ربما كانت مشكلة الواقع الإسلامي في حركة المجتمع في قضاياه ومشاكله، هي تلك
المساحة الكبيرة الفاصلة بين الانتماء والوعي والممارسة، ما يجعل من هذا الواقع
صورةً مشوَّهة عن الإسلام، بحيث إذا اجتذبتك إحدى الحالات في بعض ملامحها، فإنها
تبتعد بك في الملامح الأخرى، من خلال الازدواجية في جوانب الشخصيّة التي قد تكون
واحدة في التكوين المادّي، ولكنها متعدّدة في التكوين الروحي والفكري والحركي، حتى
يبدو الكفر والإسلام كأنهما اجتمعا في صعيد واحد، ليتجلّى ذلك في هذا السلوك السلبي
تارةً، والإيجابي أخرى، هنا وهناك.
الخلل البارز:
فإذا دقَّقنا في أسباب ذلك، فإننا نجدها في اهتزاز خطوط التربية الفكرية والعملية
المتنوعة، تبعاً لتنوّع المستويات الثقافية التي قد تتمثَّل في الذهنية المتخلّفة
هنا، وفي الذهنيّة المعتدلة أو المتقدّمة هناك، سواء في المفاهيم العقيدية أو
الأخلاقية أو الاجتماعية والحركية، ليفرض ذلك نفسه على منهج التفكير، وأسلوب العمل،
وحركة العلاقات، ما يجعل المجتمع الإسلامي يختلف في تصوّراته كما لو كان يتمثل في
عدة مجتمعات متضادَّة، لا تلتقي في أكثر من موقع، ولا تخضع لأية قاعدة.
وعلى الخطّ نفسه، عاش المسلمون تحت تأثير واقع المذهبيات المتعددة على مستوى علم
الكلام وعلم الفقه، بحيث تحوَّل كل مذهب إلى ما يشبه الدين الذي يختلف أهله مع
المذهب الآخر، كما يختلف الناس في الأديان المتعدّدة، وتحوّلت كلّ حركة إسلامية إلى
كيان سياسي مستقلّ لا يلتقي بالحركة الإسلامية الأخرى، حتى على مستوى التنسيق
الحركي، وربما نجد أنّ أتباع هذا المذهب الإسلامي، قد ينفتحون على الأديان الأخرى
أكثر مما ينفتحون على المذاهب الإسلامية الأخرى، لأنّ التّكفير المتبادل هو العنوان
الكبير الذي يحكم العلاقات بينهم.
وهكذا، قد نرى الحركة الإسلاميّة الخاضعة لأجواء معيّنة من التصورات والأساليب، لا
تنسّق مع حركة إسلامية أخرى، بينما تقوم بالتّنسيق مع حركة غير إسلامية، على طريقة
حديث اليهود عن المشركين في قولهم كما جاء في القرآن: {هؤلاء أهدَى منَ الَّذين
آمنوا سبيلاً}[النساء:51].
وهذا هو الذي جعل فكرة الوحدة الإسلامية بين المذاهب والحركات بعيدة المنال، لأنّ
التفاصيل الجزئية استطاعت مصادرة الكليات الأساسية العامّة، بحيث تأكل مسائل الخلاف
كلّ مواقع الوفاق، حتى يخيل إليك أنه ليس هناك مواقع لقاء، كما أن العصبيّات
المذهبيّة أو السياسية تطغى على العقل والوعي والتوازن، فتتحوّل المسألة إلى حالة
من التخبط والفوضى، بحيث تضيع كلّ خطوط القضيّة في الركام الهائل من الانفعالات،
فلا تجد أمامك أيّ أرض صلبة تقف عليها، وأيّ أفق واسع تنفتح عليه، وأيّ قاعدة
للحوار تنطلق منها، ما يبتعد بك عن الوضوح في الصّورة، والثّبات في الموقع.
إنّ المسألة الحيوية، هي مسألة فقدان الجدّية في الانتماء الإسلامي، بالدّرجة التي
يتحسّس فيها المسلم حاجته إلى البناء الفكري القويّ المتماسك، الذي ترتبط فيه
المفاهيم العامّة الأصيلة، في امتدداتها الفكرية والروحية وعناصرها الحيوية،
بالمواقف الحاسمة في حركة السلوك الإنساني، من أجل أن يكون الإنسان نفسه في روحه
وحركته، لا أن يكون غيره من الشخصيات الطارئة عليه، الداخلة إلى ذاته من دون وعي،
من خلال المؤثرات الخفيّة التي تفرض تأثيرها على نفسه، بفعل الأجواء المحيطة به،
والأوضاع المتحرّكة في حياته، والانحرافات الضّاغطة على وعيه، في غفلته عن ربّه
ونفسه ومسؤوليّته، بحيث لا يملك التحرّر من كلّ ما حوله ومن حوله مما يبعده عن الخطّ
المستقيم.
إنَّ الله يحدِّثنا في القرآن الكريم عن الخطّ المستقيم، والصّراط المستقيم، وعن
الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا، ويوجّهنا إلى الاستقامة في خطّ الدّعوة
والحركة، لأنّ ذلك هو الذي يجسِّد الوضوح في الفكرة وفي الخطّ والعمل، وفي الوسيلة
والغاية والمنهج، وفي الحركة التي تربط بين البداية والنهاية.
وذلك هو الذي يحدِّد لنا هويّتنا الإسلامية في العمق الإنساني، والانطلاق من
القاعدة الفكرية والخطّ العملي، والشخصية الواحدة التي لا تكون مجمعاً لعدة شخصيات
مختلفة، فلا مجال في الإسلام للشخصية الباطنية القائمة على الكفر، فيما تتحرّك علناً
في عناوين الإيمان، أو الموقف الذي يقول كلمة الإيمان ولكنّه ينحرف عنها في موقع
الفعل، لأنّ الإيمان ليس كلمة في اللّسان، وليس مظهراً للسّلوك من دون عمق في
الداخل، وليس شكلاً يفتقد المضمون.
إنّ هدف الدعوة إلى الإسلام، في خطوطه العامة والتفصيلية والحركية في صنع الشخصيّة
الإسلاميّة، وفي عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الوصول إلى تنقيةٍ
الإنسان من الداخل في وضوح الفكرة، وإلى تربية إرادته وسلوكه في قوَّة الموقف، وإلى
تأكيد التوازن بين الظّاهر والباطن، والقول والعمل، وهذا ما ينبغي للتربية
الإسلامية أن تستهدفه في مفرداتها العملية على مستوى الخطّ والمنهج والمضمون.
وقد أراد الإسلام للإنسان أن يكون المؤمن الواعي لإيمانه، الذاكر لربّه، المحاسب
لنفسه في عملية المراقبة الناقدة، المجاهد لها في عملية التربية بالمحاكمة
والمقاومة، فإنّ ذلك هو الذي يحاصر عناصر الانحراف، ويقوّي عناصر الاستقامة، ويربط
القول بالفعل، ويؤكّد الانتماء في وحدة الشخصيّة على مستوى الخطوط الفكرية والعملية.
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".