في الغالب، أن العقيدة أول ما تبدأ تكون في منتهى البساطة والسذاجة، بحيث لا يحتاج
فهمها إلى تعمق ومقدمات نظرية، وبمرور الزمن، تتصدى فئة من الأتباع لتفسيرها وشرحها
بأقوال يضفون عليها ما للعقيدة من قداسة وحصانة، وينعتون من يخالفها بالكفر والجحود،
تماماً كمن يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه. وإليك المثال:
جاء الإسلام أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وخاطب بها البدوي في
الصّحراء كما خاطب بها أكبر العلماء، وأعمق المفكرين على السواء، ثم جاء الفلاسفة
وعلماء الكلام يتناقشون فيما بينهم: هل الله جسم أو منزّه عن الجسمية؟ وهل صفاته
عين ذاته أو غيرها؟ وهل يفعل لغاية أو هو منزَّه عن الغايات؟ وهل يعلم الكليات
والجزئيات أو الجزئيات فقط؟ وهل كلامه قديم أو حادث؟ وهل يرى يوم القيامة؟ وهل
الأنبياء معصومون؟
وإذا كانوا معصومين، فهل هم معصومون قبل البعثة وبعدها، أو بعدها فقط؟
وهل الأشياء منقادة لإرادتهم بحيث يتصرّفون بها كيف يشاؤون؟ وهل لهم حقّ الشفاعة؟
وهل يجوز تأويل الوحي، أو يجب الأخذ بظاهره؟ وهل الخلافة تكون بالنصّ أو الانتخاب؟
وهل يعاد الإنسان غداً بالروح والجسم، أو بأحدهما؟ وهل الإنسان مسيّر أو مخيّر؟ وهل
مرتكب الكبيرة مخلد في النار؟
وهل النفس من المجرّدات؟ وهل للأفلاك نفوس ناطقة متحركة بالإرادة؟ إلى غير ذلك.
وهذه الخلافات هي المصدر لتعدّد الفرق الإسلامية.
وقد وقعت هذه الخلافات وما شاكلها في كلّ الأديان، وتفرق أتباع كلّ دين شيعاً أو
أحزاباً، فبنو إسرائيل اتخذوا من دون الله عجلاً له خوار، وموسى حيّ، وما إن انتقل
إلى ربه، حتى افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترق المسيحيّون بعد نبيهم إلى
اثنتين وسبعين، كما جاء في الحديث، ومازالوا مختلفين، لا يتزاوجون ولا يتوارثون،
ولا يجتمعون للصّلاة وللعبادة في معبد واحد.
ولم تقف هذه الخلافات والمنازعات على أهل الأديان، فلقد اختلف العلماء فيما بينهم،
وكذلك الأدباء والفلاسفة والسياسيون، وكلّ الناس يختلفون في الآراء والأفكار،
وينقسمون إلى فئات وأحزاب، يعتنق كلّ حزب نظرية تباين النظرية التي يعتنقها الحزب
الآخر، ثم ينقسم الحزب على نفسه، ويختلف أفراده في الشروح والتفاسير، والقيود
والحدود ضمن الإطار الحزبي، والمبدأ العام الذي يؤمن به الجميع، فالاشتراكيون على
ما بين جميعهم من قاسم مشترك، لم يتفقوا على جميع النقاط، ويتحدوا من جميع الجهات،
وكذلك الرأسماليون والفلاسفة المثاليون، والواقعيون والوجوديون... ذلك أنّ الاختلاف
في القضايا النظرية أمر طبيعيّ، بل حتى المحسوسات أنكرها السفسطائيون، وإخوانهم
المثاليون.
وبهذه المناسبة، نشير إلى سذاجة الذين يدعون إلى توحيد الأقوال والآراء بين السنة
والشيعة، ذاهلين عن أن الاختلاف بالرأي ضرورة يفرضها واقع الإنسان بما هو إنسان، لا
بما هو سني أو شيعي. إن الذين يحاولون التوحيد بهذا يطلبون المحال.
وكل ما يستطاع صنعه في هذا الباب، هو أن نصلح ما أفسده الماضي البغيض، فنتخلص من
مخلفاته وتعصباته التي جرت على المسلمين الويلات والخصومات، وأن تكف كلّ طائفة عن
تكفير الأخرى، والكيد لها، والافتراء عليها، وأن يفهم كلّ سني وشيعي، أنّ الاختلاف
في بعض المسائل كعدالة الصحابة، وتقديم زيد، وتأخير عمرو، لا يستدعي الخصام
والانتقام.
ونستخلص مما تقدَّم أن العقيدة أو النظرية تمرّ - غالباً - في مرحلتين:
الأولى: مرحلة تسليم الجميع بها دون خلاف ونزاع.
الثانية: مرحلة الخلافات وتعدد الفرق ضمن الإطار المبدئي.
وقد مرّ التشيع بالمرحلتين، ابتدأت الأولى في عهد الرسول، واستمرت طوال عهد الخلفاء
الثلاثة، وابتدأت الثانية باستشهاد الحسين(ع)، كما ستعلم، والقاسم المشترك الذي
يشمل المرحلتين كلتيهما، ويدخل فيه جميع الفرق الشيعة الباقية منها والبائدة، هو
الإيمان بأن منصب الخلافة حقّ لعليّ بنصّ النبي، مع العلم بأنّ المغالين ليسوا من
الشيعة والتشيع في شيء، لأن أساس التشيع هو الإسلام، ومن أعطى صفة الألوهية أو
النبوّة بعد محمد لإنسان، أيّ إنسان، فهو ليس بمسلم، فضلاً عن أنه غير شيعي. وعليه،
فإن تقسيم الشيعة إلى فرق يجب أن يرتكز على الإيمان بهذا النصّ، دون الارتقاء بعلي
أو أحد أبنائه إلى مرتبة الألوهية أو النبوّة، وبهذا يتبين خطأ الذين جعلوا شخص عليّ
وأبنائه - على الإطلاق - أساساً لتقسيم الشيعة وتعدّدهم إلى فرق، دون أن يميزوا بين
مقالة المغالين وغير المغالين.
كتاب "الشيعة في الميزان"، ص 30-32.