القول بأن للعالم صانعًا، ثمّ القول بأنّه واحد، من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع، تهديه إليه فطرته المركوزة فيه. حتّى إنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها، وجدناها مبنيّةً على أساس توحيد الصّانع، وإثبات شفعاء عنده؛
{ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}، وإن انحرفت بعدُ عن مجراها، وآل أمرها إلى إعطاء الاستقلال والأصالة لآلهة دون الله.
والفطرة الداعية إلى توحيد الإله، وإن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتًا وصفة، على ما يأتي بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز، غير أنَّ ألفة الإنسان وأنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، وبلاء المليين بالوثنيين والثنويين وغيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر، سجّل عدديّة الوحدة، وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه...
اختلاف أفهام الناس في التوحيد:
لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكليّة، أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غورًا، وأصعبها تصوّرًا وإدراكًا، وأعضلها حلًّا؛ لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العاميّة التي تتناولها الأفهام، والقضايا المتداولة التي تألفها النفوس، وتعرفها القلوب.
وما هذا شأنه، تختلف العقول في إدراكه والتصديق به؛ للتنوّع الفكريّ الذي فطر عليه الإنسان، من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة، وأداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها، ثمّ تأثير ذلك في الفهم والتعقّل من حيث الحدَّة والبلادة، والجودة والرّداءة، والاستقامة والانحراف.
فهذا كلّه مما لا شكّ فيه، وقد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة، كقوله تعالى:
{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبابِ}، وقوله تعالى:
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}، وقوله تعالى:
{فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، وقوله تعالى في ذيل الآية 75 من المائدة...:
{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهميّ، اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحّده تعالى، لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم، والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى، على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفيّ وإشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك، أن جعل الأوثان المتّخذة، والأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة، حتّى من نحو الأَقِط والطينة المعمولة من أبوال الغنم، شركاء لله، وقرناء له يعبد كما تعبد هؤلاء، ويسأل كما تسأل هؤلاء، ويخضع له كما يخضع لها. ولم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، وأقبل عليها وتركه، وأمّرها على حوائجه وعَزَلَه.
فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى، هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده؛ ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة، مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، وهي الوحدة العدديّة التي تتألف منها الأعداد، قال تعالى:
{وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ}.
فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد، دعوةً إلى القول بالوحدة العدديّة التي تقابل الكثرة العدديّة، كقوله تعالى:
{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}، وقوله تعالى:
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وغير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة وتوجيه الوجه لله الواحد، وقوله تعالى:
{وَإِلهُنا وإِلهُكُمْ واحِدٌ}، وغيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ أمّة أو طائفة أو قبيلة، تتَّخذ إلهاً تختصّ به، ولا تخضع لإله الآخرين.
والقرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره؛ فإنَّ هذه الوحدة لا تتمّ إلّا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة التي تقهره، والمقدّرية التي تغلبه، مثال ذلك، ماء الحوض، إذا فرّقناه في آنية كثيرة، كان ماء كلّ إناء ماءً واحدًا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، وإنما صار ماءً واحدًا يتميّز عمّا في الآخر، لكون ما في الآخر مسلوبًا عنه غير مجتمع معه، وكذلك هذا الإنسان، إنما صار إنسانًا واحداً، لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، ولولا ذلك، لم يأت للإنسانيّة الصّادقة على هذا وذاك أن تكون واحدة بالعدد، ولا كثيرة بالعدد...
وهذا هو الذي يدلّ عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعال، الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه، كقوله تعالى:
{اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}، وقوله:
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}، وقوله:
{هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}، وقوله: {وهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، وقوله:
{أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً}، وقوله:
{لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ}، وقوله:
{إِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً}، وقوله:
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، وقوله:
{أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ}، إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات، كما ترى، تنادي بأعلى صوتها، أنَّ كلّ كمال مفروض، فهو لله سبحانه بالأصالة، وليس لغيره شيء إلّا بتمليكه تعالى له ذلك، من غير أن ينعزل عمّا يملكه ويُملِّكُه، كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عمّا ملّكناه غيرنا.
فكلّما فرضنا شيئًا من الأشياء ذا شيءٍ من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيًا له وشريكاً، عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضًا، وهو الحقّ الذي يملك كلّ شيء، وغيره الباطل الّذي لا يملك لنفسه شيئًا. قال تعالى:
{لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً ولا يَمْلِكُونَ مَوْتاً ولا حَياةً ولا نُشُوراً}.
وهذا المعنى، هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العدديّة، إذ لو كان واحداً عدديًّا، أي موجودًا محدودًا، منعزل الذّات عن الإحاطة بغيره من الموجودات، صحَّ للعقل أن يفرض مثلَه الثّانيَ له، سواء كان جائز التحقّق في الخارج، أو غير جائز التحقّق، وصحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنّظر إلى نفسه، وإن فرض امتناعه في الواقع، وليس كذلك.
فهو تعالى واحد، بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ، حتّى يمكن فرض ثانٍ له فيما وراء ذلك الحدّ.
معرفته توحيده:
وفي الاحتجاج، عنه(ع) في خطبة:
"دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التّمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنّه ربّ خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصوّر فهو بخلاف"، ثم قال(ع): "ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدالّ بالدّليل عليه، والمؤدّي بالمعرفة إليه".
أقول: التأمّل فيما تقدَّم، يوضح أنّ الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عدديّة، لصراحته في أنّ معرفته تعالى عين توحيده، أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، ولو كانت هذه الوحدة عدديّةً، لكانت غير الذات، فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلّا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذّات.
وهذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد، الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب. ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه، قوله(ع):
"وجوده إثباته"، يريد به أنّ البرهان عليه نفس وجوده الخارجيّ، أي أنه لا يدخل الذّهن، ولا يسعه العقل.
قوله:
"ما تصوّر فهو بخلافه"، ليس المراد به أنّه غير الصورة الذهنيّة، فإنّ جميع الأشياء الخارجيّة على هذا النعت، بل المراد أنّه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصوّر الذهني، أياً ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنيّة، ولا ينبغي لك أن تغفل عن أنّه أنزه ساحة حتى من هذا التصوّر، أعني تصوّر أنه بخلاف كل تصوّر.
وقوله: "ليس بإله من عرف بنفسه"، مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلّق به معرفة، وقهره كلّ فهم وإدراك؛ فإنّ كلّ من يتعلق بنفسه معرفتنا، هو في نفسه غير نفسنا ومعرفتنا، ثمّ يتعلّق به معرفتنا، لكنّه تعالى محيط بنا وبمعرفتنا، قيّم على ذلك، فلا معصم تعتصم به أنفسنا ولا معرفتنا عن إحاطة ذاته وشمول سلطانه حتى يتعلق به تعلّق منعزل بمنعزل.
وبيّن(ع) ذلك بقوله: "هو الدالّ بالدّليل عليه والمؤدّي بالمعرفة إليه"، أي أنّه تعالى هو الدّليل يدلّ الدّليل على أن يدلّ عليه، ويؤدي المعرفة إلى أن تتعلق به تعالى نوع تعلّق لمكان إحاطته تعالى وسلطانه على كلّ شيء، فكيف يمكن لشيءٍ أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به وهو محيط به وباهتدائه؟!
وفي المعاني، بإسناده عن عمر بن عليّ عن عليّ(ع) قال: قال رسول الله(ص):
"التوحيد ظاهره في باطنه، وباطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، وباطنه موجود لا يخفى، يطلب بكلّ مكان، ولم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود".
أقول: كلامه(ص) وآله مسوق لبيان وحدته تعالى غير العدديّة، المبنيّة على كونه تعالى غير محدود بحدّ، فإنَّ عدم المحدوديّة هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده وتوصيفه تعالى عن باطنه، وباطنه عن ظاهره، فإنّ الظاهر والباطن إنّما يتفاوتان وينعزل كلّ منهما عن الآخر بالحدّ، فإذا ارتفع الحدّ اختلطا واتحدا.
وكذلك الظاهر الموصوف إنّما يحاط به، والباطن الموجود إنّما يخفى ويتحجَّب إذا تحدّدا، فلم يتجاوز كلّ منهما حدّه المضروب له، وكذلك الحاضر، إنّما يكون محدودًا مجموعًا وجوده عند من حضر عنده، والغائب يكون مفقودًا لمكان المحدوديّة، ولولا ذلك، لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، ولم يستر الغائب حجاب الغيبة، ولا ساتر دونه عمن غاب عنه، وهو ظاهر.
من كتاب "تفسير الميزان"، الجزء السادس، ص 87- 103.