كتابات
06/02/2018

الوجدان والعقل يشهدان بالدِّين

الوجدان والعقل يشهدان بالدِّين

والوجدان لدى وفرة من الناس مصدر من مصادر التّدليل، وقوة من قوى الحكم على الأشياء بالخطأ أو الصواب .

ويغلو بعضهم، فيرى أن الدين حكر على الوجدان.

هذه المنطقة على الخصوص دون غيرها من آفاق النفس الإنسانيّة، هي مولده الحقيقي ومقرّه الدائم على ما يرى هؤلاء. ويجني الجاني في رأيهم على الدّين إذا أراد أن ينقله إلى الفكر، أو يتطلبه منه، أو يستعين به على إثباته .

وهي، دون ريب، فكرة غريبة عن هذي البلاد وعن هذا الدّين.

أمّا إنّ العقل قد يرى من حقّه أن يتمرّد على هذه الحدود، فيجمع الأسلاك والأشواك ويقتحم منطقة الدّين، وأنّ الدين قد يثأر لقداسته وحرمته من هذه الجرأة فيهاجم العقل .

وأمّا إن الإنسان يعيش ما يعيش قلق النّفس، مزدوج الشخصيّة، يحمل في أغوار نفسه خصمين متناحرين لا ينتهي خصامهما ولا يهدأ تناحرهما، ويتنازع قياده طول دهره قلب مؤمن وعقل ملحد.

أمّا هذا جميعه، فلا ينبغي أن يكترث له المؤمن في رأي هؤلاء، ليسلم له الإيمان وتحصل له الطّمأنينة وتجب له النّجاة! إنّ الدين فوق العقل، فليؤمن بهذه الحقيقة، وليعمل بموجبها وكفى.

وأمّا إنّه كيف يسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة مع هذا القلق، وكيف تجب له النجاة مع تمرّد العقل وإبائه عن الخضوع، وكيف يكون الدّين فوق العقل إذا كانت حدوده من النفس هي منطقة الوجدان وحدها. أمّا هذا، فلا يحسن التفكير فيه لمن يبتغي الإيمان، ليخضع وجدانه للدّين إخضاعاً، وليحمله على الإيمان به حملاً.. ثم لا شيء.. ثم الطّمأنينة، والقرار النفسي في الدّنيا، والنّجاة والفوز في الأخرى.

والوجدان هذا قد يعنى به الضّمير، الحاسّة الأدبية التي نحكم بها على أعمالنا وأعمال غيرنا بالخير أو الشّرّ، وتجزي العامل عليها بالتّقدير أو الزراية، وبالتشجيع أو التوبيخ ..

إنها قوة غريزيّة في الإنسان، وليست مكتسبة له من خارج نفسه، وقد وجدت حتى عند البدائيّين من الناس، وعند أكلة لحوم البشر منهم. ولمحت آثارها لدى الأطفال، إلّا أنها غير معصومة..

فالضّمير لا يستقلّ بالحكم أبداً. ومن أجل ذلك، اختلف الناس في أخلاقهم، واختلفوا في عوائدهم، مع وجود الضّمير في كلّ فرد منهم.

وقد يراد بالوجدان الموهبة التي نفرّق بها بين مواقع القبح ومواقع الجمال.. وقد يقصد بالوجدان مجموعة العواطف والانفعالات التي يجدها الإنسان نحو الشّيء، ومجموعة الانطباعات التي يتركها الشّيء في الإنسان، فهو إذاً مجموعة أهواء ومجموعة صور تختلف من شخص إلى شخص، بل ومن حال إلى حال.

والقرآن يتحدّث إلى الوجدان، ويحرّك ساكنه، ويستجيش كامنه، لا ليؤسّس على نظرته عقيدة، ولا ليقيم عليها شريعة، ولكنّه يعلم حقّ العلم، أنّ الإنسان مجموعة قوى وغرائز وطاقات ونزعات وعواطف وأحاسيس، وقواه المفكّرة، وإن كانت أهمّ ما فيه، إلا أنها ليست كلّ ما فيه، وكثيراً ما عصى المرء عقله ليدلّل عاطفته، وكثيراً ما وأد فكراً سديداً لأنه يخالف شعوراً يلتذّ به أو انفعالاً لا يرضى بتركه. ويعلم القرآن كذلك حقّ العلم، أن الدين منهاج للإنسان كلّه، لا لعقله وحده، ولا لروحه وحدها. فمن الحقّ أن يتحدّث إلى الوجدان كما يتحدّث إلى العقل، ومن الحقّ أن يستثير العواطف والنّوازع كما يستثير التّفكير والتأمّل.

 ومن الحكمة والحقّ أن يستثار الضدّ لتمنع عادية ضدّه، فيحرك حسّ الرّحمة مثلاً عند خوف الشّقاق، ويثار شعور الخوف عند خشية الانطلاق، ويلمس وتر خفيّ من النفس لتأمن عدوى طبع ذميم، أو لتعان في بناء خلق كريم .

ومن الحكمة أن يصنع كلّ ذلك ليستبين للعقل وجه من وجوه الحكمة، ويفتح له باب كبير من أبواب التّفكير .

من أجل هذه الوجوه وغيرها، مما لم نذكره، ومما لم نحط به علماً، يتحدث القرآن إلى الوجدان، ويلمس العاطفة، ويحرك النّزعة الخفيّة، ويداعب الشّعور المرهف، ويثير الحميّة المغمورة، ويهتمّ بكلّ ناحية من نواحي الإنسان، ليسير به يقظان الوعي، متوقّد الشّعور، ينتظم حسّه كلّ حركاته وسكناته، وكلّ أفعاله وتروكه، ليسير كذلك كتلة واحدة شاعرة متيقّظة إلى الغاية التي يبتغيها الإنسان ويدعو إليها ربّ الإنسان.

لقد استجوبنا فطرة الإنسان من قبل واستجوبنا غريزته، واستنطقنا أشواقه القويّة الملحّة، وضروراته الكثيرة المتنوّعة، وفحصنا ذخائره النفسيّة التي أعدّ بها لبلوغ الكمال واتجاهاته الطبيعيّة التي تدفع به إلى التّسامي .

لقد جرّبنا كل أولئك، فوجدناها تؤمن بالدين، وتحكم بأنه ضرورة، وبأنّه قانون كقوانين الحياة في الأحياء والنموّ في الناميات، لا غنى عنه ولا بديل له.

هب أنّك وقفت في ضرورتك إلى إيداع ذلك الشّيء الكريم عليك بين رجلين هذه خصائصهما، فأيّ الرجلين تأتمن؟.

وهب أنك رغبت في عقد معاملة مع أحد الشخصين، فأيهما تختار؟

وهب أنهما اختلفا لديك في الشّهادة على أمر، فبأي الشهادتين تثق؟

قد يسف عاقل فيتردّد؛ أيجب أن يكون للبشر دين أم لا يجب. وقد يتردَّد أيجب أن يكون الدين شاملاً لجميع أصناف الناس/ أو أن يكون متسعاً لجميع شؤونهم، أم لا يجب أن يكون كذلك. ولكن لن يتردّد أحد من الناس في أنّ التديّن أقوى سبب يوجب الوثوق بالمعاملة، وأملك باعث يقتضي الطمأنة بالصدق، وأمنع وازع يحدو على الوفاء بالحقوق والأداء للأمانة. ومحاكم الدّنيا كافّةً، وقضاة العالم أجمع، تتفق على هذا الرأي، فمن الأمور التي لا ريب فيها عندهم، أن شهادة الرجل المتدين ـ وإن يكن وثنياً ـ أدنى إلى الصّدق من شهادة أيّ سواه .

والتفسير المقبول لهذه الثّقة، أن الدين هو الطب الواقعي من أدواء الخلق، والدّواء الناجع لعلل المجتمع، فالمستمسك بهداياته، والسّائر في أضوائه، يكون أبعد الخلق عن الأدواء، وأقربهم إلى الصحّة، وأحراهم بالسيطرة على أهواء النّفس، والارتفاع بالغرائز الدنيا. وتأريخ الأديان بيّنة أخرى على صحّة هذه الدعوى .

أقول هذا، وأعني تأريخ الأديان عامّة، لا خصوص أديان السماء، وأيّ دين من الأديان، مهما كان مختلّ الأركان، فاسد الأجهزة، سقيم التعاليم، لم يبعث إلى الخير، لم يدع إلى البرّ، ولم ينهج بأتباعه إلى الصّلاح؟ أي دين من الأديان لم يرم إلى هذا الهدف، ولم يجر نحو هذا المدى، وإن يكن سعيه في نطاق ضيق وفي مجال محدود؟

الآيات الكونية تسعف الوجدان وتؤيّد البرهان

والآيات الكونية منتشرة ملء الأكوان وملء الزمان، أترى أنها سند للتّفكير العقلي وحده في الدّلالة على الله، والإبانة عن شمول قدرته وسبوغ نعمته ووجوب ارتباط بدينه؟

والنظرات العميقة الحالمة في مظاهر الجمال ومشاهد الإبداع من هذا الملكوت، أترى أنها مدد للبرهان المنطقيّ، وخصوصاً على وجود الله وعلى باهر جماله وعظيم جلاله، ولا حظّ فيها للعاطفة، ولا نصيب للوجدان؟

يبدو أنَّ جمهور علماء الكلام في الإسلام يرون هذا الرّأي، فقد استدلوا بهذه المعلولات على وجود علتها، كما يستدلّون بأثرٍ يجدونه في التراب على قدم وضعته سواء بسواء .

أما الرحمة التي لا تزايل ذلك الأثر مادام موجوداً .

أما الحبّ الذاتي الخالص الذي يعلّق الأثر بمؤثره، ويولهه به، ويحوّل وجهه إليه .

أما الرعاية الدائمة التي تقتضيها الربوبية المطلقة، والانقياد الكامل الذي تقتضيه العبودية المطلقة، أمّا التعاطف والتحابب الذي يربط الآثار بعضها ببعض من حيث اتصالها بمبدأ الرحمة ومصدر الحبّ وينبوع الخير، الذي يتعالى على السدود والحدود .

أما هذه المعاني وما يشبهها، فهي بعيدة عن طرائقهم في البرهنة. ولو أنهم قدموا التوحيد للناس كما قدَّمه القرآن، ولو أنهم اتبعوا طريقتهم بالتّدليل عليه، لكانوا أدنى إلى استيفاء أغراض القرآن، وأجدر ببلوغ غايته .

هذا التّدبير الدائم القائم في كلّ آية آية، وهذا الجمال البهيج النّضير في كلّ مظهر مظهر، وهذا الصنع المحكم المتقن في كلّ صغير وكبير، هذا جميعه ليس مدداً للفكر وحده، ولا مدداً للوجدان وحده، بل هو مدد لهما على السّواء. والتدبر الصّادق والنظرات العميقة في ظواهره وخوافيه، تملأ العقل اقتناعاً بالبرهان، وتملأ القلب إشراقاً بالإيمان، وتملأ النّفس شعوراً بالحبّ، وإحساساً بالرحمة، واستمساكاً بالإخلاص، وتوقظ في المرء أحاسيس الخير ومشاعر الإنسانيّة، وتصله أوّلاً وآخراً بالله الّذي أنطق الأشياء كلّها بالدّلالة عليه، وألهمها أن تسبِّح بحمده، وأن تسلم وجهها إليه .

وقد لفت القرآن نظرة المرء إلى كلّ أولئك، وحثّه أن يستشفّ معاني الجمال فيما يرى، وأن يستجلي فيه دقائق الحكمة وينظر آثار الرحمة، واقرأ إذا شئت هذه الآيات الكريمة: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ* وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: 6 - 11].

وللقرآن أساليبه الأخَّاذة المثيرة في تنبيه الشّعور وتوجيهه إلى هذه الآيات، والاعتبار بها والإفادة منها .

وهو يطيل ويقصر في عرض الآيات، ويجمل ويفصِّل حسب اقتضاء الموقف وحسب اقتضاء الأسلوب، فيقول مثلاً في بعض مواقفه مع الإنسان، وفي أحد أساليبه في توجيهه :

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .

جميع ما في هذا الملكوت مسخَّر لابن آدم، وجميع ما في الأرض مخلوقٌ له، أفليس من الحقّ أن يعرف هذه الأشياء ويعلم كيف سخِّرت له، فيفيد من هذه المعرفة ومن هذا التَّسخير؟ واليد القديرة التي خلقت له ذلك وسخَّرته، أليست حريّةً بأن تعرف وحريّة بأن تشكر؟

كلّ ما في الملكوت مسخَّر لابن آدم، وكلّ ما في الأرض مخلوق له، وما من شيء في الكون إلا وله منهج مقرر ثابت، ومنهجه هذا يسهم من قريب أو من بعيد في إسعاد الإنسان، وتوفير موجبات الهناء له، وتيسير مطاليب الحياة عليه. فمن الحقّ أن لا يمرّ عليها لاهياً عابثاً،كمن لا يعنيه من أمرها شيء، وأن لا تصدّه عن التّفكير فيه إلفة .

وأخيراً، هذه المناهج كافّةً إنما قررت من أجله، فلا يتصور أن يحيا هو ويموت هكذا سدى دون منهاج، ودون غاية. ويقول في بعض مواقفه:

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصّلت: 9-13].

هؤلاء قوم يكفرون بالحقّ ويعرضون عن آياته، أفليس من الحكمة أن يلقى لهم هذا الإنذار الّذي تقشعرّ له الجلود، وتجفّ منه القلوب؟ فلعلّ وطأة الخوف تحملهم على إعادة النظر والإفادة من الفكرة.

*المرجع الشّيخ محمد أمين زين الدّين(قده)، من كتاب "الإسلام، ينابيعه، مناهجه، غاياته".

والوجدان لدى وفرة من الناس مصدر من مصادر التّدليل، وقوة من قوى الحكم على الأشياء بالخطأ أو الصواب .

ويغلو بعضهم، فيرى أن الدين حكر على الوجدان.

هذه المنطقة على الخصوص دون غيرها من آفاق النفس الإنسانيّة، هي مولده الحقيقي ومقرّه الدائم على ما يرى هؤلاء. ويجني الجاني في رأيهم على الدّين إذا أراد أن ينقله إلى الفكر، أو يتطلبه منه، أو يستعين به على إثباته .

وهي، دون ريب، فكرة غريبة عن هذي البلاد وعن هذا الدّين.

أمّا إنّ العقل قد يرى من حقّه أن يتمرّد على هذه الحدود، فيجمع الأسلاك والأشواك ويقتحم منطقة الدّين، وأنّ الدين قد يثأر لقداسته وحرمته من هذه الجرأة فيهاجم العقل .

وأمّا إن الإنسان يعيش ما يعيش قلق النّفس، مزدوج الشخصيّة، يحمل في أغوار نفسه خصمين متناحرين لا ينتهي خصامهما ولا يهدأ تناحرهما، ويتنازع قياده طول دهره قلب مؤمن وعقل ملحد.

أمّا هذا جميعه، فلا ينبغي أن يكترث له المؤمن في رأي هؤلاء، ليسلم له الإيمان وتحصل له الطّمأنينة وتجب له النّجاة! إنّ الدين فوق العقل، فليؤمن بهذه الحقيقة، وليعمل بموجبها وكفى.

وأمّا إنّه كيف يسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة مع هذا القلق، وكيف تجب له النجاة مع تمرّد العقل وإبائه عن الخضوع، وكيف يكون الدّين فوق العقل إذا كانت حدوده من النفس هي منطقة الوجدان وحدها. أمّا هذا، فلا يحسن التفكير فيه لمن يبتغي الإيمان، ليخضع وجدانه للدّين إخضاعاً، وليحمله على الإيمان به حملاً.. ثم لا شيء.. ثم الطّمأنينة، والقرار النفسي في الدّنيا، والنّجاة والفوز في الأخرى.

والوجدان هذا قد يعنى به الضّمير، الحاسّة الأدبية التي نحكم بها على أعمالنا وأعمال غيرنا بالخير أو الشّرّ، وتجزي العامل عليها بالتّقدير أو الزراية، وبالتشجيع أو التوبيخ ..

إنها قوة غريزيّة في الإنسان، وليست مكتسبة له من خارج نفسه، وقد وجدت حتى عند البدائيّين من الناس، وعند أكلة لحوم البشر منهم. ولمحت آثارها لدى الأطفال، إلّا أنها غير معصومة..

فالضّمير لا يستقلّ بالحكم أبداً. ومن أجل ذلك، اختلف الناس في أخلاقهم، واختلفوا في عوائدهم، مع وجود الضّمير في كلّ فرد منهم.

وقد يراد بالوجدان الموهبة التي نفرّق بها بين مواقع القبح ومواقع الجمال.. وقد يقصد بالوجدان مجموعة العواطف والانفعالات التي يجدها الإنسان نحو الشّيء، ومجموعة الانطباعات التي يتركها الشّيء في الإنسان، فهو إذاً مجموعة أهواء ومجموعة صور تختلف من شخص إلى شخص، بل ومن حال إلى حال.

والقرآن يتحدّث إلى الوجدان، ويحرّك ساكنه، ويستجيش كامنه، لا ليؤسّس على نظرته عقيدة، ولا ليقيم عليها شريعة، ولكنّه يعلم حقّ العلم، أنّ الإنسان مجموعة قوى وغرائز وطاقات ونزعات وعواطف وأحاسيس، وقواه المفكّرة، وإن كانت أهمّ ما فيه، إلا أنها ليست كلّ ما فيه، وكثيراً ما عصى المرء عقله ليدلّل عاطفته، وكثيراً ما وأد فكراً سديداً لأنه يخالف شعوراً يلتذّ به أو انفعالاً لا يرضى بتركه. ويعلم القرآن كذلك حقّ العلم، أن الدين منهاج للإنسان كلّه، لا لعقله وحده، ولا لروحه وحدها. فمن الحقّ أن يتحدّث إلى الوجدان كما يتحدّث إلى العقل، ومن الحقّ أن يستثير العواطف والنّوازع كما يستثير التّفكير والتأمّل.

 ومن الحكمة والحقّ أن يستثار الضدّ لتمنع عادية ضدّه، فيحرك حسّ الرّحمة مثلاً عند خوف الشّقاق، ويثار شعور الخوف عند خشية الانطلاق، ويلمس وتر خفيّ من النفس لتأمن عدوى طبع ذميم، أو لتعان في بناء خلق كريم .

ومن الحكمة أن يصنع كلّ ذلك ليستبين للعقل وجه من وجوه الحكمة، ويفتح له باب كبير من أبواب التّفكير .

من أجل هذه الوجوه وغيرها، مما لم نذكره، ومما لم نحط به علماً، يتحدث القرآن إلى الوجدان، ويلمس العاطفة، ويحرك النّزعة الخفيّة، ويداعب الشّعور المرهف، ويثير الحميّة المغمورة، ويهتمّ بكلّ ناحية من نواحي الإنسان، ليسير به يقظان الوعي، متوقّد الشّعور، ينتظم حسّه كلّ حركاته وسكناته، وكلّ أفعاله وتروكه، ليسير كذلك كتلة واحدة شاعرة متيقّظة إلى الغاية التي يبتغيها الإنسان ويدعو إليها ربّ الإنسان.

لقد استجوبنا فطرة الإنسان من قبل واستجوبنا غريزته، واستنطقنا أشواقه القويّة الملحّة، وضروراته الكثيرة المتنوّعة، وفحصنا ذخائره النفسيّة التي أعدّ بها لبلوغ الكمال واتجاهاته الطبيعيّة التي تدفع به إلى التّسامي .

لقد جرّبنا كل أولئك، فوجدناها تؤمن بالدين، وتحكم بأنه ضرورة، وبأنّه قانون كقوانين الحياة في الأحياء والنموّ في الناميات، لا غنى عنه ولا بديل له.

هب أنّك وقفت في ضرورتك إلى إيداع ذلك الشّيء الكريم عليك بين رجلين هذه خصائصهما، فأيّ الرجلين تأتمن؟.

وهب أنك رغبت في عقد معاملة مع أحد الشخصين، فأيهما تختار؟

وهب أنهما اختلفا لديك في الشّهادة على أمر، فبأي الشهادتين تثق؟

قد يسف عاقل فيتردّد؛ أيجب أن يكون للبشر دين أم لا يجب. وقد يتردَّد أيجب أن يكون الدين شاملاً لجميع أصناف الناس/ أو أن يكون متسعاً لجميع شؤونهم، أم لا يجب أن يكون كذلك. ولكن لن يتردّد أحد من الناس في أنّ التديّن أقوى سبب يوجب الوثوق بالمعاملة، وأملك باعث يقتضي الطمأنة بالصدق، وأمنع وازع يحدو على الوفاء بالحقوق والأداء للأمانة. ومحاكم الدّنيا كافّةً، وقضاة العالم أجمع، تتفق على هذا الرأي، فمن الأمور التي لا ريب فيها عندهم، أن شهادة الرجل المتدين ـ وإن يكن وثنياً ـ أدنى إلى الصّدق من شهادة أيّ سواه .

والتفسير المقبول لهذه الثّقة، أن الدين هو الطب الواقعي من أدواء الخلق، والدّواء الناجع لعلل المجتمع، فالمستمسك بهداياته، والسّائر في أضوائه، يكون أبعد الخلق عن الأدواء، وأقربهم إلى الصحّة، وأحراهم بالسيطرة على أهواء النّفس، والارتفاع بالغرائز الدنيا. وتأريخ الأديان بيّنة أخرى على صحّة هذه الدعوى .

أقول هذا، وأعني تأريخ الأديان عامّة، لا خصوص أديان السماء، وأيّ دين من الأديان، مهما كان مختلّ الأركان، فاسد الأجهزة، سقيم التعاليم، لم يبعث إلى الخير، لم يدع إلى البرّ، ولم ينهج بأتباعه إلى الصّلاح؟ أي دين من الأديان لم يرم إلى هذا الهدف، ولم يجر نحو هذا المدى، وإن يكن سعيه في نطاق ضيق وفي مجال محدود؟

الآيات الكونية تسعف الوجدان وتؤيّد البرهان

والآيات الكونية منتشرة ملء الأكوان وملء الزمان، أترى أنها سند للتّفكير العقلي وحده في الدّلالة على الله، والإبانة عن شمول قدرته وسبوغ نعمته ووجوب ارتباط بدينه؟

والنظرات العميقة الحالمة في مظاهر الجمال ومشاهد الإبداع من هذا الملكوت، أترى أنها مدد للبرهان المنطقيّ، وخصوصاً على وجود الله وعلى باهر جماله وعظيم جلاله، ولا حظّ فيها للعاطفة، ولا نصيب للوجدان؟

يبدو أنَّ جمهور علماء الكلام في الإسلام يرون هذا الرّأي، فقد استدلوا بهذه المعلولات على وجود علتها، كما يستدلّون بأثرٍ يجدونه في التراب على قدم وضعته سواء بسواء .

أما الرحمة التي لا تزايل ذلك الأثر مادام موجوداً .

أما الحبّ الذاتي الخالص الذي يعلّق الأثر بمؤثره، ويولهه به، ويحوّل وجهه إليه .

أما الرعاية الدائمة التي تقتضيها الربوبية المطلقة، والانقياد الكامل الذي تقتضيه العبودية المطلقة، أمّا التعاطف والتحابب الذي يربط الآثار بعضها ببعض من حيث اتصالها بمبدأ الرحمة ومصدر الحبّ وينبوع الخير، الذي يتعالى على السدود والحدود .

أما هذه المعاني وما يشبهها، فهي بعيدة عن طرائقهم في البرهنة. ولو أنهم قدموا التوحيد للناس كما قدَّمه القرآن، ولو أنهم اتبعوا طريقتهم بالتّدليل عليه، لكانوا أدنى إلى استيفاء أغراض القرآن، وأجدر ببلوغ غايته .

هذا التّدبير الدائم القائم في كلّ آية آية، وهذا الجمال البهيج النّضير في كلّ مظهر مظهر، وهذا الصنع المحكم المتقن في كلّ صغير وكبير، هذا جميعه ليس مدداً للفكر وحده، ولا مدداً للوجدان وحده، بل هو مدد لهما على السّواء. والتدبر الصّادق والنظرات العميقة في ظواهره وخوافيه، تملأ العقل اقتناعاً بالبرهان، وتملأ القلب إشراقاً بالإيمان، وتملأ النّفس شعوراً بالحبّ، وإحساساً بالرحمة، واستمساكاً بالإخلاص، وتوقظ في المرء أحاسيس الخير ومشاعر الإنسانيّة، وتصله أوّلاً وآخراً بالله الّذي أنطق الأشياء كلّها بالدّلالة عليه، وألهمها أن تسبِّح بحمده، وأن تسلم وجهها إليه .

وقد لفت القرآن نظرة المرء إلى كلّ أولئك، وحثّه أن يستشفّ معاني الجمال فيما يرى، وأن يستجلي فيه دقائق الحكمة وينظر آثار الرحمة، واقرأ إذا شئت هذه الآيات الكريمة: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ* وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: 6 - 11].

وللقرآن أساليبه الأخَّاذة المثيرة في تنبيه الشّعور وتوجيهه إلى هذه الآيات، والاعتبار بها والإفادة منها .

وهو يطيل ويقصر في عرض الآيات، ويجمل ويفصِّل حسب اقتضاء الموقف وحسب اقتضاء الأسلوب، فيقول مثلاً في بعض مواقفه مع الإنسان، وفي أحد أساليبه في توجيهه :

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .

جميع ما في هذا الملكوت مسخَّر لابن آدم، وجميع ما في الأرض مخلوقٌ له، أفليس من الحقّ أن يعرف هذه الأشياء ويعلم كيف سخِّرت له، فيفيد من هذه المعرفة ومن هذا التَّسخير؟ واليد القديرة التي خلقت له ذلك وسخَّرته، أليست حريّةً بأن تعرف وحريّة بأن تشكر؟

كلّ ما في الملكوت مسخَّر لابن آدم، وكلّ ما في الأرض مخلوق له، وما من شيء في الكون إلا وله منهج مقرر ثابت، ومنهجه هذا يسهم من قريب أو من بعيد في إسعاد الإنسان، وتوفير موجبات الهناء له، وتيسير مطاليب الحياة عليه. فمن الحقّ أن لا يمرّ عليها لاهياً عابثاً،كمن لا يعنيه من أمرها شيء، وأن لا تصدّه عن التّفكير فيه إلفة .

وأخيراً، هذه المناهج كافّةً إنما قررت من أجله، فلا يتصور أن يحيا هو ويموت هكذا سدى دون منهاج، ودون غاية. ويقول في بعض مواقفه:

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصّلت: 9-13].

هؤلاء قوم يكفرون بالحقّ ويعرضون عن آياته، أفليس من الحكمة أن يلقى لهم هذا الإنذار الّذي تقشعرّ له الجلود، وتجفّ منه القلوب؟ فلعلّ وطأة الخوف تحملهم على إعادة النظر والإفادة من الفكرة.

*المرجع الشّيخ محمد أمين زين الدّين(قده)، من كتاب "الإسلام، ينابيعه، مناهجه، غاياته".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية