كتابات
14/01/2019

ما المراد من الإيمان بالغيب؟

ما المراد من الإيمان بالغيب؟

الإيمان بالغيب هو الإيمان بالأشياء التي لا يصل إليها الحسّ بشكل مباشر، ومنها الإيمان بالله؛ فالإنسان يؤمن بالله من خلال آثاره، ومن خلال مخلوقاته، في ما تدلّ عليه من عظمة الخلق، على الرّغم من أنه لا يُمسّ ولا يُرى، لأنَّ الوجدان يفرض ذلك كحقيقة حاسمة ترتكز على الأسس العلميّة والعقليّة؛ وبذلك تتحوّل التقوى الفكرية إلى حركة في داخل الذات، تثير فيها اليقين وتقودها نحو الإيمان...

الإيمان بالغيب:

ومن هذا الاتجاه، نتحرّك في الاستدلال على سلامة الفكرة الدينية التي تعتقد بوجود أشياء غير منظورة من القوى والعوالم والأشياء، كنتيجة لوجود أسس موضوعيّة في عالم الواقع، للاستدلال على هذه الأشياء، بمعونة الأدلة العقلية الثابتة؛ كما في الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، فإنَّ كلّ ما حولنا يدلّ على وجوده وإن لم تدركه أبصارنا، ولم تلمسه حواسّنا، انطلاقاً من القاعدة العقلية التي تقرِّر أنَّ كلّ ممكن لا بُدَّ له من علّة موجدة لا تخضع لعلّة أخرى، وقد نستطيع إدراك ذلك ببعض وسائل الإيضاح، فنلاحظ أنّنا نؤمن بأشياء غير محسوسة لنا في نطاق الكون، مما لم يتيسّر لنا رؤيته من خلال وسائل القناعة التي نملكها في حياتنا العملية، ما يعني أنَّ المبدأ الذي يقرّر واقعية الإيمان بغير المحسوس صحيح وواقع.. أمّا إمكانية الرؤية في ما يستقبل وعدم إمكانيتها، فلا يغيّران من الموضوع شيئاً. والإيمان بالغيب هو امتداد للتفكير القائل بأنَّ الحسّ والتجربة ليسا كلّ شيء في المعرفة، بل هناك العقل الذي يسير إلى جانب الحسّ ليمدّنا بالمعرفة، من خلال الحسّ أو العقل.

هل الدِّين غيب كلّه؟

لا بُدَّ لنا من أن نتوقّف في هذا المجال عند نقطة مهمّة جداً، وهي أنَّ الدِّين عندما يركّز على الإيمان بالغيب، فهل يعني هذا أنَّ الدِّين قائم على الإيمان بالغيب فقط، وليس هناك إلّا الغيب في مضمون الإيمان، وفي تقويم الأشخاص، وفي تعليل الأحداث والظواهر الكونيّة والاجتماعية، كما يحلو للبعض أن يقولوا أو يعتقدوا أو يفسّروا، فيخضعون الظواهر الطبيعيّة كلّها أو أكثرها لتفسيرات غيبيّة، لا يصل إليها فكر الإنسان، ما جعل العقل البشري، في بعض مراحله، يبحث عن أسباب الظواهر الطبيعيّة وعللها، كالصحة والمرض والهزيمة والنصر، وعن خلفيات المشاكل الاقتصادية أو السياسية، خارج الواقع العملي للأشياء، مكتفياً بإرجاع ذلك إلى عوامل غيبية، أو إلى الله، من دون أن يبحث عن القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، ليقوم عليها نظامه ونظام الحياة في نطاق مبدأ السببية الطبيعية في الأشياء؟

لقد وقع في هذه الشبهة بعض المؤمنين الساذجين، فوقفوا موقف المنكر لكثير من نتائج العلم، لاصطدامها بالذهنيّة الغيبيّة التي لا تألف مثل هذه النتائج، والبعض منهم تطرّف في موقفه إلى درجة تكفير الإنسان الذي يؤمن بوجود قوانين طبيعيّة تحتكم إليها الظواهر الطبيعية والكونية، لأنهم يحسبون الفارق بين الإيمان والكفر هو الاعتقاد بغيبيّة الأسباب في جانب الإيمان، وبواقعيّتها أو ماديتها في جانب الكفر.

