كتابات
18/04/2017

المرجع فضل الله(رض): من هو المؤمن؟ وما هي مقوّيات إيمانه؟

المرجع فضل الله(رض): من هو المؤمن؟ وما هي مقوّيات إيمانه؟

كثيرة هي المصطلحات التي تدلّ على المعاني الالتزامية الدينية عند الإنسان؛ من المؤمن، إلى المسلم، إلى الصالح، وغيرها. ولكن البعض قد يقع في مشكلة عدم فهم أبعاد هذه المصطلحات، وتبقى الأمور بالتّالي لديه مشوَّشة، ويتعايش مع فهمه السّطحيّ لها، دون السّعي للتعمّق فيها، بما يجدّد روحيّته الإيمانية المرتكزة على الفهم الدّقيق لما يحمل من مصطلحات.

ولا بدّ من التعمّق في حقيقة المفاهيم، من أجل وعي مضامينها، وتأسيس المعارف عليها، بما يخدم تأصيل النظرة والسلوك، ويصوّب حركة الواقع ويحميه من التناقضات والانحرافات، كما يقول سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في محاضرةٍ له، أردنا تسليط الضّوء عليها، لنتعرّف معنى المؤمن ومقوّيات الإيمان، بحسب وجهة نظر الإسلام لذلك. يقول سماحته:

"ربما نستعمل بعض المصطلحات الإسلاميّة بطريقة ساذجة، وربما تتحوّل هذه السّذاجة في الاستعمال إلى سذاجة في التصوّر، ما يجعلنا نعيش هذه العناوين أو المصطلحات أو المفاهيم، من دون التعمّق في حقيقتها وفي خطوطها وفي آفاقها وامتداداتها في حركة الإسلام.

ومن بين هذه المصطلحات، مصطلح "المؤمن"، فإن الفكرة الساذجة تربط هذا المفهوم بأداء العبادات، والامتناع عن المحرَّمات بطريقة وبأخرى، أمّا الآفاق العامّة التي يتحرك فيها الإيمان في نفس الإنسان المؤمن، وأمّا الخطوط العميقة الواقعية التي يتحرك فيها هذا المفهوم في حياة الإنسان، فإنها قد تكون بعيدةً عن التصوّر، وبذلك تصبح بعيدةً عن حركة الواقع".

ويتابع سماحته الكلام عن بعض الشّواهد القرآنيّة والحديثيّة التي تركِّز نظرة الإسلام إلى المؤمن. فعن مفهوم الإيمان في القرآن يقول:

"نقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.

... فأن تؤمن بالله، هو أن تتجلّى عظمة الله في نفسك في كلّ مواقع العظمة في صفاته، وفي كلّ آفاق العظمة في ذاته. وأن تؤمن بالله، يعني أن ينفتح فكرك وقلبك وإحساسك على أنعم الله، لتتحسّس ارتباط وجودك به في كلّ تفاصيله، من خلال ارتباطه بالنعم التي أسبغها الله عليك.

ومن هنا، فإنّ صدقك في الإيمان هو أن لا تذكر الله عندما تذكره، أو تسمع ذكر الله عندما تسمعه، تماماً كما تذكر أيّ اسم لأيّ إنسان أو لأيّ شيء، أو كما تسمع أيّ اسم، فلا يهتزّ قلبك، ولا يخشع عقلك، ولا يخضع كيانك، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، كما توجل القلوب عندما تخضع لذكر العظيم، وهذا ما نلاحظه أمام الّذين نتمثّل عظمتهم في القوّة في الواقع، حيث نشعر بالرّهبة وبالخوف وبالوجل عندما يذكرون، ألا يقال بأنَّ فلاناً يرتجف النّاس من ذكر اسمه من جهة بطشه وقوّته وقدرته؟".

وأضاف بأنَّ المعرفة زيادة في الإيمان، بقوله:

"{وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهُم إيماناً}، إذا تليت عليهم آياته الكونيّة وآياته القرآنيّة، بحيث إنّ إيمانهم يتحرّك ويتطوّر ويزيد من خلال زيادة المعرفة، فكلَّما عرفت الله من خلال آياته أكثر، عرفت عظمته على أساس ما تفهمه من أسرار هذه الآيات أكثر، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: {يتفكّرون في خلق السَّماوات والأرض} وينتهون إلى النتيجة {ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك}، فنحن نستوحي من ذلك عظمتك ونستوحي عبادتك {فقِنا عذاب النَّار}.

من هنا ـ أيّها الأحبّة ـ جاء القرآن وجاءت السنّة الشريفة بالحثِّ على قراءة القرآن {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}. وهكذا نلتقي بالأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن، لأنَّ العقيدة ترتكز على الله في توحيده، وجاء القرآن من أجل أن يعمِّق توحيد الله في نفوس الناس".

ويشير سماحته إلى عنوان التَّوحيد كواحدٍ من أهمّ عناوين العقيدة الذي يجذّر الإيمان عمليّاً في حياة الفرد والجماعة، بشكلٍ يجعلهما فعليّاً في خطّ الله. فكلّما كان الإنسان موحِّداً عن وعي ومسؤوليّة، انفتح أكثر على الحقّ المتمثّل بصراط الله المستقيم، وهذا ما يجب على المرء أن يسير به ويلتفت إليه بشكل فاعل يعيد من خلاله تصويب مواقفه وسلوكيّاته:

"لذلك، فلو قرأنا القرآن من أوّله إلى آخره، لرأينا العنوان الكبير الذي يحكم كل سورة وكلّ آية هو "توحيد الله"، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، فقيمة القرآن أنه يفتح عقولنا على الله، من خلال ما في القرآن من موعظة ومن وعي ومن انفتاح ومن حركة نحو التّفكير في آفاق الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما يدفعنا ـ أيّها الأحبّة ـ إلى أن نقرأ القرآن لنتثقّف به، ولتكون لنا الثقافة التوحيدية في تصوّرنا لوحدانيّة الله، والثقافة الإيمانيّة في تصوّرنا لكلّ خطوط الإيمان به، وفي تصوّرنا لمسؤولياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والحركية في كلّ مواقع الحياة، لأنّ القرآن يختصر لنا كلّ ما جاء به، وما جاء به هو "الحياة" {يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكُم لما يحييكم}".

ومن صفات المؤمن، التوكّل على الله، والثّقة به وبرحمته وتوفيقه وهدايته، فالتوكل على الله من أبرز مصاديق الإيمان الفعلي الّذي يغني الإنسان ويسمو به في عالم القيم العالية:

"{وعلى ربّهم يتوكَّلون}. وهذه هي الصّفة الثّالثة للمؤمن، فهو القويّ الذي لا يسقط أمام العقبات، ولا يتزلزل أمام الضعوط، ولا يرتجف أمام الزلازل الاجتماعية والسياسية والنفسية، بل يظلّ ثابتاً من خلال هذه الفكرة التي تمثل القيمة الكبرى للإنسان المؤمن: "التوكل على الله".

والتوكل على الله تعالى هو أن تُرجِع كلّ أمورك لله، وأن تعتقد في نفسك أنّ الله قادر على أن يحميك، وقادرٌ على أن ينقذك ويخفّف عنك كلّ الضّغوط التي تحيط بك، والله سبحانه أرادنا أن نتوكّل عليه، وقال لنا إنّ الإنسان الذي يتوكل عليه فإنّه يكفيه {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}، فلا نقل إنّه ليس قادراً، بل {إنّ الله بالغ أمره}، فإذا أراد شيئاً كان، ولكنّه جعل للحياة موازين {قد جعل الله لكلّ شيءٍ قدراً} وقد جعل هذه الأقدار في الحياة لمصلحة الإنسان، فالله يكفيك من خلال ما يرى أنّه مصلحة لك، سواء في وجودك الخاصّ، أو في الوجود العامّ الذي أنت جزء منه.

وقال الله تعالى: {إنّه يحبُّ المتوكّلين}. والتوكّل صفة تمثّل روح الإيمان، لأنَّ معناه أن تعتقد في نفسك {أنَّ القوَّة لله جميعاً}، وأنَّ الله، لا غيره، هو القادر على أن يستجيب لك في كلّ أمورك، ولكن من موقع الرّحمة والحكمة".

وينبّه سماحته إلى خطورة الشِّرك العمليّ الذي يسقط الإنسان كقيمة أرادها الله منفتحةً على الحقّ والحقيقة:

"وهناك نقطة أحببت أن أنبّه إليها في تعبيرنا بأنّ الله يريدنا أن نكون موحِّدين عمليّاً، كما أننا موحِّدون في العقيدة، وذلك أن لا ننطلق بكلمة ظاهرها شرك، وإن لم نقصد الشِّرك فيها، فهناك بعض الناس عندما يطلب منك خدمةً، تقول له سأسعى لإنجازها إن شاء الله، فيردّ عليك: "إنّني أتّكل على الله وعليك"، فمن المؤكَّد أنّ هذا الشخص لا يقصد أن يجعلك في حساب الله، بل يعتبرك وسيلةً من وسائل قضاء حاجاته، ولكن عليك أن لا تتحدّث بهذه الطريقة، بأن تجعل إنساناً سواءً مع الله {فلا تدعوا مع الله أحداً}. فنحن نعتقد كمسلمين أنّ رسول الله(ص) سيّد ولد آدم، ولكنّنا نقول: نشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. فلا يجوز أن تذكر أحداً مع الله تعالى، ذلك أنّ الله وحده والكلّ عباده، الأنبياء عباده المقرَّبون، والملائكة عباده المقرَّبون، والأولياء عباده المقرَّبون، ولكن يبقى الله وحده لا شريك له.

فلنحاول إذاً أن تكون تعبيراتنا توحيديّة {وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}، ذلك أنّ الكلّ وراء الله وليسوا مع الله سواءً بسواء.. فمن الصّعب إذاً أن يصبح الإنسان مؤمناً، وأن يصف نفسه بالإيمان، وهو يشرك بالله هذا الشّرك العمليّ".

 وعن ربط الإيمان بالتّسليم وأهميّة ذلك، يقول سماحته:

"ونأتي إلى الآية الثانية التي تربط الإيمان بالتّسليم للشرع: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} ـ الشّجار: النّزاع ـ {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيْتَ ويسلّموا تسليماً}. فالله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية، بأنَّ الإيمان الحقّ هو أن ينطلق الناس فيما يتنازعون فيه، سواء كان النّزاع في تفاصيل العقيدة أو في الشّريعة، أو النزاع فيما يختلف فيه النّاس من أمورهم...

هذا هو المؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله، فعندما يحصل أيّ نزاع في مفهوم فكري أو عقيدي أو شرعي أو سياسي أو اجتماعي، يرجع فيه إلى الله تعالى ورسوله(ص) {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}، لأنَّ التزامنا بالله ورسوله، من خلال التزامنا بالإسلام، يفرض علينا أن نخضع لله ولرسوله فيما يقوله الله في كتابه، وفيما يقوله النبيّ في سنّته {فلا وربِّك لا يؤمنون}.

فليصلّوا ما يشاؤون، وليصوموا ما يشاؤون، وليحجّوا ما يشاؤون، فإنهم إذا فقدوا التّسليم لله ولرسوله فيما يتنازعون فيه، فلا إيمان لهم، لأنَّ الإيمان إنما ينطلق من عمق القضيَّة التي تهزّ اهتمامك، لا من خلال القضايا السطحيّة الطّارئة التي لا تكلّفك شيئاً...".

ويختم سماحته بالحديث عن مقوّيات الإيمان، وضرورة تعميقه بما ينفعنا:

"فلنعمل ـ أيّها الأحبّة ـ على أن نجد إيماننا في هذه الآيات، وفي هذه الخطوط، وفي هذه القيم، وعلينا أن نربي هذا الإيمان أكثر مما نربّي أجسادنا، لأنّنا قد نجد لفقر الدَّم دواءً، ولكن فقر الإيمان إذا استمرَّ بك إلى يوم القيامة، فأيّ دواء يجديك هناك. لذلك، نحن نحتاج إلى فيتامينات إيمانيّة قرآنية نبويّة وإماميّة، حتى نستطيع أن نعمِّق هذا الإيمان، لنقف بين يدي ربّنا ونقول له: ربَّنا إنّنا آمنّا بك لتغفر لنا، ولكي لا يقول لنا سبحانه: أين إيمانكم، فأنا لا أنظر إلى وجوهكم، ولكن أنظر إلى قلوبكم، وأرى قلوبكم فارغة من الإيمان.

يُقال إنّ أحد الأئمة(ع) عندما كان يبدأ التلبية بالحجّ، كان يرتجف عندما يقول: "لبّيك اللّهمّ لبّيك"، فلقد كان يقولها وهو يهتزّ ويرتعد خشوعاً لله تعالى، فقيل له في ذلك، كما تقول الرّواية، فقال: "أخاف أن يقول لا لبَّيك ولا سعديك"، وهو يريد أن يعظنا بذلك، فهو يريد أن يقول ـ بلسان الإنسان، لا الإمام المعصوم المخلص لله ـ أخاف أن يطَّلع الله على قلبي، فيرى أنَّ التلبية تنطلق من لساني ولا تنطلق من قلبي. فالمهمّ أن تلبي الله بقلبك، وأن ينبض قلبك بالتلبية، وأن ينبض عقلك بالتّلبية، وأن ينبض إحساسك بالتّلبية، فتكون أنت بكلّك، بعقلك وقلبك وإحساسك تلبيةً لله، وعند ذلك، يتقبّلك الله في الدنيا برحمته، وفي الآخرة بجنّته {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}". [كتاب النّدوة، ج 4، ص 6- 14].

كما تقدّم، فإنّ سماحته يرى أنه لا بدَّ من الفهم العميق والدّقيق لمصطلح المؤمن وما يعنيه، والرجوع إلى آيات القرآن وتدبّرها جيّداً، لمعرفة النظرة القرآنيّة للإيمان، والعكوف كذلك على النظر في الأحاديث التي تضيء هي الأخرى على جوانب مهمَّة من الإيمان عند الإنسان.

ويؤكّد سماحته العمل على تربية عظمة الله، عبر التّفكّر في مواقع عظمته ونعمه، وممارسة التفكّر ذكراً يحيي مشاعرنا وأفكارنا، وضرورة معايشة التوحيد عمليّاً في حياتنا، وفي كلّ مسؤوليّاتنا، بما ننفتح فيه أكثر على آفاق الله، وما لذلك من انعكاس إيجابيّ على الواقع كلّه، كما يلفت إلى بعض مصاديق الإيمان، ومن ذلك التوكّل المطلق على الله، والثقة به، بما يجسّد روح الإيمان وأصالته وحركيّته في كلّ السّاحات، مشيراً إلى أهميّة التسليم لله ورسوله، والرّجوع في كلّ شيء إليهما، والقبول بحكمهما، بما يبرز حضور الإيمان في قلب المؤمن وحركته، منبّهاً إلى أننا بحاجة إلى مقوّيات قرآنية ونبوية وإمامية، من أجل تعميق الإيمان في نفوسنا وواقعنا، بما يؤصِّل نظرتنا إلى الأمور، ويحمينا من الانحراف. 

كثيرة هي المصطلحات التي تدلّ على المعاني الالتزامية الدينية عند الإنسان؛ من المؤمن، إلى المسلم، إلى الصالح، وغيرها. ولكن البعض قد يقع في مشكلة عدم فهم أبعاد هذه المصطلحات، وتبقى الأمور بالتّالي لديه مشوَّشة، ويتعايش مع فهمه السّطحيّ لها، دون السّعي للتعمّق فيها، بما يجدّد روحيّته الإيمانية المرتكزة على الفهم الدّقيق لما يحمل من مصطلحات.

ولا بدّ من التعمّق في حقيقة المفاهيم، من أجل وعي مضامينها، وتأسيس المعارف عليها، بما يخدم تأصيل النظرة والسلوك، ويصوّب حركة الواقع ويحميه من التناقضات والانحرافات، كما يقول سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في محاضرةٍ له، أردنا تسليط الضّوء عليها، لنتعرّف معنى المؤمن ومقوّيات الإيمان، بحسب وجهة نظر الإسلام لذلك. يقول سماحته:

"ربما نستعمل بعض المصطلحات الإسلاميّة بطريقة ساذجة، وربما تتحوّل هذه السّذاجة في الاستعمال إلى سذاجة في التصوّر، ما يجعلنا نعيش هذه العناوين أو المصطلحات أو المفاهيم، من دون التعمّق في حقيقتها وفي خطوطها وفي آفاقها وامتداداتها في حركة الإسلام.

ومن بين هذه المصطلحات، مصطلح "المؤمن"، فإن الفكرة الساذجة تربط هذا المفهوم بأداء العبادات، والامتناع عن المحرَّمات بطريقة وبأخرى، أمّا الآفاق العامّة التي يتحرك فيها الإيمان في نفس الإنسان المؤمن، وأمّا الخطوط العميقة الواقعية التي يتحرك فيها هذا المفهوم في حياة الإنسان، فإنها قد تكون بعيدةً عن التصوّر، وبذلك تصبح بعيدةً عن حركة الواقع".

ويتابع سماحته الكلام عن بعض الشّواهد القرآنيّة والحديثيّة التي تركِّز نظرة الإسلام إلى المؤمن. فعن مفهوم الإيمان في القرآن يقول:

"نقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.

... فأن تؤمن بالله، هو أن تتجلّى عظمة الله في نفسك في كلّ مواقع العظمة في صفاته، وفي كلّ آفاق العظمة في ذاته. وأن تؤمن بالله، يعني أن ينفتح فكرك وقلبك وإحساسك على أنعم الله، لتتحسّس ارتباط وجودك به في كلّ تفاصيله، من خلال ارتباطه بالنعم التي أسبغها الله عليك.

ومن هنا، فإنّ صدقك في الإيمان هو أن لا تذكر الله عندما تذكره، أو تسمع ذكر الله عندما تسمعه، تماماً كما تذكر أيّ اسم لأيّ إنسان أو لأيّ شيء، أو كما تسمع أيّ اسم، فلا يهتزّ قلبك، ولا يخشع عقلك، ولا يخضع كيانك، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، كما توجل القلوب عندما تخضع لذكر العظيم، وهذا ما نلاحظه أمام الّذين نتمثّل عظمتهم في القوّة في الواقع، حيث نشعر بالرّهبة وبالخوف وبالوجل عندما يذكرون، ألا يقال بأنَّ فلاناً يرتجف النّاس من ذكر اسمه من جهة بطشه وقوّته وقدرته؟".

وأضاف بأنَّ المعرفة زيادة في الإيمان، بقوله:

"{وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهُم إيماناً}، إذا تليت عليهم آياته الكونيّة وآياته القرآنيّة، بحيث إنّ إيمانهم يتحرّك ويتطوّر ويزيد من خلال زيادة المعرفة، فكلَّما عرفت الله من خلال آياته أكثر، عرفت عظمته على أساس ما تفهمه من أسرار هذه الآيات أكثر، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: {يتفكّرون في خلق السَّماوات والأرض} وينتهون إلى النتيجة {ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك}، فنحن نستوحي من ذلك عظمتك ونستوحي عبادتك {فقِنا عذاب النَّار}.

من هنا ـ أيّها الأحبّة ـ جاء القرآن وجاءت السنّة الشريفة بالحثِّ على قراءة القرآن {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}. وهكذا نلتقي بالأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن، لأنَّ العقيدة ترتكز على الله في توحيده، وجاء القرآن من أجل أن يعمِّق توحيد الله في نفوس الناس".

ويشير سماحته إلى عنوان التَّوحيد كواحدٍ من أهمّ عناوين العقيدة الذي يجذّر الإيمان عمليّاً في حياة الفرد والجماعة، بشكلٍ يجعلهما فعليّاً في خطّ الله. فكلّما كان الإنسان موحِّداً عن وعي ومسؤوليّة، انفتح أكثر على الحقّ المتمثّل بصراط الله المستقيم، وهذا ما يجب على المرء أن يسير به ويلتفت إليه بشكل فاعل يعيد من خلاله تصويب مواقفه وسلوكيّاته:

"لذلك، فلو قرأنا القرآن من أوّله إلى آخره، لرأينا العنوان الكبير الذي يحكم كل سورة وكلّ آية هو "توحيد الله"، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، فقيمة القرآن أنه يفتح عقولنا على الله، من خلال ما في القرآن من موعظة ومن وعي ومن انفتاح ومن حركة نحو التّفكير في آفاق الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما يدفعنا ـ أيّها الأحبّة ـ إلى أن نقرأ القرآن لنتثقّف به، ولتكون لنا الثقافة التوحيدية في تصوّرنا لوحدانيّة الله، والثقافة الإيمانيّة في تصوّرنا لكلّ خطوط الإيمان به، وفي تصوّرنا لمسؤولياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والحركية في كلّ مواقع الحياة، لأنّ القرآن يختصر لنا كلّ ما جاء به، وما جاء به هو "الحياة" {يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكُم لما يحييكم}".

ومن صفات المؤمن، التوكّل على الله، والثّقة به وبرحمته وتوفيقه وهدايته، فالتوكل على الله من أبرز مصاديق الإيمان الفعلي الّذي يغني الإنسان ويسمو به في عالم القيم العالية:

"{وعلى ربّهم يتوكَّلون}. وهذه هي الصّفة الثّالثة للمؤمن، فهو القويّ الذي لا يسقط أمام العقبات، ولا يتزلزل أمام الضعوط، ولا يرتجف أمام الزلازل الاجتماعية والسياسية والنفسية، بل يظلّ ثابتاً من خلال هذه الفكرة التي تمثل القيمة الكبرى للإنسان المؤمن: "التوكل على الله".

والتوكل على الله تعالى هو أن تُرجِع كلّ أمورك لله، وأن تعتقد في نفسك أنّ الله قادر على أن يحميك، وقادرٌ على أن ينقذك ويخفّف عنك كلّ الضّغوط التي تحيط بك، والله سبحانه أرادنا أن نتوكّل عليه، وقال لنا إنّ الإنسان الذي يتوكل عليه فإنّه يكفيه {ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}، فلا نقل إنّه ليس قادراً، بل {إنّ الله بالغ أمره}، فإذا أراد شيئاً كان، ولكنّه جعل للحياة موازين {قد جعل الله لكلّ شيءٍ قدراً} وقد جعل هذه الأقدار في الحياة لمصلحة الإنسان، فالله يكفيك من خلال ما يرى أنّه مصلحة لك، سواء في وجودك الخاصّ، أو في الوجود العامّ الذي أنت جزء منه.

وقال الله تعالى: {إنّه يحبُّ المتوكّلين}. والتوكّل صفة تمثّل روح الإيمان، لأنَّ معناه أن تعتقد في نفسك {أنَّ القوَّة لله جميعاً}، وأنَّ الله، لا غيره، هو القادر على أن يستجيب لك في كلّ أمورك، ولكن من موقع الرّحمة والحكمة".

وينبّه سماحته إلى خطورة الشِّرك العمليّ الذي يسقط الإنسان كقيمة أرادها الله منفتحةً على الحقّ والحقيقة:

"وهناك نقطة أحببت أن أنبّه إليها في تعبيرنا بأنّ الله يريدنا أن نكون موحِّدين عمليّاً، كما أننا موحِّدون في العقيدة، وذلك أن لا ننطلق بكلمة ظاهرها شرك، وإن لم نقصد الشِّرك فيها، فهناك بعض الناس عندما يطلب منك خدمةً، تقول له سأسعى لإنجازها إن شاء الله، فيردّ عليك: "إنّني أتّكل على الله وعليك"، فمن المؤكَّد أنّ هذا الشخص لا يقصد أن يجعلك في حساب الله، بل يعتبرك وسيلةً من وسائل قضاء حاجاته، ولكن عليك أن لا تتحدّث بهذه الطريقة، بأن تجعل إنساناً سواءً مع الله {فلا تدعوا مع الله أحداً}. فنحن نعتقد كمسلمين أنّ رسول الله(ص) سيّد ولد آدم، ولكنّنا نقول: نشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. فلا يجوز أن تذكر أحداً مع الله تعالى، ذلك أنّ الله وحده والكلّ عباده، الأنبياء عباده المقرَّبون، والملائكة عباده المقرَّبون، والأولياء عباده المقرَّبون، ولكن يبقى الله وحده لا شريك له.

فلنحاول إذاً أن تكون تعبيراتنا توحيديّة {وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}، ذلك أنّ الكلّ وراء الله وليسوا مع الله سواءً بسواء.. فمن الصّعب إذاً أن يصبح الإنسان مؤمناً، وأن يصف نفسه بالإيمان، وهو يشرك بالله هذا الشّرك العمليّ".

 وعن ربط الإيمان بالتّسليم وأهميّة ذلك، يقول سماحته:

"ونأتي إلى الآية الثانية التي تربط الإيمان بالتّسليم للشرع: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} ـ الشّجار: النّزاع ـ {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيْتَ ويسلّموا تسليماً}. فالله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية، بأنَّ الإيمان الحقّ هو أن ينطلق الناس فيما يتنازعون فيه، سواء كان النّزاع في تفاصيل العقيدة أو في الشّريعة، أو النزاع فيما يختلف فيه النّاس من أمورهم...

هذا هو المؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله، فعندما يحصل أيّ نزاع في مفهوم فكري أو عقيدي أو شرعي أو سياسي أو اجتماعي، يرجع فيه إلى الله تعالى ورسوله(ص) {إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}، لأنَّ التزامنا بالله ورسوله، من خلال التزامنا بالإسلام، يفرض علينا أن نخضع لله ولرسوله فيما يقوله الله في كتابه، وفيما يقوله النبيّ في سنّته {فلا وربِّك لا يؤمنون}.

فليصلّوا ما يشاؤون، وليصوموا ما يشاؤون، وليحجّوا ما يشاؤون، فإنهم إذا فقدوا التّسليم لله ولرسوله فيما يتنازعون فيه، فلا إيمان لهم، لأنَّ الإيمان إنما ينطلق من عمق القضيَّة التي تهزّ اهتمامك، لا من خلال القضايا السطحيّة الطّارئة التي لا تكلّفك شيئاً...".

ويختم سماحته بالحديث عن مقوّيات الإيمان، وضرورة تعميقه بما ينفعنا:

"فلنعمل ـ أيّها الأحبّة ـ على أن نجد إيماننا في هذه الآيات، وفي هذه الخطوط، وفي هذه القيم، وعلينا أن نربي هذا الإيمان أكثر مما نربّي أجسادنا، لأنّنا قد نجد لفقر الدَّم دواءً، ولكن فقر الإيمان إذا استمرَّ بك إلى يوم القيامة، فأيّ دواء يجديك هناك. لذلك، نحن نحتاج إلى فيتامينات إيمانيّة قرآنية نبويّة وإماميّة، حتى نستطيع أن نعمِّق هذا الإيمان، لنقف بين يدي ربّنا ونقول له: ربَّنا إنّنا آمنّا بك لتغفر لنا، ولكي لا يقول لنا سبحانه: أين إيمانكم، فأنا لا أنظر إلى وجوهكم، ولكن أنظر إلى قلوبكم، وأرى قلوبكم فارغة من الإيمان.

يُقال إنّ أحد الأئمة(ع) عندما كان يبدأ التلبية بالحجّ، كان يرتجف عندما يقول: "لبّيك اللّهمّ لبّيك"، فلقد كان يقولها وهو يهتزّ ويرتعد خشوعاً لله تعالى، فقيل له في ذلك، كما تقول الرّواية، فقال: "أخاف أن يقول لا لبَّيك ولا سعديك"، وهو يريد أن يعظنا بذلك، فهو يريد أن يقول ـ بلسان الإنسان، لا الإمام المعصوم المخلص لله ـ أخاف أن يطَّلع الله على قلبي، فيرى أنَّ التلبية تنطلق من لساني ولا تنطلق من قلبي. فالمهمّ أن تلبي الله بقلبك، وأن ينبض قلبك بالتلبية، وأن ينبض عقلك بالتّلبية، وأن ينبض إحساسك بالتّلبية، فتكون أنت بكلّك، بعقلك وقلبك وإحساسك تلبيةً لله، وعند ذلك، يتقبّلك الله في الدنيا برحمته، وفي الآخرة بجنّته {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}". [كتاب النّدوة، ج 4، ص 6- 14].

كما تقدّم، فإنّ سماحته يرى أنه لا بدَّ من الفهم العميق والدّقيق لمصطلح المؤمن وما يعنيه، والرجوع إلى آيات القرآن وتدبّرها جيّداً، لمعرفة النظرة القرآنيّة للإيمان، والعكوف كذلك على النظر في الأحاديث التي تضيء هي الأخرى على جوانب مهمَّة من الإيمان عند الإنسان.

ويؤكّد سماحته العمل على تربية عظمة الله، عبر التّفكّر في مواقع عظمته ونعمه، وممارسة التفكّر ذكراً يحيي مشاعرنا وأفكارنا، وضرورة معايشة التوحيد عمليّاً في حياتنا، وفي كلّ مسؤوليّاتنا، بما ننفتح فيه أكثر على آفاق الله، وما لذلك من انعكاس إيجابيّ على الواقع كلّه، كما يلفت إلى بعض مصاديق الإيمان، ومن ذلك التوكّل المطلق على الله، والثقة به، بما يجسّد روح الإيمان وأصالته وحركيّته في كلّ السّاحات، مشيراً إلى أهميّة التسليم لله ورسوله، والرّجوع في كلّ شيء إليهما، والقبول بحكمهما، بما يبرز حضور الإيمان في قلب المؤمن وحركته، منبّهاً إلى أننا بحاجة إلى مقوّيات قرآنية ونبوية وإمامية، من أجل تعميق الإيمان في نفوسنا وواقعنا، بما يؤصِّل نظرتنا إلى الأمور، ويحمينا من الانحراف. 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية