إنَّ قيمة هذا الجوّ الّذي نعيشه الآن مع ذكرى شهداء المقاومة، أنّه أنقذنا من نتن العقليّات المتخلّفة الّتي توحي إليك هنا وهناك أنّها حقّقت انتصاراً، ولكنَّها على جميع المستويات تشعر بأنّها عمّقت الهزيمة.. وقيمة هذا الجوّ أيضاً، أنّه يربطنا بالقضيّة الأساس الّتي تحتوي كلّ جراحنا وكلّ آلامنا، ويمكن لها أن تدخل لتعمّق حريّتنا وتعمّق عزّتنا وكرامتنا.
إنّ قصَّة هذا الجيل من الشّهداء، أنّه لا يريد أن يستشهد أو يقتل نتيجة معركة في هذا الزّاروب أو في ذاك الزّاروب، ولكنّه يريد أن يستشهد من أجل أن يحرِّر كلّ هذا الوطن.
إنَّنا نعيش مع هؤلاء الشّهداء قصَّة مواجهة إسرائيل بالمعنى العميق للمواجهة، لا بالمعنى الاستعراضيّ، المعنى الّذي يقول لك: إنَّ على السَّاحة أن تؤكِّد مصداقيَّتها من خلال جهاد المجاهدين، بعيداً من كلِّ الأضواء الكاشفة الّتي يُراد للمجاهد أن يعيش تحتها، أو يراد للمجاهدين أن يتحرّكوا تجاهها.
روحيّة المجاهدين
إنّ قيمة هذا الجيل من مجاهدينا، هي أنّه أعطى للجهاد معناه الإسلاميّ العباديّ الّذي يتحرّك فيه المجاهد كهمٍّ يعيشه، وقيمة هذه السّاحة المؤمنة المجاهدة، أنَّ كلّ النّاس الّذين يعيشون فيها؛ الصّغار والكبار، النّساء والرّجال، يشعرون بأنّهم يعيشون حالة طوارئ جهاديّة، يأتي إليك كلّ واحدٍ منهم ليحدّثك كيف يمكن أن يتغلّب على الإشكاليّات الشّرعيّة الّتي تحاصره فيها ساحته، فهو لا يريد أن يجاهد إلا وقد أحرز رضا الله من جميع الجهات، ولذا يظلّ في همٍّ عندما يواجهه إشكال هنا وإشكال هناك، وعندما يشعر بأنّه استطاع أن يتغلّب على كلّ الإشكالات الشّرعيّة، وأنّ الله يرضى عن مسيرته، فينطلق وهو متهلّل الوجه.
إسلاميّة المقاومة؟!
كنّا نقول لكثيرٍ من النّاس الّذين يتحرّكون سياسيّاً في هذا البلد عندما يواجهون السّؤال: لماذا المقاومة إسلاميّة؟ لماذا لا تقولون شيئاً آخر كما يقول الآخرون؟ كنّا نقول لهم: إنّنا لا نريد أن نُدخل المقاومة في البازار الطّائفيّ، لا نريد بكلمة الإسلاميّة أن نعطي المقاومة بُعداً طائفيّاً، ولكنّنا نريد أن نعطيها معنى حقيقيّاً يتحرّك من روح الإسلام، ومن شريعته وفكره، لينطلق الإنسان من خلالها على أساس انفتاحه على الله، لا على أساس انفتاحه على الطّائفيّة. إنَّ قيمة المقاومة الإسلاميَّة، أنَّك عندما تندفع إلى صفوفها، تشعر بأنَّ هناك همّاً كبيراً تحمله، هو أن تتحرَّر الأرض ويتحرَّر الإنسان من الكيان الصّهيوني الغاصب.
حتَّى الأرض، عندما نريد أن نحتضنها وندافع عنها ونجاهد من أجلها، لا بدَّ من أن نعطيها معنى روحيّاً يتَّصل بالله، عند ذلك، لا تكون الأرض مجرَّد حجارةٍ جامدة، وإنَّما تكون رسالةً تتحرَّك، ويكون الوطن روحاً تتحرَّك.
همّ تحرير الأمَّة
إنّ قضيّة أن تتحرّر أمّة، أو قضيّة أن يتحرّر بلد، هي أن يعيش الجميع همَّ الحريَّة، كما لو كان شيئاً ذاتيّاً شخصيّاً، هذا هو الّذي نبحث عنه في هذا المجال، أن نعيش الهمّ، وعندما نريد أن نتحرَّك في هذا الاتجاه، نشعر بأنَّ الّذين يدخلون المعارك الجانبيَّة، من الصَّعب أن تفكّر أنَّهم يعيشون همّ قضيَّة التَّحرير في العمق، لأنَّه إذا كان لك آلاف المكاتب في البلد، وكان البلد كلّه في دائرة الكيان الصّهيونيّ، فمعنى ذلك أنَّ المكاتب كلّها في دائرته.
قيل لأحد الزّعماء الظّرفاء سابقاً: لقد قسَّموا لك منطقتك، فكيف تواجه هذا التَّقسيم؟ قال: إنّ المنطق بالنّسبة إليّ "كالكبّة في الصينيّة"، فمهما قسّمت الكبَّة، فإنَّها تظلّ في الصينيّة، المهمّ من يملك الصينيّة، لا من يكون له أيّ موقعٍ في داخل الصينيّة الّتي يملكها الاستعمار أو الّتي تملكها "إسرائيل"... القصّة هي هنا، أن تكون هذه الضَّيعة محسوبةً عليك، وتلك الضَّيعة محسوبةً على ذاك، وأن يكون هذا الشَّارع محسوباً عليك، وذاك الشَّارع محسوباً للآخر، ولكن، ما قيمة ذلك عندما يكون الكلّ في قبضة الظّلم والطّغيان والاستعمار؟!
علينا أن نفهم أنَّ "إسرائيل" أساساً لا تتعامل مع المنطقة إلا بلغة القوَّة... فإذا لم تعرض أمامها عضلات أخرى من نوعٍ آخر، فإنَّها ستظلّ تقف كما يقف الملاكم الّذي لا يجد من يواجهه، ليهزم السَّاحة، وليحصل على تصفيق السَّاحة كلّها، لأنَّه هو المنتصر الوحيد من دون معركة، كما حدث في معركة 5 حزيران 1967م، ضجَّ العالم حينها بهذا المارد "الإسرائيليّ" الّذي استطاع أن يهزم كلّ جيوش البلاد العربيَّة، كلّ الجيوش الّتي كان يقاتل قادتها بالخطابات الطّويلة العريضة أكثر مما يقاتلون بالسّلاح الّذي لم يعرفوا كيف يركّزونه في السّاحة.
تعميق العمل الإسلامي
إنّنا ـ أيّها الأخوة ـ عندما نريد أن نتحدَّث عن هذه السّاحة، فإنَّنا نريد لهذا الجوّ الإسلاميّ أن يتعمَّق في نفوسنا، ونريد أن نخرجه من الطّائفيَّة، لأنَّنا كما قلنا عشرات المرَّات، الطّائفية عشائريّة والإسلام فكر، الطّائفية غرائزيَّة والإسلام شريعة، الطّائفيّة تخلّف والإسلام نموّ وتقدّم وتطوّر، وعندما نطرح الإسلام، فإنَّنا لا نطرحه على أساس طائفيّ، ولكنَّنا نطرحه على أساسٍ قرآنيّ منفتح على الفكر والشَّريعة والمنهج والأسلوب.
هكذا نريد أن نفكِّر، وهكذا نريد لشعبنا أن يعيش ساحة القضايا الكبرى في الإسلام، لنحرِّر، لا لبنان من "إسرائيل"، ولكن لنحرِّر المنطقة من "إسرائيل". تقولون إنَّه خيال، كيف كنتم تتصوَّرون موقفنا من "إسرائيل" في العام 1982؛ ألم يكن الكثيرون يضحكون على هؤلاء الشّباب الّذين يريدون أن يحاربوا الطَّائرة الإسرائيليَّة والمدفع الإسرائيليّ بالكلاشنكوف، وتبيّن أنّ الأولاد الّذين لا يعرفون كيف يلعبون الكرة في النّوادي الرياضيّة، يعرفون كيف يلعبون الكرة هنا، ولكن في ملاعب الجنوب أمام "إسرائيل"، يعرفون كيف يضربونها في مرمى "إسرائيل" دون أن تخطئ الهدف...
مشكلتنا كمسلمين وكمستضعفين، أنَّ 95% من طاقاتنا جامدة، وأنَّ الخمسة في المئة من طاقاتنا تقاتل بعضها بعضاً، وتدمّر بعضها بعضاً، ولكن عندما تتحرّك طاقاتنا بنسبة 95%، فسوف لن يستطيع أحد أن يهزمنا. نحن لا نُهزم من خلال قوَّة الآخرين، ولا نُهزم من خلال ضعفنا الطّبيعيّ، ولكنّنا نهزم من خلال أنّنا لم نأخذ بأسباب القوّة.
*العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض). من محاضرة لسماحته بتاريخ 3/8/1405 هـ/ الموافق: 23-4-1985.