من العناوين الإسلاميّة العقيديّة العمليّة التي تتحرك مع كل ما يفكر به الإنسان
وما يتحرك به في حياته، مسألة النية، وهي تمثل وتجسد الدوافع التي تدفع الإنسان نحو
العمل والآفاق التي يتمثلها الإنسان في انفتاحه على العمل، سواء كان هذا العمل
عبادياً أو كان يتصل بعلاقة الإنسان بالإنسان وبالحياة وبكلّ ما يتحرك فيه ويتحرك
معه.
ولعل اهتمام الإسلام بالنية في أكثر من مفردة من مفردات التراث الإسلامي، ينطلق من
أن الواقع الداخلي للإنسان هو الذي يصوغ شخصية الإنسان، وهو الذي يعطي لكل حياته
الخارجية عنوانها الكبير. فالعمل ـ أيّ عمل كان ـ هو صورة نفسك وصورة فكرك وصورة
قلبك وصورة أحاسيسك ومشاعرك. لهذا، أراد الإسلام للإنسان أن يركِّز داخله من خلال
عقله، ليرتب له عقله كلّ علاقاته بربه وبنفسه وبالناس من حوله، وأن يعيش الإنسان كلّ
تطلعاته وتوجهاته في الحياة، إن في خطوطه الفكرية، أو في حركته العاطفية والعملية.
القيمة هي في النيّة:
ولذلك، فإن القيمة التي يمنحها الله سبحانه وتعالى للإنسان، تتحدّد بمقدار ما يعيش
الإنسان داخله، فإنّ الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوب الناس، كما ورد في بعض
الأحاديث، ولا ينظر إلى وجوههم، باعتبار أن قلب الإنسان هو صورته الحقيقيّة التي
تطبع شخصيّته، والتي تحرك كل قضاياه. ففي البداية ـ مثلاً ـ لا بدّ للإنسان في
علاقته مع ربّه من أن يعيش الإخلاص له، بحيث لا ينطلق في أيّ عمل ولا في أيّة علاقة
ولا في أيّ وضع من أوضاعه إلا على أساس علاقة تلك الأمور برضا ربه، لأنّ الإخلاص
لله سبحانه وتعالى ليس مجرّد إحساس تحسه، ولكنه يمثل كلّ عقيدتك وكلّ إحساسك بمعنى
وجودك وسرّه.
فالله يريد من عبده أن يكون ـ في كل معانيه ـ كلّ شيء عنده، بحيث لا يكون هناك أي
شيء لغير الله إلا من خلال الله.
فإذا أردت أن تدخل أيّ إنسان في قلبك وعقلك وفي حياتك، فلا بدَّ من أن تدخله من
خلال الله، فحتى الأنبياء إنما نعتقد بهم ونحبّهم ونتبعهم ونخلص لهم، لا من خلال
أشخاصهم، بل من خلال أنهم رسل الله، وأنهم حاملو رسالته، وبذلك تفقد الصلة بكلّ
الناس، حتى أرفعهم في القيمة الروحية، معناها الشخصي، لتنطلق بحسب قربهم من الله
سبحانه وتعالى...
الإخلاص لله:
لذلك ـ أيها الأحبة ـ لا بدّ من أن نتعب على أن نربي عظمة الله سبحانه وتعالى في
أنفسنا، حتى نعرف كيف نتعامل مع الله في الداخل، بحيث يشرق الله في عقولنا وقلوبنا
وإحساسنا وشعورنا، ليضيء لنا كل الطريق إلى الحقّ، وهذا يحتاج إلى أن يبني الإنسان
نيّته، وأن يعيش هذه النية في كل وجوده.
النيّة في الأحاديث:
وقد وردت عندنا الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن النية في علاقتها بالعمل، بحيث تكون
قيمة العمل بقيمة النية، إضافةً إلى عناصره المادية الموجودة في ذاته، ففي الحديث
عن عليّ(ع): "النية أساس العمل"، و"الأعمال ثمار النيّات"، بحيث إن النية تنمو
كشجرة للمعرفة وللإحساس في داخل نفسك، وبذلك تنمو وتنمو حتى تثمر الأعمال، فكلّما
كانت نيتك أكثر نمواً في تأثيراتها في داخل نفسك، كانت أعمالك أكثر نضجاً في
نتائجها.
أثر النيّة يوم القيامة:
وقد ورد في بعض الأحاديث، كيف أنّ الله إذا اطّلع على نيّة الإنسان الّذي يتحرك نحو
العمل، فتمنعه الحواجز عن العمل، يعطيه الله ثواب ذلك، ففي تفسير (القمي) في قوله
تعالى: {قلْ كلٌّ يعملُ على شاكلتِهِ فربُّكُم أعلمُ بمَنْ هو أهدى سبيلاً}، قال: "على
شاكلته على نيّته". عن جعفر بن إبراهيم يقول حدثني أبي عن أبي الحسن الرضا(ع) قال:
"إذا كان يوم القيامة، أوقف المؤمن بين يديه ـ بين يدي الله ـ فيكون هو الذي يتولى
حسابه، فيعرض عليه عمله، فينظر في صحيفته، فأوّل ما يرى سيّئاته، فيتغيّر لذلك لونه،
وترتعش فرائصه، وتفزع نفسه، ثم يرى حسناته، فتقرّ عينه، وتسرّ نفسه، وتفرح روحه، ثم
ينظر إلى ما أعطاه الله له من الثّواب، فيشتدّ فرحه، ثم يقول الله للملائكة: هلمّوا
الصّحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، قال: فيقرأونها، ثم يقولون: وعزّتك، إنك
لتعلم أنّا لم نعمل منها شيئاً، فكيف تعطينا ثوابها؟ فيقول صدقتم، نويتموها
فكتبناها لكم، ثم يثابون عليها".
وهذه نقطة مهمّة جداً، وتعني أن نيّة الخير تدلّ على أن هذا الإنسان يعيش الخير
كقيمة في داخل شخصيّته، بحيث إن شخصيته هي شخصيّة الخير، والله سبحانه وتعالى إنما
يرفع قدر الإنسان في الطاعة ويثيبه، من جهة دلالة الطاعة على إخلاصه لربّه، فإذا
عاش الإنسان نيّة الطاعة ونيّة الخير، وكانت هناك بعض الحواجز التي تحجزه عن العمل،
فإنّ عدم تحول النيّة إلى عمل لا يبطل ثوابه عند الله، لأنّ قيمة العمل بمقدار
دلالته، وهو مطلوب من الإنسان عندما يتمكّن منه، فإذا لم يعمله نتيجة الظروف
الطارئة التي حالت بينه وبين تنفيذ ما عنده من نيّة، فإن الله يطّلع على نيّته،
فيرى أن يعيش الخير والإخلاص له، فيثيبه عليها، لأن النتائج هي نفسها من حيث
الدلالة. وهكذا نجد الأحاديث التي تقول: "يُحشر الناس على نيّاتهم"، أي يُبعث الناس
على نياتهم، و"إنّ الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أحسابكم ولا إلى أموالكم،
ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلبٌ صالح، تحنّن الله عليه". فلذلك، لا بدّ من
أن يتعب الإنسان على تربية قلبه، بأن يربيه على الإخلاص لله، وعلى القرب منه، بحيث
إذا اطّلع على الإنسان وهو يعمل، رأى الإخلاص في داخل قلبه، فيرضى عنه، ويمنحه من
خلال هذا الرضا ما أعدّه له من ثواب...
نيّة القربة إلى الله:
ولذلك، نجد أن التعليم الإلهي في كل العبادات، هي أن تأتي بالعبادة قربة إلى الله،
فأنت تصلّي قربةً إلى الله، وتصوم قربةً إلى الله، وتحجّ وتدعو وتعتمر، إلى آخر ما
هنالك من العبادات، قربةً إلى الله تعالى. إنّ هذا التعليم الإلهي، وخصوصاً في
الصلاة اليوميّة، يجعلك تعيش قلق الوصول إلى القرب من الله سبحانه وتعالى، لأنّ هذه
عمليّة تدريبيّة يوميّة وسنويّة في كلّ صلواتك وعباداتك، في حجّك وفي صومك وما إلى
ذلك، فليست النيّة في الصلاة أو في الصوم أو في الحجّ مجرّد شرط جامد يشترطه
الإسلام في صحّة العبادة، ولكنه عملية إيحائية، بحيث توحي إلى نفسك، عندما يقبل
الصّباح، فتصلي صلاة الصبح، أني أريد أن أكون قريباً من الله سبحانه وتعالى، وإذا
عشت هذا الإيحاء النفسي، فإن نفسك تمتدّ معك من خلال هذا الإيحاء إلى القيام بجولة
في كلّ ما يقرّبك إلى الله سبحانه وتعالى، وفي كلّ ما يبعدك عنه. وبهذا، لا بدّ من
أن لا تكون النيّة عندنا في صلاتنا وفي صومنا وفي حجّنا مجرّد حالة تقليدية جامدة
لا تنفذ إلى أعماقنا، ولا تتحرّك في إيحاءاتها لتغيّرنا من الداخل، ليعيش الإنسان
حياته في قلق متحرّك؛ هل رضي الله عنه أم لم يرضَ، هذا القلق الذي يعبّر عنه القرآن
الكريم بقوله: {وقُلوبُهم وَجِلةٌ أنَّهم إلى ربِّهم راجعون}، بحيث يعيش قلق الحاجة
إلى رضوان الله عنه، وإلى قربه إلى الله سبحانه وتعالى. وربما نجد في بعض الأحاديث،
أنّ الله سبحانه وتعالى، يريد للإنسان أن تكون له نية تقرّبه إلى الله في كلّ شيء،
حتى عندما يريد أن يمارس حياته اليومية بكلّ تفاصيلها.
النيّة في كل شيء:
إنَّ هناك أحاديث تقول إنّ على الإنسان أن تكون له نيّة في كلّ شيء يعمله. فلنقرأ
بعض الأحاديث في هذا الخصوص، ففي وصية النبيّ(ص) إلى أبي ذرّ: "يا أبا ذرّ، ليكن لك
في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل"، فلا بدّ للعبد من خالص النية في كل حركة
وسكون، لأنه إذا لم يكن هذا المعنى فسيكون غافلاً.
ترى ما هو السبب الذي يجعل الإنسان ينوي كلّ عمل قربة إلى الله؟
إنه بذلك يحاول أن يجد له نافذة تطلّ على الله سبحانه وتعالى، فأنت حينما تنام،
فلأجل أن ترتاح من تعب النهار، ولتستقبل يومك، وحتى تنشط لعبادة الله ولمسؤولياتك
التي أراد الله لك أن تقوم بها، وبذلك يكون نومك عبادة، وهكذا تأكل وتتقوى بأكلك
على القيام بكلّ مسؤولياتك، سواء كانت مسؤوليات عبادية أو غير عبادية، لأن الأكل هو
الذي يمكن أن يمدّ لك حياتك ويقويها.
وهناك نقطة في هذا الجانب، فربما يعتبر بعض الناس أن الجوع قيمة، ونقول: لا، إنّ
الجوع ليس بقيمة، لأنّ مسألة الأكل والشّرب ملحوظة من جهة أنها شروط امتداد حياتك
وشروط قوّتك، فإذا امتنعت عن الأكل، أو امتنعت عن الشّرب، فعشت الجوع، وعشت الظّمأ،
فإن ذلك قد يعطّلك عن مسؤولياتك وعن أعمالك.
نعم، يمكن في بعض الحالات أن يجوع الإنسان في مقام جهاد النفس، حتى يستطيع إذا تدرب
على أن يجوع في بعض الحالات الاختيارية، أن يجوع إذا خُيِّر بين أن يجوع وبين أن
يتنازل عن مبادئه، هذا في الجانب التدريبي الوقائي، فلا توجد مشكلة فيه، أما أن
نعتبر أن الجوع يمثل قيمة روحية، وأن الظمأ يمثّل قيمة روحية، فكلّما جاع أو عطش
الإنسان أكثر، كان قريباً إلى الله أكثر، فليس لدينا في الإسلام هذه الروحية، بل
يعتبر الإسلام أن الإنسان لا بدّ من أن يعيش طبيعياً، ولكن في الحلال {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ}. لذلك، فالإنسان يأكل بالطريقة التي أراد الله له أن يأكل بها {كلُوا
واشربُوا ولا تسرفُوا} أن يأكل من الحلال ولا يأكل من الحرام.
النية في الأدعية والوصايا:
وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمّ فصلِّ على محمدٍ وآله، واجعل همسات
قلوبنا وحركات أعضائنا ولمحات أعيننا ولهجات ألسنتنا في موجبات ثوابك، حتى لا
تفوتنا حسنة نستحقّ بها جزءاك، ولا تبقى لنا سيئة نستوجب بها عقابك"، أي أن يعيش
الإنسان في همس داخلي، أي ما يهمس به قلبه من خلال نية الخير في داخل نفسه، بأن
تكون في هذا الاتجاه، في اتجاه الخير، وفي اتجاه من يحبّه الله ويرضاه.
وهكذا، يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء مكارم الأخلاق: "وانتهِ بنيّتي إلى
أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللّهمّ وفّر بلطفك نيّتي"، بحيث يحاول
الإنسان أن يربي نيّته حتى تبلغ القمة في كلّ مضمونها المنفتحة على الله والمنفتح
على الخير، تماماً كما يحاول أن يربي عمله ليكون أحسن الأعمال. وفي كتاب أمير
المؤمنين(ع) للأشتر لما ولّاه مصر: "وامضِ لكلّ يوم أملاً، فإنّ لكلّ يوم ما فيه،
واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كلها
لله إذا صلحت فيها النيّة، وسلمت منها الرعيّة". والشاهد هنا هو مسألة صلاح النيّة.
ونقرأ في بعض أحاديث أئمة أهل البيت(ع)، قال عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبدالله(ع)
عن حدّ العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدّياً لها، قال: "حسن النيّة بالطاعة"،
وهو أن تكون نيّتك في عبادتك بالمستوى الّذي يرفعها إلى الحدّ الذي يكون من النيّات
الحسنة "لا يكمل صالح العمل إلّا بصالح النيّة".
تربية الجوّ الدّاخلي للنفس:
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ والحديث يطول في ذلك، لا بدّ لنا كما قلنا، من أن نعمل على
أن نربّي كل هذا الجو الداخلي الذي يتصل بالفكر الذي يوحي إلينا بنيّة الحق، ويتصل
بالقلب الذي يوحي إلينا بنية الخير، ويتصل بالعمل الذي يتحرك من خلال نية الإخلاص
لله في العبادة وفي الحياة بشكل عام.. وقد ورد في بعض الأحاديث، أن الله يوفّق
الإنسان على قدر نيّته، وكلنا نطلب التوفيق من الله سبحانه وتعالى في كلّ الأمور،
فعن علي(ع): "على قدر النيّة تكون من الله العطيّة"، و"من حسنت نيّته، أمدّه الله
بالتوفيق"، وحديث آخر عنه(ع): "إذا علم الله تعالى حُسن نيّة من أحدٍ، اكتنفه
بالعصمة"، عصمه الله سبحانه وتعالى من كلّ ما يخافه ومن كل الذنوب أيضاً.
وهناك حديث عن الإمام الصّادق(ع): "إنما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم، فمن
صحّت نيّته، تمّ عون الله له، ومن قصرت نيّته، قصر عنه العون بالقدر الذي قصر".
فإذا أراد الإنسان أن يوفّقه الله، فتوفيق الله هو عطاء الله، فإذا كان الله سبحانه
وتعالى ينظر إلى نيّتك في رضاه عنك وفي قربك منه، فلا بدّ لك من أن تحسن نيتك لتحصل
على رضوان الله، ولتحصل على توفيقه سبحانه وتعالى.
وقد ورد في وصيّة أمير المؤمنين(ع) لابنه الحسن(ع): "واعلم أنّ الذي بيده خزائن
السموات والأرض، قد أذن لك في الدّعاء، وتكفّل لك بالإجابة، فلا يقنطنّك إبطاء
إجابته، فإن العطية على قدر النيّة". ولذلك، ليست المسألة عندنا أن نكثر أعمالنا،
بل أن نخلص نيّاتنا، وأن يشرق الله سبحانه وتعالى في عقولنا، ليشرق الحقّ فيها من
خلال ذلك، وأن يشرق الله في قلوبنا، ليشرق الخير فيها من خلال ذلك، وأن يشرق الله
في حياتنا، ليشرق الصلاح والإصلاح من خلال ذلك، أن يكون الله كلّ شيء عندنا، وأن
تكون كلّ أعمالنا في اتجاه رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
*من كتاب النّدوة ،ج 4، ص 361-370.