وقد نشأت في هذا الجوّ، ولفترات، فكرة تركيز الوعظ على الجانب الغيبـي في كلّ مجالات الحياة، من دون توضيح للقوانين الطبيعيّة التي أودعها الله في الكون، ما أدّى إلى ربط كلّ الظواهر الطبيعية بالله بشكل مباشر، وربما كان هذا أحد الأسباب التي أقعدت الإنسان المسلم في العصور الماضية عن التقدّم في اتجاه فهم الكون من خلال فهم القوانين المتحكّمة في مسيرته، وساهمت في تكوين الشخصية الغيبيّة، ذات العقل الغيبي والمشاعر الغيبية، التي تبحث في الماضي والحاضر عن خطوات الغيب، وتواجه المستقبل بتطلّعات غيبيّة، تفسح في المجال للكهان والمتنبّئين للّعب بعواطف النّاس ومشاعرهم من خلال عمليات «فتح الفال» وغيرها. حتى إننا رأينا الكثيرين من السياسيين وغيرهم ممن يهمهم أمر معرفة مستقبلهم السياسي والعاطفي، يتّجهون إلى العجائز أو الفلكيّين الذين يدّعون معرفة الغيب ويتاجرون بها ليعرفوا منهم تطوّرات المستقبل.

إننا لا نؤمن بحركة الإيمان بالغيب في مثل هذه المساحة الواسعة من حياة النّاس العامة والخاصة، بل نؤمن بالغيب الذي يربطنا بالله في مجال محدود، ولذا نرى الإسلام يشنّ حملة شديدة على الكهان والكهانة والتنجيم والمنجمين، لإبعاد العقلية الغيبية عن واقع الفكر والحياة، ولإبقاء الإيمان بالغيب في منطقة العقيدة عالماً يعيش في داخل الذات، ليطوف بالإنسان في بعض مجالات حياته، بعيداً من الاستغراق في المادة العمياء، التي لا تفتح عينيها على الآفاق الواسعة المنطلقة أبداً مع الله، لكيلا يتجمّد الإنسان عند حدود الأمل الضيّق الذي تسمح به ظروفه الخاصّة المحدودة.

إننا قد نؤمن بالغيب بشكل جريء في كثير من الحالات التي لا نفهمها، أو ربما نتمرَّد ـ في وعينا ـ على بعض القوانين الطبيعيّة التي قد يكون لها جانب غيبي، لأنّنا نعتقد أنَّ الحياة لا تخضع دائماً للتفسيرات الماديّة، فقد تحدث في حياة كلّ منّا أشياء غيبيّة في عالم الرزق أو الصحّة أو غير ذلك، فيشفى بعض المرضى نتيجة التوسّل إلى الله بنبيّ أو وليّ، أو بسبب دعاء أو عمل عبادي، في جوّ نفسيّ معيّن قد لا ينسجم مع التفسير النفسي العملي.

إننا لا ننكر وجود جانب روحيّ يرعى الإنسان ويتدخّل في حياته، ولكنّ المبدأ الأساس في الحياة من وجهة نظر إسلاميّة، هو أنَّ الحياة تخضع في جميع أسرارها ومظاهرها، سواء كانت سياسية، أو اجتماعية،أو اقتصادية، لقوانين طبيعيّة أودعها الله في الكون، وهذا ما نجده في القرآن في أكثر من آية، في حديث الله عن سننه في الكون: {سُنَّةَ الله فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}[الأحزاب: 38]، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[فاطر: 43].

ولذلك، فإنَّ إيماننا بالغيب لا يمنعنا من الوقوف أمام كلّ ظاهرة كونيّة أو حياتيّة لنفهم أسبابها وأسرارها، بل الملحوظ أنَّ القرآن يدعونا في كلّ آيات التفكّر والتدبّر، للنظر في الكون، وفي التاريخ، لنعرف أسبابها وأسرارها، ولنكتشف من خلالها عظمة الله تعالى. وبذلك يحتضن الفكر الإسلامي كلّ علوم الحياة والإنسان، التي تحاول البحث عن القواعد العلميّة التي تحكم الكون والسلوك والتفكير في ضمن كيان متكامل متوازن، ويتجه إلى الواقع ليفسّره تفسيراً ينسجم مع الدور الكبير الذي أعدّ الله له الإنسان في الحياة.

*من كتاب "من وحي القرآن"، ج 1".

الإيمان بالغيب هو الإيمان بالأشياء التي لا يصل إليها الحسّ بشكل مباشر، ومنها الإيمان بالله؛ فالإنسان يؤمن بالله من خلال آثاره، ومن خلال مخلوقاته، في ما تدلّ عليه من عظمة الخلق، على الرّغم من أنه لا يُمسّ ولا يُرى، لأنَّ الوجدان يفرض ذلك كحقيقة حاسمة ترتكز على الأسس العلميّة والعقليّة؛ وبذلك تتحوّل التقوى الفكرية إلى حركة في داخل الذات، تثير فيها اليقين وتقودها نحو الإيمان...

الإيمان بالغيب:

ومن هذا الاتجاه، نتحرّك في الاستدلال على سلامة الفكرة الدينية التي تعتقد بوجود أشياء غير منظورة من القوى والعوالم والأشياء، كنتيجة لوجود أسس موضوعيّة في عالم الواقع، للاستدلال على هذه الأشياء، بمعونة الأدلة العقلية الثابتة؛ كما في الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، فإنَّ كلّ ما حولنا يدلّ على وجوده وإن لم تدركه أبصارنا، ولم تلمسه حواسّنا، انطلاقاً من القاعدة العقلية التي تقرِّر أنَّ كلّ ممكن لا بُدَّ له من علّة موجدة لا تخضع لعلّة أخرى، وقد نستطيع إدراك ذلك ببعض وسائل الإيضاح، فنلاحظ أنّنا نؤمن بأشياء غير محسوسة لنا في نطاق الكون، مما لم يتيسّر لنا رؤيته من خلال وسائل القناعة التي نملكها في حياتنا العملية، ما يعني أنَّ المبدأ الذي يقرّر واقعية الإيمان بغير المحسوس صحيح وواقع.. أمّا إمكانية الرؤية في ما يستقبل وعدم إمكانيتها، فلا يغيّران من الموضوع شيئاً. والإيمان بالغيب هو امتداد للتفكير القائل بأنَّ الحسّ والتجربة ليسا كلّ شيء في المعرفة، بل هناك العقل الذي يسير إلى جانب الحسّ ليمدّنا بالمعرفة، من خلال الحسّ أو العقل.

هل الدِّين غيب كلّه؟

لا بُدَّ لنا من أن نتوقّف في هذا المجال عند نقطة مهمّة جداً، وهي أنَّ الدِّين عندما يركّز على الإيمان بالغيب، فهل يعني هذا أنَّ الدِّين قائم على الإيمان بالغيب فقط، وليس هناك إلّا الغيب في مضمون الإيمان، وفي تقويم الأشخاص، وفي تعليل الأحداث والظواهر الكونيّة والاجتماعية، كما يحلو للبعض أن يقولوا أو يعتقدوا أو يفسّروا، فيخضعون الظواهر الطبيعيّة كلّها أو أكثرها لتفسيرات غيبيّة، لا يصل إليها فكر الإنسان، ما جعل العقل البشري، في بعض مراحله، يبحث عن أسباب الظواهر الطبيعيّة وعللها، كالصحة والمرض والهزيمة والنصر، وعن خلفيات المشاكل الاقتصادية أو السياسية، خارج الواقع العملي للأشياء، مكتفياً بإرجاع ذلك إلى عوامل غيبية، أو إلى الله، من دون أن يبحث عن القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، ليقوم عليها نظامه ونظام الحياة في نطاق مبدأ السببية الطبيعية في الأشياء؟

لقد وقع في هذه الشبهة بعض المؤمنين الساذجين، فوقفوا موقف المنكر لكثير من نتائج العلم، لاصطدامها بالذهنيّة الغيبيّة التي لا تألف مثل هذه النتائج، والبعض منهم تطرّف في موقفه إلى درجة تكفير الإنسان الذي يؤمن بوجود قوانين طبيعيّة تحتكم إليها الظواهر الطبيعية والكونية، لأنهم يحسبون الفارق بين الإيمان والكفر هو الاعتقاد بغيبيّة الأسباب في جانب الإيمان، وبواقعيّتها أو ماديتها في جانب الكفر.

