، من خلال أنّ الغاية تبرّر الوسيلة: "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[10]، وقال لمن اتهمه أنّه يجهل السّياسة، أو أنّه لا يمتلك دهاء معاوية: "والله، ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس".[11] وقال لمن أراده أن يميِّز في العطاء: "أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولِّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجم في السّماء نجماً، لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله"[12]. لذلك، كان الإسلام أعصاب عليّ(ع) ودمه وكيانه، وكانت مأساته أنّه كان يريد للنّاس إسلاماً لا شرك فيه، وحقّاً لا باطل فيه، وعدلاً لا ظلم فيه، "والله، لو أعطيت الأقانيم السّبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت"[13].

عليّ(ع) نفس رسول الله(ص)

إنَّ عليّاً(ع) جمع ذلك كلَّه، ولم يجمع صحابيّ حتى بعض ذلك، ولقد قلنا أكثر من مرّة، إنّ الخلافة عن رسول الله(ص) تختلف عن أيّة خلافة أخرى، لأنَّ المسألة ليست حكماً يتطلَّب الإدارة، ولكنَّها رسالة تتطلَّب العمق والامتداد بما لم تسمح به الظّروف للرَّسول(ص) أن يصل إليه، لأنَّ المشركين شغلوه بالحروب والمشاكل والألغام الّتي زرعوها في طريقه، لذلك كان الواقع الإسلاميّ يحتاج إلى شخصٍ هو كلّ رسول الله(ص) ما عدا النبوَّة، وليس هناك من تتوافر فيه هذه الصّفة سوى عليّ(ع) {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}[14]، وكان عليّ(ع) نفس رسول الله(ص).

وتأسيساً على ذلك كلِّه، لم تكن مسألة الغدير تعيش على هامش الواقع الإسلاميّ، بل كانت تمثِّل مصير الإسلام: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. وكان الرّسول(ص) قد بلّغ كلّ ما جاء إليه من ربّه، ولكنَّ الولاية تمثِّل العمق في سلامة كلِّ ما أنزل إليه من ربّه في الامتداد والاستمرار، {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[15]. ولا تخف ـ يا رسول الله ـ أن يتحدَّث النّاس عنك بسلبيَّة، فالله يعصمك من النّاس في هذا كما عصمك منهم في غيره.

وكانت الكلمة الّتي أعطت عليّاً(ع) معنى الحكم في معنى الرِّسالة، عندما انطلق النبيّ(ص) ليؤكِّد القاعدة في شرعيَّة ما يفرضه على المسلمين، فالله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[16]، وهذا هو دليل الحاكميّة، كما كان قوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}[17]، دليل النبوّة والرّسالة.

ولذلك، فحينما قال الرَّسول(ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!"، فإنّه أراد أن يقول لهم بأنّه يملك من أنفسهم ما لا يملكون منها، وهذا يعني أنَّ الدّولة تملك من الناس ـ بحسب القانون، وهو هنا إلهيّ ـ ما لا يملكونه من أنفسهم. ولمّا أقرّوا بذلك، قال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[18]، وبهذا أعطى رسول الله(ص) دوره في حاكميَّة المسلمين لعليّ(ع) في النّظرية والتّطبيق والأسلوب والغاية، لأنّها ليست مجرّد حاكميّة إداريّة، بل كانت الرّسالة تعيش في قلب الإدارة، وكانت الإدارة تتحرَّك في خطِّ الرّسالة.

إخلاص عليٍّ للإسلام

إنَّ عليّاً(ع)، وبعد أن دارت الدّائرة، لم يعتزل لمجرّد أنّه بات بلا دور، فالمسألة لم تكن مجرّد خلافةٍ يمنع من حقّه فيها، بل كانت مسألة رسالة حمَّله الله تبارك وتعالى ورسوله(ص) المسؤوليَّة فيها، وعندما نُحّيت الخلافة عنه، كان يحدِّق بالرّسالة، وعندما منعه بعض النّاس من حقِّه، كان يحدِّق بالواقع الإسلاميّ كلّه وبالمسلمين كلّهم، فكان من كلماته الكلمة الّتي خاطب فيها أهل مصر من خلال كتابه الّذي حمله عامله عليها (مالك الأشتر)، ولم يصل إليهم، لأنَّه وقع في أيدي أعوان معاوية الّذين اغتالوه: "فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلانٍ يبايعونه"، ويقصد أبا بكر، "فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، فخشيت"، وانظروا إلى هذا الجانب العاطفيّ الّذي يشدّ عليّاً(ع) إلى الإسلام، تماماً كما يتحدَّث الإنسان عن كارثةٍ تصيبه في نفسه وفي أهله، والعاطفة هنا أعمق عند عليّ(ع) لأنَّ الإسلام عنده فوق كلِّ شيء، "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ"، وما أعمق كلمة (المصيبة) هنا! فهي تبكي وتفيض دماً في المأساة، "أعظم من فوت ولايتكم هذه الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه"[19].

وقال(ع) في حالةٍ من أروع وأندر حالات نكران الذّات وأرقاها: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليَّ خاصّة"[20]، فلا مشكلة عندي في أن أُظلَمَ، ولكنّ المشكلة في أن يُظلَم المسلمون. وقال(ع) مؤكِّداً مسؤوليّته في تلك الظّروف العصيبة: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنـز"[21]. وقال لابن عباس الّذي دخل عليه فرآه يخصف نعله: "والله لهي أحبّ إليَّ من إمرتكم"، وكان في كرسيّ الخلافة آنذاك، "إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[22]. فمن مثل عليّ(ع) وهو مجرّد من كلّ شيء؟ ومنْ مثلُ عليّ(ع) وهو يملك الدّنيا كلّها؟

وعندما تسلّم الخلافة، كان كرسول الله(ص) في موقع مسؤوليَّة الحكم والرسالة، ولم يكتف بأن يحرّك خطوط الإدارة من أجل فرض النظام، بل كان يعمل على توعية المسلمين بالإسلام كلِّه، فعندما نقرأ تراث عليٍّ(ع) ـ و"نهج البلاغة" لا يمثّل إلاّ نزراً يسيراً جدّاً من تراثه، حيث كان همّ الشريف الرضي(رحمه الله) إبراز بلاغة عليّ(ع) وليس إبراز فكر عليّ(ع)، ولذلك، قطّع الكثير وحذف الكثير من خطبه ـ نرى أنّه تحدَّث في كلِّ شيء كان النّاس يتطلّعون إلى معرفته؛ فقد تحدَّث عن العقيدة الإسلاميَّة، وعن الشَّريعة الإسلاميَّة، وعن الأخلاقيَّة الإسلاميَّة، وعن المنهجيَّة الإسلاميَّة، والمشاكل الّتي كانت تعيش في واقع المسلمين، فأعطى لكلِّ واحدة منها حلاًّ.

وقد أعطى(ع) منهجاً للحاكم الإسلاميّ في أنّه لا يرفض الّذين يخالفونه ولا يقاتلهم، بل كان القتال عنده في حال إساءتهم إلى أمن المسلمين، ولذلك رأيناه في رسائله إلى معاوية كيف كان النّاصح والعالم الذي يتحدَّث إليه بالأسس الإسلاميَّة، وكان أسلوبه يعنف تارةً ويرقّ أخرى، تبعاً لما يحتاجه معاوية من التّأثير. وكان حديثه مع طلحة والزّبير كذلك حديث المشفق النّاصح، وصاحب الحجّة الذي يريد أن يناقشهم حجَّة بحجَّة، لذلك لم يعرض لأمّ المؤمنين عائشة، ولم يعرض لطلحة والزّبير عندما اعتزلوه، بل عرض إليهم عندما انتقلوا إلى البصرة واستغلّوا زوجة النّبيّ(ص)، وأساءوا إلى أمن المسلمين، وأرادوا أن يقسِّموا البلاد الإسلاميَّة، فنهض بمسؤوليَّة الحريص على الواقع الإسلاميّ لمواجهتهم.

أخلاق عليّ

وعندما انطلق في صفّين، فإنّه لم ينطلق بروحيَّة القائد الَّذي يريد أن يسفك الدّم، ولكن بروحيَّة الإمام والخليفة والقائد الّذي يعتبر الحرب وسيلة ضغط، وهذا ما عبّر عنه(ع) كما في (نهج البلاغة)، عندما استبطأ أصحابه إذنه لهم بالقتال، فقالوا: "أكان ذلك كراهيةً للموت؟"، أي هل كره عليّ(ع) الموت لأنَّ العمر قد تقدَّم به، كما جاء في الحديث المأثور: "يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان؛ الحرص، وطول الأمل"[23]، أي لم يعد يحبّ الموت، "أو شكّاً في أهل الشام؟"، وكان عليّ(ع) لا يتعقَّد من نقد، بل كان يطلب من النّاس أن ينقدوه في حكمه، وإن كان هو فوق مستوى أن يُنقَد، فقال لهم برحابة صدر: "أمَّا قولكم: أكلّ ذلك كراهية للموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ، وأمَّا قولكم: شكّاً في أهل الشّام، فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أرجو أن تهتدي بي طائفة، فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليَّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[24]، فأنا لست محارباً أعيش الحرب كمزاج، ولكنّي رسالي يحرِّك الحرب في خطِّ الرّسالة.

وعندما سمع قوماً من أهل العراق، وهم جنده، يسبّون أهل الشَّام، فماذا قال لهم؟ اقرأوا (نهج البلاغة) جيّداً، وقلّ منّا من يقرأه ويفهمه ويعمل به، قال: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين"، فليس من خلق المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بالسبّ، لأنَّ السبَّ ينطلق من عقدة وليس من روحيَّة، "ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم"، وهذا هو منهج الإسلام في النَّقد والتَّقييم، حيث يريدك عندما تختلف مع إنسان، وتريد أن تقدِّم القضيَّة الّتي تختلف فيها معه، أن لا تسبّه، بل أن تصف أفعاله، "وذكرتم حالهم"، من الاستقامة أو الانحراف، "لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر"، فالإمام(ع) لا يريد لجنده أن يحقدوا على المسلمين حتى وهم في حالة حرب معهم، ولا يريد للمسلم أن يعيش روحاً تدميريّة ضدّ المسلم الآخر الذي يختلف معه، بل كان يريد له أن يعيش رحابة الصّدر حتى وهو يختلف مع المسلم الآخر، "وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به"[25]. فالمشكلة ليست ذاتيّةً، ولكنّها مشكلة الصّراع بين الحقّ والباطل، ونحن ندعو الله تبارك وتعالى إلى أن يهديهم إلى الحقّ، وأن يفتح عقولهم عليه. فأين نحن من عليّ(ع) في خلافاتنا كلِّها؛ المذهبيَّة والطائفيَّة والحزبيَّة وغيرها؟!

لكنَّ مجتمع المسلمين اليوم ـ على العكس من ذلك ـ يعيش روحيَّة التّدمير ضدّ بعضه البعض، وقد تحرَّك التَّدمير في خطِّ التّكفير لا في خطِّ الحوار، ولهذا عشنا كما كان اليهود {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[26]، ولقد كنَّا أشدّاء على الكفّار رحماء بيننا، فأصبحنا أشدَّاء على بعضنا البعض رحماء على الكفّار.

عليّ(ع) مالئ المرحلة

من هنا، فقد ملأ عليّ(ع) مرحلته إسلاماً كلّها، وكان كما قال بعض أصحابه: "يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا سكتنا"، لأنّه كان يعيش مسؤوليّة العلم: "إنَّ ها هنا لعلماً جمّاً ـ وأشار إلى صدره ـ لو أصبت له حملة"[27]، وكان يقول: "ما أخذ الله على الجهَّال أن يتعلّموا، حتى أخذ على العلماء أن يعلّموا"[28].

ونفهم من سيرة عليّ(ع) كلّها، أنَّ على الَّذي يتسلّم قيادة المواقع الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة للإسلام، أن يملأ كلّ فراغ المسلمين بما يحتاجونه في حقل التّوعية الإسلاميّة، بحيث يجيب عن أسئلتهم كلّها، ويتحرَّك من أجل تطلّعاتهم كلّها، ولا سيّما عندما تنتشر البدع، فلا نكتفي بجانبٍ واحدٍ من المعرفة، وبخاصَّة في عصرنا الذي تحرّكت فيه التحدّيات الفكريَّة والروحيَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والأمنيّة لتربك الواقع الإسلاميّ، بحيث يبدو المسلمون كما في وصف الله تعالى للنّاس في يوم القيامة: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى}[29]، ولكنَّ التحدّيات كبيرة!

لذلك كلّه، لا يمكن أن يكون غير عليّ(ع) وصيّاً لرسول الله(ص)، من ناحية منطقيَّة وليس من ناحية عصبيّة، فادرسوا عليّاً(ع)، وادرسوا غيره دراسة مقارنة، لتروا كيف أنّ عليّاً(ع) كان في الموقع الذي كان فيه رسول الله(ص)، وكان غيره في الموقع المواجه له. وقد يقول قائل: لقد نجح المسلمون في غياب عليّ(ع)، ولم ينجح عليّ(ع) عندما تسلَّم الخلافة، ولكنَّهم نجحوا في الامتداد، وكان عليّ(ع) منفتحاً على كلِّ هذه النّجاحات، وكان يعطي المشورة والرأي، ويحمي المواقع القياديَّة للمسلمين ويحمي حياتهم، لكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه، حتى قال: "لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيَّرت أشياء"[30]. ولكنَّ المرحلة لم تنتج علماً وعمقاً وامتداداً، فالقضيَّة لم تكن قضيَّة أن تفتح أرضاً ولكن أن تفتح إنساناً، وكان عليّ(ع) يعمل على أن يفتح عقل الإنسان على الحقّ، وقلبه على المحبَّة، وحياته على العدل، ولذلك، فإنَّ عليّاً(ع) لم يفشل لخللٍ في خطَّته، ولكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه: "فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله، حيث قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[31]. بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنَّهم حليت الدّنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"[32].

رائد الوحدة الإسلاميَّة

وأختم كلمتي بالقول إنَّ علياً(ع) كان رائد الوحدة الإسلاميَّة، فلم يتنازل عن حقّه ولا عن خطّه، لكنَّه كان يتطلّع إلى أن لا تتحرّك الفتنة لإسقاط الإسلام في نفوس المسلمين، فمع أنّه كان صاحب الحقّ، لكنَّه امتنع عن المطالبة بحقّه في الولاية من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين.

وفي هذه الظّروف القاسية، يعمل الاستكبار العالميّ بالتّحالف مع الكفر العالميّ من أجل أن يستغلَّ خلافات المسلمين المذهبيّة، ليكفِّر بعضهم بعضاً، وليضلِّل بعضهم بعضاً، وليمتنعوا عن السير في الخطِّ الذي وجَّههم الله إليه في فضّ نزاعاتهم: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ}[33]، ولذلك، استطاع الاستكبار العالميّ أن يسرق ثرواتنا ومواقعنا ومواقفنا، وأن يمنعنا من أن نؤسِّس مستقبلنا؛ مستقبل الحريّة والعزّة والكرامة.

أيّها الأحبّة، إنَّ علينا أن نستهدي عليّاً(ع) الذي استهدى الإسلام: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ـ فلا ترجعوا إليها ـ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[34].

 أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. والحمد لله ربّ العالمين.

*فكر وثقافة: 22 ذو الحجّة 1422ه‍/ 17 آذار 2001م.


[1] [الأحزاب: 21].

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص158.

[3] المصدر نفسه، ج 2، ص 14.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 21، ص 11.

[5] [طه: 29 ـ 34].

[6] بحار الأنوار، ج 28، ص 368.

[7] المصدر نفسه، ج 10، ص 121.

[8] [البقرة: 207].

[9]  نهج البلاغة، ج 2، ص 19.

[10] المصدر نفسه، ج 1، ص 93.

[11] المصدر نفسه، ج 2، ص 180.

[12] المصدر نفسه، ج 2، ص 7.

[13] المصدر نفسه، ج 2، ص 219.

[14] [آل عمران: 61].

[15] [المائدة: 67].

[16] [الأحزاب: 6].

[17] [الأحزاب: 45].

[18] بحار الأنوار، ج 28، ص 99.

[19] نهج البلاغة، ج 3، ص 119.

[20] المصدر نفسه، ج 1، 125.

[21] نهج البلاغة، ج 1، ص 37.

[22] المصدر نفسه، ج 1، ص 81.

[23] بحار الأنوار، ج 70، ص 23.

[24] نهج البلاغة، ج 1، ص 104.

[25] المصدر نفسه، ج 2، ص 186.

[26] [الحشر: 14].

[27] نهج البلاغة، د 4، ص 37.

[28] بحار الأنوار، ج 2، ص 78.

[29] [الحج: 2].

[30] نهج البلاغة، ج 4، ص 66.

[31] [القصص: 83].

[32] نهج البلاغة، ج 1، ص 36.

[33] [النساء: 59].

[34] [آل عمران: 103].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية