عندما تحدَّث القرآن عن مسألة (المعاد) الذي هو اليوم الآخر، فإنه تناوله في
خطين: الخطّ الأول: هل هو ممكن أو مستحيل؟ الخطّ الثاني: هل هو واقع أو ليس بواقع؟
فكرة أنّه هل هو ممكن أو مستحيل، كانت فكرة تلحُّ على واقع الناس الذين كانوا في
عهد الدّعوة، وربما مازالت تلحُّ على أناس كثيرين الآن، لأنّ هناك خلطاً عندهم بين
ما هو معقول وما هو مألوف؛ ما هو معقول، هو الشّيء الذي يحكم العقل بإمكانه، بحيث
إنّ العقل لا يجد هناك أيّ مانع من الموانع العقليّة في الفكر تحول بينه وبينه، كما
هي الحال مع استحالة وجود الشّيء وعدمه في آن واحد. أمّا غير المألوف، فأن يكون
الشّيء غريباً، أي لأنّنا لم نألف وجوده، على اعتبار أننا لم نلاحظه في تجاربنا في
الواقع رغم وجوده.
في هذا المجال، فإنَّ القرآن الكريم، واستناداً إلى هذا الفارق، شجب نظرة الناس أو
اعتبارهم الشّيء غير المألوف أنه غير معقول، يقول تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس: 78]. لاحظوا
كلمة {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إنّ القرآن يقول إن هذا الإنسان استغرق في الحالة التي
تمثل نهاية الإنسان، أي الموت، وتساءل كيف يوجد أو يحيا الإنسان الذي يموت بعد أن
يكون عدماً، ونسي البداية، أي نسي كيف انطلق الوجود الإنساني في الأصل من العدم، {وَنَسِيَ
خَلْقَهُ}، وهي حقيقة تختصر كلّ شيء {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس: 79]. إنّه يؤكّد المسألة من ناحية
الإمكان العقليّ، أي إنَّ الله الّذي أنشأ الإنسان من العدم أوّل مرة، قادر على
إحيائه وإنشائه من جديد بعد موته.
أمّا هل هناك يوم آخر أو ليس هناك يوم آخر؟ هذا أمر يمكن أن ينطلق عقلياً {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:
115]. فإذا كانت الدنيا لا تتبعها آخرة، فمعنى ذلك أنّ الله يعبث، تعالى الله عن
ذلك علوّاً كبيراً، لأنّ ذلك معناه أنَّ الدنيا تكون تماماً كما هي الفقاعة التي
تنتفخ ثم تنفجر دون أن تترك وراءها أيَّ شيء.
إذاً، وفق الإمكان العقلي، لا بدَّ للدنيا من آخرة، على أساس أن الدنيا تمثِّل حركة
المسؤوليّة، والآخرة تمثِّل نتائج المسؤوليّة. ويمكن تأكيد ذلك من خلال تصديقنا
للنبوّات، فإنّ النبيّ المطّلع على الغيب، أخبرنا بأنَّ هناك دار آخرة، وهذه مسألة
تنطلق من ذاتية تصديق النبي، والمفروض أننا نتحدّث إسلامياً، فمعنى ذلك أنّنا نصدّق
النبيّ في ذلك.
وهكذا نجد أنّ الله أراد أن يركِّز الفكرة التوحيديّة من خلال العقل، حيث نلاحظ
أيضاً أنّ الله أثار سؤالاً أمام الإنسان، وهذا السؤال هو: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور: 35]. كيف؟ إنّك تواجه واقعاً، ادرس
نفسك؛ هل أنت خُلِقْتَ من غير شيء؟ فيما خلقك لا يحمل في داخله بذوراً تحتّم وجوده
لوحده، فكيف وجدت من غير شيء؟ فأن توجد من غير شيء، هو أمر ليس وارداً، وأن تخلق
أنت نفسك، فمعنى ذلك أنَّك وجدت قبل أن توجد، والإنسان لا يمكن أن يكون موجوداً في
حال كونه معدوماً. ولذلك، فإن المسألة من الناحية العقلية لا معنى لها.
المنهج العلمي ورصد الظواهر:
ومن جهة ثانية، فإننا نلاحظ أن القرآن الكريم يستند إلى الطريقة التجريبيّة، ليركّز
المسألة الإيمانية التوحيدية من خلال حركة الواقع، وذلك وفق المنهج العلمي الذي
يعتمد على رصد مفردات الظواهر والعلاقات فيما بينها، ليصل إلى خلاصات ونتائج فكرية
معيَّنة، يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ
النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ}[البقرة: 164]. ففي هذه الآيات، يتحوّل الكون إلى أن يكون كتاب الإيمان،
فعندما تقرأ الظواهر الكونيّة، وتدرس ما في داخل هذه الظواهر من أسرار وعلاقات،
تستنتج أن الأشياء الخاضعة لتنظيم دقيق، حتى في الأشياء الصغيرة الجزئية منها، لا
يمكن أن تكون منفصلة عن قوّة ترعى وتدبّر وتشرف على هذا النظام الكوني الدقيق.
وهكذا نتابع: { إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ* فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[الأنعام: 95-96].
إلى آخر هذه الآيات التي تدعو الإنسان إلى أن يتابع دراسة الظواهر الكونيّة ليتحرّك
في خطين: خطّ ينتج له المسألة العلميّة، وخطّ ينتج له المسألة العقلية. أمّا الخطّ
الذي ينتج المسألة العلميّة، فهو أن تدرس الظاهرة لتعرف أسرارها ولتستفيد منها؛
تدرس السحاب المسخَّر بين السماء والأرض، تدرس نزول المطر، تدرس كيف رفعت السماء
بغير عمد، تدرس ذلك حتى تعرف السرَّ فيه، لتأخذ منه النتائج التي تستفيد منها في
حياتك، من حيث إنَّ الله سخَّر لك هذا الكون لتنتفع به على أساس ما تستنتجه منه.
ثم بعد أن تدرس الظّاهرة، تستنتج منها عقلياً أنّه لا يمكن أن يكون الشّيء المعقول
من غير قوَّة عقل تجعله معقولاً، ولا يمكن أن يكون الشّيء المنظَّم من غير قوّة
تنظّمه، ولا يمكن أن يكون الشيء مستمرّاً ما دام لا يملك قوة تحفظ استمراره وترعاه،
تماماً كما قالت تلك العجوز عندما سئلت: كيف تستدلين على وجود الله؟ وكان في يدها
مغزل، فقالت: "بهذا المغزل؛ إن حرَّكته تحرّك، وإن سكّنته سكن"، ما يعني أنّ الدنيا
لا بدّ لها عندما تريد أن تنطلق في حركتها وسكونها، من قوّة تنظم لها هذه الحركة
وهذا السّكون. ولذلك، نجد أنّ هناك إلحاحاً على الجانب التجريبـي، إضافةً إلى
الجانب العقلي.
وفي هذا الإطار أيضاً، يقول الله لنا: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[يونس:
101]. تطلعوا في كلِّ الظواهر الكونيّة لتدرسوها ولتحركوها، ولتنطلقوا من خلالها من
أجل أن تعطوا حياتكم فكراً جديداً، ومن أجل أن تطلّعوا على منافع جديدة {وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 191]. فإذا تطلّعت، فسوف تصل إلى
الإيمان من خلال دراستك لنفسك، ولعقلك كيف يتحرّك وكيف ينطلق، ولكل أجهزة جسمك في
كلّ مجالاتها الصغيرة والكبيرة. إننا نلاحظ أنّ هناك تركيزاً على الجانب التجريـبي
الذي يرصد الظاهرة ليستنتج منها، والجانب العقلي الذي يرصد الظاهرة من أجل أن
يحاكمها، ومن أجل أن يقارن بينها وبين فكر آخر حتى يستنتج منه.
وهكذا، نجد إيحاءات المنهج التجريـبي في الآيات التي تتحدّث عن العبرة {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2]. ما هو معنى الاعتبار؟ أن تعمل على أساس أن
ترصد ظاهرة لتأخذ منها درساً، أو لتأخذ منها فكرةً {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111]. عليك أن تعيش تجارب الآخرين، حتى
تستطيع أن تستنتج من تجاربهم فكراً يمكن أن تتحرّك من خلاله لاستنتاج فكر آخر، أو
لإغناء فكر آخر.
كذلك نرى في هذه الآية: { يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}[النّور: 44]. إنّ الله يدفعنا إلى دراسة
التجربة التاريخيّة، وكيف نستطيع أن نحصل منها على ما يهمّنا من الأفكار {أَفَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}[طه: 128]، {أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}[الروم: 9]، {قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ}[آل عمران: 137]، {قُلْ سِيرُواْ فِي
الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام: 11].
هذه كلّها توحي لنا بمتابعة الظّاهرة ومتابعة التّجربة، سواء كانت تجربة الإنسان
الآخر، أو كانت تجربتنا بالذَّات.
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".