وقد نشأت في هذا الجوّ، ولفترات، فكرة تركيز الوعظ على الجانب الغيبـي في كلّ مجالات الحياة، من دون توضيح للقوانين الطبيعيّة التي أودعها الله في الكون، ما أدّى إلى ربط كلّ الظواهر الطبيعية بالله بشكل مباشر، وربما كان هذا أحد الأسباب التي أقعدت الإنسان المسلم في العصور الماضية عن التقدّم في اتجاه فهم الكون من خلال فهم القوانين المتحكّمة في مسيرته، وساهمت في تكوين الشخصية الغيبيّة، ذات العقل الغيبي والمشاعر الغيبية، التي تبحث في الماضي والحاضر عن خطوات الغيب، وتواجه المستقبل بتطلّعات غيبيّة، تفسح في المجال للكهان والمتنبّئين للّعب بعواطف النّاس ومشاعرهم من خلال عمليات «فتح الفال» وغيرها. حتى إننا رأينا الكثيرين من السياسيين وغيرهم ممن يهمهم أمر معرفة مستقبلهم السياسي والعاطفي، يتّجهون إلى العجائز أو الفلكيّين الذين يدّعون معرفة الغيب ويتاجرون بها ليعرفوا منهم تطوّرات المستقبل.

إننا لا نؤمن بحركة الإيمان بالغيب في مثل هذه المساحة الواسعة من حياة النّاس العامة والخاصة، بل نؤمن بالغيب الذي يربطنا بالله في مجال محدود، ولذا نرى الإسلام يشنّ حملة شديدة على الكهان والكهانة والتنجيم والمنجمين، لإبعاد العقلية الغيبية عن واقع الفكر والحياة، ولإبقاء الإيمان بالغيب في منطقة العقيدة عالماً يعيش في داخل الذات، ليطوف بالإنسان في بعض مجالات حياته، بعيداً من الاستغراق في المادة العمياء، التي لا تفتح عينيها على الآفاق الواسعة المنطلقة أبداً مع الله، لكيلا يتجمّد الإنسان عند حدود الأمل الضيّق الذي تسمح به ظروفه الخاصّة المحدودة.

إننا قد نؤمن بالغيب بشكل جريء في كثير من الحالات التي لا نفهمها، أو ربما نتمرَّد ـ في وعينا ـ على بعض القوانين الطبيعيّة التي قد يكون لها جانب غيبي، لأنّنا نعتقد أنَّ الحياة لا تخضع دائماً للتفسيرات الماديّة، فقد تحدث في حياة كلّ منّا أشياء غيبيّة في عالم الرزق أو الصحّة أو غير ذلك، فيشفى بعض المرضى نتيجة التوسّل إلى الله بنبيّ أو وليّ، أو بسبب دعاء أو عمل عبادي، في جوّ نفسيّ معيّن قد لا ينسجم مع التفسير النفسي العملي.

إننا لا ننكر وجود جانب روحيّ يرعى الإنسان ويتدخّل في حياته، ولكنّ المبدأ الأساس في الحياة من وجهة نظر إسلاميّة، هو أنَّ الحياة تخضع في جميع أسرارها ومظاهرها، سواء كانت سياسية، أو اجتماعية،أو اقتصادية، لقوانين طبيعيّة أودعها الله في الكون، وهذا ما نجده في القرآن في أكثر من آية، في حديث الله عن سننه في الكون: {سُنَّةَ الله فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}[الأحزاب: 38]، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[فاطر: 43].

ولذلك، فإنَّ إيماننا بالغيب لا يمنعنا من الوقوف أمام كلّ ظاهرة كونيّة أو حياتيّة لنفهم أسبابها وأسرارها، بل الملحوظ أنَّ القرآن يدعونا في كلّ آيات التفكّر والتدبّر، للنظر في الكون، وفي التاريخ، لنعرف أسبابها وأسرارها، ولنكتشف من خلالها عظمة الله تعالى. وبذلك يحتضن الفكر الإسلامي كلّ علوم الحياة والإنسان، التي تحاول البحث عن القواعد العلميّة التي تحكم الكون والسلوك والتفكير في ضمن كيان متكامل متوازن، ويتجه إلى الواقع ليفسّره تفسيراً ينسجم مع الدور الكبير الذي أعدّ الله له الإنسان في الحياة.

*من كتاب "من وحي القرآن"، ج 1".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية